حصار بيت المقدس
اعلموا معاشر النصرانية أن رجال العرب الحجازيين الذين قد سمعتم بقدومهم هذه البلاد واستيلائهم على بصرى ودمشق قد استفحل أمرهم حتى فتحوا حلب وحمص وبعلبك وقيسارية وقنسرين وإنطاكية وغيرها وقد بلغني في هذا الصباح أنهم قادمون إلى هذه المدينة المقدسة بجند كبير. وقد بلغكم على ما أظن خروج مولانا الإمبراطور هرقل من بلاد الشام إلى القسطنطينية لأحوال اقتضت ذلك وقد فوض إلينا التصرف في أمر هذه الحرب بالتي هي أحسن ففاوضنا حاكم هذه المدينة فرأينا من الحكمة أن لا ندع لأولئك العرب سبيلًا لتخريب شيء من أبنيتها المقدسة فإن فيها كنوز النصرانية بل ندافعهم بالأمر الممكن فإذا رأينا خطرًا في مقاومتهم عقدنا معهم صلحًا نحفظ بهِ الأرواح والأموال ونستبقي كرامتنا لا كما فعل أهل دمشق. فما علينا إلاَّ أن نصلي إلى الله أن يؤيدنا بالنصر في الدفاع عن قبر ابنهُ المخلص وهذه حصوننا متينة وعندنا العدة والرجال فانبذوا الشقاق وأطيعوا أولي الأمر واعلموا أن الله لم يمكن هؤلاء العرب من بلادنا إلاَّ لما أردناه من الانغماس في دنيانا والانشغال عن طاعة الله بالشقاق والانقسام فلتجتمع قلوبكم ولندافع جهد طاقتنا والله يفعل ما يشاء.
فلما انتهى البطريرك من خطابهُ ضج الناس وهم بين مصوب ومخطئ أما حماد فلما انقضت الصلاة خرج وهو يقول لسلمان لم تعد ثمت حاجة بنا إلى دمشق فإننا لا نلبث أن نرى أبا عبيدة هنا ويلوح لي أنني سأخدمهُ في هذه المدينة خدمة أعظم شأنًا من خدمتي في دمشق لأن أهلها على ما يظهر أقرب إلى الصلح من الدمشقيين. وسارا إلى مرتفع من المدينة يطل على ضواحيها وقضيا بقية ذلك اليوم يتشوفان لعلهما يريان جند العرب قادمين وأهل المدينة يتأهبون للدفاع وفي صباح اليوم التالي رأيا الغبار يتصاعد في الأفق وبانت من تحتهُ أعلام المسلمين وفي مقدمتها راية العقاب فعلم حماد أنهم رجال خالد بن الوليد وفي اليوم التالي جاءت فرقة أخرى نزلت في جانب آخر من المدينة ومازالوا يرون كل يوم فرقة تأتي بأعلامها وخيامها وتنزل في ناحية من المدينة حتى صارت عدة الفرق سبعًا كل واحدة منها خمسة آلاف وجملة الجند ٣٥ ألفا عليهم سبعة قواد عرف حماد بعد ذلك أنهم خالد بن الوليد وشرحبيل والمرقال ويزيد والمسبب وقيس المرادي وعروة بن مهلهل فلما تحقق حماد وسلمان انحصار المدينة على هذه الصورة جعلا يبحثان عن أبي عبيدة لعلهُ جاء معهم فلم يريا رايتهُ هناك ولكن حمادًا كان يظن أن لا بد من حضوره فتح تلك المدينة.
وقضيا أيامًا يترددان بين أسوار بيت المقدس والدير يستطلعان مقاصد الروم فرأيا الخوف مستوليًا على الخاصة أما العامة فكانوا لا يزالون مصرين على الدفاع فرموا المسلمين بالنشاب عن الأسوار فأجابهم المسلمون بمثلها ومضت أيام والحرب سجال بين الجانبين حتى مل حماد الانتظار وعوَّل على الخروج إلى الشام لملاقاة أبى عبيدة وسؤالهُ عن جبلة فقال لهُ سلمان: أن الطريق لا يخلو من الخطر يا مولاي وأخشى إذا خرجنا من المدينة أن يستغشنا أهلها فيريدوا بنا سوءا وإلاَّ فليكن خروجنا بحيلة فتربصا بضعة أيام وهم في كل يوم يقفان في مشارف المدينة يطلان على ما وراء الأسوار من السهول والمسالك فرأيا يومًا جيشًا جديدًا قادمًا من جهة دمشق عرفا أنهُ جند أبي عبيدة وفيهم رايتهُ فاستبشر حماد وقال: «قد آن الوقت يا سلمان فلنسع في سبيل إلى الخروج فما الرأي».
قال: «الرأي أن نحرض حاكم المدينة على مخابرة العرب بشأن الصلح فلعلهُ أن يأذن بخروجنا أو يخرج أحدنا للمخابرة».
قال حماد: «ومن يوصلنا إليه وأنا لا أعرفهُ وهو لا يعرفنا ولا يثق بنا».
قال سلمان: «دع ذلك إليَّ فإني أدبره بإذن الله». وأطلعه على ما ينوي إجراءه.