الحصان الشاحب
كثيرًا ما يشهد تاريخ السينما العالمية أفلامًا ذات قِيمة فنية كبيرة لا تحظى بما هي جديرة به من اهتمام الجمهور أو النقَّاد، وليست السينما فريدة في هذا؛ فهو يحدث أحيانًا مع روائعَ فنية أخرى كالكتب واللوحات والموسيقى، إلى أن يحين دورُها في الذيوع والشهرة، وأحيانًا لا يجيء هذا الدور، وتظل تلك الأعمال كاللؤلؤ المكنون؛ لا يكشِف أسرارَه إلَّا لمن يطَّلِع عليه
وسنقدم هنا جانبًا من الأفلام التي يمكن تصنيفها في تلك النوعية، آملين أن يكون إلقاء الضوء عليها حافزًا على الاهتمام بها من جانب النقاد السينمائيين وعرضها في نوادي السينما المختلفة حتى يستمتع بتذوقها المشاهدون الجادون.
وقد تألق نجمنا العالمي عمر الشريف في هذا الفيلم الذي لا يكاد يذكره أحد، والذي شارك فيه بدور مهم بعد سنتين فقط من أدائه أول أدواره السينمائية العالمية — وأيضًا مع أنطوني كوين — في فيلم «لورانس العرب».
ويدور الفيلم حول نتائج الحرب الأهلية الإسبانية التي عصفت بالبلاد في الفترة من ١٩٣٦م إلى ١٩٣٩م، وتقوم قصته على شخصية محارب في صفوف الجمهوريين، يضطر — في أعقاب انتصار فرانكو على الجمهورية الإسبانية — إلى العبور إلى الأراضي الفرنسية حيث يصبح لاجئًا في بلدة «بو» على الحدود مع إسبانيا، وكان هذا المحارب ينظم غارات مسلحة ضد قوات فرانكو في البر الإسباني من الحدود، إلى أن يضطر إلى التقليل منها ثم التوقف عنها نهائيًّا مع توطد حكم الجنرال فرانكو في إسبانيا، وتحسُّن علاقاتهم مع الغرب في أوائل الخمسينيات.
ويبدأ الفيلم في أواخر الخمسينيات بعبور الطفل «باكو» من إسبانيا إلى فرنسا بعد مصرع والده الوطني الثائر على يد قائد الشرطة الإسباني في بلدة الحدود الكابتن «فنيولاس» (أنطوني كوين)، متجهًا إلى حيث يقيم المحارب القديم، «مانويل أرتيجيز» (جريجوري بك) محاولًا إقناعه بالعودة إلى البلدة الإسبانية وقتل قائد الشرطة انتقامًا لوالد الطفل، الذي كان من زملاء المحارب مانويل. وكان مانويل قد هجر غزواته الحربية منذ فترة طويلة وأسلم نفسه إلى اليأس من عودة الجمهوريين إلى إسبانيا، ولذلك لا يلقي بالًا للصبي ولما يستثيره فيه من حمية وغضب.
وفي تلك الأثناء، تشرف والدة مانويل — التي بقيت في البلدة الإسبانية التي يسيطر عليها فنيولاس — على الموت. ولما كان قائد الشرطة الإسباني يعلم تمام العلم أن مانويل — بطبعه الإسباني التقليدي القائم على الشهامة والوفاء والتضحية — لن يترك أمه تموت دون أن يودعها الوداع الأخير؛ فقد أرسل أحد عملائه ليسرِّب خبر الاحتضار إلى الابن في فرنسا، في الوقت نفسه الذي بث فيه قوات الشرطة المتأهبة لحراسة المستشفى الذي ترقد فيه الأم.
وتدرك الأم الفخ الذي ينصبه فنيولاس لابنها، فتطلب قسيسًا لتعترف له قبل موتها، وتنتهز فرصة الانفراد به كي تطلب منه أن يذهب إلى المدينة التي يقيم فيها ابنها ويحذِّره من الحضور إلى إسبانيا حيث ينتظره هلاك محقق. ويحاول القس (عمر الشريف) أن يثني الأم عن طلبها ذلك، متعلِّلًا بابتعاد رجال الدين عن الانغماس في الأمور السياسية، ولكنها تذكِّره بواجبه الديني من تنفيذ الوصية الأخيرة للمحتضرين، والرسالة الإنسانية التي تنطوي عليها المهمة التي كُلِّف بها. ويقع القس في صراع تراجيدي عميق بين واجبه الديني الإنساني وواجبه الوطني؛ حيث كانت الكنيسة كلها وراء فرانكو في صراعه مع الجمهوريين وتتبدَّى روعة التمثيل في تصوير عمر الشريف الأخاذ لذلك الصراع، وحيرته بين الأمرين. وأخيرًا يتغلب الحس الإنساني على بطلنا، ويذهب إلى حيث يقيم الابن، ويترك له رسالة ينقل له فيها رغبة الأم في عدم حضوره لرؤيتها، ويبلِّغه فيها بوفاة أمه بالفعل، ويعلم الابن أن من نقل إليه رغبة الأم في رؤيته إنما هو عميل لفنيولاس، ويصدق القس.
ورغم إيمان مانويل المحارب القديم بعدم جدوى الذهاب إلى البر الإسباني، فإننا نجده يجهز أسلحته القديمة، ويعبر الحدود ليلًا، ويتسلل إلى دار الشرطة حيث يجد فنيولاس وعميله جنبًا إلى جنب، فيصوِّب بندقيته إلى العميل أولًا حيث يصيبه في مقتل، ثم إلى فنيولاس فيصيبه في ساقه. وما إن يتنبه الحرس إلى وجود المحارب حتى يمطروه بوابلٍ من الرصاص يرديه قتيلًا، ويسقط ممددًا في وسط الميدان الرئيسي للبلدة، ويهبط فنيولاس بعد أن ضمدوا جراحه، ويتجه إلى جثة غريمه اللدود، ويتطلع إليه في حيرة من عودته بعد أن عرف بالشرك المدبَّر له، ثم يمضي متفكرًا في ذلك وهو يتلقَّى التهاني من جنوده على «انتصاره» العظيم. ويخرج المشاهِد من هذا المنظر الأخير بالانطباع الذي أراد الفيلم أن يوحيه، وهو أن هذا القائد بكل جنوده وأسلحته وسلطته هو الذي خرج مهزومًا في هذه المعركة الإنسانية الأخيرة للمحارب الإسباني القديم مانويل، بشجاعته وصلابته وعناده.