ثلاثية من الهند
الهند هي إحدى الدول الأكثر إنتاجًا للأفلام السينمائية في العالم؛ إذ يربو عدد الأفلام التي تنتجها على ٣٠٠ فيلم طويل و٥٠٠ فيلم قصير وتسجيلي سنويًّا. وتنقسم أفلامها إلى نوعين: أفلام عموم الهند، وهي ناطقة باللغة الهندية، والأفلام المحلية الناطقة باللغات الإقليمية المختلفة، وأشهرها الأفلام البنغالية.
وكان أول فيلم يلقى شهرة خارج الهند هو أول فيلم هندي ملون، من إنتاج عام ١٩٥٢م، بعنوان «آن الأميرة المتوحشة» وهو بالمناسبة أول الأفلام الهندية التي ذاعت في مصر أيضًا، وفتح الباب لتدفق الأفلام الهندية التي ما زالت تغمر السوق المصرية حتى الآن. وقد مثَّل هذا الفيلم نموذجًا لما كانت عليه عامة الأفلام الهندية من قبل ومن بعد: أحداث ميلودرامية تتخللها الأغاني والرقصات الهندية العاطفية. وما نزال نذكر الكثير من الأفلام الهندية التي ضربت رقمًا قياسيًّا في الجناح التجاري في مصر، وعلى رأسها — طبعًا — فيلم «سانجام».
بَيْدَ أن هناك عددًا من الأفلام ذات القيمة الفنية المتميزة تتخلل ذلك الإنتاج الضخم من الأفلام الهندية، وإن كان طريقها إلى العرض خارج الهند صعبًا لصعوبة الإقبال الجماهيري عليها.
ويستثنى من هذا أفلام «ساتيا جيت راي» (۱۹۲۱–۱۹۹۲م) مخرج الثلاثية السينمائية التي فتحت أسواق الغرب للأفلام الهندية، وجعلت اسمه مرادفًا للفن السينمائي الهندي في أوروبا وأمريكا.
وقد نشأ راي في أسرة بنغالية عريقة في مجالات الفن والأدب. فقد كان أديب الهند الأشهر «طاغور» من المترددين على منزل أسرته، وعرفه راي وتأثَّر بأعماله تأثرًا عميقًا تبدَّى في النزعة الإنسانية التي تتخلل أفلامه. ودرس راي العلوم والاقتصاد وتاريخ الفن في جامعة كلكتا، وتخرج فيها عام ١٩٤٠م، وعمل بعد تخرجه في فرع لوكالة بريطانية للإعلانات مما أتاح له الإقامة لفترات قصيرة في لندن. وفي أثناء ذلك بدأ يهتم بالسينما نتيجة مشاهدته لروائع كبار المخرجين آنذاك أمثال وايلر وفورد وكابرا وستيفنز وكلير ورينوار. وبعد عودته إلى كلكتا، أنشا جمعية للسينما، وتعرف على المخرج الفرنسي رينوار الذي كان في زيارة لكلكتا لتصوير فيلمه «النهر» ويذكر راي على الدوام أن الفضل في دفعه إلى إخراج أول أفلامه يعود إلى مقابلته مع رينوار، وإلى مشاهدته فيلم دي سيكا «سارق الدراجات»، وكان قد أعجب إعجابًا شديدًا برواية لأديبٍ بنغالي يُدعَى باناراجي، فبدأ في كتابة سيناريو عنها، وشرع يخرجها للسينما مستعينًا بأمواله الخاصة التي نفدت بعد وقتٍ قصيرٍ، وهددت الفيلم بالتوقف. وكان مدير متحف الفن الحديث بنيويورك يزور كلكتا للإعداد لمعرض عن الفن الهندي في نيويورك، ورأى بعض مناظر الفيلم فوعد بأن يعرض الفيلم فور الانتهاء منه ضمن أنشطة المعرض في المتحف الأمريكي؛ وأعطى ذلك دفعة قوية لإنتاج الفيلم انتهت بأن وافقت الحكومة المحلية في البنغال على تمويله. وهذا الفيلم هو «أغنية الطريق» — الحلقة الأولى من «ثلاثية آبو» — وتم إنتاجه عام ١٩٥٥م، وحقق نجاحًا فوريًّا داخل الهند وخارجها؛ إذ فاز بجائزة مهرجان كان السينمائي، مما حفز المخرج راي إلى إكمال الثلاثية بفيلمي «اللامنهزم» (١٩٥٦م) و«عالم آبو» (١٩٥٨م).
وفيلم «أغنية الطريق» يتناول الحياة في أعماق الريف الهندي في حوالي العشرينيات، حيث يسود الفقر المدقع والكفاح في سبيل العيش. وتركز القصة على أسرة ريفية تتكوَّن من الأب والأم والجدة وابن وابنة. وتصور بدايات الوعي لدى الطفل الصغير آبو الذي يتركز عالمه في أسرته الصغيرة وعالمه الريفي الذي لا تحدُّه حدود. ويتفتح شعوره حين تصحبه أخته الصغيرة لمشاهدة القطار لأول مرة في حياته، ويراقب أباه الذي يشقى ليوفر لقمة العيش لأسرته مضحيًا بأحلامه في أن يكون كاتبًا، وأمه التي ينحصر عالمها في التدبير والقلق المستمر على المستقبل، والجدة التي جاوزت الثمانين، والتي تتغلب على الفقر والمرض بالهروب إلى عالم خيالاتها وأحلامها. يتردد آبو على مدرسة القرية — وهي تماثل «الكُتَّاب» في الريف المصري — واضعًا قدمه في أول السلم الذي سيتيح له تغيير حياته في المستقبل. وينتهي الفيلم نهاية حزينة، فبعد أن تموت الجدة العجوز، تموت الابنة الصغيرة نتيجة عدم توافر العناية الطبية بعد برد شديد ألمَّ بها حين قضت ليلة تحت الأمطار مع أخيها؛ وإذ تدرك الأسرة أنه لا مقام لها في القرية، تهرب من أحزانها بالانتقال إلى مدينة بينارس لممارسة حياة جديدة.
وفي الفيلم الثاني من الثلاثية، بعنوان «اللامنهزم» نرى الأسرة وهي تعيش في مدينة بينارس، ولكن الفقر والحاجة لا يزالان يخيمان عليها. ويستسلم الأب للمرض ولا يلقى العناية اللازمة فيرحل تاركًا الأم والابن لقدرهما. وتضطر الأم إلى العمل في بيوت الأثرياء، وتجاهد حتى تلحق آبو بالمدرسة كي يكون بوسعه أن يشق طريقًا مختلفًا عن حياة الفاقة التي يعيشونها. ونرى الشاب في طور المراهقة يستعيض عن الانفتاح التلقائي لأحاسيسه ومداركه، بالشعور بالمسئولية تجاه نفسه وتجاه أمه.
وفي المدرسة، يلفت الصبي نظر مدرسيه بذكائه ونهمه إلى المعرفة، فيشجعه الناظر ويهدي له عددًا من الكتب لتساعده على توسيع أفقه، وتمكِّنه من إتقان اللغة الإنجليزية. ويذكِّرنا هذا بأننا في الهند إبان العقود الأولى من القرن العشرين، حين كانت بريطانيا إمبراطورية تبسط نفوذها في شبه القارة الهندية. فنرى من بين الكتب المهداة إليه كتابًا عن اكتشافات لفنجستون في أفريقيا. وينهي الشاب آبو دراسته بنجاحٍ يؤهِّله للحصول على منحة دراسية للدراسة في جامعة كلكتا. وكان الفراق عن أمه صعبًا بالنسبة للطرفين، ولكن إصرار آبو على إكمال تعليمه من أجل تحسين وضعه الاجتماعي والاقتصادي يتغلب على معارضة أمه. ويهديه ناظر المدرسة عند الرحيل كرة أرضية صغيرة يفرح بها آبو ويبيِّن لأمه موقع كلكتا عليها.
وفي كلكتا يعمل آبو إلى جانب دراسته في مطبعة يدوية حتى يؤمِّن لنفسه غرفة يعيش فيها في المدينة الكبيرة التي يضيع في زحامها. ويجد آبو صعوبة في متابعة المحاضرات في نفس الوقت الذي كان يتعيَّن عليه أن يسهر طويلًا في المطبعة. ويؤدي في النهاية ثمنًا هائلًا، حين يضطر إلى البقاء في المدينة لتأدية الامتحانات في الوقت الذي تمرض فيه أمه مرضًا خطيرًا، وحين يعود يجد أن أمه قد ماتت، وهكذا ينتهي هذا الفيلم أيضًا نهاية متشائمة حزينة.
وفي الفيلم الأخير من الثلاثية، المعنون «عالم آبو» نرى أن الفتى وقد نضج سنًّا، وهو يتهيَّأ لمفارقة الجامعة بعد أن يرى أنه لا يستطيع الاستمرار في الدراسة وكسب العيش معًا. ويعيش آبو حياة حرة يجرب فيها حظه ككاتبٍ للقصة القصيرة والرواية، ويفشل في الحصول على عملٍ ثابتٍ فيعمد إلى التكسب عن طريق إعطاء الدروس الخصوصية التي لا تكاد تقيم أوده ودفع إيجار غرفته. ويأتي صديق له يدعوه إلى حضور عرس ابنة عمه في الريف، وفي الطريق يشرح له آبو معالم الرواية التي يعتزم كتابتها، وتدور حول حياته حين كان طفلًا في القرية إلى اعتزامه أن يكون كاتبًا، ويبرز فيها أن أهم شيء في الشخصية الرئيسية — ونحن نعرف أنه إنما يتحدث عن نفسه وقتها — أنه لا يزال يؤمن بالحياة وقيمتها في مواجهة الصعاب الكثيرة التي يصادفها والوحدة التي يعانيها بعد وفاة أبيه وأمه وأخته.
وفي حفل العرس في الريف، يكتشف الأهل أن العريس المنتظَر زواجه من ابنة العم مصاب في عقله، ولم يكن هناك من حلٍّ ينقذ العائلة من عدم إتمام زواج الفتاة إلا أن يحلَّ آبو محل العريس. ويتعرف الشاب على عروسه ويعجب بها، ويحملها معه إلى كلكتا ويقدمها إلى جيرانه. وينتهي الأمر بآبو إلى أن يشعر تجاهها بحبٍّ وودٍّ عميقين، وتسافر الزوجة إلى قريتها كي تضع مولودهما، إلا أنها تموت بعد قليلٍ من وضعها طفلًا، وتجتاح آبو صدمة عنيفة من جراء ذلك، تدفعه إلى الشعور بالكراهية تجاه ذلك الطفل الذي كان السبب في حرمانه من زوجته التي ركز فيها كل عالمه. ويتنقل آبو من مدينة إلى أخرى، ولا يعود إلى القرية لرؤية ابنه إلا بعد أن يدفعه صديقه إلى ذلك، وهناك في القرية تنمو عاطفة جديدة لتسيطر على آبو، عاطفة الأبوَّة حين يرى طفله وحيدًا بين عائلة أمه، في حاجة إلى العطف والرعاية. وينتهي الفيلم باحتضان الأب لأبنه مصطحبًا إياه نحو مستقبل جديد. وهكذا تنتهي الثلاثية بنغمة متفائلة في إمكانية بزوغ غدٍ أفضل أمام بطلها، قائم على دفء المشاعر الإنسانية.
إن ما يجعل هذه الأفلام متميزة في خضم العدد الهائل من الأفلام الهندية هو واقعيتها الشديدة التي تقترن في نفس الوقت بالنزعة الإنسانية التي يبرزها المخرج في كل مشهد من مشاهدها. وهي تذكِّرنا بالواقعية عند صلاح أبو سيف في بعض أعماله التي يمكن مقارنتها بهذه الثلاثية الهندية، وكذلك بالأفلام المصرية التي تعرض للريف وحياة الفلاح المصري في النصف الأول من القرن، والتي تشابه في وجوه كثيرة الحياة في الريف الهندي.
وأفضل قول نختتم به هذه المقالة هو تعليق الناقد السينمائي الأمريكي دافيد شيبمان بأن ثلاثية آبو بالنسبة للسينما — في تقديمها صورة شاملة للنفس الإنسانية — هي ما لرواية مارسيل بروست «البحث عن الزمن الضائع» من وضعٍ بالنسبة للأدب العالمي.