النحات العاشق
لا شك أن أشهر نحات في العصر الحديث هو أوجست رودان (١٨٤٠–۱۹۱۷م)، الذي يعرفه العالم أجمع بأشهر تماثيله «المفكر»، والذي لا يخلو أي متحف كبير من أعماله. ولرودان متحفان عالميان باسمه؛ الأول في باريس حيث كان يعمل، والآخر في فيلادلفيا بالولايات المتحدة. وقد ارتبط اسم رودان بمشاهير عصره الذين حرصوا على المثول بين يديه كيما يخلدهم في عمل من أعماله. ومن هؤلاء فيكتور هيجو وبلزاك وبرنارد شو ومالر وكلمنصو والبابا بندكت الخامس عشر، كما كانت له صلات بغيرهم كثيرين، منهم: الشاعر ريلكه والراقصة إيزادورا دنكان وفناننا العالمي جبران خليل جبران. وفيلم اليوم قد تناول جانبًا من حياة رودان، ولكن مضمونه الرئيسي لم يكن النحات الشهير، بل تلميذته ومساعدته وحبيبته كاميليا كلوديل (١٨٦٤–١٩٤٣م)، التي جاء الفيلم باسمها. وهي نحاتة موهوبة غمطها التاريخ حقها لأسباب عدة يعرضها الفيلم، ولكنها أصبحت الآن تحتل مكانة مهمة في تاريخ النحت الفرنسي الحديث.
ولا عجب أن تكون القصة قصة كاميليا كلوديل وليست قصة رودان، رغم شهرة الأخير التي تغطي تمامًا على شهرة تلميذته، لكن مفتاح ذلك قد يكون في مقولة جورج إليوت ومفادها أن الإنسان السعيد، كالبلد السعيد، لا تاريخ له. ذلك أن حياة الإنسان التي تخلو من الأحداث والمآسي والغراميات العاصفة لا تغري بالدراسة والتجسيد في عمل فني. ولذلك فنحن لا نجد قصصًا أو أفلامًا عن حياة الفنانين (ولنتكلم عن التشكيليين منهم على سبيل المثال) الذين عاشوا حياة سعيدة أو أشبه بالسعيدة، مثل كلود مونيه وإدجار ديجا ورينوار ورودان نفسه الذي كانت حياته في عامَّتها ناجحة ومتألقة، ولكننا نجد عشرات منها عن الحيوات العاصفة لفان جوخ وموديلياني وجوجان، ممن عاشوا حياة أترعت بالمعاناة والمغامرات.
وفيلم كاميليا كلوديل فرنسي، من إنتاج عام ١٩٨٨م، ويقوم ببطولته جيرار ديبارديو وإيزابيل أدجاني، وهما الآن أشهر ممثلين في فرنسا. وقد وُفِّق المخرج برونو نيتان في اختيار هذين البطلين اللذين أجادا تصوير شخصيتيهما إلى حد رُشِّحت معه أدجاني للأوسكار وإن لم تفز بها.
ويبدأ الفيلم بمشهدٍ يصور التفاني الذي وهبت به كاميليا نفسها لفن النحت، إلى الدرجة التي حملتها إلى الانطلاق في سواد الليل كي تحصل على الطين اللازم لعمل صلصال تماثيلها. ومن هذا المشهد، وما تلاه من مَشاهِد لها مع أسرتها، تتضح الصفات الرئيسية التي تميز شخصية كاميليا، وهي عنادها الشديد وعزمها وتصميمها على بلوغ الهدف الذي تريد. وهي شخصية ثائرة على تقاليد عصرها، وتبثُّ آراءها الحرة في أخيها الأصغر بول، وتشجع فيه ميوله الأدبية، وتطلعه على كتابات الشاعر آرثر رامبو وشخصيته الفريدة في الأدب الفرنسي. في الوقت الذي كانت مؤلفاته ما زالت محظورة في الطبقات المحافظة. وقد جلبت هذه الروح التحررية من جانب كاميليا كلوديل سخط أمها الشديد عليها. ونعتتها بأنها تسيء إلى سمعة الأسرة بخروجها على الأعراف المتبعة، وفي المقابل كانت تلقى كل عطف وحنان من أبيها الذي تمتعت بحمايته طوال حياته.
ويمضي الفيلم بأحداثه فنعرف أن كاميليا قد تركت أسرتها وأقامت في استوديو صغير مع زميلة لها، وتحاولان أن تتلقيا دروسًا في النحت على يدي المثَّال الكبير رودان. وحين يعتذر بضيق وقته، تطلب منه كاميليا أن تزور «ورشته» المسماة «مستودع المرمر» التي خصصتها له الحكومة الفرنسية ليعمل فيها (والتي تحولت بعد ذلك إلى متحف رودان) وتأخذ قالبًا من المرمر تنحت منه تمثال قدم بشرية. وما إن يرى رودان ما صنعته حتى يدرك أنه أمام موهبة أصيلة، ويقبلها على الفور تلميذة ومساعدة له في عمله. وتتيح لها هذه الفرصة رؤية «الأستاذ» عن قربٍ وهو يدير دفة العمل في ورشته، وكيف يضع التكوينات الفنية التي يصبُّها بعد ذلك في قوالب من المرمر أو الصلصال أو البرونز، أو يجري عليها أصابعه السحرية فتستحيل خلْقًا فنيًّا متميزًا. وتعمل معه كاميليا فتنهل من عبقريته، بيد أنها هي الأخرى تمدُّه وتلهمه بأفكاره الجديدة. وكان لا بد — عند التقاء روحين كروحي رودان وكاميليا — أن تشتعل جذوة الحب بينهما، وهو ما حدث بصورة تدريجية امتزج فيها الفن بالإبداع بالعاطفة الجامحة.
ويستبين الإلهام الذي أوحت به كاميليا لرودان في كثير من أعماله المعروفة التي استوحاها فيها، وكذلك في المساعدة التي قدمتها له في عمله، خاصة الإضافات العديدة التي أشارت بها عليه في اللوحة التمثالية المعروفة «أعيان كاليه» التي بناها على حادثة مشهورة في التاريخ الفرنسي. أما أعمال كاميليا كلوديل نفسها فأشهرها مستلهم من علاقتها برودان، مثل التمثال النصفي الذي صنعته له، ولوحتها التمثالية المعنونة «سن النضج».
وخلال العلاقة التي ربطت بين النحات ومساعدته التي استمرت زهاء عشر سنوات، يظهر طابع الفنانة المتسلط في محاولتها الاستحواذ على أستاذها العاشق بلا منافس. بيد أن ذلك كان مستحيلًا نظرًا لارتباط رودان السابق ﺑ «روز» ورفضه التخلي عنها، مما خلق صراعًا عنيفًا بين العاشقين وأدى في النهاية إلى انفصالهما، وكان من بين مصادر الخلاف الأخرى فكرة رودان عن ضرورة ألا يكبِّل الفنان نفسه بالقيود العائلية وتربية الأطفال التي تحد من انطلاق الإبداع، ولهذا رفض رفضًا باتًّا الزواج من كاميليا أو الاحتفاظ بما يكونان قد أنجباه. ويذكر الواقع أن كاميليا أنجبت طفلين من رودان — وإن لم يقوما بتنشئتهما مثلهما في ذلك مثل جان جاك روسو وتيريز لي فاسير — ولكن الفيلم يبيِّن أن كاميليا قد أجهضت. وحين وجدت الفنانة أن لا أمل هناك في حمل رودان على تغيير موقفه، قطعت علاقتها به على نحوٍ عنيفٍ، وكان هذا بداية رحلتها إلى قاع الظلمة.
وقد صوَّرت إيزابيل أدجاني — ببراعة فائقة — الصراع الذي مرَّت به کاميليا وعذابها من قرارها بالانفصال عن رودان، فقد اعتملت في صدرها عاطفتا الحب والكراهية اللتان تتجمعان في الوقت نفسه تجاه الشخص الواحد، مما نعهده في العلاقات العاطفية العنيفة فأصبحت ترى في رودان الشخص الذي أحبط أحلامها وأمانيها، وباتت تتهمه بأنه قد امتصَّ موهبتها، وأضاع عشر سنوات من عمرها، بل وبلغ بها شعور الاضطهاد المرضي الحد الذي اتهمت معه رودان بأنه يسرق أفكارها الفنية وينسبها لنفسه، وأنه يحاربها في الأوساط الفنية ويحرمها من الاشتراك في المعارض الرئيسية حتى تبقى أعماله وحدها في بؤرة الضوء. ولكن الواقع ينكر ذلك؛ فرودان لم يدخر وسعًا في معاونتها، وهو الذي توسَّط لدى معارفه في وزارة الخارجية الفرنسية لتعيين أخيها بول في السلك الدبلوماسي الذي لمع فيه بعد ذلك، ووصل إلى درجة السفراء.
وفي محاولة أخيرة من أصدقاء كاميليا للنهوض بها من هذه العزلة والأوهام، يقيمون معرضًا عامًّا لأعمالها، يحضره أخوها بول كلوديل بعد أن كان اسمه قد بزغ كشاعرٍ متميزٍ إلى جوار عمله الدبلوماسي. ولكن المعرض يفشل نتيجة تصرفات كاميليا التي بدأت تخرج عن المألوف، ونتيجة محاولة بول الإعلاء من شأن أعمال أخته عن طريق انتقاد أعمال رودان الذي كان قد أصبح صرحًا فنيًّا شامخًا.
وزاد هذا الفشل من عمق عقدة الاضطهاد عند الفنانة، ويأسها من النهوض من كبوتها، فدخلت حلقة مفرغة من العمل المحموم في إنجاز تماثيل كي تقوم بعد ذلك بتحطيمها واحدًا بعد الآخر. وإزاء هذه التصرفات الشاذة، وبعد وقتٍ قصيرٍ من وفاة أبيها الذي كان يظلُّها بحمايته، تقوم الأم في عام ۱۹۱۳م — بموافقة الأخ — بإيداع كاميليا مصحة للأمراض العقلية، قضت فيها ثلاثين عامًا بعيدة عن كل شيء، أسرتها وحنينها إلى حياتها اليومية وإلى فنِّها الذي حُرِمت من ممارسته، ولم يكن أمامها سوى الرسائل تبعث بها إلى أخيها بول. وعلامة الاستفهام الكبيرة التي يخلفها الفيلم، هي موقف بول كلوديل من أخته التي لم تبخل عليه بالحب والتشجيع في سنوات تكوينه، كي يتخلى هو عنها في محنتها ويوافق على عزلها عن حياتها بتلك الطريقة المأساوية. وقد حاول هو أن يبرر ما حدث في كتابه «أختي كاميليا» الذي أصدره عام ١٩٥١م بإلقاء التبعة كلها على أوجست رودان. ولكنَّ دارسي الموضوع يوجِّهون إليه لومًا شديدًا على تقاعسه عن رعاية أخته: «فحين يكون للمرء أخت لها مثل تلك العبقرية، فإنه لا يتخلى عنها. ولكن بول كان دائمًا يرى أنه هو الوحيد في الأسرة الذي يمتلك ناصية العبقرية!»
ولئن كانت الحياة قد فرقت بين أوجست رودان وكاميليا، فإن الفن قد جمعهما، فثمة جناح كامل في متحف رودان بباريس مخصص لأعمال كاميليا كلوديل.