زواج عبد الوهاب بالحجاز
ما إن انقضت زيارة الأمير عبد الوهاب وأمه ذات الهمة للحجاز ونجد، بعد أن لقيا كل تكريم من شيوخها وكبرائها، حتى آثرت ذات الهمة التمهيد لزواج عبد الوهاب من ابنة أحد أعمامه في الحجاز، وهو الأمير راشد بن حمزة؛ لزيادة ارتباطه بأهله وقبيلته الحجازية، قبل التمهيد للعودة إلى الجبهة في مالطة، وإعداد العدة للوصول إلى القسطنطينية ومحاصرتها وفتحها، كما سبق للجد الصحصاح فتحها وإعلاء رايات المسلمين عليها.
ففاتحت ذات الهمة عبد الوهاب برغبتها الدفينة في تزويجه والفرح به وبأولاده، ولما لم تجد من عبد الوهاب رفضًا لمطلبها، فاتحت بدورها الأمير راشدًا، الذي رحب من فوره مسرعًا في عقد القران وإقامة الأفراح.
فأقيمت الاحتفالات التي لم تشهد مثلها الحجاز، وامتدت سبعة أيام احتفالًا بالبطل المرتقب عبد الوهاب، المعقودة عليه الآمال العريضة في فتح عاصمة الأروام البيزنطيين، وتحرير العرب المسلمين من أخطارهم، خاصة وأن أمه ذات الهمة بدأت تعاني من تعب المعارك الضارية التي خاضتها الأعوام الطوال.
وبعد تسلمه للإمارة والقيادة التي أضفاها عليه أمير المؤمنين حتى تكشفت قدراته، فأصبح محط كل الأنظار بدءًا من أمير المؤمنين وحكماء الحجاز ونجد، ومعظم العواصم العربية مشرقًا ومغربًا، حتى عواصم الأروام البيزنطيين التي بدأت تحسب له كل حساب.
•••
وما إن انتهت الأيام الخوالي التي صاحبتها الأفراح والاحتفالات بزواج الأمير عبد الوهاب بين أهله وعشائره … بالحجاز، حتى تحركت مواكب ذات الهمة وعبد الوهاب عائدة إلى الجبهة، محاطة بالدعاء والتكبير ووداع الأهل. وما إن وصل ركبهم إلى مالطة ذات مساء حتى تواترت الأخبار حول معاودة الأروام انتهاك شروط الهدنة، وجمع شملهم من جديد بعاصمتهم القسطنطينية، تمهيدًا لأخذ المبادرة بالزحف على قلاع المسلمين ومعسكراتهم ومضاربهم؛ استعدادًا لإبادتهم تمامًا.
وسبب هذا يعود إلى الموت المفاجئ للخليفة العباسي المهدي، الذي سبق له مناصرة ذات الهمة وعقد الإمارة لابنها عبد الوهاب، والإغداق عليه بالثروات الطائلة التي عززت مواقعهما بين العرب.
وتولى الخلافة من بعد المهدي أخوه الهادي، الذي نقل إليه وهو على فراش الموت وصيته في رعاية الأمير عبد الوهاب، لما يعقده عليه المهدي من آمال عريضة في مؤازرة العرب في وجه أعدائهم المعتدين والطامعين.
وهكذا وجد الأروام الفرصة سانحة بموت الخليفة لجمع كلمتهم، وتوحيد صفوفهم، تحسبًا لمعاودة الهجوم على العرب، وانتهاك شروط الهدنة التي لهثوا طويلًا لعقدها.
وخاصة بعد أن وصلتهم الأخبار المحققة من جواسيسهم وعياريهم بتفاصيل ما حدث من انشقاقات عربية، وعودة ذات الهمة والأمير عبد الوهاب إلى الحجاز والبصرة والكوفة، مثقلين بالمؤامرات والفتن القبائلية الداخلية، التي يعرفها جيدًا مختلف أجناس الأروام ومللهم عن العرب وعن طبائعهم، وما يفت في عضد أمتهم من آفات غائرة كانت تتيح لهم على الدوام استثمارها والمتاجرة بها في تحقيق انتصاراتهم الغادرة.
من هنا سرت الأخبار بين العواصم الرومية والأوروبية وما يجاورها عما حدث داخل الصفوف العربية، وأفضى إلى غياب ذات الهمة وابنها عبد الوهاب عن جبهة القتال.
فعُقِدت اللقاءات وتضاعفت الزيارات السرية لأمراء الأروام وساستهم وبطارقتهم، طلبًا في جمع الإمدادت والأسلحة التي استحدثوها في غيبة عبد الوهاب وأمه عن جبهة القتال، انشغالًا بالفتن والمؤامرات القبائلية الداخلية.
وهكذا تشجعت الأروام عقب غيبة عبد الوهاب — بالذات — عن الجبهة في تجميع فلولهم، بل إن التحالف الرومي برع حقًّا، في تلك الجولة، في التستر عما يحدث ويجري وضعه من خطط خطيرة لتطويق الجيش العربي في غيبة قادته.
وتم ذلك عن طريق عقد اللقاءات والزيارات بعيدًا عن القسطنطينية، التي أصبحت في متناول الأبصار والآذان العربية، وخاصة البصاص أبا محمد البطال، الذي أصبح بُعبعًا يخيفون به الأطفال والكبار: ها هو البطال … يدق الجدران.
فتم وضع صورة له في أبرز ساحات القسطنطينية وبقية عواصم الغرب كمحاولة لتحذير الناس، وتعريفهم بملامحه في مختلف الهيئات التي اعتاد التنكر بها.
وكثرت حوله الأمثلة والمأثورات التي تشير إلى التعجب من قدراته ومهاراته، وهو الذي يلعب «بالبيضة والحجر»، فقالوا عنه: لا فائدة … إذا لم ينتقل البطال إلى الجبل انتقل الجبل إليه.
فهو ذلك الذي يسرق كحل عيون الأروام، وأسرار خططهم، وأسلحة غدرهم، وعروش ملوكهم ومخترعيهم، وقادة فيالقهم؛ لذلك لم تعد القسطنطينية، وهي العاصمة الرسمية والفعلية للأروام صالحة للقاءات والمؤامرات الرومية الهادفة لتخطيط مسار الحرب ضد المسلمين.
فحددوا أماكن اللقاءات مرة في أغوار ومتاهات البلاد الواطئة، وأخرى في أعالي الجبال الشاهقة المغطاة بالجليد، والتي يخيم عليها الغموض نتيجة وعورة مسالكها المضللة لأعتى العيارين والبصاصين العرب من أتباع البطال وأسلافه، في تلك المهنة الشاقة المحفوفة بالأخطار.
صحيح أن في حوزة العرب ثروة حقيقية من الخرائط وأوصاف وطبائع المدن والكيانات الأوروبية، التي توارثوها عن أسلافهم من فاتحين ورحالة وجغرافيين وخبراء في وصف المدن ومختلف الأقوام وطبائعهم، لكن كيف الوصول إلى تلك الأصقاع المتناهية البُعد العسيرة المنال؟
ومن هنا، برع المخططون للجولة المقبلة في الحرص على عدم تسرب خططهم وحديث أسلحتهم إلى العرب، كما حدث في العديد من الوقائع والصدامات الحربية السابقة؛ لذا لجأ الأروام إلى إشاعة الأخبار المغلوطة وتسريبها إلى أفواه العامة؛ ليقع في حبائلها البطال وكتائب عياريه وبصاصيه.
خاصة بعد أن عرف الأروام عنه مختلف حيله، ومنها معرفته الواسعة بكل لغاتهم ولهجاتهم من لاتينية وجرمانية وغالية وسكسونية وإسبانية وهنغارية وسلافية، ناهيك عن معرفته بطبائعهم وتقويمات أعيادهم الموسمية، وخفايا كنوزهم، وأدق ممارساتهم اليومية.
وكيف للأروام أن ينسوا يومًا مهازل البطال مع ملوكهم وأميراتهم ودوقاتهم وكبار بطارقتهم؟
كيف لهم أن ينسوا يوم دخوله القسطنطينية ذاتها؟
لذلك تشدد قادة الأروام هذه المرة في سد كل الطرق والمنافذ التي تتيح تسرب أسرار استعداداتهم ومخططاتهم إلى أيدي العرب والمسلمين.
بل حتى سيول الإمدادات من جيوش بمختلف أسلحتها وأموال ومؤن ومخترعات حربية وجدت طريقها للتجمع بعيدًا عن العواصم، فكانت تتحرك في أعماق الغابات وضفاف الأنهار على مقربة من الأديرة المهجورة وبداخلها، بعيدًا عن الأعين الراصدة لما يجري من إعداد لخطط جديدة، وتجارب لاختراع أسلحة حديثة، دون أن تطالهم ألاعيب البطال وخداعات عياريه وبصاصيه المنبثين ليل نهار، في كل مكان وحانة، وبهو قصر، ومخدع، واحتفال محلي، ودير، ترصد أكثر الأسرار والتحالفات والخطط خفية؛ لتعود بالمحصلة إلى مضارب ومعسكرات ذات الهمة وابنها عبد الوهاب.
ومن يدري بما أصبح في حوزتهم من أسلحة الفتك وما جد عليها، في غيبة ذات الهمة والأمير عبد الوهاب إلى بغداد ثم الحجاز؛ حيث تم إجراء مراسيم عرس عبد الوهاب، واحتفاء الأهل وقبائل جزيرة العرب به.
من يدري بما أصبح لديهم يشد أزرهم، ويدفع بهم وبملكهم الجديد الذي خلف لاوون «مانويل»، وابنته الشبيهة بالذئبة، التي تُظهر العداء والكره ضد العرب المسلمين، ويلقبونها ﺑ «الميرونة».
ولم تطل هواجس ذات الهمة وتساؤلاتها، وخاصة عما استحدث من أسلحة لدى الأروام، الأعداء حتى اندفع الأمير عبد الوهاب مصطحبًا أبا محمد البطال في جولة تجسس أخرى، وكان البطال لا يكف أبدًا عن المزاح والتهكم من كل ما يراه ويشهده، حتى إنه إذا لم يجد شيئًا يحيك حوله نكاته التي أصبح يعرفها الصغير والكبير، التفت إلى نفسه ساخرًا مختلقًا المأزق، حتى ولو كان في أقصى درجات الخطر الداهم والحصار والسلاسل وغياهب سجون الأروام؛ حيث كان ينفجر هناك ساخرًا من طعام لحم الخنزير، حين يقدمون له — جرايته — أو حين يجبرونه على ارتداء الأسمال الممزقة.
إلا إنه كان قادرًا على الإفلات من كل الشباك والمصائد والسلاسل والزنزانات المطمورة تحت الأرض، ليعود إلى قومه العرب ضاحكًا متندرًا ناشرًا في كل شبر يحل به السخرية اللاذعة من الأروام «الخواجات» وغبائهم وجبنهم، وغرابة أطوارهم، وأجساد نسائهم وحريمهم.
وكانت ذات الهمة تستبشر بضحكاته حين تصلها عالية صاخبة جامحة لا مبالية، مبددة لكل خطر وتوجس.
بل كانت غالبًا ما تعاني الأمرين في كتم ضحكاتها مما يرويه حتى في أكثر حالاتها غضبًا، ثم يعيد سرده عليها عقب كل رحلة ومغامرة مع جيشه من البصاصين والعيارين، وهم الذين دربهم على إتقان كل فنون إجادة النطق بلغات ولهجات ولكنات الأعداء من كل صوب وملة، والتنكر باستخدام ملابسهم من رجالي وحريمي، وصبغ وجوههم بالأصباغ، وطرق مشيهم وحركتهم وإيقاعهم وكافة خلجاتهم، وبثهم بعد ذلك في صفوف الأروام حتى داخل أسوار القسطنطينية المنيعة ذاتها، وداخل معسكراتهم وكاتدرائياتهم وقصور ملوكهم ونبلائهم وبطارقتهم، وورش صنع أسلحتهم ومراكبهم وبواخرهم وخماراتهم، وفي كل مكان يرصدون بدقة ما بعدها دقة كل ما تقع عليه العين، وتلحقه الأذن من تحركات أو استعدادات للوثوب والهجوم.
ومن هنا تزايد جيش البطال من العيارين، وغالبيتهم بالطبع من الأشبال المتحمسين المتفجرين ذكاء وإقدامًا، وبالطبع تزايدت سطوة أبي محمد البطال وذاعت شهرته ونكاته وخوارقه في الإيقاع بالأعداء، والإفلات من أعتى المآزق، إلى حد أشاع الرعب في قلوب الأروام، فوضعوا المحاذير في طريقه وعلقوا صوره في الميادين العامة ودواوين الجند والحكومة والكنائس، وأصبح مصدرًا دائمًا لمخاوفهم في كل مكان.
مما أدى إلى أن يُغير البطال أرديته وطرق تنكُّره؛ حيث أبدع في ذلك، فهو مرة كبير للبطارقة، ومرة أخرى حارس بوابة بالقسطنطينية، أو جندي يوناني، إضافة إلى تظاهره بكونه شحاذًا أو سكيرًا وهكذا، فأين لهم أن يطولوه وتلحقه سواعدهم وأسلحتهم؟!
لذا ما إن تناهت ضحكاته وقفشاته، التي غالبًا ما كانت تشيع بعض الفوضى والتسيب في قصر ذات الهمة حين دخوله، حتى استبشرت مبتسمة آمرة له بالدخول بصحبة الأمير عبد الوهاب.
وما إن دخل أبو محمد البطال وذهبت ذات الهمة لاستقباله حتى بادرها من فوره مستخدمًا إياها مادة لسخريته: والله عشنا ورأيناك جدة يا أحلى وأروع أميرة.
ثم بادرها أبو محمد البطال بما جمعه وتوصل إليه في غيبتهما من أسلحة ومعلومات استوثق منها بنفسه.
وما إن تساءلت الأميرة ذات الهمة: أين؟ حتى أحال عليها البطالُ الأميرَ عبد الوهاب الذي ضحك مطولًا قائلًا: أين؟! إنها شحنات ثلاث مراكب راسية بالميناء إلى الغرب من قصرك. وأشار بيده إليها.
ولم تملك ذات الهمة سوى أن تكتم ضحكاتها، وهبَّت من فورها بصحبتهما لترى بنفسها ما أحضره وتوصل إليه هذا «الشيطان» … البطال.
وما إن عبروا بواباتها باتجاه المرفأ الذي رستْ فيه سفن البطال حتى علت من جديد سخرياته وقفشاته التي أعادت لذات الهمة استبشارها: اخرس … يا بطال … اختشي شوية.