ليالي الفن في فيينا
برزت فيينا في فترة أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كعاصمة حية تزخر بالفنون والعلوم من كل نوع. وكانت وقتها عاصمة إمبراطورية النمسا والمجر التي كانت تضم أجزاء من ألمانيا وإيطاليا ودول شرق أوروبا الحالية، والتي استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في ۱۹۱۸م، حين انهزمت الإمبراطورية وتم تقسيمها إلى ست دول منفصلة.
وقد شهدت فترة نهاية القرن المذكور نشاطًا ثقافيًّا وفكريًّا باهرًا يضارع ذلك النشاط الذي كانت تعج به باريس عاصمة النور في نفس الحقبة. وفيينا هي التي كانت متفوقة دائمًا في مجال الموسيقى؛ إذ شهدت أسماء أساطين مثل بيتهوفن وموزار وليست وفاجنر وبرامز وشتراوس، ثم موضوع فيلمنا: جوستاف مالر (١٨٦٠–۱۹۱۱م). و«مالر»، فيلم أمريكي أخرجه عام ١٩٧٤م كين راسل الذي تخصص في الأفلام الفنية، وخاصة عن مشاهير الكلاسيكية، وهو ينحى دائمًا منحى رمزيًّا ونفسيًّا في تناول شخصيات أفلامه. وهذا الفيلم نموذج فريد في كيفية تأثر الفنون المختلفة ببعضها البعض فقد اتَّبع راسل — الذي كتب سيناريو الفيلم أيضًا — مناهج الرواية الحديثة في تقديم فيلمه، مستعينًا بمزيجٍ من تيار الوعي، والفانتازيا، وتداعي الخواطر، في عرض قصة ذلك الموسيقار العالمي. فمثلًا يبدأ الفيلم بمنظر الكوخ الذي بناه مالر في منطقة بحيرة «أتيرسي» في أجمل المناطق الطبيعية بالنمسا ليجعل منه محرابًا يكتب فيه مؤلفاته الموسيقية، ثم نرى حريقًا يشبُّ في الكوخ ويلتهمه التهامًا، ونعود لنجد مالر — ويمثِّله في الفيلم ويليام باول — نائمًا في مقصورة قطار، فنعرف أنه كان يحلم. وأحلام الموسيقار نابعة دائمًا من اللاشعور، ومن مخاوفه الدفينة، ومن ذكريات الطفولة المترسِّبة في أعماقه. وقد ساعد المخرج على تقديم هذا الجانب النفسي الطاغي في فيلمه أن مالر نفسه قد توجه في طور من أطوار حياته إلى مواطنه سيجموند فرويد التماسًا للعلاج النفسي في عام ۱۹۱۰م.
والفيلم كله رحلة قطار يقوم بها مالر وزوجته «ألما» (۱۸۷۹–١٩٦٤م) — التي تقوم بدورها جورجينا هيل — إلى فيينا بعد عودته النهائية من نيويورك مريضًا منهكًا عام ١٩١١م، حيث تُوُفي بعد ذلك بمدة قصيرة. وفي رحلة القطار، تنهال الذكريات والهواجس وأحلام اليقظة والأحلام الحقيقية على عقل البطل فيجسِّدها لنا المخرج كأحداث خارجية، إلى أن نعود في كل مرة لنرى مالر في مقصورته بالقطار في نفس الوضع الذي تركناه عليه. فمرة تطوح به ذاكرته إلى فترة الطفولة، فنراه صبيًّا وسط عائلته اليهودية حيث كان أبوه يعمل في صناعة صغيرة للتقطير، قاسيًا على زوجته وأولاده، بَيْدَ أنه حين يرى نبوغًا مبكرًا خاصًّا لدى جوستاف في العزف الموسيقي يوفر له أجر الدروس الخاصة التي يحتاجها لتطوير موهبته. وبالفعل، ينجح مالر في الالتحاق بكونسرفتوار فيينا عام ١٨٧٥م، وهو في الخامسة عشرة من عمره، ويتخرج فيه بامتياز بعد ثلاث سنوات من الدراسة المثمرة. ويعمل بعد تخرُّجه بتدريس الموسيقى، ثم كقائد أوركسترا في عدد من مدن الإمبراطورية، في ليبزج وميونيخ وبراج وبودابست، بَيْدَ أنه كان يعود من آن لآخر إلى فيينا لينهل من معينها الموسيقي والفني بصفة عامة. ثم يبدأ في تحقيق الهدف الذي وضعه نصب عينيه، ألا وهو التأليف الموسيقي، فأخرج سيمفونيته الأولى عام ۱۸۸۸م، وتتابعت بعدها مؤلفاته الموسيقية، وأبرزها السيمفونيات التي تواترت حتى آخر حياته. وكان مالر يخصص فترة الصيف للتأليف الموسيقي، بينما ينشغل بقية العام بالقيادة الأوركسترالية التي كانت تأخذه إلى بلدان شتى، والتي كان يعتمد عليها أساسًا في توفير دخل ثابت له ولأسرته.
وفي غفوة أخرى في القطار، يمر مالر بكابوس رهيب يصور موته وجنازته؛ وينقله ذلك الحلم — في تداعٍ للأفكار — إلى اليوم الذي ماتت فيه ابنته الكبرى «ماريا» ولم تكمل عامها السادس، وقد اقترن ذلك الحدث الحزين بأولى النوبات القلبية التي تعرض لها الموسيقار، الذي قضت عليه في النهاية مضاعفات علة قلبية. وقد سيطرت فكرة الموت على مالر حتى قبل وفاة ابنته، فقد وضع كثيرًا من المقطوعات عن ذلك، كما أن سيمفونيته التاسعة مشبَّعة بهذه الفكرة المتسلطة. ورغم أنه يقول في الفيلم إنه لا يكترث بالمقولة التي تنادي بأن كبار الموسيقيين لا يتعدون أبدًا الرقم تسعة في سيمفونياتهم، فهو قد تُوفي فعلًا بعد وضع سيمفونيته التاسعة وخلال عمله في السيمفونية العاشرة التي لم يتمَّها.
ونعود إلى عام ١٨٩٧م الذي يشهد حصول مالر على أمنية حياته بتعيينه مديرًا لأوبرا فيينا؛ ويتواكب هذا الحدث مع تحوله الرسمي من الديانة اليهودية إلى الكاثوليكية. ويصور الفيلم هذا التحول الديني في مشهدٍ رائعٍ من الصراع النفسي العنيف الذي يبلغ قمة التجريد الرمزي. وتبرز موهبة مالر الإدارية والتنظيمية إلى جوار موهبته الفنية في الصرامة التي أخذ بها على عاتقه تنظيم أوبرا فيينا وقيادة الأوركسترا بها، وأصبح معروفًا بدقته البالغة في تناول تلك الأمور. وقد وصلت شهرة مالر إبان هذه الفترة إلى درجة رفيعة بين مواطنيه وفي الخارج على السواء، وأنجز خلالها سيمفونياته من الرابعة إلى الثامنة، بالإضافة إلى كثير من الأغاني والمقطوعات القصيرة. وقد استمر في منصبه في أوبرا فيينا حتى عام ١٩٠٧م حين استقال تحت ضغوط أجواء الوشايات والدسائس التي كانت تحاك ضده من منافسيه وحسَّاده. وقد ترك فيينا إلى نيويورك في نوفمبر من نفس العام بعد أن قبِل منصب مدير أوبرا المتروبوليتان، ثم أوركسترا الفلهارموني في نيويورك، وهما من أرفع المناصب الموسيقية هناك. ومكث في أمريكا أربع سنوات، مع زيارات دورية إلى أوروبا ولا سيما فيينا، وباريس التي مرَّ بها عام ١٩٠٩م، وجلس إلى النحات العالمي رودان کي يصنع له تمثالًا نصفيًّا. ولازمته في نيويورك نفس الدسائس والمنافسات والمؤامرات التي تحيط بكل فنان ناجح خاصة وأن الموسيقار الإيطالي المشهور توسكانيني كان يعمل معه أيضًا في أوبرا نيويورك، ولكن ما حمله على ترك عمله في نيويورك هو تردي حالته الصحية التي اضطرته إلى الاستقالة والتوجُّه إلى فرنسا طلبًا للعلاج في معهد باستير الشهير. وكان الكاتب النمساوي المعروف ستيفان زيفايج من ركاب نفس السفينة التي أقلت مالر إلى فرنسا، وكتب عن حالته قائلًا: «وأخيرًا رأيته. كان يرقد هناك، شاحبًا شحوب الموت، بلا حراك، وعيناه منغلقتان.» وفي فرنسا، أخذ مالر يضع خططًا للاستشفاء في مصر للاستفادة من جوها الساحر، ولكن القدر لم يمهله؛ إذ أمره طبيبه بالتوجُّه فورًا إلى مصحة في فيينا — وهي الرحلة التي يعرضها الفيلم — حيث تُوفي هناك في مايو ۱۹۱۱م.
وأكثر ما يركز عليه الفيلم بطريقة غير مباشرة هو علاقة مالر بزوجته ألما التي تظهر معه طوال رحلة القطار. ونتبيَّن من ثنايا الحوار بينهما طبيعة العلاقة التي ربطت بين الاثنين. كانت ألما واحدة من أجمل فتيات فيينا، ابنة رسام معروف هو إميل شندلر، وكانت هي نفسها ذات موهبة موسيقية واعدة. وقد تحلَّق حولها، وهام بها، عدد من كبار فناني عصرها (فكأنما هي «مي زيادة» أخرى) وخاصة اثنين منهم: أولهما الرسام جوستاف كليمت، وهو من أبرز رسامي عصره ونال شهرة عالمية، والثاني هو الموسيقار إسكندر زملنسكي. غير أن ألما بهرت بعبقرية مالر وبشخصيته حين تعرفت عليه، ووقعت في غرامه، رغم فارق السن بينهما، وتزوجا عام ١٩٠٢م. وقد حمل مالر زوجته على التخلي عن أمالها الموسيقية والتفرغ له ولعمله، غير أنه لم ينجح في إبعاد المعجبين بألما الذين كانوا يلتفون حولها في كل وقت؛ وهذا ما جعل الموسيقار في حالة دائمة من الغيرة الهادئة على زوجته، ووسم علاقتهما بالعصبية والتوتر اللذين استبانا بوضوحٍ في طريقة التعامل بينهما خلال رحلة القطار في الفيلم. ورغم أن ألما مالر قد تزوجت مرتين بعد وفاة الموسيقار، فإنها لم تُشتهَر إلا بوصفها زوجة جوستاف مالر، الذي كتبت عنه كتابًا ونشرت رسائله إليها. وقد أجمع كل من كتبوا عنها بأنها كانت تشعر دائمًا بأن علاقتها بمالر هي أعظم حدث في حياتها كلها.
وقد شهدت موسيقى مالر فترة من الركود والنسيان استمرت إلى ما بعد الحرب العالمية الثانية. ثم بدأت سيمفونياته تُبعَث من جديد، وساعد على ذلك فيلم آخر مشهور هو «الموت في البندقية» للمخرج الإيطالي فيسكونتي، الذي تناول شخصية مالر وهيامه بفكرة الجمال الخالص، عن قصة لتوماس مان عرضها الفيلم على خلفية من موسيقى مالر في سيمفونيتيه الثالثة والخامسة، واطردت شهرة مالر في كل الأنحاء، حتى تُوِّجت عام ١٩٩٥م باحتفالية ضخمة بالموسيقار النمساوي استمرت عدة أشهر في حاضرة الدنيا، وقد استمتعنا خلالها بكل ما يتصل بمالر من أعمال.
وإذا كنا في مصر أليفين بكثير من جوانب تلك الفورة الثقافية في فيينا في تلك الفترة، من موسيقى شتراوس ودانوبه الأزرق، ومؤلفات فرويد، وأدبيات وتاريخيات ستيفان زفايج، فإن اثنين لم يأخذا حظهما من الذيوع عندنا بما فيه الكفاية، وهما مالر وكليمت. وأنا أذكر أن الدكتور حسين فوزي قد قدم عددًا من مقطوعات مالر في برنامجه الموسيقي قديمًا، ولكنه لم ينتشر بين مثقفينا على النحو المرجو. أما كليمت فلعل مجلاتنا الفنية والثقافية تهتم به وبلوحاته وأسلوبه الفني، فقد أصبح له الآن مكانه الثابت في تاريخ التصوير الحديث، ولا يخلو أي كتاب أو مرجع فني من لوحاته، خاصة أشهرها بعنوان «قبلة».