حصار العرب لعاصمة الروم
وأعدت الجيوش والرجال … وانطلق الصحصاح والأمير مسلمة ابن الخليفة عبد الملك بن مروان على رأس جيش جرار لمقاتلة الروم والبيزنطيين، وكان زادُه شجاعةً لا حد لها، وخبرة في الخرائط التي ترسم الجزر والثغور والمسالك البحرية الصعبة … ولكن كان بانتظاره فخ نصبه الأعداء له.
لكن لم تفلح الحيلة المكيدة التي دبرها الأعداء للإيقاع بالأمير الصحصاح وهو الخبير العالم بخداع وتآمر أعدائه المنهزمين … وكيف أن الحرب في عمومها خدعة.
لذا ما إن دوَّى صوته عاليًا مكبرًا حتى أحاطت كتيبة مدربة من جند المسلمين بالمغارة من كل جانب، مما أوقع الهلع في قلوب العساكر الرومية، فولوا الأدبار طلبًا للهرب، بعد أن عملت فيهم سيوف الأميران الصحصاح ومسلمة، فتساقطت الرءوس الواحدة بعد الأخرى، وأولهم الرسول المتآمر، ومَن قُدِّر له بلوغ رأس المغارة تلقته سيوف الكتيبة التي سبق للصحصاح إعدادها ومراقبة ما يحدث خفية.
بل إن هذه الواقعة المكيدة ترسبت غائرة في أعماق ذات الصحصاح، مواصلة ترددها بين صفوف بقية كتائب العرب على طول الجزيرة، فدقت طبول الحرب والرحيل، وزحفت صفوف المسلمين إلى سطوح الكتائب والمراكب والعمائر الرابضة على طول السواحل؛ لتسد كل المنافذ على جند الأعداء.
وعلت الأصوات مكبرة ومعلنة: إلى القسطنطينية … إلى القسطنطينية.
وعبر أمواج البحر الهادر، أعاد الأمير الصحصاح قسمه ووعده لأمير المؤمنين الخليفة الأموي.
«والله لا أرجع إلى خليفة المسلمين حتى أفتح القسطنطينية وأبني فيها مسجدًا للخلافة.»
ولازم الصحصاح أمير المؤمنين الخليفة عبد الملك بن مروان، لا يغيب عن صحبته ليل نهار، وهو يحكي له تفاصيل خططه الحربية التي لم تكن تخلو من الحيل والمكائد والكمائن التي تَفرَّد بمعرفتها الصحصاح، ودون حياء، طالما أن الحرب هي من مجملها خدعة كبرى.
وكان الخليفة عبد الملك بن مروان كلما استعذب حديث الصحصاح، ومدى ما ركبه من صعاب للوصول إلى أهدافه العزيزة المنال، كلما طالبه بتدوين ملاحظاته وتوثيقها بالخرائط؛ لتُحفظ في خزائن الدولة، ولتكون معينًا لا ينضب عطاؤه لأجيال العرب من قادة وفاتحين، طالما أن الأروام لن يحدث ويستسلموا أبدًا لما حل بهم من هزائم.
كانت أمنية الصحصاح عسيرة بعيدة المنال، وهو القائد المتمرس بالموانئ والثغور المحيطة بالقسطنطينية، بل هو على معرفة يقينية بعاصمة التحالف الرومي البيزنطي، ومدى ما تمتاز به أسوارها وحصونها من تعزيزات تكسرت أمامها نصال كل غازٍ وطامع في النفاذ والعبور إلى ساحاتها.
بل يكفي في هذا الأمرِ القنواتُ المحيطةُ التي كثيرًا ما أغرقت أعتى الجيوش المدججة، ومنها أيضًا بعض الفيالق العربية التي غرقت بكاملها داخل سراديبها ومسالكها التحتية العميقة الأغوار.
كان الأمير الصحصاح على معرفة بمدى صعوبة ووعورة ما سبق له أن قطعه على نفسه في بلاط أمير المؤمنين، وكبار وزرائه وحاشيته، بألا يعود إلى أرض العرب قبل أن يفتح القسطنطينية.
وعبر تأملات الصحصاح الليلية لأمواج البحر الفسيح الهادر، التي تمخره السفن العربية المُحمَّلة بالجنود من كل كيان وقبيلة وقوم، ما بين المقاتلين العرب الحجازيين والنجديين والطائيين، جنبًا إلى جنب مع القبائل الفلسطينية والسورية والمصرية واللبنانية، وهم البحارة بناة السفن الذين عرفوا هذه الطرق البحرية وجابوها منذ الأزل، فأنشئُوا المدن والثغور البحرية، التي اتخذوها مراكز لتجارتهم التي كانت مضرب الأمثال على طول البلدان والآفاق.
والذين وصل ثراؤهم إلى حد أثقال الفضة التي صنعوا منها هلوبًا لسفنهم المشادة من أخشاب أرز لبنان، تتوسطها الصواري الشاهقة الارتفاع إلى حد مناطحة السماء.
كان يحلو للأمير الصحصاح مواصلة التأمل لما يجري، حتى القديم السالف الذي عشقه منذ صباه، لتعرفه على مكنونات وأسرار أعماق الكتب القديمة وسير الرواة، عن حياة البحر، وعن مدن الأجداد والأسلاف التي شادوها، كما أشادوا بعلبك وصيدا وصور، تلك المدن التي لا تزال شاهقة تشهد بأمجاد الأجداد القدماء على طول الساحل والثغور.
فقرطاج والبندقية وكريت كانت على الدوام تفيض بالصناعات والمنسوجات والعمائر العربية، وتعج بالتجار، وتزخر بمنتجات الشرق، فتحملها جاهزة مجهزة إلى مدن الغرب وموانئه الغارقة في أعماق التخلف وحياة الكهوف.
كان الصحصاح يبذل خارق الجهد في الاستزادة من المعرفة بسير الجدود القدماء وتطلعاتهم وفتوحاتهم البحرية مشرقًا ومغربًا.
كان يبعث برسله لنقل كتاب مخطوط قديم من شواهق الهند وفارس والبندقية.
لكن دون أن تغفل عيناه عن جنده وواجبه كقائد يقظ مؤتمن على حياة جند المسلمين، وتلك الثقة المشوبة بالحذر التي أحاطه بها أمير المؤمنين الخليفة عبد الملك بن مروان.
إلى أن جاءت لحظة حماسه وانجرافه ذات يوم في حضرة الخليفة، وأمير الحملة ولده المقرب الأمير مسلمة، حين انتصب واقفًا على قدميه الاثنتين، رافعًا ذراعه عاليًا على رءوس الأشهاد، مطلقًا قسمه وتَعهُّده، الذي أصبح بسببه لا يُذيق عينيه غفوة الراحة والنوم مثل بقية خلق الله: «والله لا أرجع إلى خليفة المسلمين حتى أفتح عاصمة الروم قسطنطينية، وأبني فيها مسجدًا لأمير المؤمنين.»
وحين حطت قوافل العرب وبوارجهم وعمائرهم على تخوم عاصمة الروم البيزنطيين، بدت المدينة مظلمة ضئيلة الحركة وكأنها مدينة للموتى، وليست عاصمة للتحالف الأوروبي بأكمله المتربص منذ الأزل بالعرب والمسلمين، انتظارًا لتحيُّن فرص الوثوب لفرض الإذلال والهيمنة.
بل إن دوام الحصار دفع بالصحصاح إلى إعلان شارات التحدي لملك الروم وقادته صباح مساء دون مجيب، حتى إذا ما طال أمد ذلك الحصار العربي لعاصمة الروم، وبدا الملل بين صفوف الجند والكتائب، استشار الأمير مسلمةُ الصحصاحَ بالشروع فورًا في إنشاء الحصون والأبنية المجاورة للعاصمة، التي واصلت مع توالي الأيام والسنين النمو والتكاثر والازدهار، إلى أن شرع الأمير مسلمة في إطار العزم والمثابرة وإطباق الحصار «في بناء مدينة مقابل القسطنطينية أسماها المستجدة، وقسم لكل طائفة طرقًا وأحياء فيها … وعمرت المدينة وصارت متسامقة عالية البنيان والأسوار، مليحة الأركان كأنها مدينة نبي الله سليمان».
وعمرت بالأسواق والمعاهد ومعاقل الجند والحمامات. كل ذلك يحدث تحت أعين جنود الروم ومليكهم لاوون، الذين أرهقهم الحصار، وقطع المُؤَن، وضرب كل إمداد، وانتشار الخوف والهلع في نفوس السكان.
وحين طال أمد حصار جيوش المسلمين للقسطنطينية الذي فاق أربعة أعوام، لم تغفل فيها عين الأمير الصحصاح عن زوجته وحبيبة قلبه الوفية «ليلى»، التي كان قد علم بوضعها لولديه ظالم ومظلوم، على مدى سنوات الحرب المستعرة التي لم تترك له يومًا لرؤيتهما منذ رحيله عن أرض الحجاز إلى دمشق، وزيارته الخاطفة لها عقب فتح مالطة، إلا أن الحصار المديد لعاصمة الروم أعاد إلى مخيلته الحنين الجارف إلى زوجته وولديه، فتمنى مشتهيًا رؤيتهم والتعرف على أحوالهم.
فدأب على إرسال الرسل المحملة بالهدايا من ملبس ومأكل وتحف وجوهر إليهم، بل هو كثيرًا ما اختلى بنفسه في إيوانه شاردًا لا يغفل عن وجه ليلى المشع دومًا بالصفاء وعميق المشاعر، تحمل بين صدريها وليديه ظالمًا ومظلومًا، بل كان الأكثر ملازمة لفكر الصحصاح وخياله عبر سنوات الحصار وركون السلاح إلى الهدوء هو وادي الحجاز بأسره؛ مرتع صباه منذ المهد.
وكانت أخبار الانتصارات العربية تتوالى إلى عاصمة الخلافة مدوية شاحذة للهمم، حتى إن الخليفة عبد الملك بن مروان دأب على إذاعتها بين العواصم العربية أولًا بأول، ودأب على مراسلة ابنه الأمير مسلمة وقائد حملات جيش المسلمين الأمير الصحصاح يحثهما على التقدم والجهاد والسهر على حراسة ثغور الخلافة دون هوادة.
وحتى عندما اشتد عليه المرض فلزم فراشه، حرص على استقبال الرسل وسماع الرسائل، ورد عليها بنفسه مُسديًا المشورة، مُنبِّهًا الأذهان إلى أهمية إخفاء مرضه ولزومه فراش الموت؛ حتى لا يتسرب إلى صفوف الأعداء فتقوى عزائمهم، ويطمع طامعهم.
ورغم حنينه وهو يعاني سكرات الموت وأطيافه إلى مجرد رؤية ولده المظفر مسلمة، ظل مفضلًا بقاءه لمواصلة حراسة تخوم خلافة المسلمين، إلا أن الخليفة المحتضر عبد الملك بن مروان أوصى لمسلمة بالخلافة قبل ولده الثاني الوليد.
ومن جانبه فضل الوليد إخفاء وصية الأب طمعًا في الخلافة التي مارسها بالفعل طيلة فترات مرض الخليفة الوالد.