وادي الفرات
وبعد بضعة أيام حملا ما استطاعا حملهُ من المتاع وخرجا من بيت المقدس وفيما هما في الطريق قال حماد: «لا تظننا إذا أتينا العراق عائدين إلى هذه البلاد فلنأخذ أمتعتنا التي تركناها في بصرى وخصوصًا الدرع فأنها كنز ثمين عندي وقد أحتاج إليها في دفاع أو هجوم». فمرَّا ببصرى فنزلا البيت حملا منهُ ما طاب لهما من خفيف الحمل وغالي الثمن وخرجا إلى دير بحيرا ودخلا الصومعة قبَّلا أيقوناتها فتذكر حماد أيامًا مرت بهِ هناك فهاجت فيهِ ذكرى هند وتنبهت أشجانهُ وتاقت نفسهُ إلى العراق لملاقاة حبيبتهِ قبل أن يصيبها سوء ولقيا في دير بحيراء خادمة هند فسألاها عن حالها فقالت أنها ستسير في أثرهما مع قافلة من قوافل العراق.
أما هما فاصطحبا خادمًا أو دليلًا يسوس الخيل ويدلهما على الطريق وسارا وهما تارة يمران بغياض وطورًا برمال وآونة بجبال وأودية وتارة بصخور وعرة وكانت أكثر البقاع مشقة عليهما صحراء الشام وفيها بقايا مدينة تدمر العظمى وبعد بضعة عشر يومًا أطلا على وادي الفرات من أكمة مرتفعة فإذا هو سهول منبسطة يخترقها الفرات وفيها القنوات والبحيرات بينها المغارس والبساتين. والمزارع وكان وصولهم إلى هناك قبل الغروب فوقفا والخادم ينصب الخيمة على نية المبيت فوق ذلك التل أما حماد فوقف وهو على متن جواده والتفت إلى تلك السهول الخصبة وما يتخللها من القرى والمدن وفيها الماشية عن بعد وشجر النخل كأنهُ جند واقف لألقاء التحية فتذكر والده النعمان وقال في نفسهِ (هذه هي البلاد التي كان يحكمها والدي). ومرت بذاكرته خيالات جمة أكثرها مخيف ولكن صورة هند كانت تظللها كلها فتزيل المخاوف على أنهُ ما لبث أن تصورها في حال الضيق فهب من أعماقهِ تصوراتهِ وعاد إلى قلقهِ.
أما سلمان فكان يساعد الخادم في نصب الخيمة وإعداد معدات الراحة فلما فرغ من ذلك جاء إلى سيده وطلب إليه أن يترجل فترجل فساق الخادم الفرس ووقف حماد وسلمان ينظران معًا إلى وادي الفرات.
فقال حماد: «وأين موقع الحيرة يا سلمان؟»
قال: «إن الحيرة أول مدينة تستقبلك قبل وصولك الفرات وأظننا نشرف عليها غدًا وبينها وبين القادسية بضعة عشر ميلًا».
ثم جلسا للعشاء وانصرفا بعده للرقاد لأن التعب أخذ منهما مأخذًا عظيمًا. وفي الصباح التالي بكرا وركبا وحماد لا يصدق أنهُ يشرف على الحيرة ويرى دير هند ولو عن بعد. وبعد ظهيرة ذلك اليوم أشرفا على بحيرة من الماء كبيرة ظنها حماد لأول وهلة بحرًا فقال: «ما هذا يا سلمان» قال: «هذه بحيرة النجف يا مولاي وعلى ضفافها جرت واقعة القادسية التي سمعنا خبرها في معسكر أبي عبيدة. ووراء هذه البحيرة شمالا مدينة الحيرة مقام المناذرة أجدادك ووراء الحيرة شرقًا نهر الفرات. وأما دير هند فهو خارج الحيرة وربما أطللنا عليهِ بعد قليل. ولا يخفى عليك أن معظم الكروم والبساتين المجاورة للدير في ضواحي الحيرة هي من أملاك الأمير عبد الله ولا ندري ماذا جرى فيها بعد واقعة القادسية وإذا كان مولاي الأمير ممن شهدوا الواقعة فأظنهُ يتدبر في حفظها وحمايتها».
فقال حماد: «ألا ترى إذا أطللنا على الحيرة الآن أن نبيت في الدير الليلة».
قال: «لا أظننا نستطيع ذلك والمسافة بعيدة ولا ندري ما هنالك من العقبات فقد نبيت الليلة في مكان على مقربة من الحيرة وفي الغد نسير إلى الدير».
قال: «حسنًا» وفي الغروب ظهرت لهما الحيرة بأبنيتها ولكن الظلام غشيها قبل أن يتبيناها فباتا تلك الليلة وأصبحا وحماد لم ينم إلاَّ قليلًا لشدة قلقهِ وتشوقهِ فكان كلما تصور ملاقاتهُ هندًا اختلج قلبهُ فوصلا ضواحى الحيرة عند الظهيرة فأطلا على دير هند فلما رآه حماد تذكر أنهُ يعرفهُ من ذي قبل ولكنهُ لم يدخلهُ فمشيا بين الكروم ومغارس الفاكهة والزيتون وسلمان يدلهُ على ما يملكهُ الأمير عبد الله وحماد يزيد استئناسًا ولكنهُ ما زال هاجسًا بهند لا صبر لهُ على لقائها ثم وصلوا إلى قناة من الماء تظللها شجرة عظيمة وحولها الأشجار يانعة يمر بها النسيم اللطيف فتسمع لأوراقها حفيفًا يطرب السمع بما يمازجهُ من خرير الماء الجاري فوق الحصباء فتقدم سلمان إلى حماد أن يستريحا هناك ويتناولا الغداء وفي الأصيل يدخلا الدير.
فقال حماد: «لا صبر لي على ذلك كيف نكون بقرب الدير ولا نسرع إليه».
قال سلمان: «أرى والأمر لمولاي أن تستريح أنت هنا والخادم يدبر لك الطعام وأذهب أنا إلى الدير أبحث عن هند وأعود إليك بالخبر».
قال: «لا أراني قادرًا على ذلك ولا بد لي من المسير معك فلنترك أحمالنا تحت هذه الشجرة مع الخادم ونذهب إلى الدير».
قال: «افعل ما بدا لك» فشربا وغسلا أيديهما ووجهيهما من الغبار وهمَّا بالمسير.