مقدمة
سيرة الأميرة ذات الهمة
تُعدُّ هذه السيرة العربية أطول سيرة في التاريخ؛ ذلك أن حجم مخطوطاتها المحفوظة بمكتبة المتحف البريطاني ومكتبة الدولة ببرلين بألمانيا الغربية يصل إلى ٢٣ ألف صفحة، وتغطي أحداثها لحروب قارية متصلة لأربعة قرون بين العرب المسلمين من جانب، والتحالف الأوروبي البيزنطي، أو كما تسميه السيرة: بالتحالف الرومي من الجانب المقابل، كما تغطي أحداثها حقبة مطلع الإسلام وانتشاره؛ فسيرة الأميرة ذات الهمة تبتدئ أحداثها بأزهى عصور الخلافة الأموية في دمشق، والعصر الذهبي لعبد الملك بن مروان بن محمد، آخر الخلفاء الأمويين، الذي طارده أبو مسلم الخراساني عقب هروبه إلى مصر، إلى أن لحقه واغتاله في أبو صير بمصر الوسطى، مرورًا بمطلع العصر العباسي وصراع السلطة المحتدم المتبلور في أزمة أو فاجعة البرامكة الفرس؛ حيث تستفيض هذه السيرة التاريخية العملاقة في إعادة سرد تلك النكبة السياسية بين العرب والفرس.
وتنتهي أحداثها في عصر الخليفة العباسي الواثق بالله، برغم أنه يرد ضمن أحداثها وعلى لسان راويها.
إن سيرة الأميرة ذات الهمة الفلسطينية كانت تُروى بتمجيد شديد على الخليفة الواثق بالله العباسي، وإن ذلك الخليفة كان كثيرًا ما يستوقف راويها مستفسرًا عن أبطالها وأحداثها، تلك التي تؤرخ لحياة وبطولات تلك الأسرة الفلسطينية الحاكمة؛ لذات الهمة كقائدة محاربة لعبت أهم الأدوار في الدفاع عن مطلع الدولة أو الخلافة الإسلامية، فكان سكان الثغور البحرية الفلسطينية كطلائع ساحلية على طول تاريخهم أكثر نبضًا وتوقدًا واستشعارًا للخطر الخارجي المتربص على الدوام بالعرب، سواء أكان الشرق الأوسط المعاصر، أو الأدنى القديم، أو ما يعرف بالعالم العربي بعامة، ومركزه الشام وفلسطين والجزيرة العربية.
وهو بالضرورة أمر طبيعي أن تجيء الطلائع البحرية الساحلية من لبنان وفلسطين أكثر استشعارًا وترصدًا للأخطار المحيطة عنها بالنسبة للبلدان والحضارات الزراعية أو البدوية الرعوية، حتى ولو من مدخل أن تلك الأخطار والغزوات التي لا بد وأن تكون في معظمها بحرية.
وقبل أن نستطرد في سرد الوقائع والأحداث ذات الصبغة السياسية للحقبة أو العصر التاريخي الذي تؤرخ له السيرة، وبدءًا على التقريب من مطلع القرن الثامن الميلادي، نعود إلى أهمية وقضية هذه السيرة العربية العملاقة.
وللقارئ أن يتصور أن «سيرة الأميرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب» لا تزال إلى أيامنا مخطوطة مُفتَقَدة، منذ أن نسخها مؤلفها — أو مؤلفوها الحقيقيون — كتراث أو تاريخ شعبي أقرب إلى أن يكون فلكلورًا من حيث الافتقاد للمؤلف اليقيني الفرد.
ولا تزال هذه السيرة مخطوطة في عشرات الأجزاء المتتابعة الحلقات، التي تصل في مجموعها إلى ٢٣ ألف صفحة من القطع المتوسط.
والنسخة الأصلية المحفوظة بمكتبة الدولة ببرلين كمخطوطة لم تصلها بعدُ يَدُ المطبعة، وهي لهذا مصدر فخر لا يُبارى لمكتبة برلين المركزية، واحتفى بها أشد الاحتفاء؛ لإنقاذها من الدمار عقب الحرب العالمية الثانية الأخيرة.
وكما ذكرنا، فإن الهدف الجوهري لهذه السيرة الفلسطينية هو التأريخ لسيرة دمار تلك الأسرة الفلسطينية وحروبها وتصديها للغزو الخارجي، كمقاتلين على الثغور والمداخل البحرية، طالما أن الغزو لا بد وأن يجيء — في ذلك العصر الوسيط الإسلامي البيزنطي — بحريًّا.
«فالصحصاح»، جد الأميرة ذات الهمة، يشارك في الحرب ضد الروم، والمعروفة باسم «حرب الروم» من وجهة نظر التأريخ الشعبي بالطبع، في تلك الحروب الأموية التي اندلعت ضد الروم «البيزنطيين»، ومنها حملة مسلمة بن عبد الملك، وما توالى من خلفاء وحروب متصلة لتأمين حدود الدولة الإسلامية الوليدة.
كذلك لم تغفل سيرة ذات الهمة أن الحصار الذي ضربه العرب حول القسطنطينية امتد لبضعة أعوام، مما اضطر الجيوش العربية إلى تشييد مدينة ضخمة في مواجهة القسطنطينية، تعارفوا عليها باسم «المستجدة».
وهو الحصار الثالث للقسطنطينية الذي وقع تاريخًا، كما لم تغفل عنه السيرة في عهد الخليفة «سليمان بن عبد الملك»، وفي ذلك الحصار تبدت طاقات البطل الشعبي المخادع أو الميكافيللي «سيد البطال»، والذي كما ذكرنا، فهو بطل تاريخي استشهد بالفعل في الحروب العربية ضد الرومان عام ١٢٢ هجرية، وهو يرد في السيرة كبطل أو قائد محارب ماهر في إنشاء ونقل وتموين خطوط الجيوش العربية إلى مداخل أوروبا الجنوبية، بالإضافة إلى الأندلس أو شبه جزيرة أيبريا بكاملها، التي وصلت الدول والدويلات السورية الفلسطينية — في الإطار العربي القومي العام — فيها إلى أكثر من ٤٦ دولة وكيانًا.
فالسيرة تؤرخ لحرب بني كليب التغلبيين الفلسطينيين، وطلائعهم أو حكامهم من أسرة ذات الهمة ضد الدولة البيزنطية عبر بضعة أجيال متعاقبة. تتخذ الأميرة جندبة بن الحارث الكلابي رأسًا لها، وابنه الصحصاح، الذي تبدت أولى أعماله البطولية — كما تذكر السيرة — في إنقاذه لابنة الخليفة الأموي من مختطفيها، ثم بعد ذلك نراه يشارك في قيادة الحروب العربية ضد بيزنطة، بأمر من الخليفة عبد الملك بن مروان لحين مجيء ذات الهمة، واسمها الحقيقي «فاطمة بنت مظلوم بن الصحصاح بن الحارث الكلابي».
بمعنى أن الهدف الأسمى لمثل هذه السير، وكذلك المناخ الذي توجد وتتكاثر فيه هو بالتحديد الأخطار المحدقة الخارجية، ومع هذا لم تغفل سيرة الأميرة ذات الهمة التسجيل والتأريخ للأحداث الداخلية ذات الصبغة السياسية، ومن ذلك أزمة نكبة الفرس البرامكة في مطلع الخلافة العباسية، التي يرد ذكرها من منطلق التأريخ الشعبي في سياق أحداث السيرة، وهي الأحداث التي وقعت منذ القرن التاسع الميلادي، حين أقدم الخليفة هارون الرشيد على اغتيال جعفر بن يحيى البرمكي وزيره الأول أو رئيس وزرائه.
وحين عاد إلى بغداد حدثت الواقعة أو الوقيعة بين الرشيد والبرامكة.
وفيها يرد تطور أسلحة الحرب والقتال بدءًا من المفرقعات التي تدعوها السيرة بالنار الإغريقية، كما يرد الكثير من الوصف الإنثوجرافي للكثير من المدن والكنائس والكاتدرائيات، ومنها كنيسة آيا صوفيا، وحياة الشعوب والكيانات الأوروبية، بدقة مدهشة، منذ مطلع القرن التاسع الميلادي.