حصار دمشق
ولم يتوار حماد عن بصرى حتى أدرك صعوبة المسير إلى الشام وحده وهو لم يطرق تلك البلاد إلاَّ قليلًا. وأقرب الطرق بين هاتين المدينتين تمر في حوران واللجا وكلا الصقعين وعر خطر وهناك طرق أخرى تختلف بعدًا ووعورة فلم ير لهُ بدًا من اصطحاب الدليل فاختار دليلًا من سكان بصرى فسار شمالًا يقطع الجبال والأودية والسهول والغابات لا ينام إلاَّ قليلًا ولكنهُ تاه مرة فأضاع يومًا كاملًا حتى اهتدى إلى الطريق فبعد بضعة أيام أشرف صباحًا على غوطة وقد استقبلها بوجهه والشمس من ورائه فظهرت لهُ ظهورًا واضحًا فإذا هي بساتين واسعة الأطراف فيها الأغراس المشمش والرمان واللوز والبرتقان والخوخ والسفرجل والكرم وسائر أصناف الفاكهة تجرى بينها الأنهار وتتناغى فوقها الأطيار وظهر لهُ من وراء تلك الغوطة أبنية توارت وراء الغبار. فوقف ينظر إلى ما حولهُ وقد تعب جواده فسأل دليلهُ عن تلك الأبنية وهذه الغيطان فقال: «إنك يا مولاي في غوطه دمشق المشهورة بغياضها وبساتينها ومياها وما تلك الأبنية التي تتبدى لك من وراء الغوطة إلاَّ دمشق الفيحاء مقر والي الروم».
فقال حماد: «وما هذا الغبار الذي يكاد يحجب المدينة عنا».
قال: «لا أدرى ما هو ولعلهُ غبار جنود الروم وقد خرجوا للسباق أو هو غبار جنود المسلمين فقد بلغني بالأمس من بعض القادمين من جهات اليرموك أن المسلمين لما غلبوا الروم هناك عزموا على دمشق ولا يبعد أنهم جاؤوها وحاصروها».
فاستعاذ حماد بالله وخاف أن يكون كلام الدليل صوابًا فيمتنع عليهِ الدخول إلى المدينة وربما وقع بين أيدي المسلمين أسيرًا ولا يدري ما ينجيه منهم فتذكر سلمان لاحتياجهُ إليه في تلك الحال وندم لمجيئهِ منفردًا ولم ير لديه من يستشيره ويعتمد عليهِ غير ذلك الدليل وكان الدليل شابًا من عرب الغساسنة المقيمين في بصرى في العشرين من عمره يتكلم العربية واليونانية فقال لهُ حماد: «أتعرف دمشق وهل دخلتها قبل الآن؟»
قال: «أعرفها جيدًا وقد أقمت فيها أيامًا وكثيرًا ما جئتها مع والديَّ لوفاء النذور أو الصلاة في كنيسة ماري يوحنا المعمدان».
فقال حماد: «وهل تعرف كنيسة مريم».
قال: «نعم أعرفها فأنها في شارع مستقيم طويل يقطع المدينة من طرفها الشرقي إلى الطرف الغربي أي من الباب الشرقي الذي يستقبلنا عند أول وصولنا المدينة إلى الباب المقابل لهُ في الطرف الآخر منها في الغرب ويقال لهُ باب الجابية».
فاستبشر حماد باصطحاب هذا الدليل ليستعين بهِ في الوصول إلى منزل هند فأخذ يتلطف في معاملتهِ ويسترضيه بالإكرام والهدايا وهو يزداد رغبة في خدمته وبعد أن وقفا برهة ركب حماد وسار الدليل في ركابهِ وسارا في الغوطة والأشجار تظللهما ولم يسيرا قليلًا حتى غابت المدينة عنهما ثم أشرفا على مرتفع أطلا منهُ على سهل أمام دمشق فرأيا بالخيام والأعلام والخيول والرجال قد ملأت ذلك الفضاء.
فأمعن حماد نظره فإذا هي أعلام المسلمين وخيامهم وتحقق ذلك مما شاهده وراءها من مرابض الجمال ومساكن النساء فأيقن بعرقلة مساعيه وعلم أنهُ لن يستطيع الدخول إلى دمشق وخاف المسير إلى معسكر العرب لئلا يستغشوه فيلحقوا بهِ ضررًا فوقف حائرًا لا يدري ماذا يعمل وفيما هو يهم باستفهام الدليل عن سبيل يدخل بهِ المدينة سمع قرقعة لجم ووقع حوافر خيول على الحصى في جدول جف ماؤه بين الأشجار فأوجس خيفة وحول عنان جواده نحو الصوت وتهيأ للدفاع وأمر الدليل فانحدر بين الأشجار يتشوف من خلالها وحماد يصيخ بسمعهُ فلم يكد يقف هنيهة حتى سمع صوتًا يناديه باسمه فخفق قلبهُ لاستئناسه بذلك الصوت فأجابهُ للحال: «من أنت» ثم أدرك أنهُ صوت الأمير عبد الله ولكنهُ استبعد أن يراه هناك وعهده بهِ مقيم في بصرى ثم ما لبث أن رآه قادمًا على جواده ووراءه فارسان عربيان فتحقق أنهُ هو بعينه وأحس بانفراج الأزمة واستغرب مجيئه فإذا بعبد الله قد ترجل وضم حماد وقبلهُ.
فقال حماد: «ما الذي جاء بك يا أبتاه».
قال: «جئت لحراستك يا مولاي وقد علمت من الراهب الشيخ أنك شخصت إلى الشام فأسرعت إليك لعلمي بما قد تلقاه من العراقيل في سبيل الدخول إليها وقد صادف ظني محلهُ وشكرت الله لمجيئي لأني رأيت العرب محدقين بالمدينة وقد حاصروها حصارًا شديدًا ولولا سابق معرفتي بخالد بن الوليد لما تمكنت من خدمتك وقد مضى علي يومان أطوف هذه البقاع ومعي هذان الفارسان نتوقع وصولك لنشير بك إلى خالد وقد أمنا ووعد بحياطتنا».
فشكر لهُ حماد وأثنى على غيرته وسألهُ عن حال المدينة فقال: «أنها في حصار شديد لا يدخلها ولا يخرج منها أحد. وأنت ما الذي جرك إلى هذه المخاطرة». فقص عليهِ حكايتهُ وأطلعهُ على كتاب هند والخجل ظاهر على وجههُ.
فحدثتهُ نفسهُ أن يثني عزمه عن هند ولكنهُ علم أنهُ لن يصادف منهُ إصغاء فضلًا عما قد يلتجئ إليه من التستر في أعمالهُ فشجعهُ وقال لهُ: «لا بأس عليك يا ولدي فإن ثعلبة لم يستطيع دخول المدينة ولن يستطيعهُ».
فقال: «وما الذي أنبأك بعدم دخولهِ».
قال: «لم ينبئني أحد ولكنني عرفت أن الغساسنة كلهم وفيهم جبلة وثعلبة مقيمون في حمص خوفًا من هجمات المسلمين وكان هرقل قد أنفذهم مع جند الروم لنجدة دمشق فلم يستطيعوا دخولها فعادوا على الأعقاب».
قال: «وما العمل الآن؟»
قال: «هلم بنا إلى معسكر خالد فأنهم يتوقعون عودتنا لنقيم بينهم ونكون في ذمتهم إلاَّ إذا أحببت الرجوع إلى بصرى فان ذلك آمن لنا وأبقى».
فصمت حماد ولسان حالهُ يقول: «كيف أعود عن دمشق وهند محصورة فيها». فابتدره عبد الله قائلًا: «لا بل أرى أن نقيم مع المسلمين لعلنا نستطيع أمرًا ننقذ بهِ هندًا من الخطر». فأبرقت أسرة حماد لما آنسهُ من مجاراة عبد الله فقال: «نعم الرأي رأيك فهلمَّ بنا». وهموا بالمسير نحو دمشق فقال الدليل: «هل ترى حاجة إليَّ بعد الآن يا سيدي».
قال حماد: «نعم أرى أن تبقى معنا لعلنا نحتاج إليك في شيء ونحن في مأمن ولك علينا خير مكافأة».
فأذعن وسار معهم وفيما هم سائرون بين الغياض خاطب حماد عبد الله بلسان أهل العراق لئلا يفهم الفارسان. هل ترى جند العرب كثيرين حول دمشق.
قال: «هم عديدون وقد تفرقوا فرقًا إحداها فرقة خالد عند الباب الشرقي في الشرق والأخرى فرقة أبي عبيدة عند باب الجابية في الغرب والثالثة فرقة عمرو بن العاص عند باب الفراديس وفرقة شرحبيل بن حسنة عند باب آخر وفرق أخرى عند الأبواب الأخرى وهناك فرقة يقودها جبار عنيد يقال لهُ ضرار بن الازور تطوف حول الأسوار ويخال لي أن الروم لا يستطيعون الصبر على الحصار».
وما زالوا سائرين حتى أشرفوا على معسكر العرب عند الباب الشرقى فرأوا الخيول والجمال ترعى في البساتين ومعها العبدان والخدم ورأى النساء في أخبيتهن يتحدثن بأمر الجهاد وهن مشتاقات إليه اشتياق الأبطال إلى ساحة القتال.
فلما وصلوا المعسكر أتوا فسطاط خالد فدخلهُ عبد الله وحماد بلا معارض وكان خالد جالسًا في صدر المكان فرحب بهما ودعاهما للجلوس فنظر حماد إلى من في الفسطاط فرأى روماس صاحب بصرى إلى جانب خالد وقد تعمم بالعمامة وتزمل بالرداء العربى وغادر القلنسوة والطيلسان وكان خالد قد استقدمهُ معهُ ليترجم بينهُ وبين الروم فتهيب حماد من مجلس خالد ومن أحدق بهِ من الأمراء وفيهم جماعة كبيرة لم يعرفهم ولكنهُ رأى الشجاعة والإقدام تلوحان على وجوههم.
فتقدم عبد الله إلى خالد فعرفه بحماد فأثنى خالد عليهِ وقال: «أن غلامك سيزداد زينة بالإسلام». فسكت عبد الله ولم يجب.
أما حماد فلم يكن همهُ إلاَّ هند وحالها في دمشق ولو لم يطمئنهُ عبد الله ببعد ثعلبة عنها لما صبر على البقاء هناك ولكنهُ ما فتئ يفكر بحيلة يدخل بها المدينة ليرى هندًا ويطمئنها ويسعى في إنقاذها.
وبعد قليل استأذن عبد الله خالدًا بالخروج إلى خيمة أعدت لهُ فخرج وخرج حماد معهُ حتى أتيا الخيمة فقال حماد: «وما الرأي الآن إني أرى هندًا في خطر ونحن في مأمن فلابد من حيلة ندخل بها المدينة».
قال: «تمهل يا سيدي لعلنا نتوفق إلى ذلك في الغد». وباتوا تلك الليلة وأفاقوا في الصباح على أصوات الأذان والصلاة فقال عبد الله: «لا أرانا نستطيع شيئًا طالما كنا في هذا المعسكر هلم بنا إلى معسكر أبي عبيدة عند باب الجابية لعلنا نؤانس خيرًا» فمشيا كأنهما من الجند وتركا الدليل في الخيمة حتى أتيا معسكر أبي عبيدة فدعاهما إلى خيمته وكان عبد الله قد عرفه وسمع بسهولة أخلاقهُ وطول أناته ورغبته عن سفك الدماء فبعد السلام والترحاب قال عبد الله: «الاَّ يرى مولاي مخابرة هؤلاء الروم بأمر الصلح عسى أنهم يسلمون ويكفونكم مؤونة الحرب».
قال أبو عبيدة: «إني أرغب الناس في ذلك ولكن خالدًا يطرب لمقارعة السيوف ومصادمة النبال».
فقال عبد الله: «وما ضر لو أنفذت إليهم أحدًا يستطلع رأيهم وأنت رئيس هذه الجنود والمتصرف فيهم».
فقال: «لا أرى بأسًا في ذلك إلاَّ أنهم يحسبوننا خائفين».
قال: «أرسلوا من يستطلع رأيهم إذ قد يكونون راغبين في الصلح وهم يحسبونكم لا ترضون بهِ فإذا سار إليهم أحد فيلكن كلامهُ من عند نفسهُ».
قال: «ومن لنا بمن يعرف لسانهم».
قال: «لا أظننا نعدم وسيلة». وكان حماد قد تعلم شيئًا من اليونانية في أثناء إقامتهُ في بصرى وهمَّ عبد الله بأن يشر بإرسال حماد ولكنهُ جزع عليهِ فلبث صامتا فابتدره حماد قائلًا: «إني أقدم نفسي لهذه المهمة».
فقال أبو عبيدة: «ولكنك تسير إليهم سرًا فإذا فزت بمهمتك أنحجبت الدماء على يدك وإلاَّ فإننا باقون على حالنا من الحرب. واعلم أن قائد جند الروم هناك رجل اسمهُ توما هو صهر الإمبراطور هرقل فسر إليه واستطلع رأيه من قبلك فإذا رأيت فيهِ ميلًا إلى التسليم انبئني».
فسر حماد بمهمته وخرج من فسطاط أبي عبيدة وعبد الله معهُ فناداهما أبو عبيدة فعادا فقال لحماد: «إذا سرت أنت بقي والدك عندنا رهنًا فإن النفس أمارة بالسوء». فرضيا وخرج حماد وحده وبقي عبد الله هناك وقد ندم لما جره على حماد وعلى نفسهُ من الخطر وضاق صدره وخاف العاقبة.
أما حماد فأنهُ حمل علما أبيض وركب جوادا وأسرع نحو المدينة فلم يتبين الأسوار حتى رأى جماهير الناس عليها وفيهم القسس بصلبانهم والجند بأعلامهم ورأى بعضهم يهم أن يرميه بالنبال فأشار إليهم عن بعد أنهُ إنما جاء مسالمًا فكفوا عن أذاه حتى إذا دنا من الباب هالهُ عظمه فقد كان عبارة عن ثلاثة أبواب صفا واحدًا المتوسط منها كبير ذو قنطرة واسعة والى جانبيهِ بابان صغيران وفي أعلى الباب صورة النسر الرومانى تحته كتابة باليونانية وفوق النسر جدار السور وفيهِ مرامي النبال والناس يتزاحمون فوقها تتلألأ ألبستهم بألوانها الحمراء والزرقاء مما يدل على البذخ والترف وفوق رؤوسهم الخوذ من الفولاذ. فناداهم بلسانهم أنهُ يريد الوصول إلى رئيسهم.