عشَّاق الموسيقى
هذا فيلم ممتع للعين والأذن والعقل جميعًا؛ إذ هو يجمع بين الألحان الرائعة لتشايكوفسكي والتمثيل القوي، والمناظر ذات الألوان الخلابة، فضلًا عن الموضوع الذي قدَّم به المخرج حياة الموسيقار العبقري من زاوية جديدة.
ولم ينل الفيلم التقدير اللائق به لأنه قدَّم تفسير المخرج الخاص لحياة تشايكوفسكي؛ فابتعد بها عما اعتاده الناس والنقاد من تصوير رومانسي للموسيقار الشهير؛ فقد صوَّره الفيلم في هيئة إنسان مأساوي في صراعٍ هائلٍ مستمر بين نمط الحياة المختلفة التي درج عليها في مطلع حياته، وعلاقاته بالأرستقراطية الروسية في زمنه، وبين رغبته في الحياة السوية التي تجمع بينه وبين زوجة محبَّة.
أما فيلمنا هذا، عشاق الموسيقى، فقد أحاط بالأحداث الرئيسية العامة في حياة تشايكوفسكي، على النحو الذي نعرفها به. فنحن نرى الموسيقار الكبير في بداية الفيلم منغمسًا في حياة اللهو مع أحد أصدقائه النبلاء الروس؛ في الفترة التي واكبت تأليفه وعزفه لرائعة من روائعه؛ كونشرتو البيانو رقم ١. ثم نراه وهو يقف في منعطف طريقين مهمَّين في تحديد مصيره ومستقبله: الأول هو محاولة الخروج من حياة الشذوذ التي كان يحياها — خاصة بعد أن رأى أنها تهدد فنَّه وسمعته — والثاني هو البحث عن مورد رزق يتيح له التفرغ لتأليف الموسيقى بدلًا من إهدار وقته وعبقريته في وظيفته التدريسية في كونسرفتوار موسكو.
وقد تمثلت محاولته لحل المشكلة الأولى في الزواج من إحدى المعجبات به، نينا، وجاء حل المشكلة الثانية عن طريق عرض إحدى النبيلات الثريات — السيدة فون مك — أن تخصص له راتبًا شهريًّا يكفل له التفرغ لوضع ألحانه كما يحلو له. وحتى هنا، يسير الفيلم مع الخطوط العريضة المعروفة عن حياة الموسيقار العظيم، بَيْدَ أنه يغرق بعد ذلك في عرض تفاصيل علاقته بزوجته في تفسير نفسي شخصي لتلك العلاقة، غالبًا ما تبتعد عن الواقع، وان كان المخرج يقدمها في إبداع فني لا مثيل له. ومن ذلك أيضًا تركيز المخرج على ظروف وفاة والدة الموسيقار، التي أصيبت بالكوليرا حين كان ابنها في الرابعة عشرة من عمره، فقاموا بوضعها في مياه تغلي أملًا في أن يشفيها ذلك من المرض، فكانت النتيجة موتًا أكيدًا فظيعًا بقي في ذاكرة تشايكوفسكي طوال عمره. وقد استغل راسل هذه الواقعة وأبرزها كعقدة نفسية طاغية سيطرت على تشايكوفسكي وتسبَّبت في فشل علاقاته العاطفية، وإلى اتجاهه إلى أنماط أخرى من هذه العلاقات.
وينتهي زواج الموسيقار بالفشل الذريع، نتيجة لعدم التوافق، وإلى حاجته إلى من توفر له جوًّا أفضل للإبداع الموسيقي. فينفصلان بناء على أوامر الطبيب الذي كان يعالج تشايكوفسکي من الانهيار النفسي المدمر الذي جرَّه إليه هذا الزواج المتسرع. وبعد فترة من الحياة المستقرة السعيدة التي هيأت له إبداع سيمفونيته الشهيرة رقم ٤، التي أهداها إلى راعيته السيدة فون مك، يفاجأ بأن تلك السيدة قد قررت فجأة قطع مساعداتها له والانقطاع عن تلقي أية رسالة منه، ونتيجة لذلك يقبل الموسيقار نصيحة مدير أعماله بالاتجاه إلى القيام بجولات فنية في كبريات المدن الأوروبية، مما أتاح له نجاحًا منقطع النظير ومالًا وفيرًا وشهرة جعلت اسمه على كل لسان. ويقدم لنا الفيلم عرْضًا لذلك النجاح على أنغام موسيقى مقطوعة ١٨١٢ الشهيرة التي وضعها تشايكوفسكي ليصوِّر انتصار الشعب الروسي على قوات نابليون، ويصورها الفيلم — في فنتازيا رمزية مريرة — كمعادل لانتصار عبقرية الموسيقار على كل عقبة تقف في طريقه، وعلى كل شخص يهدد فنَّه وإبداعه، ومنهم زوجته نينا، وصديقه النبيل القديم الذي وشى به، وراعيته فون مك التي تخلَّت عنه. ويعرض الفيلم بعد ذلك لقطات سريعة نابضة تصور الحياة المترفة التي يحياها تشايكوفسكي نتيجة نجاحه المادي، تقابلها حياة زوجته المريرة البائسة في مستشفى الأمراض العقلية الذي أوِدعت فيه بعد أن عجزت عن مواجهة واقع تخلي زوجها عنها.
وفي النهاية، يقوم الموسيقار — إذ يستمع المشاهد إلى اللحن الجنائزي من سيمفونية «الباتيتيك» — بشرب كوب من الماء الملوث بميكروب الكوليرا، بالرغم من تحذير صديقه له. ويجري لتشايكوفسكي ما جرى من قبل لأمه بمثل الصورة التي كانت تترى دائمًا على ذهنه. ونحن نعلم أن الآراء قد تضاربت في كيفية وفاة الموسيقار العظيم. فمن قائل إنه انتحر بأمرٍ من القيصر الروسي نتيجة علاقته بأحد أفراد البلاط الإمبراطوري، ومن يؤكد عكس ذلك، بأنه قد مات نتيجة إصابة غير متعمَّدة بالكوليرا، ونحن نرى أن المخرج لم يشأ أن يقدم تفسيره القاطع في هذه النقطة الهامة، بل تركها كما عرضها الفيلم قابلة لأيٍّ من الرأيين السابقين .
وأهم ما يثيره هذا الفيلم هو قضية تماثِل في أهميتها مدى حرية المخرج في تناول عمل روائي مكتوب لتقديمه للسينما برؤيته الخاصة به … وهي هنا قضية مدى حرية المخرج السينمائي في تناول سيرة المشاهير من الناس، ومدى التزامه بتقديم الوقائع كما حدثت في حياتهم الحقيقية. وقد اعترض نقاد كثيرون على مخالفة فيلم «عشاق الموسيقى» لوقائع كثيرة مؤكَّدة عن حياة تشايكوفسكي. ولكن، كما يقول الناقد السينمائي «روجر أبرت»، فإن ذلك الاعتراض يثير حفيظة عدد كبير من الدارسين الفنيين، ويذكر أنه حين أبدى مثل هذه الاعتراضات على هذا الفيلم، تلقى العديد من الرسائل من دارسين يطلبون منه أن يركز على «الفيلم ذاته»، وأن يطرح جانبًا اعتبارات ما حدث في واقع الحياة؛ فماذا يهم — في رأيهم — إذا ما كان تشايكوفسكي قد عاش حقًّا على النحو الذي صوَّره به راسل أم لا، ما دام المخرج قد قدَّم لنا فيلمًا فنيًّا جيدًا؟ هذان رأيان متعارضان، فما هو يا ترى رأي نقادنا ودارسينا السينمائيين في هذه القضية؟