شكسبير … باليابانية!
المخرج الذي قدَّم شكسبير باليابانية هو أكيرو كوروساوا، أحد أشهر السينمائيين اليابانيين المعاصرين، وأكثرهم شهرة خارج اليابان. وهو يُعَد الآن ألمع خلفاء الجيل السابق من المخرجين اليابانيين الكبار من أمثار أوزو وميزوجوشي وناروزي وكينوشيتا، كما أن المخرج شوهي إيمامورا — الذي أوردت الكواكب حوارًا معه في أبريل الماضي — هو ألمع مخرجي الجيل التالي لكوروساوا .
وقد وُلِد كوروساوا في عام ١٩١٠م، وشهد بداية خروج الفنون اليابانية إلى أوروبا وأمريكا في فترة ما بين الحربين العالميتين. وقد عمل فترة في مجال الرسم والتصوير، ثم التحق بالعمل مساعدًا للمخرج كامبيرو ياماموتو الذي تأثَّر به فقرر التفرغ للعمل السينمائي. وهو دائمًا يذكر الأثر الذي تركه فيه ذلك المخرج الياباني، جنبًا إلى جنب مع المخرجين غير اليابانيين الذين تأثر بأعمالهم، ومنهم كابرا وفورد، وفيما بعد أنطونيوني.
وقد أخرج كوروساوا عددًا من الأفلام قبل أن يلفت إليه الأنظار بفيلمه «الملاك السكران» (١٩٤٨م). أما ذيوع شهرته خارج اليابان فجاء مع فيلمه الشهير «راشومون» (١٩٥٠م)، الذي فاز بجائزة مهرجان فينيسيا عام ١٩٥١م. وقد لقي هذا الفيلم نجاحًا كبيرًا في الولايات المتحدة مما عمل على فتح دور السينما هناك أمام الفيلم الياباني لأول مرة، وعلى ذيوع اسم كوروساوا رمزًا للسينما اليابانية المعاصرة. وبلغت شهرة أفلامه أنه حين سردت جريدة «النيويورك تايمز» أفضل أفلام يابانية للفترة من ١٩٥٠م إلى ۱۹۷۰م، جاء ثلاثة منها من إخراج كوروساوا.
وموضوعات أفلام كوروساوا تتسم بالإنسانية العميقة التي تخفِّف من لمسات القسوة التي تحيط بها أحيانًا، وباهتماماته بحالات الغموض الذي يكتنف الوجود الإنساني. وهو منذ بدء عمله في السينما، كان مهتمًّا بتحويل الأعمال الأدبية المعروفة إلى الشاشة الفضية، بعد إضفاء طابع ياباني مميز عليها: فمن بين أفلامه «الأبله» عن دستويفسكي، و«الأعماق» لمكسيم جورکي. وكان طبيعيًّا والحال هكذا أن يتجه إلى شكسبير، وكانت حصيلة ذلك الآن فيلمين عن مكبث والملك لير.
وقد أخرج كوروساوا «فيلم مكبث» عام ١٩٧٥م بعنوان «قلعة نسيج العنكبوت»، الذي أصبح عنوانه عند عرضه خارج اليابان «عرش الدماء». كان كوروساوا قد اشتُهِر — وما زال يشتهر — بحبه للتجريب، وبغوصه في تراث بلاده التاريخي والأسطوري، يستخرج منه مادة يصبغ بها موضوعات أفلامه، وحين فكر في تناول فاجعة مكبث ليقدمها لجمهور السينما اليابانية، كان تاريخ بلاده في ذهنه: فقد قال: «إن قصة مكبث قد صادفت هوى في نفسي، وكان سهلًا عليَّ أن أتناولها، ففي تاريخ الحروب الأهلية في اليابان كان هناك الكثير من الوقائع تماثل الأحداث التي تقدمها مسرحية مكبث.» وهو إن كان قد استمد جوهر القصة من شكسبير، فإن الجو العام والأمكنة والشخوص والديكور جاءت كلها يابانية صرفة. فنحن نجد في الفيلم الياباني العمود الفقري للقصة، الذي يتمثَّل في نبوءة ثلاث ساحرات لقائديْن كبيريْن أثناء عودتهما من معركة انتصرا فيها على أعداء الملك، وتدفع تلك النبوءة القائد مكبث، بدافع من زوجته الطموح، إلى قتل الملك دنكان واعتلاء سدة العرش، وإلى قتل زميله القائد الآخر بانكو الذي تنبَّأت له الساحرات أن ابنه سيكون ملكًا، ويندفع مكبث إلى طريق لا نهاية له من سفك الدماء للاحتفاظ بالعرش، إلى أن ينجح ابن دنكان وبعض أشراف المملكة في قتل مكبث وإعادة الحقوق إلى أصحابها.
وفي فيلم كوروساوا، يتغيَّر المكان من اسكتلندا إلى اليابان في العهد الإقطاعي، عهد الحروب الأهلية وعهد الساموراي المحاربين، والمملكة هي القلاع الحصينة التي يعيش الدهاقنة فيها ويخلعون المنح على قادتهم المخلصين. والساحرات قد تحولن إلى عجوز حيزبون معروفة في التراث الشعبي الياباني. وكان ما يواجه المُشاهِد في هذا الفيلم هو عدم وجود الكثير من الحوار واللغة الشكسبيرية فيه، مما يوحي بأن اللغة قد أعيدت كتابتها من جديدٍ للفيلم، وهو ما نفتقده كثيرًا حتى في الترجمة الشريطية. بل وإن كثيرًا من المَشاهِد الحيوية في المسرحية قد غابت عن الفيلم، مثل مشهد الطرق على الباب بعد مقتل الملك. ولكننا نجد — لحسن الحظ — عددًا من تلك المواقف المشهودة وقد قدمها المخرج على نحو رائع، مثل مشهد شبح بانكو في المأدبة التي يقيمها مكبث وزوجته، ومشهد زوجة مكبث وهي تغسل يدها في محاولة جنونية لتخليصها من دم الملك، ثم الغابة وهي تزحف على قلعة مكبث بعد أن قطع المهاجمون الأشجار واختفوا بها في تقدمهم.
وتبدو روعة إخراج كوروساوا وأصالته في مشهد نهاية الطاغية؛ إذ يمطره الجنود بالسهام التي تنهال عليه كالمطر وتحيط به من مكان لآخر، إلى أن يخترق سهم منها عنقه.
وبالرغم من أن كل لقطة في الفيلم توحي بالطبع الياباني الأصيل، فإن بعض المَشاهِد لم تفلت من قبضة التصوير السينمائي السابق للمسرحية الخالدة، وأعني بهذا فيلم أورسون ويلز عنها. فنحن نتذكر الفيلم الأمريكي في غلالات الضباب التي تحيط بالأحداث واستخدام الضوء في اللونين الأبيض والأسود بما يخدم الإيحاء بالجو المطلوب، وغير ذلك مما يبين عدم قدرة المخرج الياباني على التخلص تمامًا من قبضة أورسون ويلز التي لها فضل الريادة!
والفيلم الآخر هو ذلك المأخوذ عن مسرحية الملك لير، وقد قدمه كوروساوا عام ١٩٨٥م تحت اسم «ران» الذي يعني باليابانية «فوضى» أو «تمرد». وقد حشد المخرج له إمكانيات ضخمة قفزت بتكلفته إلى ١٢ مليون دولار أمريكي، بحيث أصبح أكثر الأفلام اليابانية تكلفة حتى ذلك الوقت. وكانت النتيجة فيلمًا عظيمًا يزخر بالمَشاهِد التي لا تُنسى، والتي رفعته إلى مصاف الأفلام اليابانية الكلاسيكية.
والفيلم في جوهره فيلم إنساني يمثِّل دراسة في التهور في استخدام السلطة دون تفكير. وقد قال كوروساوا وهو يعمل فيه: «إن المشاكل التي أحب أن أعالجها هي مشاكل إنسانية، ولذلك فهي لا عصر لها ولا زمن.» وقصة الملك لير كما نعرف تحكي عن ملك كبير قسَّم مملكته بين بناته الثلاث على حسب قدرتهن على التعبير عن مدى حبهن له، فأقبلت اثنتان منهن على مدحه وتملُّقه بينما لم تعبِّر الثالثة — كورديليا — إلا عن عاطفة صادقة مقتضبة، فيغضب منها الأب ويطردها من عطفه. وتمر الأيام ويلقى الأب من جحود الابنتين الشيء الكبير، ولا يجد من يقف معه في محنته وشيخوخته إلا الابنة الصغرى المخلصة التي سبق أن أساء إليها، والتي تعود مع زوجها الفرنسي لتنتقم له من غدر أختيها به الذي قاده إلى حافة الجنون. ولكن المأساة تتم فصولًا حين تتشابك أحداث وشخوص أخرى في المسرحية تنتهي بموت الجميع موتًا فاجعًا بمن فيهم كورديليا والملك لير نفسه بعد أن يدرك متأخرًا مدى حب ابنته الصغرى له.
أما كوروساوا فقد نقل الأحداث مرة أخرى إلى اليابان في القرن السادس عشر، وخلع عليها مسحة يابانية. فهو مثلًا لم يكن يستطيع تصوير السيد الياباني الكبير وهو يقسِّم مملكته بين بناته؛ إن ذلك لم يكن ليتفق مع التقاليد اليابانية في ذلك العصر، فجعل له ثلاثة أولاد، ينزل لواحد منهم فحسب عن ملكه، على أن يكون الأخان الآخران مساعدين له، وحين يعبِّر الابن الأصغر عن مخاوفه من جراء هذا القرار، يثير حفيظة الأب ويأمر بطرده. ويستمر الموضوع الشكسبيري بإساءة الابن الأكبر معاملة أبيه الذي يجد نفس الإساءة لدى الابن الثاني. وينشب صراع على السلطة بين الأخوين، وهو يوازي الصراع العاطفي بين الأختين في مسرحية شكسبير. كذلك فإننا نرى في الفيلم الياباني ما يوازي القصص الفرعية التي تحيط بالمأساة الرئيسية. ويكون الابن الأصغر الذي ظلمه الأب هو الوحيد الذي يساعده بعد ذلك وينتقم من أخويه وأشياعهما، إلا أنه يفقد حياته في سبيل ذلك، ويموت الأب حزنًا عليه.
وقد أجاد كوروساوا تصوير شخصية السيد الكبير وهو يتحول تدريجيًّا من طاغية مستبد إلى شيخ ضعيف يعاني من عقدة الذنب، وهو مضطر إلى مواجهة عواقب تهوُّره وتسرُّعه في أحكامه. ونال هذا الفيلم جائزة الأكاديمية البريطانية، ورُشِّح كوروساوا لجائزة الأوسكار للإخراج عن عام ١٩٨٥م، إلا أنها ذهبت إلى المخرج سيدني بولاك عن فيلم «الخروج من أفريقيا».
وهذان الفيلمان المأخوذان عن شكسبير جديران بالدراسة الجادة لتفهم أصول تحويل المسرحية الشكسبيرية إلى فيلم محلي. وقد أخرجت السينما المصرية عددًا من الأفلام المأخوذة عن مسرحيات الأديب العالمي، منها روميو وجوليت وترويض النمرة وظهر فيلما «الملاعين» و«حكمت المحكمة» عن الملك لير، وظهر فيلما «المعلمة» و«الغيرة القاتلة» عن عطيل. والفيلم الأخير هو الذي يرقى إلى المعالجة الفنية المتميزة. ويبقى أمام السينمائيين المصريين أعمال شكسبير العظيمة الأخرى: مكبث، هملت، الملك لير، ريتشارد الثالث، أنطونيو وكليوباترا، وغيرها، ولعل في وجود عدد من ألمع مخرجينا وكاتبي السيناريو من دارسي الأدب الإنجليزي دراسة متخصصة — منهم الأستاذان رأفت الميهي ومصطفى محرم — ما يتيح لنا أن نرى أحد هذه الأعمال في بيئة مصرية تاريخية تفعل بشكسبير عربيًّا ما فعله کوروساوا به يابانيًّا.