الحسناء العارية
عنوان هذا الفيلم هو عنوان إحدى أشهر اللوحات في تاريخ الرسم الإسباني … رسمها الفنان الأشهر فرانسسکو جويا (۱۷، ۱۸۲۳م) مستلهمًا فيها — على أرجح الأقوال — واحدة من حِسان عصره، ماريا تيريزا — دوقة ألبا — ومن هنا جاء العنوان الذي عُرِف به هذا الفيلم بالعربية: «الدوقة العارية».
والفيلم إنتاج أمريكي من إخراج هنري کوستر (١٩٠٥–۱۹۸۸م) الذي اشتُهِر بإخراج أول فيلم بالسينما سكوب وهو فيلم «الرداء» عام ١٩٥٣م. وقد أخرج فيلمنا هذا عام ١٩٥٩م، وقام بالدورين الرئيسيين فيه آفا جاردنر (دوقة ألبا) وأنطوني فرنشيوزا (جويا). ويحكي الفيلم العاطفة التي ربطت جويا ودوقة ألبا، النبيلة الإسبانية المنحدرة من الأسرة المالكة أيامها — أواخر القرن الثامن عشر وأوائل التاسع عشر. وينسج الفيلم حول هذه القصة تصويرًا مجسدًا لتاريخ إسبانيا في هذه الفترة التي امتلأت بكبار الحوادث والثورات، إبان حكم الملك شارل الرابع الذي حفل بلاطه بالمؤامرات والدسائس التي حاكتها الملكة ماريا لويزا ورئيس الوزراء الذي اختارته على هواها: مانويل جودوي. ويسود الفيلم تصوير مدى انفصال الملك والنبلاء عن أمال الشعب وتطلعاته؛ ففي حين استسلم الملك ووزراؤه للغزو الفرنسي ولنابليون بونابرت، هبَّ الشعب عن بكرة أبيه وقاتلوا الغزاة يدًا بيدٍ مفضلين الموت على احتلال وطنهم.
ويبدأ الفيلم بالظروف التي تعرَّف فيها جويا بماريا، دوقة ألبا. وكانت الدوقة، رغم منبتها الملكي النبيل، تتمتع بأفكار ليبرالية حرة اكتسبتها عن طريقة مطالعة كتب التنوير الفرنسية التي مهدت للثورة الفرنسية، كتب فولتير وديديرو وروسو ومونتسكيو وغيرهم؛ وجعلها هذا تحس بآلام الشعب الذي كان يرزح تحت طغيان النبلاء والأثرياء ويعيش في أغلال الفقر والقهر. وكانت الدوقة — إلى جانب ذلك — تتمتع بحسٍّ فني دافق، جعلها تتذوق وتتفهَّم أسلوب جويا في الرسم الذي كان يعتبر وقتها ثورة على طرق الفن التقليدية. ونراها تدافع عن جويا ورسومه أمام الملك شارل الرابع حين كان يزور جويا وهو يرسم إحدى لوحاته المشهورة في قبة كنيسة «لافلوريدا» بمدريد، فرسم فيها شخصيات من أبناء الشعب الإسباني، كما كانوا يبدون أيامها بدلًا من رسم صور الطبقات العليا من النبلاء أو المَشاهِد الدينية من الكتاب المقدس، كما كان العرف يجري عليها في ذلك العصر. ويعجب الملك بفن جويا فيثبته رسامًا للبلاط، ويعهد إليه برسم صورة جامعة للعائلة الملكية بأسرها. وهذه اللوحة — المشهورة حاليًّا — أعجبت الملك؛ حيث إنه لم ير فيها ما يراه المشاهدون الآن سخرية الفنان من تلك الشخصيات التي كان يرسمها، بما كان يحيط بهم من قسوة وغطرسة وغباء وفساد.
وتتصل العلاقة بين جويا والدوقة. وحين تشتعل المظاهرات الشعبية في مدريد نتيجة تسرُّب خبر المفاوضات السرية بين جودوي ونابليون. تشترك فيها دوقة ألبا في تعاطفٍ منها لقضايا بلادها وشعبها الذي كان يدرك طموح الإمبراطور الفرنسي إلى ابتلاع إسبانيا ضمن ما ابتلع من بلدان أوروبا. وحين يصل إلى عِلم رئيس الوزراء الإسباني خبر أنشطة دوقة ألبا، يأمر بنفيها لمدة عام خارج مدريد، في محاولة منه لإقصائها عن أماكن الثورة. وتقيم الدوقة في ضيعة لها بقرية سولينار حيث يزورها جويا، وحيث يرسم لها معظم اللوحات التي استلهمها فيها، مخفيًا هويتها، إلا في عددٍ من اللوحات الرسمية التي رسم واحدة منها وفي يد الدوقة خاتمان عليهما الحرفان الأولان من اسميهما. وكان من بين لوحات تلك الفترة اللوحتان الشهيرتان «الحسناء العارية» و«الحسناء الكاسية».
ويعرض جودوي على الدوقة في منفاها التحالف معه في التسليم أمام جيوش نابليون وقبول تنصيبه لأخيه جوزيف ملكًا على إسبانيا فترفض رفضًا قاطعًا، فيأمرها بألا تستقبل جويا بعد ذلك في ضيعتها؛ وإلا فسيدفع به إلى محاكم التفتيش التي تسعى إلى مساءلته بسبب العثور على أشياء غير مسموح بها وُجِدَت في مسكنه عند تفتيشه دون علمه. فتضطر الدوقة إلى إيهام جويا بأنها لم تعُد تحبه، وتمثِّل مشهدًا غراميًّا مع أحد الضباط من معارفها بحيث يراهما جويا، فيعود الرسام إلى العاصمة ناقمًا عليها وعلى الوضع السياسي وعلى الحياة كلها. ويدفعه هذا الشعور المرير إلى إخراج سلسلة من الرسوم القاتمة المتشائمة، أصبحت تُعرَف باسم «النزوات»، وكلها سخرية من الأوضاع القائمة، ومن رجال الدين ومفارقات الحياة. وحين يشتهر أمر هذه الرسومات، وتُعرَض نسخ منها للبيع في المحال الفنية في العاصمة تقوم محاكم التفتيش بمصادرتها وبالقبض على جويا. وفي وقائع سير المحاكمة يتعرض القضاة لرسومات جويا تلك، وأيضًا للوحة «الحسناء العارية» باعتبارها خروجًا على القواعد الدينية والتقليدية. ويُطلِق جويا صيحة مدوية في وجه هذه الاتهامات: أنا فنان … أنا أرسم ما أراه … وما أشعر به. إن جمال المرأة، هو جزء من جمال الوجود، فإن كان فيها ثمة شر فهو في عين المُشاهِد لا في اللوحة ذاتها.
وتتدخل الدوقة لدى الملك، فتكتفي المحكمة بتوجيه اللوم والإنذار إلى جويا وتطلق سراحه، وفي نفس الوقت، ينتاب جودوي الغضب ليأسه من إقناع الدوقة بالتحالف معه. فيأمر أتباعه بتنفيذ خطة لقتلها بسمٍّ بطيء المفعول بحيث لا يترك أثرًا، وحين تشرف الدوقة على الاحتضار، يعرف جويا أنها لم تنقطع يومًا عن حبه. وإن ما حدث منها في ضيعتها لم يكن إلا تدبيرًا أرادت به أن تنقذه من سطوة رئيس الوزراء الباطشة. فيهرع إليها نادمًا معبِّرًا عن حبه لها، ولكنها تموت بين يديه وهما يتذكران مسارح حبهما، وكان آخر ما قالته له: «إني أتركك لأجمل ما أحببت في حياتي … أنت، وإسبانيا.» وينتهي الفيلم والشعب الإسباني في ثورة طاغية بعد أن احتل نابليون البلاد ونصب أخاه جوزيف ملكًا على إسبانيا.
وقد قام كاتب السيناريو والمخرج بتغيير بعض الوقائع التاريخية كي يقدِّما قصة عاطفية محكمة الحبكة الدرامية، بما يصاحبها من أحداث واقعية، وهما قد استخدما في ذلك ما يُطلَق عليه اصطلاح «الرخصة الفنية» وهي ما يوازي الرخصة الشعرية، أي التجاوز عن الواقع التاريخي في سبيل الشكل والمضمون الفنيين الخالصين، وعذرهما في ذلك أنهما لا يقدمان فيلمًا تسجيليًّا عن جويا أو عن تاريخ إسبانيا في تلك الفترة، بل يقدمان عملًا دراميًّا قد يختلط فيه الواقع بالخيال. ومن ذلك ما هو معروف من أن دوقة ألبا، وإن كانت قد ماتت حقًّا في ريعان شبابها — ومسمومة على ما يقال — إلا أن ذلك كان عام ۱٨٠٢م، قبل أن تدخل جيوش نابليون إسبانيا وتعزل الملك شارل الرابع وخليفته فرديناند السابع وتضع جوزيف بونابرت مكانهما. وثمة اختلافات أخرى هنا وهناك، بل إن نسبة اللوحتين «العارية والكاسية» لدوقة ألبا محل شك رغم ترجيح أنهما لها، إلا أن ما يقدمه لنا الفيلم من أجواء إسبانية أصيلة ولوحات فنية رائعة وتمثيل بالغ القوة والاتقان لما يعوض عن تلك المفارقة الزمنية الواضحة.