خوارق البطال
أحدثت النكبة التي أوقعها الرشيد بالبيت البرمكي نتيجة الصراعات القبلية والعشائرية والقطرية والإقليمية، التي تلهب نيرانها المؤامرات والدسائس داخل الخلافة، فاجعةً أدمت ملايين المسلمين داخل مختلف الأقطار.
إلى أن وصل مداها إلى جبهة قتال المسلمين وقيادتها، خاصة ذات الهمة والأمير عبد الوهاب والأمير البطال، الذين حطت عليهم الأحزان؛ فكظموا ثوراتهم إزاء الخطر الداهم الذي تفاقم نتيجة للانقسامات العربية والإسلامية، وبسبب تغيبهم عن الجبهة استجابة لمطلب الخليفة الملح بالعودة إلى عاصمة الخلافة، ثم ما وقع من صراعات وخلاف في الرأي أدى إلى اعتقال الخليفة هارون الرشيد للأمير عبد الوهاب وأمه ذات الهمة، التي سبق لهارون الرشيد ذاته تكريمها، فكان أول من أسماها «بأم المجاهدين»، إضافة إلى أنه تعلم أول فنون الحرب على أيديهما حين آثر — منذ قدومه بجيش العراق صبيًّا صغيرًا يُعرَف «بهارون العلوي» — العملَ والحرب تحت رايات عبد الوهاب، الذي حرَّره من أسر الأروام مرتين في مالطة وعمورية.
كل ذلك الشريط المتزاحم بالأحداث كان يجول في خاطر ذات الهمة، بعد أن تمكنت هي والأمير عبد الوهاب عقب عودتهما من بغداد من استرجاع جزيرة مالطة وبضعة ثغور، وتحرير بعض أسرى المسلمين، ومنهم الأمير عمرو بن عبد الله، حاكم مالطة، الذي كان قد أُسِر للمرة الثانية، وتجميع فلول الفيالق الإسلامية التي أوهنتها الانقسامات في عاصمة الخلافة؛ وذلك تمهيدًا للوثوب إلى بلاد اليونان وإعادة الهيبة العربية إلى جزرها وثغورها الواحدة بعد الأخرى، عقب تحدي ملكها وخروجه بجنوده عن الطاعة وشروط الصلح السابق.
وتبدى تقدم المعارك حثيثًا ضاريًا مكتظًّا بالمصائد والفخاخ، التي أتقن التخطيط لها عتاة الرهبان البطارقة اليونانيين وملكهم المتجبر.
وكان من نتائجها تعرض بعض الفيالق والكتائب العربية للأسر الجماعي داخل أخاديد ومغارات ووديان الجزر اليونانية العملاقة؛ حيث تفوق أولئك البطارقة والرومان بالتحكم في منسوب المياه، التي كانت تغرق الجيش العربي وتدفع به إلى التشتت، وتعمل على تقطيع أوصاله.
إلا أن أبا محمد البطال الذي أصبح اسمه وصوره معلقة في كل مكان، حتى إن بعض الكيانات الأوروبية كانوا يخيفون به أطفالهم وصغارهم: «اسكت يا صبي وإلا أُحضرُ لك البطال.» استطاع البطال بذكائه الخارق — وهو الذي «ينطق بواحد وسبعين لغة ولسان» كما تصفه السيرة — أن يجد المنفذ والخلاص للجيش العربي من كل أسر وكبوة وأحبولة، ضاحكًا متهكمًا على عادته وهو في أقسى المواقف التي تفت في عضد الأبطال.
هذا قبر شداد بن عاد الأول، ملك ألف مدينة، وفتح ألف قلعة، وتزوج ألف بنت بكر، ولم يجد من الموت مفرًّا.
إلى أن انتهى بهم الراهب شميدس إلى خدعة طوفان الماء، لحين إنقاذ أبي محمد للأمير عبد الوهاب وفيالقه، ساخرًا كعادته وقت كل شدائد ومحن.
أكتب إليكم بعدما رأيت من عساكر الأروام التي اجتمعت على بوابات القسطنطينية، وهي عساكر لم يُسمع بمثلها: سبعة عشر مللًا بجيوشهم، وهم إلى مالطة قاصدون؛ لذا فإن الأمر عظيم، والخطب جسيم.
وكان الرشيد قد فوجئ بهذه الأخبار إلى حد أنه قاد بنفسه جيشه، ولحق بهم على الجبهة، معيدًا جمع الشمل إلى الجيوش والفيالق العربية المتناحرة، حتى يمكن التصدي لأخطار الروم التي تجمعت من جديد تحت الرايات البيزنطية، من «رومان وأرمن ويونانيين وبلغار ومجريين وبرغال وملاقطة وبنادقة».
واحتدمت المعارك إلى أن وقع الرشيد نفسه أسيرًا مُحاصرًا بفيالقه لحين تمكُّن الأمير عبد الوهاب والبطال من فك حصاره، برغم سقوط الأميرة ذات الهمة جريحة؛ حيث «تخضبت ثيابها بالدماء» على مرأى من الأمير ابنها عبد الوهاب، الذي جد السير بجيوشه، ومعظمهم من السودانيين والنوبيين والمصريين والفلسطينيين والعرب الحجازيين، في إثر ملك الروم، الذي تصور أنه نال أقصى أمانيه بأسر خليفة المسلمين، متخليًا عن ذات الهمة الجريحة السابحة في دمائها.
ولم يعد عبد الوهاب والبطال إلا بعد أن تمكنا من فك حصار الرشيد الذي ظل الليل بطوله لا يقرب طعامًا، إلا أن الرشيد هذه المرة أشاد بشجاعة عبد الوهاب وأبي محمد البطال إلى آخر أيام خلافته، بل هو أوصل وصيته بتجليهما وتقريبهما إلى ولديه الأمين والمأمون، قائلًا فيهما: «فقلَّ أن يجود الزمان بمثلهما.»
بل إن الخليفة هارون الرشيد لازم الأميرة ذات الهمة الجريحة، وأحضر لها الأطباء والحكماء لرعايتها من كل أنحاء العالم الإسلامي، وهي نصف محتضرة تعاني آلام جراحاتها البليغة وهي تنطق بالشهادة.
بل لعلها حقًّا الرغبة في الموت التي طالما تمنتها من أعماقها وسط لهيب المعارك دفاعًا عن الحقوق العربية ضد الغزاة الطامعين.
بل إن خبر سقوط الأميرة ذات الهمة جريحة مضرجة بدمائها تواتر مضخمًا ساريًا سريان لهب يلتهم هشيمًا، مجددًا عزم الأعداء الأروام، مثيرًا الحمية في مختلف أقطارهم ومللهم ونحلهم، معتقدين أنهم أخيرًا تمكنوا من النيل من عدوتهم الأولى فاتحة القسطنطينية، الأميرة الدلهمة.
ووصل الخبر مضخمًا من عاصمة لأخرى، إلى حد الادعاء بإزهاق روحها وموتها المحقق.
وعلى الجانب المقابل، تلقت الأقطار العربية والإسلامية خبر جراح ذات الهمة في مواجهة الأعداء الأروام واحتضارها بالمزيد من الدعاء الجماعي لها بتجاوز كبوتها، والعودة إلى تحمل أعبائها الكبرى التي هدفها في كل جولة — وإن تعثرت — النصر المحقق للعرب والمسلمين.
بل إن التظاهرات اندفعت إلى شوارع وساحات عاصمة الخلافة، وظلت الجماهير تجوب الطرقات ليلًا داعين مكبرين لأم المجاهدين، وهم يطالبون بالمزيد من المعلومات والأخبار المهدئة لجماهير المسلمين المشدوهة المتعطشة لمعرفة حقيقة ما حدث لذات الهمة، وهل حقًّا ما يحدث عن بطلتهم الشعبية التي جلبت لهم النصر عقب النصر طيلة تلك السنين؟
وانشغل عنها الأمير عبد الوهاب بمطاردة ملك الروم، دون أن تغيب أخبار جراحها عنه حتى وهو في ساحات أعتى المعارك التي جاءت تلك المرة عاتية من جانب الأروام البيزنطيين، الذين أغراهم وشدد من هجماتهم تيقنهم من غائر جراح الأميرة ذات الهمة، وما أحدثه من تهاوٍ وهبوط بمعنويات جند العرب.
•••
إلا أن عبد الوهاب تسلم راياتها مواصلًا القتال، مطاردًا فلول الأروام البيزنطيين إلى أن شتتهم في السهول وشعاب الجبال، وانسحب ملكهم إلى ما وراء القسطنطينية التي كانت قد تهاوت تحت هجوم العدوان البيزنطي.
ومن جديد ضرب عبد الوهاب حصاره حول العاصمة، مطلقًا للبطال وفيالقه التسرب إلى داخل أسوارها انتظارًا لفتح الطريق أمام الأمير عبد الوهاب وجيشه لدخولها مرة أخرى.
وظلت ذات الهمة رغم ضراوة جراحها لا تكف عن مراسلة عبد الوهاب وتزويده بخططها خلال فترات حصاره للقسطنطينية، لا يغيب عنها الأمل لومضة في إعادة استردادها، وتقويض تسلطها الطامع في المسلمين وخلافتهم على مدى الأجيال، كما ظلت على اتصال بالخليفة تكاتبه حول كل ما يستجد، وبألا تغفل عينه وتطرف بعيدًا عن ثغور المسلمين التي لا حماية ولا أمن لها من دونهم.
إلى أن وافت المنية ذات الهمة، وشاع خبر استشهادها الذي حذَّرت مسبقًا من نشره وإشاعته بين الناس؛ حتى لا يصل أسماع ابنها عبد الوهاب في لحظات جهاده المضنية الحاسمة التي كانت على دراية بتفاصيلها وهي نصف غائبة عن الوعي، مخافة ما يمكن أن يُحدثه خبر وفاتها من إحباط لجهاده، وهي التي أزهقت أنفاسها طيلة عمرها لتحقيقه.
وهكذا ماتت الأميرة ذات الهمة ووُورِيَت التراب، وبكَتْها أممُ الأرض إلا ابنها عبد الوهاب، الذي ما إن تحقق من وصوله إلى هدفه باقتحام القسطنطينية مرة أخرى، وفرض الجزية لخليفة المسلمين، حتى أسرع الخطا لزيارة قبرها، وشق ثيابه حزنًا وكمدًا عليها وهو يرثيها بأبلغ الشعر.
ذلك أن عبد الوهاب كان على دراية بكل الخبايا حتى لحظة مفارقة أم المجاهدين للحياة.
كان عبد الوهاب على دراية يقينية بموت ذات الهمة، مواصلًا تحقيق غاياتها في الجهاد دون التفاتة إلى الوراء، إلا أن ما حزَّ غائرًا في أعماق عبد الوهاب كحد النصل، هو أنه الوحيد الذي لم يشهد لحظات جراحها ومفارقتها لحياة المعارك وساحات الجهاد.
وظل على الدوام يعاني ذلك الإحساس الدفين بالذنب من الكيفية التي تخلى فيها عنها، متهاوية طريحة تعاني السقوط من أعلى هامة جوادها، وهي تهفو إليه بكل جوارحها، مشيرة بذراعها المشهر الذي يقطر بالدم، داعية إلى التقدم ومواصلة اليقظة الكاملة لكمائن الأعداء المتوثبين من حول عبد الوهاب، فما كان منه سوى مواصلة التقدم دون التفاتة تحسُّر واحدة لأمه … ورفيقة جهاده التي وُورِيَت أخيرًا التراب.