وداعًا يا رفيقتي
دخلت صناعة السينما الصين في تاريخ متأخر نسبيًّا عن دخولها الدول الأخرى، كما أن تطورها اتخذ سمة أبطأ. وقد تركز الإنتاج السينمائي في العقد الثاني من القرن في مدينة شنغهاي، وكان معظمه على أيدي الأجانب، وقد تكونت أول شركة سينمائية صينية في عام ۱۹۲۲م تحت اسم «منج هسنج». وكانت الأفلام المنتَجة، خاصة بعد دخول الصوت، بدائية. وقد تأثر تطور السينما الصينية بالأحداث السياسية التي مرت بها الصين منذ الثلاثينيات حتى إقامة جمهورية الصين الشعبية في ١ أكتوبر ١٩٤٩م، فبعد غزو اليابان للصين، توقفت الاستوديوهات عن العمل، واستخدمها اليابانيون لإنتاج أفلام دعائية لهم. وبعد استسلام اليابان في نهاية الحرب العالمية الثانية في أغسطس ١٩٤٥م ونشوب الحرب الأهلية في الصين، حاول كل طرف في تلك الحرب أن يسيطر على السينما لترويج أفكاره ومبادئه، وكان انتصار ماوتسي تونج في الحرب يوازي انتصاره في مجال السيطرة على الإنتاج السينمائي لصالح قضايا حزبه. وبعد قيام جمهورية الصين الشعبية، أمَّمت صناعة السينما، وأشرفت الدولة على إنتاج الأفلام، وعمل ذلك على ابتعاد الأفلام الصينية عن أسواق العرض الغربية، نظرًا للمقاطعة الغربية للصين الشعبية التي استمرت حتى دخولها ظافرة الأمم المتحدة لتشغيل مقعد الصين فيها بدلًا من تايوان، ثم ما تلاها من بداية الصلات مع الولايات المتحدة في عام ١٩٧٢م.
ورغم العدد الهائل من الأفلام الصينية التي كانت تُنتَج سنويًّا، فإنها كانت تقتصر على الاستهلاك المحلي، وتتناول غالبًا موضوعات أيديولوجية ودعائية وبعض التيمات الفولكلورية، ومنها النوع الفني الذي ظهر في الصين منذ وقتٍ طويلٍ ويُعرَف باسم الأوبرا الصينية، وهو مسرحيات غنائية تشبه الأوبرات الغربية، ولكنها تقدم موضوعات صينية بحتة بما فيها الطريقة الصينية في الغناء، وتميزت باقتصار التمثيل على الرجال، حتى في الأدوار النسائية، مما يذكِّرنا بما كان يجري في بعض المسرحيات الإنجليزية على أيام شكسبير. وقد تخلل ذلك فترة من الأصالة في التعبير السينمائي واكبت حملة ماوتسي تونج المعروفة تحت شعار «دع مائة زهرة تتفتح». بيد أن عهد الثورة الثقافية شهد تدهورًا شديدًا في عدد ونوعية الأفلام المقدَّمة، لم ينقشع إلا في أواخر السبعينيات.
ومع بداية عصر نسبي من الانفتاح، شهدت السينما الصينية أول موجة من الأفلام التي شقَّت طريقها إلى الأسواق العالمية في أوروبا وأمريكا، وقد عُرِفت أفلام ذلك العصر باسم «الجيل الخامس»، وأبرز أعضائه المخرج جانج إيمو (١٩٥٠م) الذي تخرج في أكاديمية بكين السينمائية، وعمل أولًا بالتصوير السينمائي، ثم بالتمثيل، وأخيرًا بالإخراج. وقد اقترنت بدايته كمخرج سينمائي بعلاقته الفنية والشخصية بالنجمة الصينية موضوع المقال وهي «جونج لي» التي قدمها في أول أفلامه وأفلامها «الذرة الحمراء». وقد ارتبط المخرج والنجمة جونج لي برباط عاطفي كان حديث المجتمع الصيني المحافظ الذي لم يألف مثل هذه العلاقات خارج الأطر التقليدية، وقد صمدت العلاقة بين المخرج ونجمته سنوات طويلة، وأنتج تعاونهما الفني أفلامًا رائعة، إلى أن تغلَّبت عاطفة الأمومة أخيرًا عند «جونج لي» فانفصلت عن المخرج الكبير بعد أن تبيَّنت أنه يضع فنَّه وعمله فوق الرغبة في تكوين أسرة وإنجاب أطفال. وقد ذكرت لي إحدى زميلاتنا الصينيات في نيويورك أن النجمة «جونج لي» هي معبودة الجماهير في بلادها الآن، وأنها قد نالت إعجاب الصينيين بوصفها نموذجًا للممثلة الصينية التي خرجت بأفلامها إلى خارج الحدود، حتى إنهم كادوا يغفرون لها علاقتها بالمخرج الشهير لأنهم نظروا إلى تلك العلاقة في إطارها الفني في المقام الأول، وهي بعد أن غزت سينما بلادها، تحاول الآن السينما الفرنسية والأمريكية استقطابها للاستفادة من موهبتها ومن شهرتها الواسعة.
وقد وُلِدت «جونج لي» في عام ١٩٦٥م، وتلقَّت تعليمها الفني في الأكاديمية المركزية للدراما في بكين، وشقَّت طريقها في الميدان الفني إلى أن أصبحت نجمة الصين الأولى منذ الثمانينيات حتى الآن، ولم يقتصر ظهورها في أفلام «جانج إيمو» فقط، بل ظهرت أيضًا في أفلام مخرجين مشهورين آخرين أبرزهم «شين کاجبي». والأفلام التي أخرجها لها إيمو هي: «الذرة الحمراء» (۱۹۸۷م)، «جي دو» (۱۹۸۹م): «تيراكوتا» (۱۹۹۰م) الذي اضطلع إيمو بتمثيله أيضًا مع جونج لي، «ارفعوا القنديل الأحمر» (۱۹۹۱م) «قصة شي وجي» (۱۹۹۲م) «ماري البكينية» (١٩٩٤م) «الحياة» (١٩٩٥م) «ثلاثي شنغهاي» (١٩٩٦م)، أما فيلماها الآخران فهما: «الإمبراطورة دواجير» (۱۹۸۸م) من إخراج لي هانك سيانج و«وداعًا يا رفيقتي» (۱۹۹۳م) من إخراج شين کانجي.
وتتناول أفلام «جونج لي» بصفة عامة مظاهر الحياة اليومية في الريف الصيني، في حقب تاريخية مختلفة، ويظهر فيها الأثر السياسي بلمسات تاريخية مختلفة قليلة وإنما عميقة الأثر في الخلفية العامة للفيلم. وتقدِّم أفلامها أيضًا تصويرًا للسلوك الإنساني في مواقف متباينة، في إطار من العادات والتقاليد الصينية التي تضرب في أغوار التاريخ. وقد جسدت «لي» — بمظهرها النحيل وقوة حضورها على الشاشة — جيلًا جديدًا من المرأة الصينية، نشأ وسط التقاليد العتيقة، بَيْدَ أنه يجاهد للوصول إلى الحقوق الإنسانية للمرأة الحديثة. وأبرز أفلامها مع «إيمو» هو فيلم «ارفعوا القنديل الأحمر» الذي تقع أحداثه في العشرينيات في أواخر العهد الإقطاعي الصيني، ويحكي قصة فتاة شابة (جونج لي) تضطر إلى التخلي عن طموحها في مواصلة تعليمها فتصبح زوجة — أو محظية — رابعة لأحد الإقطاعيين الأثرياء الذي يعيش مع زوجاته في ضيعة بها قصر منيف ودور منفصلة لكل واحدة، ورتل هائل من الخدم والحشم. ويدور الفيلم حول مكائد النساء في الفوز باهتمام وحب السيد الكبير، خاصة التنافس بين الزوجتين الثانية والثالثة للاستحواذ على الزوج، وعلى أن يرفعوا القنديل الأحمر أمام دارها لأكثر عددٍ من المرات؛ إذ إن ذلك معناه أن الزوج يختصُّها بالمبيت لديها في تلك الليلة!
وينتهي الفيلم نهاية مأساوية تصور أفضل تصوير مدى غلبة التقاليد والأعراف الإقطاعية في ذلك العهد، حين ترى الزوجة الجديدة المستنيرة كيف تلقى الزوجة الثانية مصرعها — بأيدي الخدم وبأمرٍ من السيد الكبير — بعد أن كشفت الزوجة الثالثة علاقة نشأت بين طبيب الأسرة وتلك الزوجة. وقد أخرج «إيمو» هذا الفيلم إخراجًا بارعًا، بتصوير السيد الإقطاعي في صورة خفية لا تكاد تبين ملامحها إلا عن طريق الظلال والأصداء وسيطرته الضمنية على القصر الذي يضم حريمه وخدمه. وهو يلعب أيضًا على موضوع الحقيقة والخيال، حين يصور الزوجة الجديدة وهي على مشارف الجنون حين ينكر الجميع واقعة مقتل الزوجة الثانية، رغم أنها رأت ذلك وسمعته.
وقد لقي هذا الفيلم رواجًا في الولايات المتحدة، حتى إنه رُشِّح لنيل الأوسكار لأحسن فيلم أجنبي للعام ١٩٩١م، ولكن فاز بها ذلك العام الفيلم الإيطالي «البحر الأبيض».
ورائعة جونج لي الأخرى هي فيلم «وداعًا يا رفيقتي» من إخراج «شين كايجي» الذي يضارع «إيمو» شهرة. وهذا الفيلم ملحمة طويلة باهرة عن علاقات إنسانية تتبدى في جوٍّ ميلودرامي، على خلفية طولها ٥٢ سنة من تاريخ الصين الحديث. ويحكي الفيلم قصة صبيين صينيين «دوان» و«شنج» يتدربان في أكاديمية الأوبرا ببكين في أواسط العشرينيات. و«دوان» فتى قوي البنية واقعي النزعة بعكس «شنج» المرهف الإحساس الصبور الكتوم. وتجمع بين الصبيين الصداقة والعذاب الشديد الذي يلاقيانه في التدريبات الشاقة والعقاب البدني الرهيب الذي يتعرض له التلاميذ هناك لأقل هفوة. بيد أنهما يجنيان ثمرة كدِّهما حين يصبحان في النهاية من أشهر مغنيي ذلك النوع الفني في الصين. وأهم أوبرا برعا في أدائها هي «وداعًا يا رفيقتي» التي تحكي جانبًا من التاريخ الصيني القديم، يدور حول حرب سجال بين ملكين تنتهي بانتصار أحدهما على الآخر؛ فيودِّع الملك المهزوم رفيقة حياته التي تنتحر أمامه قبل أن يقتل هو نفسه. ويقوم دوان بدور الملك المهزوم، بينما يؤدي شنج دور الرفيقة؛ كما كانت العادة في عدم ظهور النساء وقيام رجال بالأدوار النسائية. ويقع دوان في غرام إحدى فتيات الليل اسمها جوشيان (جونج لي) ويتزوجها فيتحطم عالم شنج الذي كان يقوم على صداقته لدوان التي لا يريد أن يشاركه فيها أحد، ثم يقع الغزو الياباني للصين في ١٩٣٧م، ويضطر شنج إلى التعاون مع اليابانيين بالغناء لهم حتى ينقذ زميله دوان الذي كانوا على وشك أن يقتلوه. وتنقطع العلاقة بين الصديقين فيدمن شنج الأفيون الذي يدمر حياته ويرد له دوان الجميل بأن ينقذه من الإدمان إلى أن يعود إلى كامل صحته فيعملان معًا مرة أخرى. وعندما تقوم الدولة الشيوعية في ١٩٤٩م تبقي على فرق الأوبرا وأعمالها بوصفها من التراث الصيني القديم.
ولكن الحدث الذي يمزق كل شيء في حياة دوان وجوشيان وشنج هو الثورة الثقافية التي اجتاحت كل شيء في الصين في أواخر الستينيات؛ فإذا بالجميع أمام ديوان التفتيش الحديث الذي ينقب عن أعمالهم وضمائرهم، وينتهي الأمر بتبادل الاتهامات بين الصديقين؛ إذ يعترف دوان تحت الضغوط الرهيبة بتعاون شنج سابقًا مع اليابانيين، بينما يعترف شنج بأن دوان قد تزوج عاهرة. وحين يلتزم دوان أمام المحققين بالانفصال عن زوجته جوشيان لا تحتمل هي ما يحدث أمامها فتنتحر. ثم يعود الفيلم إلى عام ۱۹۷۷م في فترة ما بعد الثورة الثقافية وعصابة الأربعة في الصين بعد أن هدأ كل شيء وأعيد تأهيل دوان وشنج وهما يقومان بالتدريب مرة أخرى على تقديم أوبرا «وداعًا يا رفيقتي»، ولكن شنج يفاجئ الجميع عندما يقوم — إذ يمثل انتحار رفيقة الملك — بطعن نفسه بسيفٍ حقيقي منهيًا بذلك حياته وصراعاته. وقد نال هذا الفيلم الفذ جائزة مهرجان «كان» الفرنسية، ورُشِّح للأوسكار ذلك العام، ولكن الجائزة راحت إلى الفيلم الإسباني «الحقبة الجميلة».
•••
وآمل أن تلتفت نوادي السينما في مصر إلى الأفلام الصينية التي لا نكاد نعرف عنها شيئًا، والتي يمكن أن نتعرَّف عليها عن طريق أفلام «جونج لي» النجمة الصينية الساطعة.