الفرعون الثائر
تمثِّل الحضارة المصرية القديمة وجوانبها المتعددة موضوعًا جذابًا بالنسبة للسينما العالمية، عاكسة بذلك الاهتمام العميق الذي تمارسه تلك الحضارة على كل أوجه الفنون والآداب، فضلًا عن الدراسات الدينية والعلمية والتاريخية. وكان من المُلاحَظ في الأفلام التي تناولت المصريين القدماء، الأسلوب النمطي الذي كانوا يبدون عليه، مما جعلهم أشبه بأناس هبطوا من السماء، يتحركون بصورة تمثيلية مفتعَلة تتمشى مع الأنماط التي تصف مصر القديمة في الكتب والتاريخ. ولقد شذَّ من بين هذه الأفلام فيلم «المصري» الذي أخرجه مايكل كورتيز عام ١٩٥٤م، الذي أكد في مقدمته على أن الناس غالبًا ما تنسى أن قدماء المصريين الذين شادوا حضارة شامخة منذ أقدم العصور، كانوا أيضًا بشرًا مثلنا من لحم ودم، يعيشون حياة طبيعية، ويشعرون مثلما نشعر ويتكلمون مثلما نتكلم. وقد جهد مخرج هذا الفيلم في إبراز ذلك، فنرى في الفيلم الكثير من مَشاهِد الحياة اليومية المتعددة الصور للمصريين في أواخر عهد الأسرة الثامنة عشرة التي امتد وجودها من عام ١٥٦٧ إلى ١٣٢٠ قبل الميلاد.
والفيلم مأخوذ من الرواية العالمية «سنوحي المصري» تأليف الكاتب الفنلندي «ميكا والتاري» الذي استوحاها أصلًا من قصة من قصص الأدب المصري القديم، وإن كانت تختلف عنها اختلافًا كبيرًا. فالفيلم، عن الرواية الفنلندية، يجعل من سنوحي طبيبًا يعيش في مصر القديمة إبان عصر الأسرة الثامنة عشرة، في أواخر حكم أمنمحتب الثالث وعصر أمنمحتب الرابع المعروف بإخناتون. وسنوحي رجل مثالي، يسخِّر مهنته النبيلة لعلاج الفقراء وغير القادرين، ونراه يفتتح «عيادته» في حي شعبي في «طيبة» العاصمة، ويعلق لافتة باسمه ومهنته بالهيروغليفية طبعًا! ثم يعرض الفيلم لأوجه الحياة اليومية في مصر آنذاك، بما فيها مناطق اللهو وحانات الشراب التي كانت تقوم مقام المقاهي والكازينوهات حاليًّا؛ إذ يجتمع فيها الأصدقاء للسمر وتبادل الأخبار، وهناك يصادف سنوحي الساقية ميريت «جين سيمونز» التي تحنو عليه وتحبه دون أن يدري، كما يطور صداقة مع حور محب «فكتور ماتيور» رفيق دراسته الذي يطمح إلى الالتحاق بجيش فرعون، ويذهب الصديقان معًا إلى الصحراء لصيد الأسود، ويقتل حور محب أسدًا ضاريًا كان على وشك الانقضاض على رجلٍ يتعبَّد وحيدًا في وسط الصحراء، ونكتشف أن هذا الرجل هو إخناتون، الذي يعقد مجلسه الملكي بعد ذلك، ويخلع الهدايا على حور محب وسنوحي، ويأمر بتعيين الأول ضمن حرسه، والثاني طبيبًا للبلاط مع احتفاظه بحق ممارسة مهنته التي نذر نفسه لها من أجل علاج الفقراء. ونرى كيف يبدل الفرعون الشاب من أسلوب ركوع وسجود الناس أمامه، بأن يطلب إليهم الوقوف أسوياء؛ فقد كان يبشِّر بدين جديد، قوامه الحب والعدل والمساواة، وعمادة عقيدة أساسية ثابتة، أنه لا إله إلا واحد أحد.
ويتابع الفيلم قصة حياة سنوحي، موازية لقصة فرعون إخناتون، فنرى سنوحي يندفع وراء هيامه بإحدى الغانيات الوافدات من بابل، ويفقد من أجلها بيته وبيت أبويه، إلى أن يفيق على مكرها وخداعها، وعلى غضب الفرعون عليه لعدم وجوده لعلاج ابنته، فيهرب سنوحي إلى المنفى خارج مصر، ويطوف بالممالك التي كانت قائمة في عهده، خاصة بابل، وقد فقد إيمانه بالمثاليات من جراء تفاقم الشرور التي يراها أمامه، فيتوفر على علاج الأغنياء والملوك والقادة، لا سيما في التخصص الذي برع فيه والذي تعلَّمه من أبيه، وهو جراحة المخ، وهي من الجراحات التي برع فيها أطباء مصر القديمة بشهادة التاريخ. وتقوده مهنته مرة إلى علاج ملك الحيثيين أعداء مصر، فيطلب أجرًا له سيفًا مصنوعًا من الحديد الذي لا ينكسر، وكان ذلك اختراعًا حديثًا في ميدان الأسلحة ابتكره الحيثيون، وكان يضمن لهم النصر في ذلك العصر الذي كانت السيوف تُصنَع فيه من النحاس. ويعود سنوحي إلى بلده مصر كي يحذِّر أهله من هذا السلاح الجديد، فيجد البلاد في حالة من الفوضى التي تسبَّب فيها كهنة آمون، وكان إخناتون قد نادى بديانة الإله الواحد، وألغى تعدُّد الآلهة، ومن بينهم آمون، مما أثار سخط الكهنة الذين كانوا يستمدون سلطتهم ونفوذهم وثرواتهم من عبادة آمون وغيره من الآلهة، وقد استغلوا سياسة إخناتون التي تدعو للحب والسلام ونبذ العنف والحرب لإثارة عددٍ من أفراد الشعب ضد السياسة الجديدة.
ويسعى سنوحي إلى لقاء صديقه القديم حور محب، الذي أصبح الآن قائد الجيوش المصرية، ويطلعه على اختراع السيف الحديدي الذي يُزمِع الحيثيون على استخدامه في حربهم مصر، ويصطحبه حور محب إلى بلاط إخناتون، الذي كان قد نقل عاصمة ملكه من طيبة «الأقصر» إلى عاصمة جديدة بناها للإله الواحد، وسمَّاها أخيت آتون، وتقع مكان تل العمارنة حاليًّا. ويُعتبَر المشهد الذي نراه في الفيلم لمعبد آتون، حيث إخناتون وزوجته نفرتيتي والحاشية يتعبدون لآتون — الله الواحد القهار — من أجمل مشاهد الفيلم وأشدها روعة، ويتغنى المنشدون بترنيمة إخناتون الخالدة التي تمجِّد الله وتسبِّح بحمده وتشيد بقوته وعظمته، ويعفو الفرعون في بساطة عن سنوحي، ولا يوافق قائد الجيوش على شن الحرب على الأعداء؛ فهو لا يسمح بسفك الدماء لأي سبب، ويطلب — بدلًا من ذلك — إرسال الوفود والرسائل إليهم لتفسير ما يقومون به من أعمال، ولا يجد قادة البلاد بُدًّا من التفكير في إبعاد إخناتون عن الحكم حتى يتمكَّنوا من الدفاع عن البلاد، فيقنعون طبيبه سنوحي بتقديم السم له، ويموت إخناتون بعد أن يشرح عقيدته الدينية التي نفهم منها دون لبْسٍ أنه يعتقد أن الشمس، التي يُصوَّر آتون عليها، ليست إلا رمزًا لقدرة الله الواحد الأحد الذي خلقها وخلق الكون والكائنات وكل شيء، والذي لا يمكن تصويره أو تجسيده في أي هيئة كانت. ويبلغ أثر الفيلم غايته حين تظهر على الشاشة في النهاية عبارة تذكر أن هذا الفرعون المصري قد عاش ونادى بأفكاره هذه قبل مولد السيد المسيح بثلاثة عشر قرنًا.
وشخصية هذا الفرعون العابد هي ما تجعل من هذا الفيلم علامة بارزة بين الأفلام ذات القيمة التاريخية، فإخناتون كان من أوائل الشخصيات التاريخية من غير الأنبياء والرسل التي بشَّرت بالتوحيد، بل إن هناك من الدارسين من يعتقدون أنه كان نبيًّا لم يرِد ذكره في الكتب السماوية، اعتمادًا على ما جاء في القرآن الكريم في سورة النساء وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ كذلك اختلف الدارسون في معنى كلمة «إخن» التي غيَّر الفرعون اسمه إليه، فمنهم من قال إنها تعني الرضا أو القبول، وذكر الدكتور محمد بيومي مهران، في كتبه الموسوعية، أنَّ من بين معاني الكلمة «خادم» وهي ليست بعيدة عن معنى عبد، وهكذا يتكشف لنا سر ذلك الاسم؛ فإذا كان آتون يشير إلى الله سبحانه وتعالى، فإخناتون هو … عبد الله، وترنيمة إخناتون ما هي إلا نشيد ملهم يمجِّد آلاء الله ومخلوقاته، ونجد فيه عبارات «أنت الإله الواحد الأحد الذي ليس معه سواه، وليس له نظير» (د. مهران)، ويقول النشيد أيضًا: «يا خالق الجرثومة في المرأة، ويا صانع النطفة في الرجل، ويا واهب الحياة للابن في جسم أمه، ويا من يهدئه فلا يبكي، يا من يغذيه وهو في الرحم، يا واهب الأنفاس، يا من ينعش كل ما يخلقه» (محمد بدران).
وقد بشَّر إخناتون بدين عالمي يقوم على التوحيد والتعبُّد لقدرة الخالق، والمساواة بين البشر، والرحمة بالمخلوقات، ويتبيَّن مدى إيمانه بالتوحيد من أمره بتعقُّب كل الكتابات والآثار في عهده، ومحو ما يشير فيها إلى فكرة تعدد الآلهة، وقيامه بحظر تصوير الإله في أي صورة أو تمثال، والرمز له فحسب بالأشعة التي تنطلق من قرص الشمس. وقد ترك إخناتون الفن بعد ذلك طليقًا، وأوعز إلى الفنانين في عاصمته الجديدة أن يمثِّلوا الأشياء كما يرونها مخالفين بذلك ما جرى عليه العرف أيام سطوة الكهنة «وصدع هؤلاء بأمره، وصوَّروه هو نفسه في صورة شاب ذي وجه رقيق ورأس مستطيل مسرف في الطول، وصوَّروا الكائنات الحية في تفصيل ينمُّ عن حبٍّ وعطف عظيمين، ودقة لا تسمو عليها دقة في أي مكان وزمان، وكان من أثر هذا أن ازدهر الفن أعظم ازدهار» (ول ديورانت).
وقد بقيت ثورة هذا الفرعون العابد نقطة مضيئة في تاريخ الحضارة المصرية منذ اكتشافها في القرن الماضي، وإن كان هناك الكثير من المعلومات عنها يكتنفها الغموض، وفي انتظار كشوف أثرية أخرى تلقي المزيد من الضوء على عهد إخناتون وشخصيته. ولقد كان هذا الفرعون العابد موضوعًا خصبًا لكثير من الكتابات الأدبية والفكرية، منها كتاب فرويد عن موسى والتوحيد، والمسرحية الفريدة التي كتبتها أجاثا کريستي خارج إطار رواياتها البوليسية، ثم الرواية الرائعة التي كتبها نجيب محفوظ بعنوان «العائش في الحقيقة» والتي مزج فيها بين الوقائع التاريخية الدقيقة والتكنيك الروائي القائم على وجهات النظر المختلفة التي تقيم بناء قصصيًّا متكاملًا في نهاية الأمر.
ومع هذه النفحات التوحيدية العاطرة، نأتي إلى مسك الختام لهذه المجموعة من المقالات عن الأفلام التي أهملتها أقلام النقاد، وقد حاولنا فيها تقديم عدد من الأفلام ذات المستوى الفني الرفيع، والتي تلقي الضوء على أوجه متنوعة من معالم الفن والفكر والتاريخ المختلفة.