جبلة بن الايهم
ومكث عمر في بيت المقدس عشرة أيام لم يخل يومًا واحدًا من الوفود من سائر أنحاء سوريا وخصوصًا عظماء البلاد التي خضعت للمسلمين فأنهم كانوا في اشتياق لرؤية الخليفة. وفي اليوم الخامس من دخولهِ وهو يوم الجمعة خط عمر محرابًا في المدينة وفي موضعه بني جامعه بعد ذلك ففي ذلك اليوم سار حماد إلى أبي عبيدة وشكا إليه قلقهُ ورغبتهُ في سماع حكاية جبلة عن لسان الإمام عمر فاستمهلهُ إلى المساء وقال لهُ: «إن أمير المؤمنين سيخرج من المدينة بعد صلاة العصر ليصلي العشاء مع باقي الأمراء في فسطاطه وسنقضي السهرة هناك فيقص علينا الخبر».
وفي العصر خرج حماد وسلمان إلى معسكر أبي عبيدة حتى إذا كان العشاء وصلى المسلمون سارا إلى خيمة الإمام عمر فلقيهما الحاجب فاستأذن لهما فدخلا وجلسا في بعض جوانب المكان وكانت الخيمة كبيرة وفيها زهاء خمسين رجلًا.
وكان الجميع جلوسًا على الثرى تمثلًا بإمامهم الخليفة وبعد أن قرأ القراء بعض السور وتبرك الناس بذلك المساء تقدم أبو عبيدة إلى الإمام عمر أن يقص عليهِ حكاية جبلة بن الايهم ملك غسان وما كان من أمره.
فقال الإمام عمر: «ماذا تعلمون عنه أنتم».
قال أبو عبيدة: «أنهُ فر بأهل منزلهُ إلى مكان لا نعلمهُ».
فتبسم عمر وقال: «إنهُ لم يفر ولكنهُ جاء المدينة بعد فتح دمشق يلتمس الدخول في الإسلام فقبلت منهُ ذلك فاعتنق الإسلام وأقام بيننا في أهل منزلهِ معززًا مكرمًا وأذنا لهُ أن يبقى على ما اعتاده من فاخر اللباس من الحرير والديباج وركوب الخيل مسرجة بالسروج الثمينة عليها سلاسل الذهب في أعناقها وإذا ركب وركبت حاشيته عقدوا أذناب الخيل فسارت تخطر بهم حتى لا تبقى واحدة من نساء المدينة إلاَّ وتخرج لمشاهدتهم.
ولكننا ما برحنا نرى فيهِ روح الاستبداد والظلم مما يأنفهُ عدل الإسلام لأن هؤلاء العرب المنتصرة عاشروا الروم واعتنقوا ديانتهم وتخلقوا بأخلاقهم ولا يخفي عليكم ما في دولة هؤلاء الروم من التفاوت بين طبقات رعاياهم فيأكل القوي منهم الضعيف بغير وجه الحق فأراد جبلة أن يسير على ذلك فأوقفناه عند حده.
ومما دعانا إلى إيقافهِ خاصة حادثة جرت لرجل من فزارة مع جبلة وذلك إننا خرجنا مرة للحج وفيما نحن نطوف في البيت ومعنا جبلة وجمع فقير من المسلمين وفي جملتهم رجل من فزارة فوطئ الفزاري آزار جبلة فانحل الإزار فغضب جبلة. ورفع يده وضرب الفزاري فهشم أنفه فجاءني هذا الرجل يشكو ما ألم بهِ فبعثت إلى جبلة فأتى فقلت: «ما هذا؟» قال: «نعم إني هشمت أنفهِ لأنهُ تعمد حل إزاري ولولا حرمة الكعبة لضربت بين عينيهِ بالسيف».
فلما قال ذلك علمت أنهُ يريد الاستبداد فقلت: «اعلم يا جبلة انك مخطئ وقد أقررت بما ارتكبتهُ فعليك إما أن ترضي الرجل وإما أن يفعل بك مثل فعلك بهِ». فعظم ذلك على الغساني واستغربهُ وقال: «وماذا قلت آمر بتهشم أنفك كما فعلت».
فقال: «كيف ذاك يا أمير المؤمنين وهو سوقة وأنا ملك».
قلت: «إن الإسلام جمعك وإياه فلست تفضلهُ بشيء إلاَّ التقى والعافية».
فقال وقد خاب ظنهُ: «كنت ظننت يا أمير المؤمنين إني أكون في الإسلام أمنع مني في الجاهلية».
فقلت: «دع عنك هذا فإنك إن لم ترض الرجل أقدتهُ منك».
فقال: «إذا أتنصر».
فقلت لهُ: «إن تنصرت ضربت عنقك لأنك قد أسلمت فإن ارتددت قتلتك».
فلما رأى ابن الايهم ما صممت عليهِ سكت ثم قال لي: «إني ناظر في ذلك ليلتي هذه».
قلت: «انظر ما شئت» ثم انصرف ولم أعد أراه ولا أدري مقره. وقد كتبت إليك بشأنهِ والتمست أن تبحث عنهُ فهل علمت عنه شيئًا».
قال أبو عبيدة: «كلا يا مولاي إننا قضينا أشهرًا ونحن نبحث عنهُ فلم نقف لهُ على خبر».