فاوست
فاوست أسطورة بُنِيت — كما يقال — على قصة حقيقية وقعت في العصور الوسطى لأستاذ ألماني بلغ من العلم مكانة عالية، ثم مارس السحر وباع روحه للشيطان في مقابل سنوات ينال فيها ما يشتهي من المتع والملذات الحسية والمادية. وأول تسطير للأسطورة كان في كتاب نُشِر في فرانكفورت عام ١٥٨٧م مجهول المؤلف، عنوانه «تاريخ الدكتور يوهان فاوست، الساحر الذائع الصيت، ذي الأعمال الجهنمية» (عن د. محمد عوض محمد).
وقد كان موضوع هذه الأسطورة — أو الواقعة — مادة لكثير من الأعمال الفنية، أشهرها المسرحية التي كتبها شِعرًا الأديب الألماني الأشهر جوته عن مأساة فاوست، من جزأين، والتي أدخل فيها كثيرًا من التغييرات والإضافات على موضوع الأسطورة الأصلي. وقد غطت شهرة كتاب جوته على المسرحية الكلاسيكية الأولى في هذا الموضوع، التي كتبها كريستوفر مارلو (١٥٦٤–١٥٩٣م)، معاصر شكسبير، والذي يذكر اسمه أحيانًا كالشخص الأصلي الذي كتب مسرحيات شكسبير وقصائده.
وحين فكر الممثل الإنجليزي المشهور «ريتشارد بيرتون» (١٩٢٥–١٩٨٤م) في تقديم هذا العمل على الشاشة الفضية، كان من الطبيعي أن يقع اختياره على مسرحية مارلو لتكون مادة العمل الفني، وذلك لسببين رئيسيين: أولهما أن مارلو إنجليزي مثله، وثانيهما أن بيرتون سبق وأن قدم مسرحية مارلو على المسرح ونالت نجاحًا كبيرًا. وقد عمد بيرتون إلى إخراج الفيلم بنفسه، وكانت أول تجربة له في الإخراج السينمائي، وتوقع للفيلم نجاحًا تجاريًّا، بعد نجاح فيلم «ترويض النمرة» عن مسرحية شكسيبر، التي أخرجها للسينما المخرج العالمي «فرانکو زيفاريللي» من تمثيل ريتشارد بيرتون وإليزابث تايلور. وقد ظهر هذان النجمان — اللذان تزوجا مرتين — في صورة ثنائي في كثير من الأفلام الناجحة بعد فيلمهما «كليوباترا»، فقدَّما بعده أفلامًا مثل «من يخاف فرجينيا وولف»، «طائر زمار الرمل» المعروف في مصر تحت عنوان «الرغبة المدمرة «الكوميدون»»، وغيرها.
وكان طبيعيًّا أيضًا أن تشاطر إليزابث تايلور زوجها بطولة فيلم «دكتور فاوست» المأخوذ عن مسرحية مارلو، وإن ظهرت طوال الفيلم دون حوار على الإطلاق، اكتفاء باستعراض جمالها وفتنتها بوصفها مثالًا للإغراء الحسي في كل زمان ومكان.
ويبدأ الفيلم بالدكتور «فاوست» في مكتبة يتذكر اليوم الذي حصل فيه على إجازة الدكتوراة من جامعة وتنبرج الألمانية واحتفال طلابه به. ثم يتأمل بما يشعر به بعد مضي عمر طويل في البحث والدراسة من خيبة أمل ويأس أن تمنحه العلوم التي تبحَّر فيها التحقيق الذاتي الذي يحلم به. وهو يمر على علوم الفلسفة، والطبيعة، والقانون، واللاهوت، ثم يودعها جميعًا لأنها لا تفي بطموحاته في المعرفة المطلقة. فيلجأ إلى تعلم السحر، لأنه يطمح إلى التوصل إلى ما لا يمكن أن يصل إليه إنسان، من ناحية المعرفة والقوة والسلطان. ويستمع في أعماقه إلى ملاك الخير يحذِّره من سلوك هذا الطريق، وإلى وساوس الشر تدفعه دفعًا إليه وتحسِّنه في عينيه. ويطيع فاوست وسواس الشيطان، ويمضي في ممارسة السحر كي يرى ما يستطيع أن يقدمه له. ويقوم بطلاسمه فيستدعي الشيطان مفستوفوليس (الذي يرى البعض أنه مشتق من كلمة إبليس) مندوب لوسيفر كبير الشياطين. وحين يظهر له الشيطان يجادله ويتفاوض معه على ما يريد، ويتوصلان إلى اتفاق يقوم فاوست بموجبه ببيع روحه للشيطان مقابل أن يصبح الشيطان له عبدًا يؤدي كل ما يطلبه فاوست ويشتهيه لمدة أربعة وعشرين عامًا، وبعدها يصبح فاوست ملكًا للشيطان ويتبعه في أغوار الجحيم الأبدي. ويطلب الشيطان من فاوست أن يوقع على اتفاق مكتوب بدمه. وحين تهيب به ملائكة الخير ألا يوقع على الاتفاق، يأتي الشيطان بشيء لفاوست «كي ينعش روحه»، وما كان ذلك إلا خيال الشهوة الحسية ممثَّلة في طيف إليزابث تايلور، موحيًا إليه بما سيكون في متناول يده في حال اتباع الشيطان. ويوقِّع فاوست العقد بدمائه، وفي الحال يجد أن شبابه قد عاد إليه واختفت التجاعيد من وجهه، ويعود على الصورة التي رأيناه عليها عند الاحتفال بحصوله على الدكتوراه. ويمطر فاوست الشيطان بأسئلته عن السماء وعن الجحيم والشياطين، ويطلب زوجة تؤنسه فتبدو له إليزابث تايلور مرة أخرى، بَيْدَ أنها تنقلب بين أحضانه إلى عجوز شوهاء فيلقي بها جانبًا. ويشرع له الشيطان أن لا زواج هناك للشياطين وأتباعهم، ويعرض عليه مقابل ذلك كل ما يريد من ملذات أرضية تنتهي بوقتها المحدد.
ولا تخلو أوقات فاوست خلال فترة سلطته المطلقة هواجس تلحُّ عليه أن يعود إلى طريق الإيمان والحق ونبذ اتفاقه مع الشيطان، ولكن اللعنة تطارده وتشده إلى الأرض التي تعلَّق بها وباع روحه من أجلها؛ فيظهر له كبير الشياطين نفسه ويشجعه على المضي قدمًا في غوايته، ويكافئه على الاستمرار في احترامه للاتفاق بأن يعرض أمامه تجسيدًا حيًّا للخطايا المميتة السبع: الكبرياء، الشهوة، البخل، الطمع، الحسد، الغضب، الكسل. وتتابع أمام ناظري فاوست تلك المناظر في صورة غلالات ساحرة تتخللها بين حين وآخر صورة الجمال الحسي في صورة إليزابث تايلور، ويحضر فاوست مجلس بلاط الإمبراطور الذي يختبر قدرته على الإتيان بالأعمال الخارقة؛ حيث يطلبون إليه ابتعاث طيف الإسكندر الأكبر وزوجته أمامهم، وحين يقوم بذلك يغدقون عليه آيات الثناء والتكريم. كذلك ينفذ الشيطان لفاوست ما يريد من الحيل السحرية والألاعيب الشيطانية التي يرفِّه بها عن نفسه.
وحين تقترب مدة الغواية من نهايتها، نرى فاوست مع بعض تلاميذه، الذين يطلبون إليه أن يريهم أجمل امرأة في التاريخ، ويقع اختيارهم على هيلين ملكة طروادة، فيستحضرها لهم فاوست (وهي أيضًا إليزابث تايلور) حيث تخطر أمامهم في کامل فتنتها، ويتركون فاوست وحده بعد أن خلبت هيلين فؤاده فيطلب من شيطانه أن يجلبها له وحده وأن تكون طوع يديه. وحين تبدو هيلين لفاوست، ينطق بالأبيات الشهيرة: «أهذا هو الوجه الذي حشد آلاف السفن، وأحرق حصون طروادة المنيعة؟ أي هيلين الحبيبة، اجعليني خالدًا بقبلة من فمك … هيا يا هيلين هيا، أعطيني روحي مرة أخرى، سوف يكون هنا مقامي، فالجنة بين هاتين الشفتين؛ وكل ما عدا هيلين فهو باطل وقبض الريح.»
وفي النهاية، تحين ساعة الحساب. ومرَّ اليوم الأخير ساعة بعد أخرى، ويتمنى فاوست لو تبتلعه الأرض أو تخفيه الجبال، ولكن ما من مجيب. وينتابه الندم ويعصف به، حتى يهتف بأنه يقبل أن يقضي آلاف السنين في الجحيم، لو كان ذلك يحمل له الخلاص في النهاية. ولكن، ما كل ذلك إلا أماني، فما من نجاة بعد التحالف العلني مع الشيطان. ويتمثَّل أمامه خيال إليزابث تايلور، رمز الشهوات الأرضية، وهي تضحك منه ساخرة لحاله، ويتراءى ماضيه كله أمام عينيه؛ إذ الشياطين تتخطَّفه لتهوي به إلى أغوار الجحيم.
وبهذه النهاية البشعة، يقدم الفيلم لمشاهديه مغزى أخلاقيًّا، مفاده غرور الرغبات الدنيوية وفسادها أمام السمو الروحي الذي يدوم إلى الأبد، وقد فشل الفيلم تجاريًّا فشلًا ذريعًا، رغم تميُّزه الفني الواضح الذي يجعله يقف إلى جوار أعمال بيرتون البارزة، ويغفر له العديد من الأفلام المتوسطة الجودة التي قبِل الظهور فيها تطلعًا إلى الكسب التجاري والمادي.
وتبقى كلمة أخيرة. إن موضوع قصة فاوست تترى دائمًا على الذهن حين يطالع المرء آية بذاتها في القرآن الكريم وهي وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ صدق الله العظيم.