خيبة المسعى
وصل حماد بيت المقدس فنزل في دير بالقرب من كنيسة القيامة حتى إذا استراح قليلًا خرج للبحث عن هند في دير القيامة نفسه فأخذ يفتش ويستطلع لعلهُ يتنسم خبرًا فلم ير أحدًا يعرف جبلة ولا أهلهُ ولم يكن حديث القوم إلاَّ الحرب وعواقبها وكلهم خائفون مما سمعوه عن سقوط دمشق فقال في نفسه (لأذهبن إلى قيم ذلك الدير لعلهُ ينبئنا نبأ) وكان يونانيًا فسار إليه فقال لهُ القيم: «أن أهل الملك جبلة نزلوا هنا أيامًا ولكنهم سافروا منذ أسبوع».
فأجفل حماد وقال: «هل سافروا جميعًا نساءً ورجالًا؟»
قال: «لقد كان النساء فقط عندنا ولكن رجالهم أتوا منذ أسبوع وأقاموا هنا ساعات قليلة ثم أقلعوا جميعًا إلى حيث لا يعلم أحد».
فقال حماد: «ألم يتركوا شيئًا من أمتعهم هنا». قال: «تركوا منها ما لا قيمة لهُ من ثقيل الأحمال هبة للدير ولم يأخذوا إلاَّ ما خف حملهُ وغلا ثمنهُ».
فبهت حماد لذلك الخبر وقال في نفسهُ (وهل ثعلبة معهم) ثم لم ير بدًا من إعادة السؤال فالتفت إلى القيم وقال لهُ: «أتقدم إليك أن تعيرني سمعك ولا يثقل عليك سؤالي لأن هؤلاء القوم يهمني أمرهم وقد كنت في دمشق أقاسي عذاب الحصار فلما تم صلحها أتيت لأفتش عنهم فهل عرفت أشخاصهم جيدًا».
فاهتم القيم لحديث حماد عن حصار دمشق وكان شديد الرغبة في سماعه.
فقال لهُ: «وهل عاينت الحصار بنفسك ورأيت جند العرب رأي العين».
قال: «نعم رأيتهم واختلطت بهم وسمعت أحاديثهم».
قال: «ألا قصصت علي حديث الحصار».
فاضطر حماد أن يقص عليهِ الخبر مختصرًا استجلابًا لرضاه لعلهُ يصبر على أسئلته فلما انقضى الحديث امتقع لون القيم وهو راهب طاعن في السن فقال: «وما ظنك بهم هل يأتون إلينا».
قال: «أظنهم يأتون إذا لم يجدد الإمبراطور هرقل الهمة في التجنيد والترميم فان هؤلاء العرب أشداء صبورون على القتال ولكن الله يحمي عباده». فاخبرني الآن عما تعرفهُ من أمر أهل الملك جبلة.
قال: «أما وقد أفصحت لي عن رأيك بعد أن خبرت الأمور فأخبرك يا ولدي إن سقوط دمشق أوقع الرعب في قلوب رجالنا فأصبح كل منهم خائفًا لا يأمن على نفسه ولا أهله وكذلك جبلة فأنهُ أسكن أهلهُ في هذا الدير وفي عزمه أن يعقد لابنته الوحيدة على ابن عمها … فهل بينك وبينهم قرابة».
قال: «ليست بيننا قرابة ولكن لي مع الأمير جبلة شغلًا هامًا» قال ذلك وهو ينتظر بقية الخبر ليرى ماذا تم من أمر الاقتران.
فقال الراهب: «ولكنني لحظت من الفتاة نفورًا شديدًا من ابن عمها هذا وكان والدها قد كلفني بإقناعها».
فثارت الغيرة في قلب حماد وأصبح كلهُ آذانًا ليسمع نهاية الحديث فقال: «وهل اقتنعت؟»
قال: «كلا يا ولدي لأنها كانت شديدة النفور وكنت إذا سألتها أجابتني والدموع ملء عينيها تعتذر ووالدتها لا تلومها».
ولم يتم الراهب كلامهُ حتى تناثر الدمع من عيني حماد فتشاغل بإصلاح كوفيتهِ إخفاء لعواطفهِ وقال: «لقد همني أمر هذه الفتاة وارى من الظلم أن تجبروها على الاقتران برجل لا تريده».
قال الراهب: «لقد صدقت يا ولدي فان العناية الصمدانية حلت هذا المشكل على أهون سبيل».
فقال حماد: «وكيف ذلك».
قال الراهب: «إن ابن عمها المشار إليه قتل في بعض المواقع الأخيرة».
فأجفل حماد إجفال البغتة وقال: «هل تيقنت ذلك يا مولاي لعل الذي قتل هو غير الخاطب».
قال: «بل تحققت أنهُ هو لأني سمعتهم يتحدثون بحكايتهِ وكأنهم يهنئون هندًا بذلك».
فقال حماد: «إلاَّ تذكر اسمه».
قال: «أذكر أن اسمهُ ثعلبة».
فأيقن حماد بنجاتهِ من ذلك المناظر ولكنهُ ما زال في ريب من مقر هند ووالدها فقال: «وماذا فعلوا بعد ذلك».
قال الراهب: «وبقي أهل جبلة عندنا بعد ذلك أيامًا حتى شاع سقوط دمشق ونصرة المسلمين فوقع الرعب في قلوب الناس وجاء جبلة ومعهُ بعض الحاشية من رجاله فأسرعوا في حمل أمتعتهم مما خف حملهُ وغلا ثمنهُ وخرجوا خروج الهاربين من الموت ولا أدري إلى أين».
فوقف حماد صامتًا وقد تحير في أمره لا يدرى ماذا يعمل فشعر بافتقاره إلى عبد الله وسلمان وهو بعيد عنهما فأظلمت الدنيا في عينيه وضاق صدرهُ فنهض للحال فودع الراهب وانصرف إلى حجرته وهو غارق في لجج الهواجس لا يفقه جهة مسيره.