مصرع المثَّال

تمثيلية شعرية موسيقية: حوار في مشهدَين من تمثيلية كاملة

(سيُقدر لكامل التمثيلية أن تُطوى ليَظهر هذان المشهدان.)

أصل الأسطورة ما معناه

نحَتَ «بجمليون» — وهو المثَّال القدير — تِمثالًا رائعًا من العاج — وقيلَ مِن غيره — أسماه «جالاتيا» أحبَّه حتى عبَدَه، ثم طلَب إلى الآلهة أن تنفخ فيه من رُوحها، فما إن دبت الحياة في جالاتيا حتى فسَدَت! فعاد «بجمليون» يطلب إلى الآلهة أن تُعيدَها تمثالًا ففعلَت، ثم حطَّم التمثال.

إلى مُلْهمنيها
الأستاذ توفيق الحكيم

تقضي الأمانة الأدبية أن أُشير إلى أن الفضل في اختيار هذه الأسطورة لتكون مادةً لتمثيليتي يرجع إليك يا سيدي الفنان الحق! لأنكَ استطعت بِلُدونة قلمِكَ أن تُغلغِلَ في أطوائي سحر هذه الأسطورة لمَّا نشرْتَها في كتابك الفني «بجمليون».

فأخذتُ عن قلمكَ هذا السحر الذي رشقتَه بعبقريتك بين أحرف المطبعة الجامِدة، فأحَلْتَها إلى مخلوقات حية مُتحرِّكة لها سحرها ولها تأثيرها العميق وحيويتها الصارخة.

المُتحاوِرون

  • بجمليون: المثَّال الذي خلَق وحطَّم.
  • جالاتيا: المخلوق – التمثال – الذي لم يستحقَّ الحياة فتحطَّم.
  • نرسيس: صديق «بجمليون».

الصديق

أيهذا الإنسانُ قدَّسَك اللهُ
وصبَّ الإخلاصَ في أعراقِك
ونَضا عنكَ صبغةَ اللُّؤم في الفجـ
ـر، بيوم الميلاد، عند انطلاقِك
وحباكَ الفؤادَ يَنبِض بالحسِّ
لتأسو الجراح مِن إشفاقِك
وسقاك الحنان في أكؤس الحبِّ
لتَروي الظمآنَ مِن أخلاقِك
ثمَّ سمَّاكَ ﺑ «الصديق» وإن كنـ
ـتَ خيالًا لم تأتِ بعدَ انبثاقِك
١٤ / ٣ / ١٩٤٣

المشهد السابع من الفصل الثالث

(الممثل – قواعد رخامية ينتصب على إحداها تمثال «جالاتيا» بعد أن فارقته الحياة وعاد تمثالًا. يدخل «بجمليون» متباطئًا، يبدو عليه الكبر تمامًا، مشعَّث الشعر، زائغ البصر، يلهث لهاثًا مُضطربًا مُتتابعًا، يَستنِد إلى تمثال نِصفي منهوكًا. الرياح في مبدأ ثورتها. موسيقى خفيفة ولكنها تُنذر بالثورة.)

بجمليون (بإعياء!) :
وهنَتْ قوَّتي ومِلتُ إلى الموت وعيَّ الـ
لسان والقلب يَقرع
ويَقيني إنَّ المصير قريب
بصري زاغَ والنُّهى ليس يَسمَع
وأراني يَبستُ عضوًا، فعضوًا
وتمشَّى الإعياء فيَّ وأسرع
وتوالَتْ نوائبُ الدهرِ تُصميـ
ـني وتَرمي عقيدتي كي أخضَع
وأنا مثلما تكوَّنتُ لا أعنـ
ـو لغير الإخلاص للفنِّ أجمَع
كنتُ أبغي ألا أذوبَ وإن ذُبـ
ـت ففي ما ابتدعتُ أحيا وأرتَع
كان همِّي ألا أموت َفولَّيـ
ـتُ كأن لم أكن وما عدتُ أنفع

(تظهر عليه بوادر الجنون … يَصرخ):

ويحَ عقلي! كيف انطلقتُ إلى «فيـ
ـنوس» أبغي أن تأخُذ الرُّوح منها؟
سحرتني، إذ كيف أطلب هذا؟
أُتراني أعيش بالبُعد عنها؟
يا لعَقلي! … … … … …

(يضحك ثم يكفُّ. يقترب من التمثال.)

… … بَل يا لها من فتاة
خيَّبَت ما ظننتُ في تِمثالي
كيف فرَّت مع اللئيم وأبقتْـ١
ـني وحيدًا أحارُ في أحوالي
كيف فرت؟ ولم أضع في بِناها
أيَّ إثم أو خسَّة في الخلال

(ينفجر):

لا! رمتني ودستها! … …

(يهدأ قليلًا.)

… … … كيف هذا؟
إنها صِنعَتي وفيها أمالي
أنا أبدعتُها كما شئتُ أنثى
مَثَلٌ عالٍ في كمال الكمال
وعبدتُ الجمال فيها فلما
حلَّت الروح ضاع حسن الجمال
فاكتسَتْ حُلَّة النساء وسارَت
في طريق الوَضاعة القتَّالِ

(يصرخ):

أصنيعي العظيم يُمسي وضيعًا؟

(يتعالى صفيرُ العاصفة، مع موسيقى عاصفة.)

خَسِئتْ! لن تعودَ للأوحالِ
أنا إن متُّ قد تَعيشُ ومَن يد
ري؟ فقد تَنثني إلى الابتذالِ
ثم تحتلُّ وصمة في جبيني
بدلَ الفخر في الورى وجَلالي؟!
ليس من حقِّها الحياة، وحقي الـ
موت بل يَقتضي الوفا بالزوال
بعد يوم أمضي وأنتِ؟ …

(يفتش عن مطرقته فيَعثُر عليها، فيتناولها ويَهجم على التمثال محطِّمًا.)

… … … … ستمضيـ
ـن سريعًا! … … …
… … وبعدها … …
… … … لن أبالي
لن أبالي … … …
… … ولن أبالي …
… … … … فمُوتي
ثم مُوتي … …
… … تحطَّمي …
… … … بامتثالِ

(يدور في المكان محطِّمًا صارخًا منهوكًا.)

سيقولون … … … …
… جُنَّ! … …
… … وابتاع بالعقـ
ـل ترابًا … … … …
… … وعندها … …
… … … لا أبالي
لا أبالي …

(ينكفئ على وجهه مُغمًى عليه، وتنقطع الموسيقى فجأة، ويبقى صفير العاصفة يخفُّ رويدًا رويدًا.)

المشهد الثامن

(يدخل نرسيس.)

نرسيس :
ما أرى؟ … … … …

(مذعورًا):

… … ما أرى؟ … …
… … … … إلهي إلهي
جُنَّ بجمالُ … …
… … حطَّمَ التمثالا

(يهرع إلى بجمليون ويجثو إلى جانبه.)

بأبي أنت! … … …
… … ما أصابك «بجملـ
ـيون»؟ … … … … … …
… قل لي … … … …

(باكيًا):

… … … فُهْ! … … …
بجمليون (متحرِّكًا) :
… … … … لا أخاف الزوالا
لم أَمُت بعد؟ … … …
نرسيس (فزعًا) :
… … … لِمْ تموتُ؟ …
بجمليون :
… … … … … أتاني
وحي نفسي … … …
… … فقد … …
… … … سئمتُ النِّضالا
نرسيس :
أنت حطمتَها؟ … … …
بجمليون (بضعف) :
… … أجلْ! … …
نرسيس :
… … … !ويح نفسي
فلقد ضاع ما خلقتَ وذالا
بجمليون :
أين منِّي المنقاش؟ … …
نرسيس :
… … … ضاع! …
بجمليون :
… … … … أعدْه!
نرسيس :
لن يعود المنقاش … … … …
بجمليون (بصوت ضعيف) :
… … … ما أنا أسمع!
نرسيس (بصوت عالٍ) :
لن يعود المنقاش … … …
بجمليون (متوسلًا) :
… … … لا! بل أعِدْه
سوف … … … …
… أحيي … … …
… … «جالاةً» … …
… … … اخرى …
… … … وأرفع!
نرسيس (آسفًا) :
لم تَعُدْ قادرًا … …
بجمليون (وهو يجود بنفسه) :
… … … لماذا …
… … … … لماذا؟
إنْـ… … … … … … …
…ـنَني … … … … … …
… … خا… … … … …
… … …لقٌ … … … …
… … … … سأحْـ… … …
… … … … …ـيا … …
… … … … … … وأصْـ…
… … … … … … …ـنَع!

(يَقضي.)

نرسيس (مستعبرًا) :
عبثًا نطلُب الخلود، بني المو
ت، فمَن كان للردَّى ليس يَنفَعْ
كلَّما حاول الصعود تَعالى
وتعالى، وسوف ينكبُّ أجدعْ
طينةٌ نحن ليس نعلو عليها
وإذا كان فالنُّهى قد يُخدعْ

(إلى بجمليون بحسرة):

عُد كما كنتَ للترابِ ولا تَر
جع! وكلٌّ لأصله سوف يَرجِعْ
٣ / ٤ / ١٩٤٤
١  المقصود باللئيم هنا «نرسيس» صديق بجمليون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤