ويأتيك بالأخبار من لا تسائلهُ
تركنا حمادًا وسلمان وقد انصرفنا إلى خيمة يلتمسان الراحة ريثما يتمكنا من مقابلة ساعى البريد واستطلاع خبر جبلة وعبد الله. وفيما هما صائران إلى الخيمة رأيا عجوزًا حدباء عليها سمات الفقر وغبار الأسفار قادمة نحوهما تتوكأ على عكاز وقد أتت رأسها بخمار فظناها من المتسولات فلم يعبئا بها وظلا في طريقهما حتى دخلا الخيمة وليس فيها سواهما وما لبثا أن جلسا حتى رأيا تلك العجوز قد شقت حجاب الخيمة بعصاها ودخلت بلا استئذان فصاح بها سلمان: «ما غرضك يا خالة».
فلم تجبهُ وظلت داخلة حتى دنت من حماد وحسرت اللثام عن وجهها فإذا هي خادمة هند التي لقيها في دمشق فخفق قلبهُ لرؤيتها وشعر بانعطاف نحوها وقد تنسم منها رائحة حبيبتهِ فبغت وصاح بها: «ما خبرك وأين هند».
قالت: «تمهل ريثما أستريح فأخبرك الخبر وقد جبت البلاد وتفحصت العباد وأنا في هذا الزي أبحث عنك فلم أقف لك على خبر وقضيت حول هذه المدينة أيامًا لا يخبرنى أحد عن مقامك ولا أنا أستطيع المجاهرة باسمك لأن حالنا تدعو إلى الاستتار». قالت ذلك وهي تبحث عن وسادة تجلس عليها وتنظر إلى خارج مخافة أن يسمعها أحد فجلست وعينا حماد تراعيانها وقد نفد صبره في استطلاع حال هند فقال لها: «أخبريني عن هند قبل كل شيء هل هي في خير».
قالت: «كن مطمئنًا أنها في خير وسلامة لا ترجو إلاَّ لقاءك».
فقال: «أين هي؟»
قالت: «لا أدري أين هي الآن ولكنني أعرف الخطة التي ستسير فيها فإذا قصصت عليك الحديث من أولهُ هان عليك فهم الحقيقة».
قال: «قولي باختصار». ولبث صامتًا مصغيًا لما تقولهُ.
فقالت: «تركتني في دمشق بجوار كنيسة مريم فأسرعت إلى ما بين يدى ما يحمل واكتريت بغلة ركبتها حتى أتيت بيت المقدس. وكانت سيدتي هند ووالدتها وسائر أهل القصر مقيمين في دير هذه المدينة فأنبأتهم بسقوط دمشق فخافوا ولكنني طمأنت هندًا وأملتها بقرب مجيئك فهان عليها كل عسير ولبثنا ننتظر ذلك اليوم. ولكن الأمر جاء بالعكس فإن سيدي الملك جبلة بعث إلينا في اليوم التالي أن نتأهب للرحيل سرًا ثم جاء هو وأمر أن نسير على عجل بما خف حملهُ وغلا ثمنهُ ولم يجسر أحد من أهلهِ أن يسألهُ عن جهة المسير ولولا ذلك لبقيت أنا هنا لأخبرك بمكانهم فخرجنا وقد أسرت مولاتي هند إلي أنها حالما تعرف المكان الذي سنقيم فيهِ تبعث بخبره إليك.
فسرنا أيامًا وليالي ولم نحط رحالنا إلاَّ في المدينة مقام خليفة المسلمين الذي سمعتم الكتاب يتلى بين يديه الآن وقد كنا في خوف عظيم ولكننا آنسنا إكرامًا وحسن وفادة وبلغني أن سبب سلامتنا اعتناق سيدي الملك ديانة هؤلاء الفاتحين. فلما ظننا المقام استقر بنا لم يبق على سيدتي إلاَّ أن تنفذ إليك بذلك. وقد فاتني أن أخبرك وفاة ثعلبة أو لعلك سمعت بهِ قبلًا».
قال حماد: «لقد سمعنا خبره رحمهُ الله».
قالت: «ولم نكد نتوسم الراحة ونحيي الأمل حتى جاءَنا سيدي الملك بعجلة وبغتة كما فعل يوم خروجنا من هنا فتأهبنا وخرجنا في ليل دامس خفنا فيهِ خوفًا شديدًا ولكن بعض جيراننا اليهود من أهل المدينة كانوا لنا عونًا في مسيرنا إلى ما وراء أسوارها. وفي اليوم التالي تحققنا أننا قاصدون بلاد الشام فرأيت في سيدتي هند ارتياحًا إلى هذه الوجهة على رجاء أن تقرب منك فقضينا في طريقنا هذه مدة طال أمدها ونحن نسير ليلًا متنكرين ونختبئ نهارا ولا نقيم إلاَّ في الديور لأنها أأمن مبيت أو مقام لأهل النصرانية وكنا نمكث في بعضها أيامًا وأسابيع». قالت ذلك وخفتت صوتها لئلاَّ يسمعها أحد وجعلت تتطلع من باب الخيمة خوفا ممن يتجسس أو يستمع. فقال لها سلمان: «تكلمي لا تجزعي فإن ليس في هذا المعسكر من يظن بنا سوءًا ولكن اخفتي صوتك».
قالت: «وآخر مكان أقمنا فيهِ دير بحيراء ولا تسل عن حالنا لما أطللنا قبل ذلك على صرح الغدير وبستانهِ وميدانهِ وما استولى عليهِ أولئك الحجازيون من المغارس والأبنية التي بناها الملوك الغساسنة منذ أجيال وقد رأيت في وجه سيدي الملك علامات الغضب والفشل حتى كادت الدموع تتناثر من عينيه لولا عزة النفس. أما سيدتى سعدى وهند فقد بكتا وأظن هندًا إنما بكت لتذكرها أمرًا وقع لها في ذلك الصرح. والخلاصة أننا لم نصل دير بحيراء حتى أخذ اليأس من سيدي الملك كل مأخذ لما ذاقهُ من ذل التنكر في بلاد كانت طوع إشارتهِ لا يمر بها إلاَّ محفوفًا بالجنود والأعوان فتنصب لهُ الأعلام ويحتفل أهلها بقدومهِ فكيف يمر الآن متنكرًا يخاف أن يعرفهُ أحد» (قالت ذلك وشرقت بدموعها فمسحتها بطرف خمارها) فتأثر سلمان وحماد لكلامها وعظم عليهما ما آلت إليه حال الغساسنة وتصور حماد أن حال ملوك الحيرة ستؤول إلى مثل ذلك فشكر الله في باطن سره لأن سقوطهم سيكون على يد غير يده.
وأتمت المرأة حديثها فقالت: «ففي ذات ليلة دعا سيدي الملك سيدتي سعدى وهندًا وخلا بهما في حديث طويل وفي الصباح التالي دعتني سيدتي وأسرت إليَّ أن أبحث عنك في بيت المقدس فما حولها حتى أقف على مكانك وأطمئنك عنها وأخبرك أنهم ساروا إلى العراق وسيقيمون في دير هند بعيدين عن الشام والبلقاء لأنهم لا يستطيعون صبرًا على ما خرج من أيديهم أن يروه كل يوم رأي العين وايدي الغالبين فوقهُ».
فلما سمع ذكر دير هند أجفل وقال: «أي دير تعنين؟»
قالت: «دير هند في ضواحي الحيرة».
فنظر إلى سلمان وقال: «اعهد دير هند في الحيرة وليس خارجها فما هذا الدير».
فقال سلمان: «إن في الحيرة ديرين ينسبان إلى هند أحدهما الأصغر وهو في الحيرة والآخر في ظاهرها أما الأول فقد سمي باسم أختك هند سنة قبض كسرى على المرحوم والدك الملك النعمان في أوائل حكمهِ وحبسهُ قبل أن تولد أنت بأعوام فنذرت شقيقتك هذه إن رده الله إلى ملكهِ أن تبني ديرًا وتسكنهُ حتى تموت فلما أطلق سبيل والدك فعلت ذلك ومكثت في ذلك الدير.
وأما الدير الأكبر وهو ما يسمونهُ بدير هند الكبرى فقد بنتهُ هند بنت الحارث بن عمر بن حجر آكل المرار الكندي بظاهر الحيرة وهي من كندة وليست من لخم والدير كبير أذكر إني زرتهُ غير مرة وكان رهبانهُ يترددون على منزل سيدي الأمير عبد الله للمداولة بشؤون تتعلق بأملاك لهُ هناك. يأُم هذا الدير أناس من جهات العراق وغيره يقيمون فيهِ أيامًا وفيهِ ما يحتاجون إليه من الزاد ونحوه».
فنظر حماد إلى المرأة وقال: «هل تظنين هندًا في ذلك الدير الآن».
قالت: «لا أدري إذا كانت لا تزال هناك لأنها أوصتني بما تقدم منذ بضعة أسابيع قضيتها في البحث عنك. ولكن سيدتي سعدى أسرت إليَّ بعد خروجي من بين يدي هند أن مولاي الملك جبلة إنما يريد الشخوص إلى القسطنطينية ليقيم بقرب إمبراطوره هرقل معززًا مكرمًا وأنهُ سيجعل طريقهُ في الفرات ومنهُ برًا في البلاد التي لم يصل سيف المسلمين إليها أما سواحل الشام فأنها في أيديهم لا يخلوا المرور بها من الخطر. وقالت لي أنها أقنعتهُ أن يقيم في دير هند مدة ليرى ما يكون من حال جند العراق. فإذا طال غيابي عنهم أظنهم يقصدون القسطنطينية وذاك آخر مكان يقصدونهُ فافعل ما يبدو لك».
فلما سمع حماد ختام الحديث انقبضت نفسهُ مخافة أن يقصد العراق فيذهب سعيهُ ضياعًا وأدرك سلمان فيهِ ذلك فقال لهُ: «ألا ترى يا مولاي أن بمسيرنا إلى العراق نرمي حجرًا فنصيب صيدين ألم نكن في حاجة للبحث عن سيدي الأمير عبد الله في العراق فمسيرنا إلى هناك يجمعنا بهِ وبهند إن شاء الله».
فقال حماد: «ألم تسمع ما تلي علينا اليوم من خبر واقعة القادسية وهي بالقرب من الحيرة إلاَّ تظن على الحيرة خطرًا».
قال سلمان: «إن الحيرة يا مولاي دخلت في صلح المسلمين منذ أعوام وكنت شاهدًا صلحها بنفسي وزد على ذلك ما نعلمهُ من صيانة الديور عند المسلمين».
فقال حماد: «وهل تعرف الطريق إلى الحيرة».
قال: «نعم».
قال: «وأنت ماذا تفعلين يا خالة».
قالت: «لا أظنني أستطيع المسير معكما لما أنتما فيهِ من الاستعجال ولكنني أتبعكما في طريق آخر أو أبقى في دير بحيراء أنتظر خبرًا من عندكم».