وقعة القادسية
إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من سعد بن مالك أمير جند العراق أما بعد
فإني أكتب إليك تفصيل واقعة القادسية التي فاز بها المسلمون على أهل فارس وإليك هي. جئنا يا أمير المؤمنين بجنود المسلمين ممن تعلم ما انضم إليهم من جند الشام وجملتهم ٢٥,٠٠٠ ونزلنا في القادسية بين العقيق والخندق بجبال القنطرة والقادسية يا أمير المؤمنين واقعة في رأس بحيرة وراءها مضيق من البر يفصل بين البحيرة والفرات فأقمنا هناك شهرين ندافعهم تارة ونطاردهم أخرى حتى ملوا منا فكتبوا إلى ملكهم يزدجرد وشكوا ما يقاسونهُ وقالوا إننا أخربنا ما بيننا وبين الفرات ونهبنا الدواب والأطعمة فبعث يزدجرد إلى رستم كبير قواده وألح عليهِ أن يقدم هو بنفسهِ لقتالنا فجاء وعسكر في ساباط وقد كتبت إليك بذلك في حينه فكتبت إلينا أن لا يكربنا ما يأتينا عنهم فاستعنا الله وأرسلنا نفرًا من المسلمين إلى يزدجرد في المداين يدعونهُ إلى الإسلام أو الجزية أو السيف فاستقدم رستم إليه واستشاره فيما جاؤوا من أجلهِ فلما سمع مقالهم تهددهم وتوعدهم ثم وعدهم بقوت ومال وكساء فأجابوه بكلام شديد فأخرجهم من المداين مهانين فلما رأينا ذلك منهم جعلنا نغزو ما حولنا من البلاد والقرى نسوق أغنامها وأبقارها وأسماكها وأبلها. فلما بلغ رستم ذلك حمل بجند عدده مئة ألف وعشرون ألفًا أربعون منها يقودها رجل اسمهُ الجالينوس والباقون يقودهم رستم فجاؤونا في هذا الجند الثقيل ومعهم الفيلة والخيول وكانوا لا يمرون ببلدة إلاَّ أساؤا أهلها وشربوا خمورها. وأكثروا من الفساد فيها فنقم الناس عليهم وقد علمنا من بعض أسراهم أنهم قضوا في انتقالهم هذا من المدائن إلى القادسية أربعة أشهر فلما وصلوا القادسية عسكروا بجبالنا ورأينا معهم فيلة بعضها مشهور عندهم بالفتك كالفيل المسمى فيل سابور الأبيض وغيره. فنظم رستم جيشهُ فجعل من الأفيال ١٨ في الوسط و١٥ في المجنبتين ثم انفرد هو في مكان مشرف ينظر منهُ إلى جندنا وبعث إلينا أن نوافيهِ برجل منا يكلمه فأرسلت إليه واحدًا فأخبرنى لما عاد أنهُ دخل على رستم فإذا هو جالس على سرير من الذهب وبين يديهِ البسط والنمارق والوسائد المنسوجة بالذهب فلما وصل رسولنا بعباءتهِ ودرعهِ وسيفهِ لم يبهره ما رآه هناك من بهارج الدنيا فقاد جواده فوق البسط وشق وسادتين ربطهُ بهما فسألوه أن يضع سلاحهُ فأبى حتى أقبل على رستم فابتدره ترجمانه وهو من أهل الحيرة واسمهُ عبود فسألهُ عما جاء من أجلهِ. فأجابهُ بالدعوة التي تعلمونها فعظم ذلك عليهم وقالوا: «كيف تطلبون قتالنا أو الجزية وقد كنتم في قشف ومعيشة سيئة لا نراكم شيئًا وكنتم إذا أقحطت أرضكم استعطيتمونا فنأمر لكم بشيء من التمر والشعير ونردكم ولا نظنكم قادمين علينا إلاَّ من الجهد فانا آمر لأميركم بكسوة وبغل وألف درهم ولكل منكم وقر تمر وتنصرفون عنا». فأجابهُ الرسول بما أسكتهُ وبعد جدال طويل غضب رستم وأقسم أن النهار لا يطلع قبل أن يقتلنا أجمعين فقال لهُ الرسول: «من يقتل منا يدخل الجنة». وأرسلت إليه رسلًا آخرين يدعونهُ إلى ما هو خير لنا ولهُ فأجابهم بمثل جوابهِ الأول فلم يجدنا ذلك نفعًا.
وفي اليوم التالي جلس رستم على سريره وضرب عليهِ طيارة وعين الأفيال كما ذكرت واتخذ في إيصال خبر الحرب إلى ملكهِ يزدجرد طريقة اعجبتني ولعلي متخذها في بعض حروبي إن شاء الله وذلك أنه جعل بينه وبين يزدجرد رجالًا على كل دعوة رجلًا أولهم على باب إيوانهِ في المداين وآخرهم عند رستم فكل ما فعل رستم شيئًا قال الذي معهُ للذى يليه كان كذا وكذا ثم يقول الثاني ذلك للذي يليه وهكذا إلى أن ينتهي إلى يزدجرد في أسرع وقت. وكنت يا أمير المؤمنين مصابًا بدمامل وعرق النساء فلا أستطيع الجلوس وإنما كنت أجلس مكبًا على وجهي وصدري فوق وسادة على سطح القصر أشرف على الناس وأرى قتالهم ولكن الله أعاننا بمنهِ وكرمهِ فإننا لما رأينا الفرس يتهيأون للقتال بعثنا الخطباء في الجند وقرأنا سورة الجهاد ثم صلينا الظهر وكبرنا أربعًا فزحف الجند وتلاحم الجيشان ووالله يا أمير المؤمنين لقد كنت أرى جند فارس ينهالون كالسيل وفيهم الأفيال كالأمواج المتلاطمة وهي تثور فتتلقف الرماح والنبال بخراطيمها وتدوس الناس والخيول بخفافها فهالني أمرها فقلت يا قوم أما من حيلة لها فرماها بعض المسلمين بالنبل فقتل ركابها وتقدم آخرون فأزاحوا عنها توابيتها فتلبكت حركاتها وفسد نظامها فجاء المساء وقد قتل من الفرس جند كبير وفي اليوم التالي وصلتنا نجدة أهل الشام التي أرسلها أبو عبيدة فهاجمنا الفرس حتى كدنا نقبض على رستم ولكنهُ نجا وفي اليوم الثالث لقي الجندان شدة وجهدًا أما نحن فواصلنا العمل في الليل وكانت ليلة سميناها ليلة الهرير لأن رجالنا لم يكونوا يتكلمون وإنما كانوا يهرون هرًا فنقلنا الجند إلى مكان يأخذ العدو من خلفهم ففعلنا ذلك وهم لا يعلمون.
ولما أصبحنا هاجمنا أعداء الله من كل جانب ففشلوا واختل نظامهم ووصل بعض رجالنا إلى سرير رستم وقد أطارت الريح الطيارة عنه فاستظل بظل بغل فقتلوه وقتلوا الجالينوس فانهزم الفرس شر هزيمة فتعقبتهم رجالنا وغنمنا أسلابهم وانتصرنا نصرًا مبينًا ونحن سائرون الآن لفتح المدائن بعون الله تعالى. انتهى..
فما فرغ القارئ من قراءة الكتاب حتى ضج المسلمون بالتكبير والشكر للهُ على ذلك الفتح أما حماد فأنهُ صبر على سماع الخبر رغمًا عنهُ فلما تفرق الناس خرج حماد وسلمان فقال سلمان: يظهر أن أجل الفرس قريب وسيفتح المسلمون عاصمتهم فيندك عرشهم ويكون ذلك جزاء ما كسبتهُ أيديهم من قتل الأبرياء.
فقال حماد: «ولكننا لم نستفد شيئًا عن الأمير عبد الله ولا عن جبلة إلاَّ تظن صاحب البريد يعلم شيئًا عن ذلك».
قال: «ربما كان على علم فهلم بنا نستطلعهُ» وسارا يبحثان عنهُ فإذا هو قد خرج إلى خيمة بعض الجند للاغتسال والوضوء وتناول الطعام.
فقال سلمان: «أظن صاحب البريد يحتاج إلى الراحة بعد سفره الطويل فلندعهُ وشأنهِ على أن نعود إليه في صباح الغد».
قال حماد: «لقد أحسنت رأيًا» وانصرفا إلى خيمة للاستراحة.