داخلية دمشق وحال الروم فيها
فنزل إليه جماعة فتحوا لهُ أحد البابين الصغيرين فدخل بجواده وسلاحهِ فأحدق بهِ الرجال فتهيب لذلك الموقف ولكنهُ تجلد وطلب أن يرى البطريق توما فقالوا أنهُ في قصره بالقرب من كنيسة مارى يوحنا ومشى في شارع عريق قد استطال على استقامة واحدة يبتدئ بالباب الأوسط ولا يكاد يرى آخره وأرضه مرصفة بالحجارة الصوانية الضخمة والى كل من جانبيه رصيف عريض أولهُ عند أحد البابين الصغيرين وعلى الرصيف عمد فخيمة من الرخام متراصة على طول الطريق. ولم يكن حماد دخل الشام قبل ذلك الحين فرأى فيها من العظمة ودلائل المدنية ما لم ير مثلهُ في بصرى.
فما زال سائرا وحولهُ الخفر وأهل المدينة يطلون من الشرفات والنوافذ ينظرون إليه ويتحدثون بأمره وهو يلتفت يمنة ويسرة لعلهُ يرى هندًا بينهم وكلما وقع نظره على أنثى ظنها هي وكان يخترق الصفوف بلحظه لعلهُ يرى قبة أو كنيسة على أمل أن تكون كنيسة مريم حيث تقيم هند حتى مر بكنيسة علم من بعض حديث القوم أنها الكنيسة المشار إليها فخفق قلبه وشاعت عيناه وهو يلفت إلى ما حولها من النوافذ فرأى جموعًا ولكنهُ لم ير هندًا بينهم فسار والناس حولهُ يتحادثون بلسانهم وقد علت الضوضاء يتخللها قرقعة حوافر الخيل على البلاط.
وبعد أن ساروا برهة انعطفوا إلى شارع آخر فآخر حتى وصلوا إلى باب كبير يحف بهِ الخدم والأعوان فوقفوا عنده فعلم أنهُ باب القصر فأنفذوا بعض الحرس ينبئ البطريق بقدوم الرسول فأنبأوه فأمر بإدخالهُ عليهِ فجردوه من سلاحه فدخل وركبتاه ترتعشان لهول ما يتوقعه بملاقاة ذلك الرجل فدخلوا بهِ إلى صحن الدار فأعجبهُ ما رآه في أرضها من النقوش الجميلة وفيها صور وقائع وهيئات آدميين وحيوانات بالفسيفساء بألوان بديعة متراصة قطعًا صغيرة بصناعة فائقة. وفي وسط الدار بركة من الرخام يتدفق الماء منها. ثم دخلوا بهِ قاعة مفروشة بالرياش الثمين مما يبهِر النظر وعلى جدرانها وسقفها صور بعض القديسين وصورة الإمبراطور هرقل بتاجه وصولجانه وصور أخرى دينية. ورأى على النوافذ الأستار من الديباج والحرير المزركش بالقصب والأرض مكسوة بالسجاد والطنافس عليها رسوم الأسود والفهود والخيول في أبدع ما يكون. فدعوه إلى الجلوس هناك ريثما يخرج إليه البطريق فجلس يتوقع قدومهُ وهو يهون على نفسه ويتجلد حتى سمع وقع أقدام كثيرة ورأى أهل القصر في هرج وتزاحم فعلم أن الرجل قادم ثم رآه وقد دخل القاعة فإذا هو طويل القامة عظيم الهامة كثير الهيبة وطيلسانهُ يكاد يجر وراءه وسيفه إلى جنبهِ وهو في رداء قصير إلى ركبتيه كثير الألوان مزركش بالذهب. وعلى رأسه قلنسوة أشبه بالتاج مرصعة بالحجارة الكريمة فحالما رآه حماد وقف إجلالًا لهُ وتقدم نحوه متأدبًا فنظر توما إليه بعينين حادتين يكاد النور ينبثق منهما فهاب حماد منظره ولكنهُ تظاهر بالتجلد وحياه بتحية الملوك وصبر حتى جلس وأمر لهُ بالجلوس فجلس حماد وهو يفكر في ما يبدأ بهِ من الحديث.
فابتدره البطريق قائلًا: «ألعلك من هؤلاء العرب المغتربين».
قال: «كلا يا مولاي إني غريب الديار وقد وقعت بين أيديهم بالاتفاق».
قال: «لقد لاح لي ذلك من شكل لباسك فإني أراك حسن البزة وهؤلاء على ما أعلم حفاة عراة ولم يسقهم إلينا إلاَّ قرب آجالهم. هل أنت على دينهم الجديد».
قال: «كلا يا مولاي إني على دين النصرانية» قال ذلك واستخرج من بين أثوابهُ صليبًا من الذهب معلقًا بسلسلة في عنقه.
قال: «ألعلك من الغساسنة».
فتحير حماد في الجواب مخافة أن يكون في تصريحهُ بالصدق ما يوغر صدر البطريق عليهِ فقال: «إني غريب الديار ولكنني مقيم في بصرى الآن».
فقال: «ومن أي البلاد أنت؟»
فتذكر حماد الصلح الذي أبرم بين الفرس والروم على أثر الحروب الأخيرة فقال: «إني من أهل العراق ولما تم الصلح بين ملكنا وجلالة الإمبراطور هرقل قدمت إلى البلقاء».
فقال توما: «وما الذي جاء بك إلينا؟» قال ذلك ودلائل الاهتمام ظاهرة على وجهه بأقطاب حاجبيه وتفرسه.
فهاب حماد منظره ولكنهُ تذكر أنهُ ملك ابن ملك فعادت إليه أنفة الملوك فقال: «إذا أذن مولاي بخلوة بسطت لهُ بها رأيي» وكان في مجلس البطريق بعض الحاشية. فأشار إليهم فخرجوا وجلس البطريق إلى جانبه. فقال حماد: «أقسم لمولاي بحرمة الصليب والمعمودية إني إنما جئت إليه أنوي لهُ ولدولة الروم خيرًا».
قال: «لقد صدقت قل ما في نفسك».
قال: «إني رأيت معسكر هؤلاء العرب وخبرت صبرهم في ساحة القتال واستهلاكهم في سبيل الجهاد فخفت أن يطول الحصار فيصيب هذه المدينة جهدًا وقد عرفت قائد جند العرب الأكبر وهو رجل ميال إلى السلم رغاب في حجب الدماء فقلت في نفسي لعلي إذا توسطت في أمر الصلح بينكما إن أفعل خيرًا فاحتلت في دخول المدينة لأعرض هذا الأمر عليك».
فلم يكد حماد يتم حديثه حتى بدت ظواهر الغضب على وجه توما وقد أقطب حاجبيه وتململ في مقعده ونظر إلى حماد بعينين براقتين يكاد الشرر يتطاير منهما وقال: «وحرمة الصليب وصاحب هذه الكنيسة (وأشار إلى كنيسة مار يوحنا بالقرب من القصر) ورأس الإمبراطور هرقل لو لم تسبق إلى اقناعي بنصرانيتك لارتبت بحقيقة مقاصدك كيف تدعونا إلى صلح قوم ساقهم العقر إلينا وغرهم الجهل في منازلتنا أنخالهم يحسبوننا مثل حامية بصرى التي خانت ملكها وسلمت إليهم ألم تكن لهم عبرة برجوعهم عن أسوار هذه المدينة خاسرين منذ بضعة أسابيع (ثم نهض وهو يقول) إني سأعلمهم كيف حرب الروم منذ اليوم». قال ذلك ويده على قبضة حسامه وهو يخطر في الغرفة غضبًا.
فكبر ذلك الانتهار على حماد وجرت دماء الملوك في عروقه وحدثتهُ نفسهُ أن يغلظ لهُ بالمقال ولكنهُ علم إذا فعل ذلك أنهُ مائت لا محالة فصبر نفسهُ وكظم غيظهُ وقال: «إن الصلح لا يحط من قدر رجال الحرب ولا أخال سيدي يحسبني أجهل بطش الروم وشدة بأسهم ولكنني ظننت في الصلح حجبًا للدماء فإذا كنتم ترون الحرب فأنتم أصحاب الأمر».
وكان توما لا يزال واقفًا فلما سمع مقالة حماد جلس إلى مقعد آخر ويده لا تزال على قبضة حسامه وقال: «لولا علمي بحسن نيتك لما أبقيت عليك ولكنك مع ذلك ستبقى في حاشيتي حتى ترى عاقبة الغرور وترى حال هؤلاء العرب في حربنا».
فاستعاذ حماد بالله من هذا السجن وكان في حسبانه أن يطلق سراحهُ فيفتش عن هند فندم على مجيئه وظل صامتا فسمع البطريق ينادي بعض رجالهُ فلما حضرا وصاه أن يحتفظ بالرسول ويستبقيه في حاشيته ريثما يأمره أمرا آخر. قال ذلك وخرج مسرعًا غاضبًا وسيفه يقرقع على البلاط وراءه وطيلسانهُ يكاد يتطاير عن كتفيهِ وبقى حماد وخفيره في القاعة برهة ثم أشار الخفير إليه فخرجا واختلط حماد بالحاشية كواحد منهُم لا يؤذن لهُ بالخروج من القصر إلاَّ معهم فلبث يصبر نفسهُ ويتوقع القدر.
وفي مساء ذلك اليوم سمع أهل القصر يتحدثون بعزم توما على الصلاة في كنيسة يوحنا في صباح الغد وهو صباح الأحد وأنهُ دعا رجال حكومتهُ وأعيان المدينة للاجتماع فيها فأمل حماد أن يتنسم خبرًا عن هند هناك.