الجزائر … بين فيلمين
عرض مهرجان الفيلم العربي في نيويورك فيلمًا جزائريًّا للمخرج مرزاق علواش دعانا إلى رؤية المزيد من أفلام هذا المخرج الذي انطلق بأفلامه عالميًّا، خاصة وأن مهرجان القاهرة السينمائي الأخير عرض له فيلمه الأخير «مرحبًا يا ابن العم». وقد أهداني أحد الأصدقاء فيلمًا آخر لعلواش ظهر عام ١٩٩٤م هو «باب الواد» وهو اسم حي في الجزائر، تزامنت رؤيتي له مع إعادة مشاهدة فيلم «معركة الجزائر» الذي أُنتِج عام ١٩٦٦م، فقفز إلى ذهني عرض سريع للجزائر ما بين هذين الفيلمين.
ويتعرض فيلم علواش لقضية شديدة الحساسية، وهي بروز ظاهرة التطرف الديني في الآونة الأخيرة على نحوٍ يتعرض للعلاقات الاجتماعية والإنسانية بين الأفراد. ولا عجب في ذلك؛ فالجزائر من بين الأقطار التي ابتُليت بهذه الظاهرة بصورة عنيفة، تصاعدت منذ منتصف الثمانينيات حتى وصلت إلى ذروتها عند كتابة هذه السطور، ولا يعلم إلا الله متى وكيف تنتهي. والفيلم يعرض لهذه القضية في صورة فنية اجتماعية تبتعد عن مجال الوعظ المباشر، فيصور شريحة من الحياة اليومية في حي فقير من أحياء الجزائر، تركز على مجموعتين من الشباب يمثلان اتجاهين مختلفين تجاه الحياة. المجموعة الأولى — وهي الغالبية — تعيش حياة طبيعية، تعمل وتحب وتحلم وتتفاعل مع المجتمع، والمجموعة الأخرى زمرة تتبنى قضية التدين، وتحاول فرض آرائها ونمط حياتها على الآخرين ولو عن طريق القوة والترويع.
ويبدأ الفيلم بداية قصصية من خلال رسائل تكتبها البطلة يامينة إلى حبيبها بوعالم الذي رحل عن الجزائر منذ ثلاث سنوات بعد مشاكله مع المتطرفين باحثًا عن مستقبل أفضل، على وعدٍ بالعودة ليأخذها معه هناك. وتذكر يامينة في رسالتها ذلك اليوم المشئوم الذي كان بداية للوقائع التي دفعت بوعالم إلى الهجرة من بلده. وكان يومًا قائظًا في الفترة التي تلت اضطرابات أكتوبر ۱۹۸۸م، التي شهدت مصرع الكثيرين من أبناء الحي والقبض على البعض الآخر. كان بوعالم يحاول النوم عبثًا من صوت مكبر الصوت الممتد من مسجد الحي والمعلَّق على سطح البيت إلى جوار شقته. وينتهي به الأمر إلى النهوض بعصبية وانتزاع المكبر من مكانه حتى يتوافر له الهدوء الذي ينشده، وتراه يامينة من نافذة شقتها المجاورة وهو يفعل ذلك.
ويستعرض الفيلم خلفية بطليه، فنرى بوعالم يعيش في شقته على سطح البيت مع أخته الكبرى وأخيه الأصغر، وهو يعمل في مخبز الحي وتعمل أخته في حياكة الثياب، بينما يواصل الأخ الأصغر دراسته. ونرى بوعالم يعمل في المخبز، يعاونه صديقه «مبروك» الذي يحلم بالسفر إلى مرسيليا، ويكمل دخله من بيع البضائع الأجنبية المهرَّبة. وصاحب المخبز رجل أمين طيب القلب، يركز على عمله، ولا يفهم موجة التطرف الديني التي تصل إليه في نهاية الأمر خلال أحداث الفيلم الشائكة.
أما يامينة فتعيش في شقة مجاورة مع أمها وأخويها، أحدهما هو سعيد الملتحي الذي دخل السجن فترة ما وخرج منه بطلًا يقود جماعة من المتشددين الدينيين حارب بعضهم في أفغانستان، وعاد ليصبح عضوًا في هذه الزمرة التي يصورها الفيلم تجوب الطرقات على نحو ما تفعل عصابات الشباب في المدن الأوروبية والأمريكية، كي تعمل على فرض قوانينها الأخلاقية والدينية على الجميع بالقوة. وسعيد يفرض هذه القواعد على أفراد أسرته بالرغم منها، فتضطر أخته إلى إخفاء شعرها والبقاء في البيت، ويحرِّم عليهم مشاهدة الأفلام التي يعرضها التليفزيون عن طريق الإرسال الهوائي. ولذلك حين يكتشف سعيد اختفاء مكبر الصوت من على السطح، يجد في هذا استهزاء به وبجماعته؛ فيجعل من ذلك قضية كبيرة تهدف إلى معرفة الفاعل ومعاقبته على جرمه في حق الجماعة وفي حق الدين. ويجوس سعيد وزمرته بين شباب الحي يستحثُّهم على كشف سارق مكبر الصوت، ويحثُّهم على السير في طريق الدين، ويشجب الاستماع إلى الأغاني والموسيقى ويقدم — بدلًا منها — شرائط المدائح الدينية. وهو يشجب أيضًا الفتاة التي تقيم وحدها في الحي تعبُّ الخمر دون وازع من أحد. وبعدها ينتقل المشهد إلى بوعالم الذي يزور هذه الفتاة، ونعلم أنها كانت من بين الشباب الذي ناضل من أجل استقلال الجزائر، ممن آمن بقضية بناء جزائر حرة ديمقراطية، إلى أن واجهتها أحداث ما بعد الاستقلال، ثم الفتن التي تعرَّض لها الوطن، والتي أدت إلى شبه حرب أهلية، ففقدت إيمانها بكل شيء، ولم تجد مهربًا من الإحباط واليأس إلا في الوحدة والإغراق في الشراب كيما تستطيع البقاء على قيد الحياة وهي ترى انهيار آمالها في الوطن الذي حلمت به. ونفهم أنها تعرض على بوعالم أن يذهبا معًا إلى مدينة أخرى، ولكن قلبه هو كان مع أخرى، مع يامينة، أخت سعيد قائد المتعصبين، الذي يعتبِر بوعالم عدوًّا حيث إنه لم ينضم إلى زمرته، رغم أن الجميع شباب في ميعة الصبا، ولكن تفرقت سُبلهم نتيجة التعصب الأعمى. وهم كلهم متدينون، يتجمعون أحيانًا في مسجد الحي، ويستمعون إلى شيخ الجامع وهو يخطب فيهم قائلًا إن الإسلام هو دين الرحمة والتسامح، ويطلب منهم الابتعاد عن الطريق الذي أدى إلى مذابح أكتوبر ۱۹۸۸م. وحين يشكو إليه سعيد من سرقة مكبر الصوت، يهون عليه الشيخ الأمر بأن للمسجد خمسة عشر مكبرًا للصوت، فما أهمية ضياع واحد منها، ثم يحذره قائلًا إن العنف ينادي بالعنف. ولكن هذا الكلام لا يعجب سعيدًا فينطلق خارجًا في غضب. وعلى طول الفيلم، نرى سعيدًا على صلة بأشخاص مشبوهين يلاقونه دائمًا في إحدى السيارات الفاخرة، وفي مرة يقدمون له هدية عبارة عن مسدس آلي يفرح به سعيد أيما فرح.
ويرى أحد أفراد زمرة المتعصبين بوعالم يجلس مع يامينة وسط المقابر يتحادثان، وتطلب إليه أن يعيد مكبر الصوت حتى لا تتطور الأمور، ولكنه يخبرها بأنه قد ألقى به في البحر، وأنه حاول البحث عنه بعد ذلك مع صديقه مبروك فلم يعثر عليه. ويسرُّ زميل سعيد بخبر المقابلة إليه فيُصدَم، ويطلب منه سعيد أن يتكتم علاقة أخته ببوعالم عن أفراد الجماعة، ويخبرهم فقط بشخصية سارق مكبر الصوت. ويتلقى بوعالم طردًا بالبريد، وإذا به يحتوي على كفن أبيض من مجهول، فيحذِّره ساعي البريد بأن هذا تهديد له بالقتل وينصحه بالتزام الحذر. وتقوم الجماعة بتهديد صاحب المخبز حتى يطرد بوعالم من عمله، ويتقابل بوعالم مع سعيد لتصفية الحساب. وفي العراك الناشب بينهما، وحين يرى أفراد الجماعة أن بوعالم سيتغلب على سعيد يتدخلون في المعركة ويوسعون عدوهم ضربًا ويتركونه مثخنًا بالجراح. ويعلن شيخ الجامع استنكاره لما حدث، ويحذر من فتنة قادمة لا تبقي ولا تذر.
ولا يجد بوعالم أمام كل ما حدث سوى السفر إلى خارج الجزائر. وتحاول يامينة إثناءه عن عزمه، ولكن يعدها بالعودة ليتزوجا ويأخذها معه، وينتهي الفيلم بخطاب آخر تكتبه يامينة لبوعالم تقص عليه في عبارات موجزة كيف تغير الحي تمامًا خلال السنوات الثلاث التي مرَّت منذ رحيله، فقد خيَّم الخوف والموت على الجميع، ومات أخوها سعيد مقتولًا، وتحققت مقولة الشيخ بأن العنف ينادي العنف. وتكتمل المأساة حين نعلم أن يامينة لا ترسل الخطابات التي تكتبها لبوعالم؛ إذ إنها لا تعرف أين هو، بل تحتفظ بها بعد كتابتها حتى تراه فتعطيها له.
ولا يملك المشاهِد عند رؤية هذا الفيلم، مقترنًا بما تحمله له الأنباء من مجازر دامية في كل يوم، إلا أن يعود كما عدت إلى فيلم آخر مجيد عن الجزائر ظهر عام ١٩٦٦م، ونال نجاحًا كبيرًا وهو فيلم «معركة الجزائر». وهذا الفيلم إنتاج جرائري إيطالي مشترك، أخرجه «جيلو بونتكورفو» بمساعدة «موسى حداد»، ويجسد أمجاد الشعب الجزائري في كفاحه الرائع لتحرير بلاده من الاستعمار الفرنسي. وقد قدم أفراد الشعب من التضحيات ما يجل عن الوصف، رجالًا ونساء وأطفالًا، وحملت المرأة المسدسات والقنابل اليدوية — دون وجل — إلى جوار الرجل، من أجل تحرير الوطن، ودون أن يخرج لها متعصب ينادي ببقائها في البيت ويحرم عليها الخروج والعمل. هذا الفيلم يقدم الشعب الجزائري الأصيل، بأمجاده التاريخية التي نقشت في ذاكرة جيلنا في المليون من الشهداء وفي كفاح القادة وأمجاد جميلة بوحريد وزميلاتها. وإن من أكثر ما يؤثر في النفس من هذا الفيلم، مشهد اقتياد أحد المناضلين الجزائريين إلى ساحة الإعدام، وهو يردد طوال الطريق هتاف «تحيا الجزائر» بصوت ثاقب يردده السجناء جميعًا. وكان تصوير مَشاهِد الفيلم من الواقعية إلى حدٍّ جعل المخرج يقدم للفيلم بعبارة تقول: «إن الفيلم لا يحتوي على مشهد تسجيلي واحد» وهو على حقٍّ في ذلك، فإن المُشاهِد يشعر كأنه قد انتقل فعلًا إلى ساحة «القصبة» بالعاصمة، حيث توحد جميع الجزائريين في طلب الحرية والاستقلال.
فهل كان كفاح الشعب بكل أفراده من أجل أن يحمل الجزائري السلاح بعد ذلك ضد أخيه الجزائري بسبب فتنة فكرية عقائدية، ليس لها من الصحة والسلامة ما يبرر هذا التعصب الأعمى؟ إن قلوبنا جميعًا مع البلد الشقيق حتى يعود كما هو دائمًا في أذهاننا، بلد الحرية والكرامة الإنسانية والتسامح.