الإمام عمر بن الخطاب
وفيما هو يتشوف رأى هجنًا قادمة فقال في نفسهِ (هذه هي طليعة الموكب قد جاءَت ببشارة) فلما اقتربت رأى في مقدمتها هجينًا أحمر عليهِ من الجانبين غرارتان وأمام الرجل قربة الماء ووراءه جفنة للزاد وقد أمسك بخطام الناقة بدوي ماش وعلى الناقة رجل أبيض الوجه مع حمرة تعلوه شديد حمرة العينين حسن الخدين والأنف خفيف العارضين ضخم الكراديس على رأسهِ عمامة وعلى كتفيهِ عباءة من صوف عليها بضع عشرة رقعة بعضها من الجلد والبعض الآخر من الصوف يحمل بيده درة هي عبارة عن سوط عريض من الجلد. فتحير حماد في أمر هذا الهجان والتفت إلى سلمان فابتدره قائلًا: «هذا هو الإمام عمر يا مولاي» ثم ما لبث أن رأى أبا عبيدة ترجل عن ناقتهِ وأسرع نحوه وترجل عمر أيضًا وتعانقا فتحقق حماد أنهُ الإمام عمر فعجب لزهده ثم ما لبث أن سمع عمر ينتهر بعض الأمراء فتقدم ليسمع كلامهُ فإذا هو يؤنبهم لما اتخذوه من لباس الديباج والحرير وقال لهم: «ما بالكم تمسكتم بالدنيا وغفلتم عن الآخرة ما هذه الملابس أنها ألبسة أهل الترف وأنتم في سبيل الجهاد» قال ذلك وحسا عليهم التراب فقال أبو عبيدة: «أنهم يا أمير المؤمنين إنما اتخذوه كساءً خارجيًا وتحتهُ السلاح».
ثم نادى أبو عبيدة حمادًا فأقبل فقدمهُ إلى عمر وقال لهُ أنهُ شاب من أمراء العراق كان لنا نصيرًا في حصار الشام وواسطة في صلحها.
فرحب بهِ عمر والتفت إلى أبي عبيدة وقال: «لقد أذكرتني بجبلة بن الايهم الغساني ألم يصلك كتابى بشأنهُ».
قال: «كلا يا مولاي وما خبره».
قال: «لهُ خبر طويل سأقصهُ عليك بعدئذ وهلم بنا الآن إلى بيت المقدس» وركبوا جميعًا.
أما حماد فلما سمع اسم عمهِ جبلة خفق قلبهُ وتاق لسماع حديثهِ ولكنهُ لم يجسر على التماس ذلك فاضطر للانتظار إلى فرصة أخرى.
ومازالوا سائرين حتى أشرفوا على بيت المقدس وحولها معسكر العرب ورأوا الأعلام عن بعد ولما اقتربوا من الخيام سمعوا ضجيج الناس ورأوا جماعات منهم مهرولين لملاقاة عمر فرحب بهم وأثنى على غيرتهم وشكرهم لحسن جهادهم وذكر ما فتح من المدن على أيديهم حتى إذا وصلوا معسكر أبي عبيدة نزل عمر في فسطاط من شعر نصبوه لهُ هناك ونزل الأمراء معهُ وتزاحم الناس للتيمن بمشاهدتهِ وسماع كلامهِ. أما هو فجلس على التراب وجلس الجميع معهُ وحماد يعجب لزهده وتواضعهِ.
ثم نهض وألقى عليهم خطابًا ثم جلس الجميع يتحدثون بأمر الفتح وما لقوه من الجهد وما كان من فوزهم وكلهم فرحون وأمارات الافتخار ظاهرة على وجوههم.
وكان حماد ينتظر أن يجري حديث جبلة لعل عمر ان يقص خبره فاشتغلوا عن ذلك بأحاديث الفتح ثم نودي بالصلاة.
فخرج حماد وقد مل الانتظار فقال: «ما قولك يا سلمان هل نسألهُ ليقص علينا خبر جبلة».
قال: «لا حاجة بنا إلى ذلك وإنما يكفينا أن نسأل أبا عبيدة وهو يطلب إليه».
قال: «حسنًا» وسارا إلى أبي عبيدة بعد الصلاة فلما وقع نظره على حماد قال لهُ: «غدًا نسمع حديث أمير المؤمنين عن جبلة وأهل بيتهُ أما الآن فاطلب إليك أن تسير إلى حاكم هذه المدينة فتنبئه بقدوم أمير المؤمنين وقل لهُ ليخرج للصلح ومتى عدت من هذه المهمة قدمتك إلى مولانا الخليفة فتنال منهُ بركة وحظوة».
فخرج حماد وسلمان فأنبئا الحاكم والبطريرك بقدوم عمر فخرج البطريرك على الأسوار وطلب أن يرى عمر رأى العين.
فعاد حماد بالخبر فركب عمر ناقتهُ ومرقعتهُ وتقدم نحو الأسوار وأبو عبيدة إلى جانبيهِ وكان حماد قد عاد إلى الأسوار وأشار إلى البطريرك أنهُ هو الرجل فاستغرب ما رآه من سذاجة لباسهِ وكثرة زهده واعتبر بما انغمس فيهِ الروم من الترف والرخاء وما أراد الله من خضوعهم لأولئك العربان ثم نظر إلى أعيان المدينة وكانوا وقوفًا معهُ على الأسوار وقال: «إليكم يا أهل بيت المقدس هذا هو الرجل الذي تفتح بلادنا على يده فاخرجوا واطلبوا صلحهُ واعقدوا معهُ الأمان والذمة» ففتحوا الأبواب وكانوا قد ضاقوا ذراعًا عن احتمال الحصار وخرجوا أفواجًا وفيهم الرجال والنساء والشيوخ والأطفال وصاحوا بصوت واحد يستغيثون فلما رآهم عمر على هذه الحالة تخشع لله وسجد وهو على قتب بعيره ثم أناخ ناقته ونزل وقال للناس: «عودوا إلى منازلكم ولكم الذمة والعهد».
فعادوا ولم يقفلوا الأبواب وعاد عمر إلى معسكره وفي صباح الغد دخل عمر المدينة والناس يرحبون بهِ وقد رفعوا أصواتهم بالترنيم والترتيل وفيهم القسس في أيديهم المباخر حتى أتى سراي الحاكم قرب كنيسة القيامة واجتمع إليه الحاكم والبطريرك وكبار أهل الدولة وعقدوا صلحًا أقروا بهِ على أداء الجزية وأوصى بهم الإمام عمر خيرًا وهدأت الأحوال وسكنت القلوب إلاَّ قلب حماد فأنهُ مازال يتقلب على جمر الانتظار والتردد.