خصام أبي عبيدة وخالد
وفيما هو في ذلك تراءى لهُ في آخر الشارع جموع قادمون نحو الموكب فرارًا من أناس يطاردونهم فأمعن نظره فرأى مع المطاردين أعلامًا إسلامية ورجالًا من المسلمين في أيديهم السيوف والرماح وقد أمعنوا في الناس قتلًا ونهبًا ورأى في مقدمة الأعلام علمًا أسود عرف أنهُ راية العقاب لخالد بن الوليد ثم ما لبث أن رأى الفارين يتقدمون حتى التقوا بالموكب عند كنيسة مريم ثم دنا خالد فلما رآه أبو عبيدة عجب لأمره وناداه قائلًا: «كف يا أبا سلمان قد فتح الله على يدي المدينة صلحًا وكفى الله المؤمنين القتال».
فصاح فيهِ خالد: «وما الصلح لا أصلح الله بالهم وأين لهم الصلح وقد فتحتها بالسيف وخضبت سيوف المسلمين من دمائهم وأخذت الأولاد عبيدًا ونهبت الأموال».
فقال أبو عبيدة: «اعلم أيها الأمير أني ما دخلتها إلاَّ بالصلح».
فقال خالد: «انك لم تزل مغفلًا وأنا ما دخلتها إلاَّ بالسيف عنوة وما بقي لهم حماية فكيف صالحتهم».
فقال أبو عبيدة: «أتق الله أيها الأمير والله قد صالحت القوم ونفذ السهم بما هو فيهِ وكتبت لهم الكتاب».
فاعترضهُ خالد وارتفع الصياح بينهما وقد شخص الناس إليهما وأصحاب خالد لا يزالون يقتلون وينهبون وكانوا قد دخلوا المدينة من الباب الشرقي وهم لا يعلمون بصلح أبي عبيدة ولكنهم اغتنموا الفرصة باشتغال توما ورجاله بالقصر والولادة.
فقال أبو عبيدة: «وانكلاه حقرت والله ونقض عهدى». وجعل يقسم على المسلمين أن لا يمدوا أيديهم نحو الطريق الذي جاء هو منهُ حتى يرى ما يتفق هو وخالد عليهِ فسكتوا عن النهب واجتمع رجال المسلمين هناك وتراضوا في الأمر فتم الرأي على القبول بالصلح على أن يخرج توما وهريس (وهو وال على نصف الشام من قبل توما) وفيما هم في الجدال جاء توما وهريس وذكرا أبا عبيدة بالعهد وقالا: «إذا أبيتم صلحنا فإننا نخرج من المدينة ونكون في ذمتكم نحن وأهلنا وأموالنا» وبعد جدال طويل قبل خالد بذلك.
فأخذ توما يتأهل للخروج وكان حماد في جملة الوقوف يسمع ما دار من الحديث فلما علم بخروج توما على هذه الصورة ارتبك في أمره وعلم أنهُ لن يرجو منهُ نفعًا ولكنهُ عوّل على دخول الكنيسة ومقابلة هند فاستأذن عبد الله فقال: «هلم ندخل معًا».
وتركا الناس في تزاحمهم وعرجا نحو الكنيسة فإذا هي مقفلة فالتمسا مفتاحها فظن البواب أنهما يريدان بها أذية فذكرهما بالعهد فقالا إننا لا نريد أمرًا غير الزيارة ونحن مسيحيون مثلكم ففتح لهما الباب فسأَل حماد عن قيم الكنيسة فتقدم إليه قسيس شيخ وكان مختبئًا في الهيكل وهو يخاف الفتك فلما رأى الرجلين يرسمان علامة الصليب اطمأن بالهُ فسألهما عن مرادهما فتقدم إليه حماد وقبل يده وقال: «هل يقيم في هذه الكنيسة أحد من الغرباء». قال القسيس: «لم تجر العادة أن يقيم الناس في الكنائس».
قال: «وإنما أريد هل يقيم أحد في بعض الغرف التابعة للكنيسة».
قال: «لا يا سيدي ولكن أهل ملك غسان وكلهم من النساء كن مقيمات عندنا ومعهم الخدم ولكنهم خرجوا جميعًا منذ بضعة أسابيع».
فاضطرب قلب حماد وقال وقد ظهرت البغتة على وجهه: «وإلى أين خرجوا».
قال: «لا أدري ولكن رجالًا جاؤوا من قبل الأمير جبلة أقاموا هنا ساعات قليلة ثم خرجوا جميعًا». فوقف حماد برهة صامتًا وقد نسي موقفهُ وغلب عليهِ اليأس وجعل يفكر في ماذا عسى أن يكون سبب رجوعهم. فأعاد السؤال وأوضحهُ فلم يفهم شيئًا آخر.
فقال: «وهل تذكر أنهم خرجوا من هذا المكان قبل حصار المدينة أو بعده».
قال: «أظنهم خرجوا قبل الحصار».
فبغت حماد وقد اسقط بيده ونظر إلى عبد الله كأنهُ يستطلع رأيهُ فقال عبد الله: «أظن الملك جبلة أنفذ في طلبهم لما سمع بقرب الحصار فساروا إليه».
فتعاظم اليأس على حماد وفكر في الأمر يسيرًا فلاح لهُ أن هندًا لا تخرج على هذه الصورة ما لم تترك لهُ خبرًا أو إشارة وخصوصًا بعد أن كتبت إليه تستعجل قدومه إليها فقال للقسيس: إلاَّ ترشدنا إلى المنزل الذي كان يقيم بهِ أهل جبلة.