هند في دير هند
دير هند الكبرى بناء واسع شادتهُ هند بنت الحارث الكندية بحجارة ضخمة في بستان خارج الحيرة يشرف عن بعد على بحيرة كانت هناك وفي الحديقة أنواع الرياحين والأزهار وحولها كروم العنب والتين وغيرها من الفاكهة. يأوي إليه الرهبان من أهل العراق وفيهِ منازل للأضياف هي دار الضيافة ينزل فيها الغرباء من المارة أو نحوهم يقيمون أيامًا ثم ينصرفون. ورئيس الدير راهب شيخ سرياني أصلهُ من ساباط. وقد جاء جند المسلمين العراق وجرى ما جرى لهم من الوقائع والدير في مأمن لم يصيب بسوء وأهلهُ آمنون.
بنت هذه البيعة هند بنت الحارث بن عمرو بن حجر الملكة بنت الأملاك وأم الملك عمرو بن المنذر أمة المسيح وأم عبده وبنت عبيده في ملك ملك الأملاك خسروا أنوشروان في زمان مار افريم الأسقف فالإلهُ الذي بنت لهُ هذا الدير يغفر خطيئتها ويترحم عليها وعلى والدها ويقبل بقومها إلى أمانة الحق ويكون الله معها ومع والدها الدهر الداهر.
ففي ذات ليلة بعد انقضاء واقعة القادسية وسكون الناس إلى الراحة سمع أهل الدير قرع الأجراس وهي أجراس تعلق ببنيان بعض الديور حتى إذا مر غريب دقها فيفتحوا لهُ فيبيت هناك يتناول الطعام أو نحوه. فلما سمع خدام الدير الدق هرول بعضهم إلى الباب وكان الباب ثقيلًا مصفحًا بالحديد وفيهِ المسامير الضخمة فأطل من فوقهِ من غرفة صغيرة فرأى ركبًا على أفراس ومعهم الخدم والأمتعة فنزل إلى الباب ففتحهُ ورحب بالقادمين وأسرع إلى قيم الدير يخبره بقدوم ركب كبير فدخلوا وفيهم المشاة والفرسان فلما وصلوا إلى ساحة الدير ترجل الفرسان وتقدم بعض المشاة فأمسكوا بأزمة الخيل ووقفوا جانبًا لا يفوه أحد منهم بكلمة. فلما ترجلوا جميعًا تقدم واحد منهم وهو لا يزال ملثمًا حتى دنا من قيم الدير فهمس في أذنه فأسرع وسار الكل وراءه إلى غرفة باتوا فيها تلك الليلة وأهل الدير يتحدثون في من عسى أن يكون هؤلاء الناس الذين لتلثمهم لا يعرف النساء فيهم من الرجال ولكنهم عرفوا من قيافتهم وسروج أفراسهم أنهم من أهل الشام وكانوا قد سمعوا بحروب المسلمين هناك فترجح لديهم أنهم بعض كبار الغساسنة وهم بالحقيقة جبلة وأهلهُ فأقاموا هناك مستترين.
أما حماد وسلمان فما عزما على العراق سارا لوداع أبي عبيدة فإذا هو يتأهب لوداع الإمام عمر وقد هم بالرجوع إلى المدينة فوقفا ريثما ودعهُ فامتطى عمر جملهُ وركب معهُ بعض الأمراء وودع الناس وتحول نحو المدينة وسلمان وحماد ينظران إليه ويعجبان بما أوتيه من رفعة المنزلة مع رغبتهِ في الزهد والاقتصار على بسائط الأشياء.
ولما توارى الإمام عاد الأمراء إلى معسكرهم وفي مقدمتهم أبو عبيدة فانتظر حماد وسلمان ريثما خلا بنفسهِ فسارا إليه واستأذناه بالانصراف.
فقال: «إلى أين؟»
قال حماد: «إننا سائرون إلى العراق لعلنا نلتقي بوالدي فقد طالت غيبتهُ».
قال: «ثقوا بسلامتهِ وصحتهِ فأنهُ مقيم على الرحب والسعة وهل سمعتم خبرًا عن جبلة».
قال: «لم نسمع خبرًا بعد ولعلنا نعرف عنهُ شيئًا هناك». (قال ذلك وهو يعلم أنا أبا عبيدة إذا علم بمكانهِ بعث من يقبض عليهِ عملًا بإرادة الإمام عمر فأنكر مكانهُ).
فقال أبو عبيدة: «أظنكما تعثران عليهِ في العراق فقد سمعت من بعض الناس أنهُ سار إلى هناك وربما يقيم في دير هند الكبرى خارج الحيرة».
فلما سمع حماد ذلك أجفل ولكنهُ تجلد وتجاهل وقال: «سنبحث عنهُ جهد الاستطاعة وهل تظن عليهِ بأسًا إذا عرف مكانهُ».
قال: «إن أمير المؤمنين كتب إلى عمالهِ في الشام وفلسطين والعراق كافة أن يقبضوا على الرجل حيثما وجدوه لأنهُ أسلم وارتد وخرج من المدينة فارًا».
فشكر حماد لنفسهِ لأنهُ لم يبح بمكان جبلة ولكنهُ خاف عليهِ من الرقباء ومال إلى العجلة في المسير إلى العراق فاستأذن أبا عبيدة وودعهُ سلمان وسارا إلى خالد وغيره من الأمراء ودعاهم وخرجا يتأهبان للمسير.