معبودي الخائن
ويعرض الفيلم بدء تعاون سكوت فتزجيرالد مع هوليوود لكتابة سيناريوهات الأفلام. ومع أنه يبدأ في تلك الفترة المتأخرة من حياة الكاتب، إلا أنه يعرض — من خلال حوارات قصيرة وأحداث مركزة — خلفية عن حياة فتزجيرالد وتاريخه الأدبي؛ فنعرف أنه قد اضطر إلى العمل في القصص السينمائية بالتعاقد مع شركة متروجولدوين ماير من أجل توفير مورد مالي له يمكِّنه من الوفاء بالتزاماته المتزايدة في دفع مصاريف المصحة التي تنزل فيها زوجته «زيلدا» والمدرسة الداخلية الخاصة التي تتعلم فيها ابنته «سکوتي» في سويسرا. وقد تعوَّد الكاتب على حياة الإسراف الشديد، والتماس أفضل ما تقدمه الحياة العصرية من متع منذ النجاح المفاجئ والساحق الذي لاقته أولى رواياته «ذلك الجانب من الفردوس»؛ إذ حصل منها على أموال طائلة، مما ساعده على الإقامة فترة طويلة في عاصمة النور في فترة العشرينيات التي كانت باريس فيها مركزًا لتيارات الفن والأدب من كل نوعٍ وصنفٍ.
ومنذ صدور تلك الرواية الأولى، أصبح سكوت هو الممثِّل الشرعي لما أصبح يُسمَّى «عصر الجاز» الذي يمتد من عام ١٩١٩م حتى عام ١٩٢٩م. وكان سكوت فتزجيرالد كريمًا مع لِداته من شباب الأدباء الأمريكيين؛ فمن المعروف أنه هو الذي رشَّح كتب همنجواي الأولى لدى دار النشر «سكريبنر» مما أتاح له فرصة النشر والشهرة والثراء على نحوٍ فاق ما كان يتمتع به سکوت نفسه. ويعرف المشاهِد أيضًا لمحة من أمجاد فتزجيرالد وكتبه الأدبية، وهي «الجميلة والملعون» و«جاتسبي العظيم» و«رقة الليل» ومدى ذيوع صيته وشهرته حتى آخر العشرينيات. ولكن النجاح العظيم الذي لاقاه الكاتب كان قد خبا الآن، في السنوات التي يعرِض لها الفيلم، الذي يصور علاقة سكوت بالصحفية المشهورة «شيلا جراهام». فحين يدخل سكوت وشيلا إلى إحدى المكتبات للبحث عن رواياته لا يجدان أيًّا منها، ويخبرهما صاحب المكتبة أن أحدًا لا يقبِل على هذه الكتب «العظيمة» الآن، ولم تَعُد مطلوبة. كما يصاب سكوت في صميم أعماقه حيث يذهب مع شيلا لحضور مسرحية أعدَّها فريقٌ من الطلبة عن إحدى قصصه، ويقدم لهم نفسه بوصفه المؤلف، فيسمع — عَرَضًا — تعليق فتاة بأنها كانت تعتقد أن سكوت فتزجيرالد قد مات منذ زمن. وذلك حقيقي، فبعد فترة النجاح التي امتدت حتى عام ۱۹۳۰م، انقطع الإقبال على كتبه، ولم تلقَ رواية «رقة الليل» رواجًا لأنها كانت تدور حول حياة الأمريكيين في الريفييرا الفرنسية، بينما كان الشعب الأمريكي يرزح تحت عبء الكساد العظيم الذي ساد البلاد بعد الانهيار المالي عام ١٩٢٩م. ولهذا فإن السنوات الأخيرة التي يعرض لها الفيلم تمثِّل صورة مأساوية لبطلٍ تراجيدي تثير في المُشاهِد عواطف «التطهير الأرسطي». فنحن نرى المؤلف الكبير في حالة انحداره وتدهوره، ونتعاطف معه على هذا الأساس. وقد نجح المخرج والممثِّل في تصوير صراع سكوت مع بيئته ومع ظروفه التي تخذله رغم التنازلات الكثيرة التي يتحمَّلها كيما يستطيع المضي قدمًا في حياته المعيشية.
ويعرض الفيلم تعارفَ سكوت وشيلا جراهام التي كانت قد اشتهرت في تلك الحقبة بمقالاتها عن هوليوود وعن مشاهير الممثلين والفنانين، وعمودها الصحفي وبرنامجها الإذاعي اللذين جعلاها معروفة لدى جماهير عريضة من عشَّاق السينما ونجومها. وتنبهر شيلا بموهبة سكوت الأدبية، فيهديها بعض أشهر أعماله القصصية، ويحاول أن يصقل مقالاتها حتى يصل بها إلى أفضل مستوى ممكن. ولكن الأمور لا تسير على منوالٍ واحدٍ، ويدرك مديرو الاستوديوهات في هوليوود أن موهبة سكوت في كتابة الرواية الفنية ذات المستوى العالي ليست هي ما يمكِّنه من وضع سيناريوهات ناجحة تجاريًّا؛ فسرعان ما يفقد عمله، مما يدفعه إلى الإغراق في الشراب وإثارة المشاكل أمام شيلا التي لم تكن تعلم سبب النكسة التي تعرَّض لها الكاتب. وتعمل شيلا على رعايته وتشجيعه على العودة إلى الكتابة من جديد، فيستجيب لنصحها. ونراه في الفيلَّا التي استأجرتها شيلا على شاطئ البحر وهو عاكف على مشروعاته. ويتكرر فشله في الاتفاق على النشر أكثر من مرة، وفي كل مرة يعود إلى الشراب، حتى لقد حاول أن يقتل شيلا في إحدى هذه النوبات الحادة. وبعد أن تبتعد عنه فترة، يعودان معًا بعد أن وعدها بعدم العودة إلى الشراب ثانية بعد ذلك مهما حدث وقد برَّ فعلًا بوعده. وتقترح عليه شيلا أن يعود إلى الكتابة الروائية التي شهدت أمجاده، فيأخذ بنصحها ونراه وهو يكتب آخر رواياته: «الزعيم الأخير». وفي فورة حماسه ونشاطه في كتابة هذه الرواية، يتدخل القدر ليضع النهاية المأساوية للكاتب الذي هوى من ذروة مجده، فيموت إثر نوبة قلبية مفاجئة، مخلفًا شيلا في ذهولٍ وحيرة.
ونحن نعلم أن الرواية قد صدرت بعد ذلك وهي غير كاملة، وأنها لاقت نجاحًا بعث من جديد الاهتمام بسكوت فتزجيرالد وبأعماله كلها، وأصبحت كتبه منذ الخمسينيات وحتى الآن يعاد طبعها مرارًا، وتدرُّ أرباحًا عالية ثابتة، ما كان يحلم بها كاتبها حين كان في خضم أزمته المالية وصراعه مع أرباب صناعة السينما في هوليوود. ومن عجب أن هوليوود قد استدارت منذ الخمسينيات أيضًا إلى أعمال سكوت القصصية وحوَّلتها إلى أفلام ناجحة، كان آخرها أيضًا هو آخر رواياته التي أشرنا إليها سابقًا.
وأعمال سكوت الرئيسية تنبع من أحداث حياته الشخصية، فروايته الأولى تصوير لحياته وحياة جيل أيام دراسته في جامعة برنستون، وروايتاه «جاتسبي العظيم» و«رقة الليل» مستلهمتان من حياته العاصفة مع زوجته زيلدا؛ كما أن روايته الأخيرة غير المكتملة فيها ملامح رئيسية مع علاقته بشيلا جراهام. ومن الغريب أن الموضوع الذي يرِد دومًا في روايات سكوت هو الانحدار التدريجي لشخصيات ناجحة إلى هوة الفشل والإحباط، وهو ما لاقاه الكاتب في حياته الواقعية.
وكانت صلة المخرج هنري کنج بسكوت ورفاقه من شخصيات «الجيل الضائع» صلة وثيقة، فبالإضافة إلى هذا الفيلم، أخرج كنج فيلمي «ثلوج كليمنجارو» و«الشمس تشرق ثانية» من تأليف همنجواي، كما أخرج فيلم «رقة الليل» لسكوت فتزجيرالد. ومن مميزات مشاهدة مثل هذه الأفلام أنها — بالإضافة إلى المتعة الذهنية التي توفرها كعملٍ سينمائي بارع — فإنها تدفع المشاهِد إلى إكمال معلوماته عما تقدمه من موضوعات. وما زال ماثلًا في ذاكرتي يوم رأيت هذا الفيلم في القاهرة في عام ١٩٦٠م بصحبة نفر من الأصدقاء رفاق الطلب في آداب القاهرة، أذكر منهم الدكتور نبيل راغب، وكيف دفعتنا مناقشة حياة سكوت فتزجيرالد — كما رأيناها على الشاشة — إلى البحث عن كتبه وعن الدراسات التي صدرت عنه، مما أثرى معرفتنا الأدبية؛ وهذا هو شأن كل عمل فني ناجح.