مهمة خطرة
وفي الغد خرج الجميع إلى المعسكر وقد اقتسموا الغنائم ونزل كل في خيمتهُ وكان عبد الله يتوقع عود الدليل من مهمته التي سار فيها إلى بصرى فلم يعد فعلم أنهُ إنما رغب في الذهاب فرارًا من غائلة ذلك الحصار فلبثا وهما قلقان على سلمان وهند فحاولا مخاطبة أبي عبيدة مرة ثانية في المسير إلى بيت المقدس فلم يملكا فرصة لانشغاله في تسيير الجند لفتح سواحل الشام وغيرها من البلاد. فصبرا ريثما تسنح الفرصة فمضت أيام وهما على ذلك حتى أصبحا ذات يوم وهما على مثل الجمل في انتظار الخروج إلى بيت المقدس يتوقعان حيلة يخرجان بها فرأيا بعض الجند في هرج ومسارعة فخرجا فإذا هما بهجان قد دخل المعسكر وعليهِ غبار الأسفار فعرفا أنهُ رسول من الإمام عمر إلى أبي عبيدة ثم رأياه ترجل ودخل فسطاطهُ فلبثا ينتظران ما جاء بهِ.
وبعد هنيهة خرج الرسول وجاء بعض القائمين في خدمة أبي عبيدة والتمسوا من عبد الله وحماد الذهاب إلى فسطاط الأمير حالًا. فأوجسا خيفة لئلاَّ يكون في تلك الدعوة ما يدعو إلى التأجيل.
فلما دخلا رأيا أبا عبيدة في صدر الفسطاط والى جانبهِ خالد بن الوليد وعمرو ابن العاص وغيرهما من الأمراء فحياهم فأمر لهما بالجلوس.
ثم قال لهما مخاطبًا عبد الله: «لقد أنبأني أخي (وأشار إلى خالد) أنكم من أهل العراق ولم أكن أجهل ذلك ولكنني علمت منهُ أنكم من أمراء العراق العارفين بأحوال تلك البلاد وقد شاهدنا من إخلاصكم في خدمتنا ما دعانا إلى تكليفكم أمرًا تستوجبون عليهِ الأجر والثواب».
فازداد عبد الله خوفًا من تلك الدعوة ولكنهُ تظاهر بالارتياح وقال: «إننا في خدمة الأمير طوع إرادته».
فقال: «لقد جاءنا رسول مولانا أمير المؤمنين الآن يدعونا إلى نصرة إخواننا في العراق وان ننفذ إليهم جندًا ممن خبروا تلك الأرض فأريد أن تسيرا مع تلك النجدة وفي ذهابكما خير لكما وخدمة لجند الجهاد».
فقال عبد الله: «إن أمر مولاي الأمير مطاع ولو أنفذني إلى حيث أراد لفعلت ولكنني خرجت من العراق منذ أعوام ولا أدري ما طرأ عليها من التغيير والتبديل فأخشى أن لا يكون في ذهابي فائدة لكم وزد على ذلك أننا مشتغلو البال على بعض أهلنا في بيت المقدس».
وكان خالد مصغيًا لما يبدو من عبد الله وكان يتوقع ذلك الجواب منهُ فقال لهُ: «لقد سمعت من خادمك سلمان يوم صلح الحيرة أنك صاحب عقار وكلمة نافذة وقد حمينا لك مالك وأهلك في ذلك الصلح فكيف تعتذر عن الذهاب». قال خالد ذلك وعلامات الغضب تكاد تظهر على وجههُ فخاف عبد الله عاقبة اعتذاره فابتدره قائلًا: «إني لا أعتذر عن الذهاب فإن ذلك فرض علي ولكنني أود أن أتفقد الذين في بيت المقدس أيضًا».
فقال أبو عبيدة: «فليذهب ابنك حماد إلى بيت المقدس ونحن نصحبه بمن يوصلهُ إليها وسر أنت إلى العراق وكن واثقًا إننا نحافظ على أهلك وولدك محافظتنا على أهلنا لأنك في ذمتنا واعلم أن سفرك إلى العراق لا يطول لأن الفتح قريب إن شاء الله».
فأذعن عبد الله صاغرًا لعلمه أن تردده ربما هاج غضب خالد لما يعلم من شدته وتسارعه.
أما حماد فشق عليهِ فراق عبد الله ولكنهُ تأسى بقرب مشاهدة هند.
فقال عبد الله: «هل يأمر مولاي بتسيير ولدي هذا قبل خروجي».
قال: «نعم سنسيره في الغد وأما أنت فلا بد من بقائك بضعة أيام ريثما يتأهب الجند للذهاب».
ثم خرج عبد الله وحماد إلى الخيمة لا يلويان على شيء وباتا تلك الليلة لا حديث لهم إلاَّ حديث ذلك الفراق وفكرا طويلًا في الفرار ولكنهما خافا العاقبة فضلًا عما حسباه من تجسس العيون وما قد تكون عاقبة الفرار لو قبض عليهما. ولو كان حديثهما مع أبي عبيدة لهان التخلص لما يعلمانهُ من سهولة أخلاقه أما خالد فأنهُ سريع الانتقام.
وفي الغد ركب حماد وودع عبد الله وتواعدا على اللقاء في بيت المقدس وإذا اضطر حماد للخروج قبل مجيء عبد الله فليترك لهُ خبرًا في كنيسة القيامة هناك. ثم سار حماد إلى أبي عبيدة فودعهُ فقال أبو عبيدة وهو يتبسم: «سر بحراسة المولى ونرجو أن نلاقيك قريبًا في بيت المقدس وقد نحتاج إلى خدمتك هناك مثل حاجتنا إليها في دمشق». فأدرك حماد أنهُ يشير إلى قرب ذهابهم لحصارها فتجاهل ولم يجب فأمر أبو عبيدة ببعض الرجال يسيرون معهُ لحمايته أثناء الطريق فسار وعينا عبد الله تراعيانُ حتى توارى.
أما هو فلما ابتعد عن دمشق تذكر هندًا وحالما وخيل لهُ أنها تزوجت بثعلبة فارتعدت فرائصهُ ولكنهُ قال في نفسه (أنها لو كانت تقبل بهِ لما أنفذت في طلبي إلى دمشق ثم استبقت خادمتها لاستقدامي إلى بيت المقدس) ثم فكر في طول مدة غيابه فخيل لهُ أنها يئست من قدومهِ فاضطرت لمجاراة والدها والقبول بثعلبة فقضى معظم الطريق في مثل هذه الهواجس.