الأمير عبد الوهاب يُشفى من جراحه!
حلت الكوارث بالتحالف العربي عقب كارثة جرح الأمير عبد الوهاب في تلك الحملة التي شارك فيها شقيق أمير المؤمنين الخليفة الهادي: هارون.
وهو الذي أصبح فيما بعد الخليفة الخامس هارون الرشيد، الذي تُعورِفَ على عصره بالعصر الذهبي للراشدين.
وحطت الأحزان بأمه ذات الهمة إلى حد إحساسها بالتمزق الدامي الذي اعتراها، نتيجة لسقوط ولدها ورفيق جهادها عبد الوهاب نهبًا لجراحه الغائرة ودمه المسفوح بين جحافل جيوش الأروام الجرارة، والتي جاءت هذه المرة مدججة بكل جديد من مختلف أسلحة الفتك، والخطط الملتوية الأفعوانية، في مواجهة جيوش المسلمين التي أذهلها الوضع وما طرأ عليه من تحولات، إلى حد الثبات عند مراحل الدفاع دون أن تتخطاه للهجوم والتقدُّم والوثوب.
وأبدت معظم الفصائل العربية أقصى ما في الباع تقديمه، صمودًا في وجه ذلك العدوان التتري المفاجئ من جانب الأروام، دون أن تغفل عيونهم عن الإسراع في تضميد جراح الأمير عبد الوهاب، التي ومع توالي الأيام العصيبة واصلت التئامها ببطء، مما أثار المخاوف بين صفوف المسلمين.
ومما ضاعف من نكبات العرب تساقط بعض قلاعهم وموانئهم وحصونهم وثغورهم، التي عانوا طويلًا في تأمينها الواحدة بعد الأخرى، كمثل عقد منفرط بأيدي الأروام هذه المرة.
ورغم الأحزان القائمة التي حطت على ذات الهمة وهارون الرشيد وأبو محمد البطال، على افتقادهم لإقدام وبأس الأمير عبد الوهاب، إلا أنهم واصلوا الصمود والتقدم الحثيث على مختلف الجبهات المتعارضة التي خططت لها وافتتحتها جيوش الأروام، بعد أن أسكرها النصر المعجل.
إلا أن الدلهمة لم تستسلم لحظة في مواجهتهم، بل واصلت وضع الخطط المضادة، فما إن خرج هارون الرشيد ليسترد «عمورية» التي سقطت بأيدي الأروام، وعرَّج عائدًا بفيالقه على مالطة، حتى استقبلته ذات الهمة بخمسة عشر ألف رأس من رءوس قتلى أعدائها الأروام غير الأسرى في الأصفاد، برغم ما اعتراها من تمزق وأسًى لجراح ولدها عبد الوهاب؛ وذلك برغم ضراوة ما كان يُحاك ضدها في الخفاء — ودون أدنى اعتبار لمتطلبات الحرب — من مؤامرات وفتن من جانب عمها ظالم، وابنه الحارث، وقاضي القضاة عقبة بن مصعب، المفوض من قبل أمير المؤمنين الخليفة الهادي وأقرب مقربيه، حتى إنها واجهت هارون الرشيد محتدمة بالغضب في وجهه وهي تلقي بأحمال رءوس قتلاها عند قدميه قائلة: «أقسم بمن أنشأ الأنام، وفرض الحج والصيام، لولا خوفي على ثغور الإسلام من الكفرة اللئام؛ لرحلت إلى أي موضع كان، ولا أصبر على الذل والهوان.»
وهدأ الرشيد من روعها وهو يزف إليها تقارير حكمائه وأطبائه الأخيرة، التي وصلته عاجلًا بتماثل الأمير عبد الوهاب للشفاء من جراحة البليغة.
وافترقا على أمل اللقاء في القسطنطينية؛ حيث واصل هارون الرشيد — الذي تضفي عليه السيرة أنه كان أشجع بني العباس — تقدُّمه لملاقاة جيوش الأروام، إلا أن الجيش العربي انكسر أمام جحافل الزحف البيزنطي عنوة من جديد.
إلى أن حلَّت عدة مفاجآت غير متوقعة مع حلول الظلام، حين تحركت الجيوش البيزنطية عائدة من حيث أقبلت، فظن الرشيد وجنده، ونتيجة لهول المفاجأة بالانسحاب — غير المبرر أو المتوقع — أن الأروام عادوا أدراجهم باتجاه العاصمة البيزنطية «القسطنطينية» لحمايتها في وجه تقدم ذات الهمة وابنها عبد الوهاب، الذي آثر التماثل للشفاء من جراحه في الجهاد ووهجه المحتدم، برغم محاولات البطال وذات الهمة لثنيه عن المنازلة لحين تضميد الجراح البليغة.
بينما حقيقة الأمر المخالف للتقدير العربي الخاطئ أن البيزنطيين واصلوا تقدمهم لتحرير أسراهم، ومواصلة التقدم عبر البسفور باتجاه العراق ذاته، بل وعاصمته الجديدة بغداد؛ لاقتحامها وإسقاطها بعد أن أعمى عيونهم النصر المرحلي غير المتوقع.
وهو عكس ما تبادر إلى ذهن الرشيد وجنده، الذين استعجلوا — بدورهم — انتصارهم، حتى إن هارون الرشيد مضى من فوره في توزيع الغنائم والأسلاب من الذهب والفضة؛ «تصدقًا بعشرة آلاف دينار على الفقراء وأبناء القتلى والشهداء»، ودون إدراك صحيح للرشيد لهدف الأروام وخطتهم؛ نتيجة لغياب عبد الوهاب والبطال عن القتال معه، وانشغال ذات الهمة للتصدي لجبهة مخالفة على مشارف وتخوم القسطنطينية ذاتها.
ومن هنا سار الجيشان — العربي والرومي — في طريقين متعارضين؛ حيث انقسم التحالف العربي إلى قسمين أو جيشين؛ فبينما آثرت فيالق الرشيد — وغالبيتهم من جيش العراق — البقاء في مالطة وبقية الثغور المحررة على طول «مسبوتاميا» — أو آسيا الصغرى — وشواطئ وثغور البحر الأبيض المتوسط بعامة؛ لإعادة استردادها من أيدي البيزنطيين، ولتعود كما كانت في موقع الحصون المنيعة في أيدي العرب.
وهنا تحركت فيالق ذات الهمة والأمير عبد الوهاب وأبو محمد البطال باتجاه القسطنطينية، التي أكدت معلومات البطال وبصاصيه خلوَّها من أي حماية تذكر.
أما التحالف البيزنطي الرومي؛ فإنه بدوره انقسم إلى جيشين مستقلين؛ حيث واصل جيشه الأكبر الزحف باتجاه العراق ووادي الرافدين، بينما عادت حامية منه محملة بأسلاب الأسرى العرب، راجعة أدراجها إلى القسطنطينية لتشديد حمايتها، توجسًا من زحف ذات الهمة وابنها الأمير عبد الوهاب، الذي كان قد تحامل عائدًا إلى موقعه كرأس للجيش العربي، متوثب الذكاء والموهبة في وضع الخطط، التي كانت تلقي بكل مفاجأة وفزع في صفوف الأروام.
فعندما آثرت ذات الهمة التريث وعدم ترك الثغور العربية عارية أمام زحف الأروام باتجاه الشرق ومركزه عاصمة الخلافة، خالفها الرأي والمشورة الأمير عبد الوهاب قائلًا: «يا أماه … من الصواب مواصلة السير قبل كل شيء باتجاه بلاد الروم — القسطنطينية — طالما أنها خالية من العسكر الآن.»
وابتهج البطال لرأي عبد الوهاب معدًّا لذات الهمة مفاجأة ما بعدها مفاجأة، مدعمة بما توصل إليه العيارون والأشبال من معلومات، شريطة الإسراع الفوري بحسب الالتزام بخطة عبد الوهاب باتجاه التقدم الحثيث للعاصمة.
حتى إذا ما اقتنعت ذات الهمة ورحلوا طالبين القسطنطينية أسرعوا المسير، إلى أن لحقوا أحد قادة الأروام من البطارقة العائدين بأسرى المسلمين، ومنهم الأمير عمرو بن عبد الله بن سليم، حاكم مالطة، الذي تربى معه منذ الطفولة والشباب الأمير عبد الوهاب.
ولم يحتج الأمر لمحاربة فيلق الأروام العائد بالأسرى العرب؛ ذلك أن البطال تولى هذه المهمة بإحدى حيله القصيرة القاتلة، فقتل البطريق القائد، وخلصوا سباياهم، وعانق عمر عبد الوهاب، وأقاموا ثلاثة أيام للراحة، ثم واصلوا الزحف من مائة وعشرين ألف جندي ما بين سودانيين وأكراد وفلسطينيين ويمنيين وحجازيين، وساروا إلى أن نزلوا على بحيرة «خرشنة» المتاخمة للقسطنطينية، فلما رأى حاكم تلك المدينة الساحلية عظم جيش المسلمين وعتادهم، أرسل إلى الملك «مانويل» في مقره، وهو على مشارف عاصمة الخلافة في بغداد، ليُعلمَه بمدى الخطر الداهم المطبق على القسطنطينية ذاتها.
حتى إذا ما قرأ الملك مانويل كتابه اكفهر إلى حد الهياج الهستيري، متهمًا زمانه الخائن الرديء، وكذلك قواده ومستشاروه، وجمَع من فوره بقية الملوك والقادة ومجلس البطارقة والأمراء، وكل من كان في فلكه، معلنًا أنه يتشمم رائحة الخيانة فيما يحدث ويجري على جبهة القتال، واتهمهم جميعًا بالخيانة وضيق الأفق، وحلول الكارثة على رأس الجميع.
فكيف يتسنى له وجيشه استرداد الثغور والعبور عبر الأناضول، بعد أن كسروا جيش شقيق الخليفة ذاته هارون الرشيد، وواصلوا زحفهم نزولًا إلى الرافدين، فتساقطت أمامهم مدن العراق الواحدة بعد الأخرى، زحفًا إلى العاصمة عاصمة خلافة المسلمين، وعندما قاربوها وأصبحت على مرمى البصر من أبصارهم إذا بالأخبار السوداء تتهاوى على رءوسهم كالصواعق الحارقة الفانية، كمثل حمم عاتية ليس بمقدور بشرٍ احتمالها، ومن أين تجيء؟ من خلف ظهورهم … ولمن؟ لأبنائهم وجرحاهم الذي خلفوهم عرايا بالقسطنطينية دون غطاء ليستبيحها العرب الأجلاف.
وكانت كلما تواترت الأخبار والتقارير حول ما يحدث على جبهة ذات الهمة، كلما أعاد الملك مانويل شق ردائه على مشهد من القادة وبقية الملوك والأمراء والبطارقة الواجفين غيظًا وكمدًا.
كيف استولى البطال على البطريق قائد الحملة العائدة مظفرة بعشرات الآلاف من أسرى المسلمين وأسلابهم لحماية القسطنطينية، بالمكيدة والمخادعة، كمثل سكين يقطع زبدًا، وحلَّ وثاق أسرى المسلمين؟! وها هو الآن إلى جانب ذات الهمة وابنها يدقون أسوار القسطنطينية في غفلة، ويمكن القول «تغفيل» منه ومن قادته ومستشاريه!
والأدهى من هذا وأكثر مرارة، أن ذلك يحدث وهم — أي الأروام — هنا على مشارف الحلم الأكبر العسير المنال، الذي أرقهم السنين الطوال، بل الدهور إثر الدهور، في أن تصل أياديهم الطولى يومًا عاصمة خلافة المسلمين. وها هي بغداد محط الآمال مشرفة على روابيها وتلالها وأنهارها تخاطب عيونهم. ها هو حلم الأسلاف والأجداد على مرمى البصر من ملوك أوروبا وأباطرتها، تكشف لهم عن وجهها الخبيء الغامض بما كانوا يسمعونه عنها من ثراء ورفاهية، وأكداس كنوز الشرق وعبقه، ومصنوعاته وعلومه، ومنسوجاته وفنونه، وموسيقاه الشجية وسَمَره غير المنقطع.
وليس في مقدورهم العبور إليها وإلى ساحاتها وقصورها الوارفة على الدجلة، بعدما حدث من غفلة وتغفيل ليسا منه — أي الملك مانويل — وقادته.
كان جشع الملك مانويل الثالث وأحقاده تتفجر هادرة في كل اتجاه أمام سراب انقشاع الحلم السلفي بالوصول إلى هنا … إلى عاصمة خلافة المسلمين.
تتفجر هادرة ضد قادته وساسته ومستشاريه، وضد العرب الدمويين وتآمرهم وأحابيلهم، وبخاصة ذلك الشبح الخيال الذي أذاقهم الويل وسخر منهم لطوب الأرض ذاته؛ أبو محمد البطال، صاحب الحيل والملاعيب التي يبدو أنها لن تنتهي أبدًا، والتي إن دلَّت على شيء فإنما على مدى غباء تحالف الأروام البيزنطيين وملكهم وقادتهم.
وهكذا أعاد الملك مانويل الثالث تساؤله — وهو في أقصى حالات غضبه ومرارته على مجمع قادته ومستشاريه: أليست هي ذات الحيلة المكيدة التي دبرها العرب وجاسوسهم العجوز السابق ابن الحصين، أستاذ البطال ومعلمه الأول، والتي عن طريقها اقتحم العرب حصن ابنته الأميرة «باغة»، حاكمة مالطة وما حولها من ثغور، وانتهى الأمر بقتلها وقطع رأسها منذ بضع سنوات ليست بالبعيدة؟
وكان الملك مانويل يعني مشيرًا إلى تلك المكيدة التي دبرها الحصين بن ثعلبة، حين استولت فيالق ذات الهمة على كتيبة من قادة جند الأروام، تسوق أمامها عائدةً إلى حصن الأميرة باغة المنيع، الذي استعصى فتحه واقتحامه طويلًا على العرب، تسوق أمامها بضعة آلاف مؤلفة من أسرى العرب المسلمين في أصفادهم وسلاسل سبيهم.
فكان أن استولت كتائب ذات الهمة التي تحصنت في شعاب الجبال على قادة الأروام وبطارقتهم، وحرروا أسراهم، وقبل أن يُقدموا على قتل القادة الأروام، اضطلع العيار العجوز ابن الحصين بوضع خدعته الماهرة، حين خلف عن الأروام ملابسهم وهيئاتهم وأسلحتهم، وأعاد إلباسها ووضع التفاصيل الدقيقة لأتباعه من البصاصين والعيارين المهرة في التمثيل والتنكر وإتقان اليونانية القديمة، وتحركوا باتجاه حصون الأميرة «باغة» وهم يسوقون أسراهم من العرب، ومنهم الأميرة ذات الهمة ذاتها تحبو على أربع، في أصفادهم، مهللين يترنمون بأهازيجهم وموسيقاهم.
وهنا انطلت الحيلة على الحراس فانفتحت البوابات عن آخرها، حتى إذا ما احتوت ساحات الحصن كتائب المسلمين اندفعوا من فورهم تقتيلًا في الحراس، وواصلت ذات الهمة تقدمها إلى أن اقتحمت مخبأ الأميرة باغة ونازلتها وجهًا لوجه إلى أن تمكنت منها، فقطعت رأسها عن جسدها، وأرسلت الرأس إلى عاصمة الخلافة لتعتلي أسوارها.
وكانت تلك الواقعة المكيدة الشهيرة أول بوادر انتصارات الأميرة ذات الهمة التي أعلت من شأنها، ولفتت إليها في إعجاب كل الأنظار على طول العواصم العربية والإسلامية، كما أنها دفعت بأعدائهم من تحالف الأروام البيزنطيين إلى أقصى بحار اليأس القاتمة.
وهنا وصل القنوط بالملك مانويل وهو يسوق لمجمع قادته تفاصيل تحايل ذلك الشيطان متعدد الرءوس … أبو محمد البطال في اقتحام تخوم مدن القسطنطينية وأسوارها المنيعة ذاتها، حين اتخذ بنفسه هيئة البطريق القائد، بارتدائه لملابسه ولحيته ذاتها و«باروكة» شعر رأسه، بل ونبرات صوته ذاتها، ونطق لحراس أسوار القسطنطينية بالشفرة السرية، التي عقبها انفتحت بوابات العاصمة مستبشرة مرحبة بعودة الجيش العائد المظفر من جند الأروام يسوقون أسراهم من العرب: أحقًّا ما يحدث وتسوقه الأخبار السوداء؟!
تساءل الملك مانويل في أقصى حالات هياجه: أيمكن أن يعقل ما يحدث، أن ينام ليلة على تحقيق حلم الأسلاف الأبدي بالوصول إلى هنا بجيوشه؛ ليصحو صبيحة اليوم التالي والعرب يدقون حصون القسطنطينية العاصمة؟ هي الخيانة ولا شك!
حتى إذا ما تطاير المزيد من الأخبار والمعلومات إلى الملك مانويل وقادته، بعودة الأمير عبد الوهاب ذاته إلى مقدمة صفوف المسلمين على مشارف القسطنطينية، استبد بهم الغيظ أكثر.
وكان الاعتقاد السائد لديهم أنه مات عقب الكمين العاتي الذي دبروه له، لتصيده وإسقاطه وقتله بكل الوسائل على مرأى من عيونهم، حتى إنهم أيقنوا من سفح دمه على رءوس الجبال وقتله.
وحتى إذا لم يقتل إلى حد إزهاق الروح، فسيظل طريح فراشه لسنوات.
لكم تبددت أحلامهم وبهجتهم الكبرى على طول عواصم الغرب حين علموا أن ابن الدلهمة عبد الوهاب ما زال حيًّا.
وها هو عبد الوهاب يحارب الآن على أبواب القسطنطينية السبعة، وهم هنا أقرب إلى المشلولين لا يفعلون شيئًا سوى مجرد ترصد الأخبار وسماعها.
والأخبار الصاعقة لا ترحم لحظة، غمضة عين، وهي تحمل إليهم تفاصيل وأفعوانية ما يحدث على هذا النحو الدميم الصادم: القسطنطينية تفتح أبوابها على مصاريعها، والعرب يندفعون إلى ساحاتها وقصورها وأسواقها وحصونها دون عناء داخلين … فاتحين.
– العرب يشاركون سكان القسطنطينية من رجال ونساء احتفالاتهم وكرنفالاتهم.
– ذات الهمة تتوج الآن أول أميرة عربية على عاصمة الأروام البيزنطيين، وهم هنا على مشارف عاصمة الخلافة بغداد.
– يا له من جنون!
– يا له من زمن حقًّا رديء!