شاعر شهير وزواج تعيس!
الفيلم الذي يعالج هذا الموضوع فيلم حديث ظهر عام ١٩٩٥م، ولكنه لم يلقَ رواجًا كبيرًا رغم موضوعه المهم، ربما بسبب عنوانه المبهم وهو «توم وفيف» الذي يشير إليه العنوان هو توماس ستيرنز إليوت، المعروف باسم ت. س. إليوت الشاعر الأشهر، وفيف هي فيفيان زوجته الأولى. والفيلم إنتاج بريطاني من إخراج بريان جيلبرت، وتمثيل وليم دافوا وميراندا ريتشاردسون. ويحمل الفيلم ملاحظة أولية تظهر على الشاشة بأنه مهدًى لذكرى فيفيان إليوت، وإلى أخيها موريس هيجود الذي بفضله أمكن سرد قصتها، ومن هنا يفهم المشاهِد ضمنًا أن القصة تقدَّم من وجهة نظر هذا الأخ، ويبدو أثر ذلك في الدور الكبير نسبيًّا الذي يحتله في الفيلم، وإن كان ذلك لم يؤثر في توجيه أصابع الاتهام إليه وإلى فيفيان نفسها للنهاية المأساوية التي انتهت بها علاقة الشاعر بزوجته الأولى.
ويركز الفيلم على علاقة إليوت بفيفيان، وتطور هذه العلاقة حتى نهايتها، ولا يشير إلى غير هذا الموضوع من حياة الشاعر إلا قليلًا، وهذا القليل يأتي في شكل إشارات عابرة وعبارات موجزة، ولهذا فإن الفيلم يلقى تفهُّمًا أكبر من الملمِّين بطرفٍ من حياة إليوت وشِعره ويزيد من استمتاعهم به. بَيْدَ أنه — بغض النظر عن ذلك — يقدم حبكة درامية عن الأثر الذي تمارسه زوجة محبَّة على حياة زوجها الفنان وعلى إبداعه نتيجة للاضطراب العصبي الذي تصاب به. ويبدأ الفيلم حين كان إليوت — الذي وُلِد في سان لويس بالولايات المتحدة وأتمَّ دراسته الجامعية في هارفارد الأمريكية — قد سافر إلى إنجلترا عام ١٩١٥م، واستقر به المقام في جامعة أكسفورد، ويتعرَّف — آنذاك — على فيفيان هيجود التي تلفت نظره بحيويتها الفائقة وذكائها ونشاطها الخارقين للعادة فيقع في حبها، ويتزوجان في فورة العاطفة، دون أن يلتفت الشاعر الشاب إلى تليمحات موريس شقيق عروسه عن حالة شقيقته الصحية. وتتبدى مشاكل الزوجة منذ الأيام الأولى للزواج، فذلك النشاط والحيوية مظاهر عصبية شديدة وحساسية أشد تعاني منها فيفيان؛ مما يدفع بها أحيانًا إلى القيام بأفعالٍ عدوانية عنيفة مع من يحيطون بها. ونرى على مرِّ الفيلم نماذج لتلك الأفعال غير الطبيعية، التي يقابلها إليوت بهدوء ظاهري وبذلك «الابتعاد» الذي اشتُهِر به طوال حياته! رغم الأثر السيئ الذي كان يتركه ذلك على عمله وصحته ومستقبله.
ويعمل إليوت مدرسًا أول الأمر، ويقيمان لدى صديقه برتراند راسل الذي لا يخفي إعجابه بفيفيان، وينتقل الشاعر للعمل في بنك لويدز بلندن في وظيفة كتابية صغيرة، ولكنها تتيح له بعض الوقت لإبداعه الشعري والنقدي. ومن دواعي الأسف أن الفيلم لا يتعرَّض كما يجب للأعمال التي اشتُهِر بها إليوت، عدا بعض مقاطع من قصيدته الشهيرة «الأرض الخراب» وعبارته المشهورة التي تأسَّس عليها مذهبه النقدي: «إن الشِّعر ليس التعبير عن انفعال بل هو الهروب من الانفعال.» أي أن الفن لا يكمن في التعبير المرسل عما يشعر به الفنان من أحاسيس، بل هو خلْق من جديد لهذه الأحاسيس في شكل عمل فني موضوعي قائم بذاته.
ومما لا شك فيه أن حياة إليوت المضطربة مع زوجته، وعدم وجوده في الوظيفة المناسبة قد أثَّرا على النهج الدرامي المأساوي لقصيدة «الأرض الخراب» التي أصبح بها على رأس الشعراء المحدثين، وترك بصماته — عن طريقها — على أجيال كاملة من الشعراء في العالم أجمع، بمن فيهم الشعراء العرب. ونحن نعرف أنه بعد نشر تلك القصيدة عمل إليوت في تحرير عدد من المجلات الأدبية تباعًا، إلى أن كلَّل سعيه الأدبي والوظيفي بالانضمام محررًا لدى دار النشر الكبرى «فابر» التي عمل في مجلس إدارتها حتى وفاته في ١٩٦٥م.
ثم يبدأ الفيلم في الكشف عن المأساة الرئيسية، حين يرى إليوت أن بقاءه مع زوجته على هذه الحال يزيد من مشاكلها ومشاكله في الوقت نفسه، ويعلن الأطباء أن فيفيان مصابة بنوعٍ من الاختلال العقلي نتيجة حدة الذهن الفائقة، ويوصُون بضرورة إيداعها إحدى المصحات العقلية. ويعرض الفيلم بعض الأحداث العنيفة التي أرغمت زوجها وأسرتها على القيام بذلك في آخر الأمر، منها أن فيفيان أشهرت مطواة في وجه الكاتبة المعروفة فرجينيا وولف حين صادفتها في الطريق ورغبت في تحيتها. وحين لم يعُد إليوت يتحمَّل أكثر من ذلك، انتهز فرصة ذهابه إلى أمريكا خلال عامٍ لإلقاء محاضرات في هارفارد کي يبدأ إجراءات الانفصال الرسمي عن زوجته، ومنذ سفره عام ١٩٣٢م، لم يعُد إليها أبدًا بعد ذلك؛ واختفى من حياتها إلى الأبد، وقد زاد هذا طبعًا من مرضها إلى الحد الذي اضطرَّت معه الأسرة إلى نقلها عام ١٩٣٦م إلى مصحة عقلية خاصة بقيت فيها إلى أن تُوُفيت عام ١٩٤٧م. وطوال هذه الفترة لم يقم إليوت بزيارتها مرة واحدة، كما لم يهتم أحد بأمر إخراجها من تلك المصحة.
ويزيد من الشعور المأساوي للقصة العلم بأن مرض فيفيان هو من النوع القابل للعلاج أو على الأقل للسيطرة عليه، عن طريق الأدوية الحديثة وطرق العلاج النفسي التي تقدَّمت تقدُّمًا هائلًا في العقود الأخيرة من القرن العشرين، ولكنها كانت ضحية عصرها وظروفها. وهذه الحالة — حالة الفنان الذي تصاب زوجته بالاضطراب العصبي أو العقلي الحاد الذي يتدخل في موقفه الإبداعي — حالة شائعة ولا بد أن لها جذورًا في طبيعة العلاقة بين نفسية زوجة فائقة الحساسية ونجاح زوجها وتألُّقه على الصعيد الفني، وهو موضوع يمكن للعلماء النفسيين إلقاء أضواء أكبر عليه. ونحن نجد أمثلة مشابهة لحالة إليوت مع زوجته فيفيان في نماذج أخرى عديدة، منها: لورانس أوليفييه وفيفيان لي، حيث اضطر أوليفييه أيضًا إلى الانفصال عن زوجته الممثلة الشهيرة بعد انزلاقها إلى هاوية المرض النفسي، وسكوت فيتزجيرالد وزوجته زيلدا، والنحات الفرنسي رودان في علاقته مع كاميليا كلوديل، بل ويمكن أيضًا إدراج زواج أرثر ميللر ومارلين مونرو في هذه القائمة.
ولقد كان مخرج فيلم «توم وفيف» ناجحًا في اختيار الممثليْن الرئيسيين لفيلمه؛ فقد أدت ميراندا ريتشاردسون دورها ببراعة استحقت معها ترشيحها لجائزة أفضل ممثلة. كما كان وليم دافو مقنعًا تمامًا في دور إليوت، خاصة وهو يشبهه في فترة شبابه إلى حدٍّ كبير.
وقد تزامن اختياري لهذا الفيلم عن حياة ت. س. إليوت مع حدثيْن أخرين مهمَّين يتعلقان بهذا الشاعر العظيم. أوله «مسرحة» قصيدته المهمة «الأرض الخراب» على صورة تمثيلية درامية يقوم بها شخص واحد، ويجرى تقديمها الآن بنجاحٍ على مسرح بنيويورك. وهذه فاتحة تجريبية جديدة بعد النجاح المستمر للعرض الغنائي «قطط» المأخوذ عن كتابه الشعري.
وثاني هذين الحدثيْن هو صدور الترجمة العربية للقصائد الكاملة للشاعر الكبير مع شروح وهوامش إضافية للدكتور ماهر شفيق فريد المترجم الأمهر، وأحد الأدباء الذين وهبوا حياتهم لمتابعة الفكر والفن والمعرفة في دأبٍ وصمتٍ، ولقد طالعت نُدفًا من الترجمة التي قام بها سميي حين بدأ في إخراجها في أواخر الستينيات وراعني جمالها. وقد صدرت الآن بعد أن أعمل فيها المترجم الكثير من الصقل والتجويد، فجاءت مثالًا على العمل الفني الذي نضج وأتى ثماره على خير وجه، ولَسوف تسهم هذه الترجمة الفريدة في متابعة دراسة الأثر الذي تركه إليوت في أجيال عديدة من الشعراء العرب المحدثين، على نحو ما أشرت إليه في سياق هذا المقال.