هند في دمشق
فلنترك حمادًا سائقًا فرسهُ إلى دمشق ولنذكر ما تم لهند بعد سفرها في صرح الغدير فقد تركناها بعد وداع حماد حائرة منقبضة النفس وقد خافت ذاهب آمالها أدراج الرياح لما آنستهُ من جفاء والدها على أثر ما سمعهُ عن نسب حماد. فلم يكد يتوارى حماد عن عينيها حتى أحست بانخلاع قلبها فانزوت في غرفتها وعادت إلى البكاء وكان والدها في شاغل يأمر أهل القصر بالاستعداد للمسير في صباح الغد فجاءت سعدى إلى غرفة هند وقد أدركت حالها وتوقعت بكاءها فأخذت تطيب قلبها وتواسيها بالوعود وهند لا تزداد إلاَّ بكاء فقالت سعدى لا يفيدنا البكاء يا ولداه وإنما نحن في موقف حرج لا بد لنا فيهِ من الحكمة فاصبرى وتبصرى عسى أن تكون العاقبة خيرا.
فتنهدت هند وصاحت بها: «دعيني يا أماه لقد كفاني ما قاسيتهُ من أنواع الشقاء وما سمعتهُ من الوعود فقد كان عذركم في رفضهُ جهلكم نسبهِ ثم قبلتموه على غموض نسبهِ فما بالكم وقد علمتم بشريف أصلهُ تترددون أليس ذلك لسوء حظي وللشقاء الذي كتبهُ الله علي». قالت ذلك وأوغلت في البكاء فبكت سعدى لبكائها ولكنها تجلدت وطيبت خاطرها وقالت لها: «اسكتي لئلا يسمع والدك صوت البكاء فيزيد الخرق اتساعًا أما أنا فإني ضامنة لك ما تريدين فإن حمادًا لك وأنت لهُ فلا تجزعي» وأخذت تخفف عنها حتى سكن روعها ومسحت آماقها ولبثت صامتة وقد ذبلت عيناها وتعكرتا وتكسرت أهدابها وأخذت تراجع في ذاكرتها ما مر بها من الأهوال بسبب الحب وكيف كانت قبل ذلك السباق خالية الذهن ساذجة لا تعرف متاعب الهوى وكانت تتعزى بما ترجوه من لقيا الحبيب ولكنها تذكرت أنهُ خرج من الصرح منقبض النفس منكسر القلب فكتبت إليه ذلك الكتاب إلى دير بحيراء تلتمس صبره.
وفي اليوم التالي سافر أهل الصرح جميعًا إلى البلقاء فأقاموا هناك إلاَّ جبلة فأنهُ سار إلى الإمبراطور هرقل في حمص فأمره بإعداد الرجال من غسان وغيرهم وكان ثعلبة قد ضعف أمره وأهملهُ جبلة لما قام بينهما من الضغائن بعد وفاة الحارث ولكنهُ أصبح بعد ما عرفهُ عن نسب حماد ميالًا إلى مصافاة ثعلبة لعلهُ يتزوج هندًا فينجى ملكهُ من الخروج إلى المناذرة. فلما احتاج إلى الرجال من غسان اضطر إلى استقدام ثعلبة فكتب إليه فجاء برجالهُ وانضم إلى رجال جبلة وهما على ظاهر الفتور ثم علم جبلة بقدوم المسلمين إلى اليرموك وبصرى فخاف على أهلهُ في البلقاء فاستقدمهم إلى دمشق وأسكنهم بيتًا مع نساء بعض أصدقائه من رجال الروم هناك بقرب كنيسة مريم. واشتغل هو في حرب اليرموك وغيرها فلما قضي على جنده بالانهزام في وقعة اليرموك شعر بزيادة الميل إلى مصافاة ابن عمه ثعلبة وذلك طبيعى في جسم العمران بل هو جار في سائر أنواع الحيوان فإذا رأيت ديوكا في منزلك تتخاصم وتتضارب وقد عمر عليك مصافاتها أجمعهُا في قفص وامنع الطعام والماء عنها فلا تلبث أن تراها قد اصطحبت وتصافت. كذلك الناس فأنهم لا يزالون في خصام ونقار حتى يصيبهِم سوء ويقصوا جميعًا في مصيبة واحدة فتراهم قد تألفت قلوبهِم وأغضوا عن السوابق. فلما أصيب الغساسنة في اليرموك اجتمع جبلة وثعلبة للنظر في أحوال الجند وكان ثعلبة قد ذاق مرارة الجفاء وصغرت نفسهُ فلمَّا رأى من ابن عمهُ مؤانسة وتقربا زاده رقة واستئناسا فاجتمع قلباهما. ولم تطل المصافاة قبل أن جرتهما إلى حديث الاقتران فتعاتبا وتشاكيا لما مر من الجفاء بينهما فاعتذر كل منهما عذرا انتحلها لنفسهُ وكان ثعلبة أكثرهما سرورا بذلك لأنهُ أصبح بعد موت والده ضعيفا مرذولًا. وقد علم أنهُ إذا تزوج هندًا كان الوارث الوحيد لرئاسة غسان جميعًا وكان قد درس أخلاق عمهُ جبلة وعرف أميال قلبهُ فتظاهر بما ينطبق على نياتهُ حتى حبب إليه مصاهرتهُ ووعده بهند.
أما جبلة فإنما حملهُ على مصاهرة ثعلبة استبقاء الحكومة في بني غسان وإنقاذها من المناذرة ولولا ذلك لما رأى في ثعلبة ما يقربهُ منهُ أو يفضل بهِ حمادًا.
فلما تحقق ثعلبة رضاء عمهُ عنهُ سألهُ عن يوم الاقتران فقال جبلة: «أرى أن يكون بعد انقضاء الحروب بيننا وبين المسلمين».
فقال ثعلبة: «ولكن تلك المدة لا حد لها يعرف وما أدرانا متى تنقضي وكيف يرتاح بالنا وأهل البيت مقيمون في دمشق ونحن لا نستقر على حال فإذا رأى عمي أن نستعجل الاقتران كان ذلك أقرب إلى جمع الشمل».
فأجابهُ جبلة إلى مرامه وكانا بجوار حمص بعد وقعة اليرموك فكتب جبلة إلى سعدى ينبئها بنتيجة ما دار بينه وبين ثعلبة ويبين الوجه الذي حملهُ على اختياره دون حماد فقال: «وفي زواج هند بثعلبة نستبقي الملك في الغساسنة ونخلصهُ من خطر الوقوع بين أيدي المناذرة». وأوصاها بالتأهب لعقد الاقتران قريبًا ولم تتم سعدى قراءة ذلك الخبر حتى تناثرت الدموع من عينيها لما تخشاه على هند إذا علمت بما نواه والدها وأعادت تلاوة الكتاب بتمعن فأدركت سبب تغير زوجها على حماد وندمت على ما فرط منها من اطلاعهُ على حقيقة نسب حماد وشعرت أنها هي السبب في كل هذه المتاعب فرأت أنها مطالبة شرعًا بإنقاذ ابنتها من مخالب ثعلبة فضلًا عما في نفسها من الاحتقار لهُ فأخذت تفكر في طريقة تصل بها إلى ذلك والوقت ضيق لا يأذن بالصبر والعودة وكانت هند تلاحظ فيها ارتباكا وتسألها عن السبب فتتجاهل وما زالت سعدى في مثل ذلك يومين كاملين حتى خافت فوات الفرصة فرأت أخيرا أن تستقدم حمادًا على عجل وهند لا تعلم فإذا حضر شاورتهُ في الأمر. فكتبت إلى حماد الكتاب الذي تقدم ذكره بحبر من الدم استحثاثًا لهُ على القدوم وبعثت الكتاب مع خادمة يعرفها حماد كما تقدم.