المولد المدهش للبطل عبد الوهاب!
وكالعادة صاحبت مولد عبد الوهاب كطفلٍ قدرات خارقة على خوض المنازعات والمعارك التي دارت رحاها هنا وهناك.
ﻓ «ترس قبر الرسول والأسد الوثاب الأمير عبد الوهاب»، مثلما أسمته النسوة إثر مولده، مثل بقية الأبطال الملحميين العرب: أبو الفوارس عنترة بن شداد، وأبو زيد الهلالي، والزير سالم أبو ليلى المهلهل، صاحبت المنازعات والصراعات القبلية مولده ومجيئه إلى الوجود، إلى حد حصول الانشقاق بين أفراد القبيلة الحجازية الفلسطينية الواحدة والتهديد بالحرب، وذات الهمة لا تزال تعاني آلام مخاضها؛ لأن عبد الوهاب جاء على غير لون آبائه … جاء أسمر اللون كعنترة.
فما إن تفرسته أمُّه لحظة مولده حتى شهقت متسائلة بينها وبين نفسها بما يعني أن سبب كل آلامها وتخاذلها هو هذا الوليد، الذي صبر وعانى بدوره طويلًا داخل أحشائها ضد كل محاولات إزهاق روحه، وكتم أنفاسه، منذ بداية تكوينه كنطفة إلى أن اكتملت أيام حمله وشهوره التسعة، صاخبًا مائجًا كمن يخوض بمفرده أجيج حرب مستعرة داخل أحشاء ذات الهمة، دفاعًا عن أحقية وجوده؛ ليخرج من بطنها صارخًا من أعماقه على هذا النحو، وكأنه يجهر معلنًا: أنا أكره الأعداء.
بل إن صراخه المدوي لحظة تعثر انزلاقه أوصل آلام ذات الهمة إلى أوجها، فانثنت ترقبه بين أيدي وصيفاتها، مولولة، وكما لو كانت على معرفة يقينية بما ينتظرها من عذابات بسبب عبد الوهاب هذا.
وحين لفَّته الرباب بغلالة رأسها حانية وهي تضعه إلى جانب أمه، التي غضبت في محاولة يائسة لتقطيع أوصاله تستريح بعدها إلى الأبد، اختطفته النساء جاريات مستبشرات، وهن يرقبن عينيه الخرزتين القاتمتي الزرقة إلى حد السواد الضارب، وجسده المتكتل المفتول وهو يضرب الهواء بساقيه وأطرافه كلها … رفضًا وتمردًا كمثل جواد بري هائج.
وكما لو كان يعاني رفضًا داخليًّا متأججًا، وينشد بكل جوارحه عالمًا أفضل، وأكثر استشراقًا، وأقل تآمرًا، من ذلك العالم الذي يُضني الأم إلى حد الإقدام على اغتيال وليدها في فراشه.
كان كل ما في عبد الوهاب الرضيع ينبئ مشيرًا بالتمرد، ونبل الآمال والمقصد، حتى إن النساء المرضعات تجمهرن مسرعات من كل جنبات القصر، ورُحْن يتزاحمن من حول الرباب وهي تحمله وتضمه إلى صدرها، محاولةً تهدئة ثائرة غضبه وهو يركل الهواء بأطرافه الأربع، مطلقًا عقيرته بالصراخ، وكما لو كان يبغي العودة إلى حيث دفء فراش أمه ذات الهمة.
وحين حاولت بعض الفتيات التكوم والإطباق عليه وهن يتأملن ملامحه الصارمة، والذي جاء مولده وسط أجيج الحرب المستعرة على كل الجبهات من حوله وأمه، دفعتهن الرباب مبعدة إياهن في حدة: ابعدن … ابعدن.
كانت الرباب متعثرة، تتحرك مهدهدة الوليد بين ذراعيها، وكانت بحق تعاني مما أصاب ذات الهمة في شهورها الأخيرة، ومنذ أن أقدم ابن عمها الحارث على فعلته الشنعاء وفرَّ هاربًا هو وخادمها المقرب، أخوها في الرضاعة مرزوق، مخلفين فاطمة في آلامها وأوجاعها، وما حط عليها من سقم فأحال سمرة وجهها إلى صفرة بادية للعيان.
تركها الحارث ومرزوق تضرب أخماسًا بأسداس، تمضي الليل بطوله ذاهلة غائبة عن وعيها لا تعرف لها منفذًا مما ألم بها فجأة وعلى غير انتظار، عقب حادثة الاغتصاب المروع، وما ترتب عليه مستجدًّا، من حمل ثقيل أعجزها عن مواصلة القيام بأعبائها الهائلة التي تفت من عضد وكيان أرفع الرجال الشجعان شأنًا في قيادة جيش المسلمين في مواجهة أمم الإفرنج المهاجمين.
كانت مربية ذات الهمة الرباب تعاني من تكتُّم ما يعتمل في رأس ذات الهمة المشتعل بالتفكير دون هوادة ليل نهار، وكانت تسائل نفسها: مسكينة حقًّا فاطمة … ماذا تفعل؟
وكانت قد بدأت تدرك مكنون تلك التحولات الفاجعة التي طرأت على الدلهمة، ومنها تلك النظرات المغموسة من مستنقع الشك والارتياب لكل ما تقع عليه عيناها الفاحصتان الصقريتان.
ما من إنسان لم تعد ترتابه فاطمة وتحذر مأربه، حتى أقرب مقربيها من أمراء وقادة وجند وحجاب وحرس وجوارٍ.
بل حتى هي ذاتها الرباب أصبحت تتلقى نظراتها المتقلبة في محجريها كمثل جمر مشتعل بغضاضة مُسِرَّة لنفسها: مِن حقِّها. خاصة بعدما حدث بالتحديد من جانب وصيفها المقرب مرزوق الذي هو في موقع الأخ منها.
غفت ذات الهمة في سباتها، وعلا من جديد شهيقها وغطيطها، وكأنها أصبحت تجد في النوم سلواها لترطيب آلامها الجارحة التي ألمت بها على طول الأشهر التسعة الأخيرة.
وهي الآلام التي ترتبت على ما سببه لها الحارث ابن عمها، وبمساعدة صاحبها المقرب مرزوق، والتي لم تبرأ من مصائبها بعدُ، خاصة بعد ولادة ابنها هذا الذي لم ينقطع بعدُ صراخه في أذنيها، رغم غلالة النوم والإغفاء التي تجد فيها مرفأها الآمن هربًا مما يحدث، وما ستخبئه الأيام والسنون لها من مفاجآت يشيب لها شعر الوليد.
مفاجآت تقصر أمامها وعندها هامات الحرب والقتال والمنازلة التي لم يخف بعد أوراها.
فللقتال والجهاد المضني قوامه، ومعالمه واضحة القسمات والزوايا.
أما قتالها المستجد الذي حط عليها منذ الأشهر التسعة الأخيرة، فلا ملمح ولا قوام ولا معلم له.
ذلك أن مجاله هنا هو الخفاء والإظلام، وأقصى درجات الغموض والتآمر السري والعلني، ومن قومها ولحمها بالذات؛ أي من ابن عمها وعمها بالذات.
قتالها مجاله ذلك الوليد عالي الصراخ الذي يطن في أذنيها، وكأنه يبغي طرد أدنى لحظة صفاء ومهادنة لذات الهمة التي أضناها حمله.
– أما من مهرب؟
بدت وكما لو كانت تعاني — في غفوتها — أثقال كوابيس تحيط بها من كل جانب، لا تجد لها منها فكاكًا، ولم يكن يصلها من الأصوات سوى بكاء الوليد الذي لم تحجبه الأبواب المغلقة، ولا الشرفات، ولا الستائر المسدلة في إحكام، ولا حتى بصيص الضوء الخافت لشمعدان مثمن الأفرع، لم يُشعل منه سوى فتيل مفرد إلى جوار رأسها حرصًا من الجميع على راحتها.
وحاولت الرباب إرضاع الوليد إلى أن غفى بدوره؛ مما أتاح للأميرة لحظة نوم وراحة.
عادت الرباب من جديد تتفرس في وجه الطفل عبد الوهاب وهو بين ذراعيها، يضع يده اليمنى الدقيقة الأصابع على وجهه وجبهته كمن يخفي عن الآخرين أمرًا، وتمتمت: مسكينة … فاطمة.
كانت الرباب تعني ذات الهمة، وما لم تعانيه بعدُ من صراعات ومشاكل ستحط على رءوس الجميع بسبب هذا الوليد الذي هو الآن بين كفيها، والذي حاولت مرارًا وتحت إصرار وإلحاح ذات الهمة إجهاضه من بطنها منذ البداية، قالت الرباب لنفسها: حرام.
إلا أنها إرضاء لسيدتها التي أصبحت ومنذ تكون — الغلام — عصبية متوترة الأعصاب، بدأت تنشغل في تحضير الوصفات التي تتيح إجهاض ما بها قبل أوان نزوله وولادته على هذا النحو.
ترددت على مضارب البدو وقابلات ومرضعات الأعراب بحثًا عن «وصفات» الإجهاض، دون أن تفصح — بالطبع — عن أن الأمر يخص الأميرة ذات الهمة وحادث حملها ذاك.
وتكسرت جميع المحاولات والنصال للنيل من عبد الوهاب، الذي علا بدوره غطيطه بين ذراعيها كمن آثر الإذعان للحظة صفاء تتيح لأمه المجهدة النوم.
تساءلت الرباب في ترحم: نوم … من أين يجيء النوم؟
فبعد أن حلت الوقيعة بالجميع أصبح عسيرًا مجرد إغلاق جفني العينين … والنوم.
صحيح أن ذات الهمة تحاول ذلك فتخلد مكومة أكداس الوسائد فوق رأسها، وتكبسها بذراعيها الاثنتين، لكن ما إن يحدث وتنام حتى تعاودها كوابيسه كمثل حصار يكتم كل نفس.
حصار تجد فيه نفسها مهددة بالحارث وعمها ظالم، وطابور طويل من الأشباح لا ملمح لهم من الحاقدين والمتآمرين والمتسلطين والشامتين وموقعي الفتن.
ناهيك عن الأعداء الذين أذلت هاماتهم، وفتحت ثغورهم وموانئهم ومدنهم الحصينة مواصلة تقدمها إلى عاصمة الخلافة، لتعلو بواباتها وحصونها، وكان آخر هذه الأحلام دك أسوار هذا الحصن الحصين لآخر معاقل جند الأروام، واقتحامه بجنودها وكتائبها الخاصة، والوصول إلى غريمتها التي صمدت لها سنوات، والتي عمَّت شهرتها المشرق قبل المغرب حول قيادتها لجند الأعداء، ووضع الخطط لقطع الماء على جند المسلمين، وإيقاعهم في أسرها، وسبيها الآلاف منهم، إلى أن تمكنت ذات الهمة من التقدم وإلحاق الهزيمة بجنود الأروام، وتحرير أسرى العرب، ومحاصرة قصر أميرتهم وقائدة جندهم «باغة» ابنة الملك ليون الأيزوري — أو «لاوون» — لحين إخضاعه وإسقاطه، والوصول إليها ومنازلتها في الميدان وجهًا لوجه، إلى أن تمكنت منها فجزَّت بحسامها رأسها عن جسدها، وقيام عمها ظالم بحمل الرأس ضمن الكنوز المسبية إلى عاصمة الخلافة، استنفارًا للهمم، وحلول اليوم الموعود بالوصول إلى أصل الداء والعدوان والتربُّص؛ أي القسطنطينية — العاصمة — ذاتها، لدكِّ أسوارها، وفضِّ عدوانها المبيت منذ عهد جدها الأول الصحصاح ومَن سبقوه من جدود وأسلاف.
وبدا الأمر لذات الهمة فيما سبق شهور وضعها أقرب إلى حلم نبيل، أصبح الآن وبعدما حدث بعيد المنال والحدوث.
فأين هي الآن من الحرب والقسطنطينية؟ إن حربها التي فرضت عليها فرضًا وقسرًا أصبحت هنا داخل قصرها … وأقرب إلى مخدعها.
كيف يتسنى لها بعدما حدث إعادة الصحوة وشحذ الهمم للجهاد وصولًا إلى الهدف المرتقب … القسطنطينية، التي لن تقرَّ للجميع عين طالما ظلت تبعث بجيوشها المدججة الموجة إثر الموجة إلى عاصمة الخلافة ذاتها، وحرقها بمن فيها أحياء؟
أين هي الآن من الحلم القديم الذي خبا؟
يكفي ما عانته وما سيستجد عليها من كوارث المولود الجديد، الذي أضفى شرعية ما بعدها شرعية على زواجها من ابن عمها الحارث … أضفى كل شرعية حتى على أحقية اغتصابها، وتقويض هامتها بين الجميع، الأهل … قبل الأعداء.
تسندت الأميرة ذات الهمة في إعياء وهي تمد ذراعها إلى آخره، جاذبة كومة التقارير والمعلومات التي جمعها البصاصون والعيارون من داخل المدن الرومية، وخاصة القسطنطينية، حول الاستعدادات الأخيرة التي تفجَّرت مطالبة بجمع الصفوف وحشد الهمم انتقامًا لمقتل أميرتهم «باغة».
وبدت ذات الهمة كالمشدوهة، بل هي غابت بالفعل عن كامل وعيها وهي تعيد قراءة أحد هذه التقارير التي وصلتها من داخل عاصمة الأروام، وبالتحديد من أهم مراكز صنع القرار، وهو قصر الملك لاوون وليون الأيزوري، وفيه يذكر التقرير بوضوح أن الروم الأعداء على معرفة يقينية بما يحدث ويجري لذات الهمة وما أصبحت تعانيه، كما أنهم على معرفة بدور الانقسامات العربية التي وقعت بين الجيوش والقبائل العربية.
أعادت ذات الهمة قراءة التقرير الذي امتلأ وفاض بصنوف الشائعات المغرضة، التي بالغ في إطلاقها الأعداء، إلى حد تصويرها جريحة طريحة الفراش تعاني سكرات الموت المحقق، نتيجة لتعرُّضها لمحاولة اغتيال من جانب عمها الأمير ظالم وولده.
– الموت!
بل والأكثر إيلامًا إلى حد الحسرة أن من بين الشائعات، التي أثارها الأعداء وتناقلوها فيما بين عاصمة وأخرى حول ما حلَّ بذات الهمة على مدى السنة الأخيرة من القتال، شائعة تقول: إن ذات الهمة قد خبا نجمها، وإن عمها ظالمًا ومعه بعض الفيالق والقبائل الحليفة تمكنوا من النيل منها لدى خليفة المسلمين، إلى حد استصدار أمر بتنحيتها عن رأس القيادة للجيش العربي.
تساءلت وهي تتقلب في فراشها: إلى هذا الحد!
هبت من جديد معيدة قراءة صورة التقرير الذي ذُيِّل بتوقيع مزيف لأمير المؤمنين الخليفة المهدي في بغداد، والذي وجَّه إلى أمير الحملة عبد الله بن علي مُوَلِّيًا إيَّاه القيادة العامة بعد تنحية ذات الهمة «التي تعاظم شأنها، وقويت شوكتها في السنوات الأخيرة.»
وهنا خفَّت حدة غضب واندهاش ذات الهمة إلى حد التهكم الأليم، من الكيفية التي يختلق بها الأروام الأعداء أكاذيبهم وتلفيقهم إلى حد إعادة تصديقها، وإتاحة أقصى درجات انتشارها على طول العواصم الأوروبية المتربصة بالعدوان للعرب: يا له من غل!
وحين وصل صراخ الوليد عبد الوهاب إلى أذني ذات الهمة قطع عليها حبل أفكارها، فبدت وكما لو كانت تنصت إلى أصل الداء ومكمنه، وهنا لم تجد لها مهربًا سوى الاسترسال في النوم والاستسلام لسلطانه.