باب الفرج
ومضت بضعة أسابيع والحرب سجال بين الجانبين والروم ينتظرون نجدة من هرقل والنجدة تمنع عنهم حتى إذا كان ذات صباح وحماد جالس في بعض غرف القصر يئسًا أسيفا إذ جاءه رسول يستدعيه إلى توما فسار إليه وقلبهُ يخفق مخافة أن يكون في الدعوة ما يدعو إلى الخطر.
فلما دخل عليهِ رآه جالسًا على سريره مقطب الوجه فحياه فأجلسهُ توما إلى جانبهِ وهو يبش لهُ فآنس حماد منهُ رقة لم يعهدها فيهِ. ثم أشار توما فخرج كل من في الغرفة ولم يبق غيرهما فقال توما: «دعني أقص عليك خبرًا أقلقني وهو حلم رأتهُ امرأتي في منامها البارحة وهي حامل أما الحلم فأنها رأت الدماء تتدفق عن أسوار دمشق والأسواق مزدحمة بالقتلى فأفاقت من نومها مرعوبة فقصت علي الحلم وهي ترتعد وتقدمت إلي أن أقبل بصلح هؤلاء العرب حجبًا للدماء ولقد ساءني اقتراحها لأني راغب في الحرب إلى آخر نسمة من الحياة ولكنها ابنة الإمبراطور صاحب الأمر والنهي فضلًا عن منزلتها عندي وهي حامل. وأذكر أنك أخبرتني عن أبي عبيدة قائد فرقة باب الجابية أنهُ ميال إلى السلم فهل تظن إذا خابرناه بهِ يفعل ويحفظ عهده».
فاستبشر حماد بذلك وانفرجت كربتهُ وقال: «لا ريب عندي بحفظه العهد إذا عاهد».
قال: «أتذهب إليه وتستطلع رأيه في ذلك سرًا وتعود بالخبر».
قال: «أفعل ذلك مأمورًا طائعًا فإذن بمن يرشدني إلى الطريق ويخرج بي من الباب وأنا أسير إلى الرجل وأخاطبهُ».
قال: «قد أذنا لك بذاك ولكنني أشترط في أمر الصلح شرطًا لا بد منهُ».
قال: «وما هو».
قال: «أريد من هؤلاء العرب إذا دخلوا المدينة أن يحفظوا الأرواح ويحجبوا الدماء وأن يتركوا لنا كنائسنا ولا ينقصوا علينا منها كنيسة».
فقال حماد: «لا أظنهم يخلفوننا في ذلك وعلى كل فإني أسير إليهم وأعود إليك بالجواب». وكان حماد يكلم توما وهو معجب بتنازلهُ إلى هذا الحد على أن خيال هند ما زال نصب عينيهُ فخطر لهُ أن يغتنم تلك الفرصة للاستعانة بهِ على تسهيل زواجه بها وقال في نفسهُ (لا أخالني أرى رجلًا أقدر على مساعدتي من صهر الإمبراطور وهو الآن في حاجة إليّ فإذا استعنتهُ ووعدني فقولهُ نافذ على جبلة وغيره).
فتوسم توما في حماد توقفًا وترددًا فقال لهُ: «ما بالك تتردد ألعلك خفت الذهاب إلى العرب». قال: «كلا يا مولاي فإني أقتحم المخاطر في سبيل إنفاذ أوامرك ولكن لي أمرًا يهمني ليس هنا محل الكلام عليهِ على أنني لا أرى بد من استعانتك فيهِ وهو من أسهل الأمور عليك فاجعل مساعدتي في إتمامهُ مكافأة لي إذا فزت في عقد الصلح على ما تريدون».
قال توما: «وماذا عسى أن يكون طلبك».
قال: «أخاف إذا ذكرتهُ أن تضحك مني وتظنني مشتغلًا بعبث الغلمان ولكن الأمر يا مولاي قد أقلقنى ولا أرى بدًا من استعانتك فيهِ فاعذرني».
قال: «وما هو».
قال: «أتعرفون الأمير جبلة الغساني».
قال: «أليس هو ملك الغساسنة حليفنا».
قال: «بلى يا مولاي هو هو بعينهُ».
قال: «وما خبره».
قال حماد: «أقول بالاختصار إني خطبت ابنتهُ هندًا ثم إن ابن عم لها يقال لهُ ثعلبة يسعى في الحصول عليها وقد قبل والدها بهِ ولكن الفتاة لا تريده ونظرًا لما أعهده من نفوذكم على جبلة أرجو أن توعزوا إليه أن يعطيني الفتاة».
فتبسم توما وقد تذكر أبان شبابهِ وزمن عشقه فعذر حمادًا وطيب خاطره وقال: «إنهُ أمر سهل لك علينا قضاؤه». فانبسطت نفس حماد ومال إلى مشاهدة هند وتبشيرها بذلك الوعد وهم باستئذان توما أن يمر بكنيسة مريم أثناء ذهابهُ فإذا هو قد ابتدره قائلًا: «فأتقدم إليك أن تسرع في مهمتك فتسير حالًا إلى مخابرة أبي عبيدة فإذا عقد الصلح وهدأت الأحوال زففنا إليك هندًا رضى والدها أو لم يرض».
فشكر لهُ حماد شكرًا جزيلًا وقد عوّل في باطن سره على أن يحتال في المرور خلسة ثم سمع توما ينادي اثنين من حاشيتهُ فأتيا فقال لهما: «أعدا مركبة من مركبات القصر أحملا بها هذا الشاب العراقي إلى باب الجابية حالًا وافتحا لهُ الباب وليركب جواده هناك وأما أنتما فانتظرا رجوعه فمتى عاد ارجعا بهِ إلى هنا».
فقالا سمعًا وطاعة وخرجوا جميعًا وحماد آسف لمسيره في المركبة إذ لا يتأتى لهُ الوقوف عند الكنيسة.
وبعد برهة أعدت المركبة فركبوها فجرت مسرعة وقد تعاظمت قرقعتها على بلاط الشوارع وخصوصًا الشارع المستقيم حتى إذا دنت من كنيسة مريم خفق قلب حماد وشاعت عيناه وهو يلتفت نحو النوافذ والشرفات لعلهُ يرى هندًا أو أحدًا من أهلها فخاب رجاؤه وتجاوزت المركبة الكنيسة وهو يصيخ بسمعه مخافة أن يناديه أحد وتحوَّل قرقعة المركبة دون سماع النداء ولكنهُ ما لبث أن وصل إلى باب الجابية فوقفت المركبة وكان جواده هناك فركبهُ وخرج والعلم معهُ حتى أتى معسكر أبى عبيدة فلم يستغشهُ أحد من العرب فسار توًّا إلى خيمة عبد الله وهي في الطريق فرآه جالسًا حزينا لانشغال بالهُ فحالما وقع نظره عليهِ نهض مسرعا وضمهُ إلى صدره وسألهُ عن سبب غيابهُ فقص عليهِ الخبر فحمد الله على سلامتهُ. ثم سألهُ حماد هل سمع شيئًا عن سلمان فقال: «لا لم أسمع عنه شيئًا ولكنني أرسلت دليلنا إلى بصرى لعلهُ يراه هناك فيخبره بمقرنا ولم يعد الدليل بعد». فانشغل بال حماد ولبثا برهة يتحادثان في أمر جبلة وجنده فقال عبد الله: «أظننا إذا تم الصلح بين العرب والروم لا نعدم وسيلة في العثور على سلمان فهيا بنا الآن إلى أبي عبيدة» ثم نهضا معا حتى أتيا فسطاطهُ فرحب بهما فقص حماد ما اشترطهُ توما من أمر الكنائس والأموال فقال أبو عبيدة: «لقد قبلنا بذلك فليرسل من يعتمدهم من رجالهِ لعقد الشروط».
فودعهم حماد وعاد إلى دمشق وقد مضى معظم النهار فوصل القصر فرأى أهلهُ في هرج وضجة فسأل عن السبب فقيل لهُ أن امرأة البطريق توما تتمخض والبطريق عندها ينتظر ساعة الولادة فقال: ابعثوا إليه من ينبئهُ برجوعي فآنبأوه فخرج إليه وأمارات البغتة ظاهرة على وجههِ فقال: «ما خبرك» فقال: «إن الأمير عبيده قبل بالصلح فأرسل من تعتمده لعقده». فأمر مئة من كبار القصر أن يخرجوا في صباح الغد ومعهم حماد وقال لهم إني مشتغل في ما تقاسيه ابنة الإمبراطور من آلام المخاض وعسى أن يأتي الفرج قريبًا.