مأزق ذات الهمة
كان الحارث على معرفة ودراية كبيرتين بتفاصيل ومنافذ القصر الذي اتخذته ذات الهمة مقرًّا لها ولمجلس حربها في ذات الوقت.
وكان قصرًا حصينًا حقًّا؛ نظرًا إلى موقعه المطل على البحر، وكان مرفقًا به كل وسائل الدفاع والتحصين، نظرًا إلى أنه هو ذات القصر أو الحصن المنيع الذي عانت طويلًا الجيوش الإسلامية في حصاره وإسقاطه الأمرين.
كما أنه ذات القصر الذي تحصنت به الأميرة باغة ابنة الملك «لاوون»، وأتخمته بفاخر الأثاث والمفروشات الثمينة التي لم يُسمع بها من قبل.
جلبتها «باغة» من مختلف الأقطار والأقوام الأوروبية المتحالفة تحت شارة «الصليب»، والمصنوعة من فاخر الأخشاب، والطنافس، والقناديل المشعلة، والديباج، والعطور، والأحجار المرمرية، والتماثيل والصور والتحف النادرة.
وكم تمنت ذات الهمة خلال مواسم حصارها للقلعة الحصينة التعرف على جنبات ذلك القصر الساحر المطل على البحر الأبيض، والمليء بالنافورات الهائلة والشلالات ومجاري الماء بألوان قوس قزح، بالإضافة إلى النواعير وسواقي رفع الماء التي كانت تُحدِثُ أصواتًا موسيقية متناسقة الإيقاع، تُسمَع من بعد فتثير الشجن في النفوس، خاصة جند المسلمين القادمين من أغوار الشام وغوطات دمشق الغنَّاء، ومجاري مياه صور وصيدا والدامور.
فكان عندما يجن الليل وتحط الظلمة تنبعث من جنبات ذلك القصر الحصين موسيقى عالية صاخبة، يغلب عليها المجون، يصاحبها حفلات الرقص المحموم التي كانت تقيمها الأميرة «باغة»، فتترامى إيقاعاتها وألحانها على طول الجزيرة مستغرقة الليل بطوله، وكأن ما يحدث لا علاقة له بظروف الحرب الضارية التي لم تتوقف رحاها على مدى السنوات الطوال منذ عهد جدها الصحصاح.
لكم تمنت ذات الهمة واشتهت من أعماقها النفاذ إلى جنبات وساحات تلك القلعة المنيعة المدججة بالسلاح والرسم وفاخر الأثاث والمروج والنغم، ليس طمعًا فيما تحويها من نفيس المفروشات وحياة اللهو؛ بل لأن مبعث ذلك رغبتها المنطلقة من واقع الإعجاب بموقع القصر — العدو — وصموده وجبروته المنيع الاقتحام. وهو أمر لم يحصل إلا بالحيلة والخداع.
حتى إذا ما تحقق لها ما تمنت وحلمت به طويلًا، وتمكنت كتائبها بالخداع والتنكر تحت زي الرومان وسحنهم ولحاهم وصلبانهم ورطانتهم من اقتحام القصر وإسقاطه، ومنازلة قائدته الأميرة باغة وقطع رأسها، أجمع مستشاروها على أهمية انتقال الدلهمة وحاشيتها إلى هذا القصر، حتى الأمير عبد الله بن سليم ذاته، أمير أمراء الحملة من قبل أمير المؤمنين، طالبها باتخاذه مقرًّا، والاستفادة مما يحويه من معدات استطلاع للمداخل البحرية، وحركة الرياح، والتيارات البحرية والموجات، وطرق الإنذار المتقدمة التي تفوق فيها الرومان، بل هو أقسم عليها لحسم الأمر أن تتخذه مقرًّا لها.
ووافقت ذات الهمة على الانتقال بعد أن رغبت في تغيير ملامحه ومحتوياته التي لا تليق بمحاربة، بل بغانية.
وهكذا ما إن وطئت قدماها عتبات ذلك القصر الحصين، وفي أعقابها حاشيتها وبعض حرسها من المقربين وجارياتها، حتى اندفعت متنقلة في جنباته وساحاته؛ حيث هالها ذلك الثراء المترع الذي لا يخلو من جشع التي كانت تعيش فيه قبلها؛ غريمتها الأميرة الرومانية «باغة».
وكانت هناك أكداس من المجوهرات والشموع والشمعدانات والأيقونات البديعة، والأحجار النفيسة التي جلبت لها من كل بقاع العالم، ناهيك عن السراديب والمخازن التي تعج بكل ما لذ وطاب من فاخر الطعام والمفروشات، من ديباج وسجاد وستائر وأثاث فائض عن كل حاجة.
ومن فورها صرخت ذات الهمة في حاشيتها مطالبة برفع كل هذا، واستبداله بالأثاث والاحتياجات الحربية العربية التي اعتادتها دون حاجة لمخلفات سابقتها.
كان الحارث على دراية واسعة بدهاليز القصر الحصين ومسالكه وخباياه، وحتى منافذه البحرية وخزائن مؤنه وعتاده، فهو الذي عمل داخله هو ورجاله في نقل أسلابه ومؤنه إلى بوش المسلمين وعتادهم.
لذا ما إن تحقق الحارث من غرضه في شرب وتجرع ذات الهمة للمخدر من يد وصيفها وابن مربيتها السودانية مرزوق، حتى عاجل بالدخول إلى مخدعها.
وذلك حين عاد إليه مرزوق مضطربًا مستوضحًا عما ألم بالأميرة ذات الهمة عقب تجرعها للشراب، وما أصابها من تخاذل وإعياء حتى لم تعد تعرف الليل من النهار، متسندة مستلقية تغط في سابع نومها، وجرى إليها مرزوق محركًا ذراعيها فوجدها متصلبة كالخشب.
وبالطبع طمأنه الحارث مهدئًا من روعه، معيدًا عليه لهيب حبه لزوجته … ابنة عمه فاطمة التي مكانها أغوار قلبه.
وهنا عاد الاطمئنان ثانية إلى قلب مرزوق، بل هو يسر له سبل اختراق مسالك وتحصينات قصرها الحصين، بحجة المرض المفاجئ الذي ألمَّ بأم المجاهدين.
وهكذا وجد الحارث نفسه داخل جناح نوم ذات الهمة؛ حيث تمكَّن من بلوغ قصده في النهاية، الذي هو من حقوقه الكاملة كزوج شرعي.
في الصباح الباكر، أفاقت ذات الهمة متقلبة في إعياء واضح في فراشها، خالعة عنها أفكارها الليلية وكوابيسها وهي تتطلع عبر شرفتها الفسيحة إلى البحر المتلاطم الهادر عبر الأفق.
لكم حلمت ذات الهمة طويلًا منذ الصغر، ومنذ أن كانت في الحجاز، بركوب هذا البحر والإلمام بأسراره ودفائنه!
كانت على معرفة منذ البداية، كان البحر هو على الدوام ومنذ الأزل مصدر الخطر الأول للعرب والمسلمين.
لذا انكبت منذ البداية على قراءة ودراسة كل ما يصلها من علوم بحرية.
وتحقق لها غرضها ومرماها حين عادت إلى قبيلتها الفلسطينية بعد الأسر، وعثرت على بقايا موروثات جدها الصحصاح، فاتح القسطنطينية، ثروة لا حد لأهميتها من الكتب التي تتخذ من البحر وأسراره وعلومه وأخطاره مادة لها.
فاندفعت ذات الهمة من فورها منكبة على قراءة ودراسة تلك الكتب والمخطوطات والخرائط والتقويمات سنوات مطولة.
بل هي طالبت أباها مظلومًا أن يهبها تلك الكتب، على أن تحفظها كما هي بكل حرص في خزينة كتبها.
ومنذ ذلك التاريخ لازمتها تلك الثروة البحرية، لا تغيب عن بصرها، تعاود مطالعتها وحفظها عن ظهر قلب كلما أقدمت على التحضير لرحلة أو غزوة بحرية.
بل إن ذات الهمة لم تتوقف في قراءاتها ومطالعاتها لعالم البحر وأسراره، بل قرأت الكثير من عادات وتقاليد ومناحي حياة الشعوب البحرية، من يونانيين وأتراك ورومان وغيرهم.
وكان يحلو لذات الهمة كلما داعبت عينيها الخيوطُ الذهبية الأولى للشمس المشرقة، سماع تدريبات جند المسلمين وتكبيرهم العالي، وهم يدقون الأرض بالأقدام، ويتنادون وهم يتبادلون مهام حراساتهم للموانئ والثغور.
وكانت من فورها تبدأ في التفكير بخطط اليوم دون تأخير وتكاسل، وإرجاء لعمل اليوم إلى الغد، لحين الإيذان بدخول جواريها وتناول الإفطار معها، مشاركين إياها الموائد الفسيحة التي استبدلتها من فورها عندما فتحت القصر، رافعة موائد سالفتها وعدوتها اللدودة الأميرة باغة، التي لا تتيح للجائع العربي راحة؛ نظرًا إلى ارتفاعها ومقاعدها المفتعلة.
بل هي ضاحكت أحد حراسها من السودانيين لحظة استبدالها قائلة له: «ما لنا والخواجات؟ نحن بساطنا أحمدي.»
إلا أنها صبيحة هذا اليوم قامت من نومها على غير العادة، فحين حاولت فتح جانب ضنين من عينها اليسرى لاستطلاع الشمس ومعرفة الوقت عبر النافذة لم تستطع، فعاودت الإغفاء والاستسلام لخدر النوم وتسلطه، وكأنها لم تذُقْه منذ دهر.
عاودت الاستسلام لأحلامها وكوابيسها الخانقة لدرجة أثارت شكوك ومخاوف وصيفاتها خارج الغرفة؛ مما دفع بأقرب وصيفاتها — وكانت امرأة مُسِنَّة تَفيض حنانًا لها — إلى طرق الباب مرات، وحين لم يفتح اقتحمته المرأة داخلة مندفعة من فورها إلى فراش ذات الهمة الممددة الغارقة في حشرجاتها.
وما إن قاربتها موقظة: مولاتي فاطمة. حتى شهقت المرأة فزعة مما وقعت عليه عيناها المشدوهتان.