مونبارناس ١٩
يتضح موضوع هذا الفيلم الفرنسي من الاسم الآخر الذي أطلِق عليه حين لم يحرز النجاح الذي يستحقه عند عرضه عام ١٩٥٨م، وذلك الاسم هو «موديلياني»؛ إذ إنه يصور السنوات الأخيرة من حياة الرسام الإيطالي المولد الفرنسي النشأة أماديو موديلياني (ويُنطَق أحيانًا موديجلياني). وقد كانت حياة هذا الرسام، مثله في ذلك مثل معظم فناني عصره، حياة قلقة مضطربة، انتهت بإصابته بداء الرئة الذي قضى عليه ولم يتعد عمره السادس والثلاثين (١٨٨٤–۱۹۲۰م). ومونبارناس هو حي الفنانين — والرسامين خاصة — في باريس في العقود الأولى من القرن العشرين، قبل أن تنتقل زعامة الفن إلى أماكن أخرى في عاصمة النور. أما رقم ١٩ فيرمز إلى العام الذي تقع فيه معظم أحداث الفيلم ١٩١٩م. والفيلم من بطولة أشهر ممثِّل فرنسي في عصره، جيرار فيليب (۱۹۲۲–١٩٦٠م) وأنوك إيميه وليلي بالمر ولينو فنتورا.
وكان من المقرر أن يخرِج هذا الفيلم المخرج ماكس أوفيلز، غير أن مرضه حال دون ذلك بعد أن مضى في التحضير له شوطًا طويلًا. وانتقلت عملية الإخراج إلى جاك بيكر تلميذ جان رينوار؛ فبدأ فيه من جديد، وأجرى تعديلات جذرية في خطته السابقة، كان أغربها تحويله من فيلم ملون إلى فيلم بالأبيض والأسود، مما نال في النهاية من قيمته الفنية؛ إذ إنه يعالج حياة رسام عالمي، أي إن الأساس في فنِّه هو الألوان التي يختارها ويمزج بينها لتخرج في النهاية اللوحة التي يريدها، مما حرم مشاهدي الفيلم من التمتع بالنظر إلى لوحات الرسام في أصلها الملون.
ويبدأ الفيلم في مقهى من مقاهي مونبارناس، ويتعرَّف الجمهور على الموضوع الأساسي الذي يبين ما وراء الفيلم من أول مشهد فيه: موديلياني يقوم برسم كروكي لأحد الرواد مقابل دفع مشروباته هو وصحبه. ولكن الرسم لا يعجب الرجل لأنه جاء بأسلوب الفنان وليس بأسلوب المصور الواقعي. فيعيده إلى الرسام، ويصر — رغم ذلك — على دفع الثمن، ولكن الفنان يرفض ذلك في إباء وحياء. وهكذا تستبين النغمة الغلَّابة التي ستتكرر طوال الفيلم: غرابة الفنان الأصيل وسط مجتمع لا يفهمه، وكبرياؤه التي تمنعه من الهبوط التجاري في فنِّه حتى يستطيع مجاراة الحياة في المجتمع الحديث.
ويمضي الفيلم مصورًا الحياة اليومية للفنان، ونواحيها الغريبة کاهتمامه بدفع صدقات للمساكين من الفنانين رغم فاقته، وإدمانه الدائم على الشراب، ويبيِّن علاقته بصحفية أمريكية ثرية (ليلي بالمر) أثَّرت في حياته الفنية، وكتبت عنه مقالًا نقديًّا. ثم تلفت نظر موديلياني رسامة شابة في أكاديمية جوليان التي كان يتردد عليها (وهي بالمناسبة الأكاديمية التي التحق بها جبران خليل جبران في أثناء إقامته بباريس في الفترة ١٩٠٨–١٩١٠م) وتلك الرسامة هي جين إبيترن التي قضت معه آخر سنوات حياته، والتي هجرت أسرتها المحافظة لتعيش مع «مودي». وبداية اللقاء بينهما يُظهِر أيضًا خصائص الفنان وحبه للسير تحت المطر المنهمر على الرغم من ضرر ذلك على صحته، وحياته البوهيمية التي لا تلتفت إلى المظهر، بل هو يمضي إلى حيث تقوده مشاعره وأحاسيسه الفنية وراء الجمال وتلمسًا للإلهام.
وينتقل «مودي» إلى نيس بجنوب فرنسا طلبًا للاستشفاء، حيث تلحق به جين بعد فرارها، ثم يعودان للعيش في حجرة الفنان المتواضعة المليئة بلوحاته، حيث يبدأ فترة إنتاج غزير يرسم فيها أشهر لوحاته المعروفة الآن عالميًّا، ويتجمَّع لديه ما يكفي لإقامة معرض للوحاته في إحدى قاعات العرض بقلب باريس. وبعد ليلة الافتتاح، ينفض الجمهور عن المعرض، ولم تُبَع من لوحات الرسام سوى حفنة قليلة اشتراها الأصدقاء، ثم تجيء الضربة القاصمة حين تعترض شرطة باريس، أيامها، على إحدى لوحات موديلياني العارية المعروضة في فترينة الجاليري، من عجب أن نفس هذه اللوحة تُعَد الآن من تحف الفن الحديث، ويتوافد الزوار لمشاهدتها من جميع أنحاء الدنيا.
وينحدر الفنان في طريق عذاباته الدنيوية بالانغماس مرة أخرى في الشراب.
وتجيء ذروة الفيلم حين ينجح جار مودي وراعيه الحميم في عقد موعد مع مليونير أمريكي، جامع للوحات المشاهير من الفنانين، وهو في زيارة لباريس لهذا الغرض. ويتبادل موديلياني حوارًا عن فن الرسم مع المليونير، يذكر فيه الفنان أنه لا يرسم مناظر طبيعية، وأن «فان جوخ» قد قال مرة إنه يفضِّل أن يرسم عيون الرجال والنساء عن أن يرسم الكتدرائيات:
مودي: ذلك لأنه يرى في عيون الإنسان ما لا يراه في الكتدرائيات.
ويعجب المليونير بلوحات موديلياني عند عرضها عليه، ويعلِّق على واحدة منها بأنه سوف يجعل منها رمزًا لعطرٍ جديد ينوي طرحه قريبًا في الأسواق، ويذهل موديلياني، ويقول: وستكون اللوحة في الإعلانات والملصقات في الأسواق العامة، وفي المترو وفي دورات المياه. ثم يهبُّ مذعورًا ويرتدي قبعته ويهرول خارجًا، وينتهي اللقاء طبعًا دون أن يشتري المليونير شيئًا. وفي المنزل، يحس مودي بمدى الغبن الذي جلبه على جين بسلوكه الذي حرمها من أبسط مستلزمات الحياة؛ فيتناول بعض رسومه ويمضي إلى آخر عذاباته، يطوف بمقاهي مونبارناس عارضًا نفسه بصوتٍ واهنٍ: «وأنا موديلياني، الرسم بخمسة فرنكات»، وتماثل هذه الجولة المعذبة طريق الآلام الذي يجب عليه عبوره. ويعامله الجميع كالمتسول، فيمضي إلى الطريق المغلَّف بالضباب، يتبعه أحد تجار اللوحات، حتى إذا سقط منهكًا، نقله إلى المستشفى العمومي حيث يلفظ أنفاسه الأخيرة. وتاجر اللوحات ذاك كان يدرك جيدًا القيمة الفنية العالية للوحات موديلياني، ولكنه كان في انتظار موت الفنان كيما تتضاعف قيمة لوحاته في سوق الفن التي لا تعرف رحمة؛ فيسرع إلى شقة الفنان حيث ينتهي الفيلم وهو يشتري من جين كل اللوحات دون أن تعلم أن مودي لم يعُد حيًّا ليستمتع بنجاحه التجاري الذي أحسَّ به تاجر اللوحات وخطط له.
ويبقى بعد هذا العرض الإشادة بجودة تمثيل جيرار فيليب وأنوك إيميه، اللذين كانا يعيشان دوريهما حقيقة دون أن يشعر المشاهِد بأي افتعال أو تمثيل.