العودة إلى وادي الحجاز
بل هو — أي الوليد بن عبد الملك — كشف عن نواياه الدفينة لأتباعه ومريديه بالحيلولة دون تسرب خبر الوصية إلى أخيه الأكبر مسلمة، والعمل على إبعاده أكثر بالحرب، دون العودة ولو للمشاركة في شعائر وجنازة دفن الخليفة.
وظل يكاتبه باسم الخليفة الوالد لمدة خمسة أعوام متخوفًا من جنده البالغ عددهم خمسون ألفًا، ومن انتصاراته والتفاف الأمصار من حوله كبطل فاتح.
وفي العام السادس، عاد الأمير مسلمة بعدما تحقق فتح القسطنطينية واستسلام ملكها لشروط المسلمين، وأقيمت الزينات والأفراح على طول عاصمة الأمويين دمشق، ودخل الأمير مسلمة وقائد الجند المنتصر الأمير الصحصاح قصر الخلافة المُزيَّن بأقواس النصر، وحين عانقه الخليفة الجديد الوليد بن عبد الملك بن مروان مقبلًا سائلًا عن حاله، أنشد الصحصاح:
ودامت أفراح الانتصار ومباهجه أيامًا وبذل الخليفة الأموي الجديد الوليد بن عبد الملك كل جهد في محاولة إخفاء وصية والده أمير المؤمنين سليمان بن عبد الملك بن مروان، التي سبق له اقتناصها وإبعادها عن الإشهار، والتي أوصى فيها بالخلافة من بعده لابنه مسلمة، الذي كان بدوره مشغولًا بالحرب والجهاد بعيدًا عن عاصمة الخلافة وما يعتمل داخلها من صراعات تملُّك السلطة، وهو الصراع الذي احتدم لهيبه طيلة فترة مرض أمير المؤمنين وانشغال الأذهان والمشاعر بالحرب المستعرة التي يقودها الصحصاح والأمير مسلمة.
فالحرب هنا ليست بالعادية، بل هي حرب قارية تشمل جبهتها الفسيحة كل آسيا الصغرى ومداخل أوروبا الجنوبية، وتمتد أطرافها إلى عاصمة التحالف الأوروبي الرومي؛ القسطنطينية من جهة، ومن جهة أخرى المغرب العربي والأندلس، وهو ما لم يُتِح للحظة واحدة للأمير مسلمة «الخليفة الشرعي» مجرد التفاتة خاطفة إلى الخلف؛ للتعرُّف على ما يجري داخل عاصمة الخلافة، وعلى ظروف مرض الخليفة الوالد سليمان بن عبد الملك بن مروان، ووصيته له بالخلافة من بعده، باعتبار أن الحرب الضارية التي يخوض رحاها هو والصحصاح ستهبه كل خبرات ممكنة تعود بالنفع على أمن المسلمين وكياناتهم الوليدة، بدءًا من حدود وتخوم الصين، مرورًا بالشرق الأدنى القديم وحتى شبه جزيرة أيبريا (الأندلس).
على هذا النحو كان يجيء تفكير الخليفة الراحل سليمان بن عبد الملك بن مروان، باعتبار أن البلدان العربية والإسلامية في أشد احتياج لقائد مجاهد صقلته ظروف الحرب وأدمته المعارك قبل أي شيء.
وهو ما لم يُعره التفاتًا شقيقه — الخليفة الحالي — الوليد بن عبد الملك، الذي اجتذبته إغراءات السلطة والتسلُّط في غيبة مسلمة.
ومن هنا تكاثرت الهموم التي لا تخلو من مخاوف على الخليفة الوليد بن عبد الملك، منذ أن تواترت إليه الأخبار بعودة أخيه مسلمة برفقة قائد الجيوش العربية الصحصاح تحيط بهما أقواس النصر المتوهجة، وهما يتصدران مطالع الجيش العربي الزاحف، محملين بالعروش والتيجان وأسلاب الأسرى من قواد وأمراء جيوش الروم، ما بين يونانيين وبلغار ورومان وغاليين — أو فرنسيين — يرفلون في حِجْلاتهم وأصفادهم وقيود سَبْيهم.
وهم يتحركون عبر شوارع دمشق وساحاتها محاطين بالعيون التي أبهجها النصر، بينما تكبير الآلاف المؤلفة من المسلمين يصم الآذان على عتبات وبوابات قصر الخلافة، وعلى مسمع من الوليد وحاشيته، الذين لم يجدوا بدًّا ولا مهربًا من مواجهة ذلك النصر العارم والحماس المتدفق سوى المشاركة، والتظاهر بالفرح والتبجيل للجيش المنتصر العائد.
إلا أن الخليفة شحذ كل فكره في الكيفية التي عليه أولًا اتخاذها لإخماد ذلك التدفق بالحماس الذي سرى من أطراف عاصمة الخلافة، ومنها تواتَر إلى بقية أشلاء وكيانات الأقوام العربية.
ولم يجد الوليد بن عبد الملك منفذًا سوى الإسراع بعزل القائدين، وشقِّ وحدتهما: أخيه الأمير مسلمة، والأمير الحجازي القائد الصحصاح.
فما إن انتهت أيام احتفالات النصر، ووزعت الأسلاب وكنوز مغانم الحرب، وأفضى الصحصاح للخليفة الوليد بن عبد الملك برغبته المتأججة بالعودة إلى موطنه الحجاز، الذي فارقه طويلًا نظرًا لظروف الحرب والجهاد، ولرؤيته زوجته وولديه ظالمًا ومظلومًا، حتى وافق الخليفة من فوره مجزلًا له العطاء والتكريم؛ لمواصلة رحلته إلى وادي الحجاز.