شهوة الحياة
ظهر هذا الفيلم الأمريكي عام ١٩٥٦م، مقدمًا قصة الحياة العاصفة للرسام الهولندي المولد الفرنسي المنحى «فنسنت فان جوخ» (١٨٥٣–۱۸۹۰م). ويعرض الفيلم في عمومه وصفًا واقعيًّا دقيقًا لبعض مراحل حياة هذا الرسام الشهير، ويقدم للمشاهد في ثنايا ذلك صورًا لأبرز أعماله ولوحاته في ألوان خلَّابة. وكان اختيار المخرج الكبير «فنسنت مينللي» للممثل «كيرك دوجلاس» للقيام بدور فان جوخ اختيارًا بارعًا؛ إذ، بالإضافة إلى الشبه الجسماني الواضح بين الرجلين، نجح كيرك دوجلاس في نقل فورة الرسام وحماسه، وأجاد تصوير النوبات العصبية التي كانت تنتاب فان جوخ، والتي حار النقاد في تفسير أسبابها ودوافعها إلى الآن.
ويبدأ الفيلم حين كان فان جوخ في الرابعة والعشرين من عمره، يدرس للعمل واعظًا دينيًّا، مترسمًا في ذلك خُطى والده وأجداده من قبل. ومع أنه يفشل في اجتياز الاختبار النهائي، فإن حماسه المتقد يحمل القائمين على التدريب بتكليفه الذهاب إلى أصعب وأفقر نواحي بلجيكا — البوريناج — ليعمل قسيسًا هناك. وعاش فنسنت قرابة السنتين مجاهدًا مع سكان تلك المنطقة المعزولة — وكلهم من عمال المناجم وأسرهم — الذين كانوا يعيشون حياة بؤس وأخطارًا جسيمة في ذلك الوقت (۱۸۷۸–١٨٨٠م). وكانت تلك تجربة هائلة حفرت آثارها في روح الفنان الشاب الذي عاين مدى انفصال المؤسسة الدينية عن حياة الناس وعن واقعهم وآلامهم حين يعترض ممثِّلو تلك المؤسسة على محاولة القس الشاب مشاركة هؤلاء الناس معاناتهم والعيش كما يعيشون. وعندها ينهي فان جوخ عمله في المجال الديني، ويعود إلى منزل العائلة التي تنتقل في مناطق مختلفة في هولندا: إتين ولاهاي ونوينين. ويحاول منذ ذلك الوقت استكشاف إمكانياته في الرسم، والذي قُدِّر له أن يعمل فيه طوال ما تبقى من عمره القصير. ويمرُّ بأزمة عاطفية إبان ذلك؛ إذ يقع في غرام ابنة عم له تُدعَى «کي» کانت تقيم فترة معه في منزل العائلة، وقد صدَّته «کي» صدًّا کاملًا، ولكن ذلك لم يمنعه من مطاردتها برغبته في الزواج منها. وتوجَّه إلى منزلها في لاهاي، ولكنَّ أبويها ينكرانها عنه فيعمد — في قمة ثورته — إلى وضع يده في نيران الشموع المتقدة كيما يبرهن لوالد حبيبته على قوة احتماله.
وبعد ذلك، لا يجد فان جوخ العزاء إلا بصحبة واحدة من فتيات الطريق اسمها كريستين؛ فانتقل للعيش معها، وتكفل بها وبطفلها، مطبقًا أسلوبه الإنساني في العمل على إنقاذها من الجوع والذل. وقد أثمر هذا الاستقرار النسبي في تركيز الفنان على تطوير عمله كرسامٍ، وأبدع فيه أوائل لوحاته المعروفة. وقد اتخذ من كريستين موديلًا له، رسمها في لوحات عديدة. وساعده عم له يعمل بالفن على اكتشاف الرسم بالألوان، ففتح له مجالًا جديدًا بعد أن كان يقتصر في عمله على الرسم القلمي؛ حيث لم يكن يتوفر له من النقود ما يكفي لشراء الألوان المائية والزيتية. ويعود فان جوخ للإقامة مع أسرته بعد وفاة والده وقرار كريستين الابتعاد عنه. وفي تلك الفترة، في بلده نيونين بهولندا، يرسم الفنان أول روائعه المعروفة: آكلو البطاطس (مايو ١٨٨٥م)، التي استوحاها من بسطاء الفلاحين، والتي قال هو نفسه عنها في رسائله المشهورة إلى أخيه ثيو: «لقد حاولت أن أبيِّن أن هؤلاء الناس الذين يأكلون البطاطس على ضوء المصباح قد شقُّوا الأرض بأيديهم ذاتها التي يتناولون بها الطعام من الطبق، ولهذا فاللوحة تتحدث عن العمل اليدوي، وكيف أن هؤلاء القوم قد كسبوا طعامهم عن جدارة.»
وبعد أن أثارت عادات فان جوخ وطريقة ملبسه الاستهجان في البلدة، وسبَّبت الإحراج لبقية أفراد الأسرة؛ يقرر أن الوقت قد حان للحاق بأخيه ثيو في عاصمة النور. وكانت العاصمة الفرنسية أيامها تموج وتزخر بالحركات الفنية من كل شكل ونوع، وعلى رأسها في عالم الرسم الحركة الانطباعية أو التأثيرية، التي ضمَّت — مع تفاوت في الأسلوب والأفكار — مونيه وبيسارو وسيرا وسيزلي وغيرهم كثيرين. وذهل فان جوخ من رؤيته لوحات هؤلاء المصورين؛ ونراه في الفيلم يمضي مبهوتًا من لوحة إلى أخرى من اللوحات التي خلدت بعد ذلك من أعمال الانطباعيين؛ فقد وجد أخيرًا ما كان يبحث عنه: التجديد والأصالة وصدق التعبير الفني.
ويقدمه ثيو — الذي كان يعمل في جاليري للوحات — إلى كل هؤلاء الرسامين، فيتناقش معهم في أصول فنِّهم، ويعقد صداقة خاصة مع الرسام بول جوجان (١٨٤٨–۱۹۰۳م) الذي قام بدوره في الفيلم أنطوني كوين. ويرسم فان جوخ الكثير من اللوحات في باريس عن مبانيها وطرقها الواسعة وأهلها. وبعد عامين من الإقامة مع أخيه، تخلَّلهما كثير من المنازعات بينهما؛ نتيجة لحدة طبع فان جوخ وخروجه عن طوره في النقاش دفاعًا عن آرائه التي يؤمن بها، يسافر إلى مدينة «آرل» في جنوب فرنسا بحثًا عن الطبيعة الحية وتنويعات الضوء التي يعشق دراستها ونقلها إلى لوحاته، ويحلم بإقامة مستعمرة للفنانين هناك؛ حيث يبدعون على هواهم ما شاء لهم من أعمال. وينجح ثيو في إقناع جوجان باللحاق بفان جوخ، ويقيم معه في «البيت الأصفر» الشهير؛ حيث يبدع الرسامان أروع لوحاتهما في تلك المدينة. بَيْدَ أن حدة طباعهما تجعل من حياتهما المشتركة جدلًا دائمًا يصل أحيانًا إلى درجة العنف. وهذا ما يحدث في النهاية؛ إذ ما يكاد جوجان يعلن عزمه على الرحيل حتى يندفع فان جوخ في نوبة هستيرية مهدِّدًا إياه بموسى حلاقة؛ وتنتهي هذه النوبة المرضية التي تعصف برأسه وأعصابه إلى أن يقطع الجزء الأسفل من أذنه بالموسى كيما يتخلص من الطنين المزعج الذي يلاحقه عند إصابته بالنوبة. ويحتج سكان المدينة على وجود هذا «المجنون» بينهم، فيعمد أخوه إلى إرساله إلى مصحة خاصة في بلدة «سان ريمي» حيث يعيش حياة حرة تحت رعاية الأطباء، ويرسم هناك المزيد من لوحاته المشهورة، وأبرزها لوحتا «الزنابق» و«الليلة المرصعة بالنجوم». ويقرر الخروج من المصحة بعد عام رغم استمرار النوبات، مفضلًا مكانًا بالقرب من العاصمة حيث يوجد أخوه، فيقع اختيارهما على قرية «أوفير» حيث يقيم تحت الإشراف الطبي للدكتور جاشيه، صديق الفنانين. وتأتي النهاية بعد شهور قليلة، في حقل من حقول القمح كان فان جوخ يرسمه، ويزيد من عندياته سربًا من الغربان السوداء التي تحوم منذرة فوق سنابل القمح، وعندها تصيبه النوبة فيعمد إلى إطلاق مسدسه على صدره، ويتوفى بعدها بيومين، مدخنًا غليونه في غرفته وأخوه إلى جواره. وينتهي الفيلم بانتهاء حياة بطله، دون بيان لما جرى بعد ذلك من ذيوع شهرة فان جوخ كواحدٍ من أبرز الرسامين مع مطلع القرن العشرين، والذي انتهى الأمر بتسابق المتاحف وجامعي التحف بالحصول على لوحاته ورسومه لقاء ملايين الدولارات، وهو الذي لم يبِع إبَّان حياته سوى لوحة واحدة، ولم يكن له من مورد سوى مساعدة أخيه ثيو!
وقد ركز المخرج على تقديم شخصية الفنان بكل أبعادها، وبيان العنصر التراجيدي فيها، فقدَّمه لنا ينبض بالحياة ويحب الناس والطبيعة، ونجح في تصوير إخلاصه الشديد لفنِّه إلى درجة الجنون، وهذا هو ما يخرج به المُشاهِد في النهاية من رؤية هذا الفيلم الممتاز.