مولد فاطمة بنت مظلوم
وبانتهاء دور الأمير العربي الصحصاح بفتح عاصمة الروم البيزنطيين القسطنطينية، وتأمين الثغور ضد الطامعين، وعودته والأمير مسلمة مُظفَّرين إلى عاصمة الخلافة، خبا نجمه تخوفًا من سطوته، حتى إنه لم يُعمر طويلًا، مقضيًا بقية حياته في غياهب الظل بوادي الحجاز.
وكبر ولداه ظالم ومظلوم، اللذان لم يشهد لهما طفولة وصِبًى انشغالًا بالحرب والجهاد، وهكذا تولت الأم ليلى تربيتهما إلى أن كبرا وتزوجا، فأنجب ظالم ولدا أسماه الحارث، وأنجب مظلوم ابنة جميلة تسمت بفاطمة، إلا أنه على عادة العرب تلقَّى خبر مولدها كأنثى مكتئبًا، حتى إنه لم يُطق رؤيتها، بينما واصلت الأم رعايتها، فعهدت بها إلى جارية قابلة تدعى أم مرزوق، فكانت تحملها ليلة بعد ليلة سرًّا؛ لتدفع بها إلى صدر أمها لرضاعتها، وتعود بها إلى خبائها في الخفاء.
وفي العام السادس من عمر فاطمة، أغارت بعض قبائل اليمن بريادة بني طيء، على مضارب والدها وعمها ظالم ومظلوم، ووقعت فاطمة أسيرة لدى قبائل بني طيء، فتربت هي وجاريتها سعدى في مضاربهم إلى أن كبرت وشبَّت على رعاية الجمال والخيول عبر عواء المراعي.
وكانت فاطمة منذ صغرها تهيم بما يصلها من أخبار جدها الأمير الصحصاح فاتح القسطنطينية، فأولعت بالفروسية العربية متخلية عن كل ما يربطها بعالم البنات والنساء.
فتعلمت منذ الصغر أساليب الحرب من مدافعة وممانعة، وكشفت شخصيتها عن الكثير من العجب والانبهار لكل من شاهدها أو سمع بها، حتى إنها أصبحت محط أنظار الشباب والفرسان من أقرانها.
فتهافت عليها الخطاب وراغبو الزواج منها متكاثرين على بوابات مولاها الأمير «البجير»، الذي كان كلما عرض عليها الأمر رفضت بإباء، مُدَّعية أنها لم تخلق للزواج وحياة الفراش، بل لها جلد الرجال.
حتى إذا ما واصل مولاها الضغط على فاطمة لقبول أحد راغبي الزواج منها من شباب العرب المرموقين ذوي السطوة بين القبائل، اضطرت إلى الفرار خفية من مرعاها، متخذة لنفسها ومع جاريتها مأوًى معززًا في الخلاء، واصلت منه السطو وفرض الجزية إلى أن عظم شأنها، وتضاعف نفوذها، فهجمت ذات ليلة مع أتباعها على قبيلة والدها وعمها ظالم، الذي نازلها فأوشكت أن تقضي عليه بسيفها، إلى أن تدخلت أمها مانعة كاشفة عن شخصيتها.
وانتهى الأمر بالتعرف عليها، وعودتها إلى حظيرة ودفء قبيلتها، فعرف الجميع أن فاطمة أو الدلهمة أو الداهية، أو داهية بني طيء، وهو اللقب الذي عرفت به بين القبائل، ما هي إلا فاطمة ابنة مظلوم.
وهكذا أقيمت الأفراح ابتهاجًا بعودة «الدلهمة» إلى ربوع قبيلتها بعد طول الأسر والغياب، لكن حظ فاطمة أو الدلهمة لازمها من جديد حين وقع ابنُ عمِّها ظالمٍ — الحارث — في حبها إلى حد العشق ضارب الجذور، وذلك منذ أن وقع بصره عليها مُغيرةً مُلَثَّمة على صهوة جوادها، موقعة بالفرسان ميمنة وميسرة إلى حد الإقدام على منازلة والده وعمها ظالم، موقعة به إلى حد الافتراس.
حتى إذا ما تفرَّسها الحارث — ابن عمها ظالم — عن قرب، وبهره جمالها ونبل شمائلها وحديثها، أخذ منه العشق الدامي مداه؛ فطلب من والده الزواج منها وهي ابنة عمه، وواصل الشكوى والإلحاح لأمه «الجمانة» بطلب الزواج من فاطمة، مما اضطر الوالد إلى الانتقال إلى قبيلة أخيه مظلوم ومكاشفته بأمر الزواج.
وحين عرض والدها مظلوم الأمر عليها اشتد جنونها إلى حد التهديد بالعودة والفرار من جديد إلى البراري، بل إن فاطمة تعممت واتشحت بزي الرجال، وخرجت بنفسها إلى عمها ظالم وابنه الحارث، شارحة أمرها، معبرة بوضوح عن معالم شخصيتها، وكيف أنها ليست مجرد أنثى تصلح للبيت وتربية الأطفال والطهو، بقدر ما هي محاربة في عالم قوامه المفترس والفريسة، أو الغالب والمقهور: فاعلم أنني ما خُلِقت إلا للنزال، لا للفراش ولا للزواج، ولا يضاجعني سوى سيفي وعدة حربي … وكحل غبار النجع مرادي.
وأمضت معهم الدلهمة الوقت في محاولة للتعبير عن نفسها، وعن طموحاتها القومية العربية إلى اكفهرار الشمس والإيذان بالرحيل.
فلم يُحدِث حديثها البسيط الجلي في نفس ابن عمها العاشق سوى تأجيج نيران حنينه الجارف إليها أكثر، وهكذا ما إن عاد عمها وابنه إلى مضاربهما حتى أعادا الكرة والمحاولة، والتقدم بمختلف مباهج وإغراءات الترغيب من هدايا الذهب والفضة والأموال والسلاح والخيول، دون جدوى ترجى من فاطمة، التي لم يزدها الأمر سوى مواصلة الرفض والتعلل، في محاولات من جانبها بالتبصير للأخطار المحدقة ليس فقط بقبيلتهما، بل بالعرب جميعًا.
وكان الحارث ابن عمها يكمن إليها مستمعًا مع الحاضرين من وجهاء القوم، يحتسون القهوة العربية، ويتجادلون في مختلف الأمور ومناحي الحياة الضاربة من حولهم، ما بين صراعات تولي السلطة عقب موت أمير المؤمنين، وما يصلهم من احتدامها في عاصمة الخلافة، وأخطار الرومان المتربصين التي تتوالى أخبار حشودهم على طول الثغور البحرية، وأخبار ومأثورات الجد الصحصاح فاتح القسطنطينية، وانتصاراته التي أصبحت في موقع الخوارق الأسطورية، لحين التعرض لحدث موته الغامض عقب عودته مظفرًا مُحاطًا بآلاف الأسرى من الأعداء بملابسهم الغريبة وشعورهم المرسلة، ما بين صفراء وحمراء قانية وشقراء، وذلك الذعر الذي يملأ أحداقهم وقد انحنوا مستسلمين في أغلالهم وأصفادهم يملئون الأرض، ويتضرع شيوخهم بالرحمة والعفو، وبعضهم يهيلون تراب الطريق على رءوسهم.
والناس من كل جانب يتطلعون إليهم غير مدركين أو متفهمين لرطاناتهم ولغتهم الغريبة، بينما الصحصاح شامخ على صهوة جواده يتبعه جنده وحراسه ومستشاروه، مُحمَّلين بكنوز الأسلاب الثمينة من أموال ذهبية وجوهر وغالي الديباج، والمصنوعات الغريبة التي لم يُسمَع بها سلفًا؛ ليضع كل هذا تحت قدمي أمير المؤمنين زاهدًا حتى في المشاركة في الأسلاب وأخذ نصيبه.
لحين الوصول إلى حدث فاجعة موته الغامض الذي أشيع بين العامة، وكيف أنه عقب تقاعده بنواحي الأراضي الفلسطينية هلك خلال صراعه مع النمور البرية.
وكانت ذات الهمة التي عُرفت برجاحة عقلها لا تقبل هذا القول وتستبعده ساخرة، مدعية بأن جدهم الصحصاح لم تهلكه أبدًا النمور البرية البريئة براءة الذئب من دم ابن يعقوب: بل هي النمور البشرية.
وكانت كلماتها الأقرب إلى الواقعية تجد صداها في قلب ابن عمها الحارث حول الكيفية التي أفضت بحياة جده الصحصاح.
ومن هذا المنطلق يتزايد حبه لابنة عمه الداهية.
وتزايدت شهرة فاطمة، وتناقلت القبائل العربية في دمشق وحلب وبغداد أخبار فروسيتها، ورغبتها في استعادة أمجاد جدها الصحصاح في الدفاع عن الثغور العربية ضد الطامعين. وهنا أرْسَل لها من العراق بنو العباس وتابعوهم برسولٍ لمعرفة رأيها في خلافة أعدائهم الأمويين الذين سلبوهم في دمشق أحقيتهم في الخلافة والقيادة.
أما الأمير الحارث فقد واصل حبه لابنة عمه فاطمة أو ذات الهمة، وحاول كثيرًا التقرب منها بالزواج، إلا أنها رفضته على مشهد من القبائل؛ مما تسبب في مرضه، وانقطاعه عن الناس، وملازمته الفراش.