مرض أم المجاهدين
ما إن انتصبت ذات الهمة فجأة جالسة في منتصف فراشها حتى فقدت صوابها وهي ترقب ما حل بها، فأيقنت تمامًا ما حدث، فنشبت أظافرها في جدائل شعرها، مشيرة بذراعها كله إلى حسامها صارخة: سيفي … مرزوق.
استدارت جاريتها العجوز الرباب وقد استبد بها الفزع من ثورتها وغضبها، محتارة أيهما تسرع في تنفيذه؛ السيف المعلق إلى جانب الفراش، أم الإسراع في استدعاء مرزوق، أينما كان.
ولم تمهلها ذات الهمة، بل هي اندفعت من فورها نازلة عن فراشها، مختطفة حسامها من غمده، منطلقة صارخة في أبهية قصرها بملابس النوم: مرزوق، مرزوق.
بهتت الوصيفات والجواري مما ألم بالأميرة الغاضبة، وأسرعن منطلقات هنا وهناك بحثًا عن مرزوق الذي لم يسبق له الابتعاد لحظة عن ذات الهمة، ملازمًا لها كظلها أينما تواجدت، وتحت أي سماء.
بل إن ما أعجز ذات الهمة، وألهب غضبها، وضاعف من مرضها وهزالها حقًّا، ليس ما فعله الحارث بها، بل ما أقدم عليه خادمها وصديقها المقرب «مرزوق»، حين تذكرت ذات الهمة لحظة التغير المفاجئ الذي اعتراها كمثل ومضة مشعة في سماء ليل ثقيل الظلمة.
وهي لحظة لن يغيب أبدًا مداها العميق عن ذاكرة ذات الهمة ووعيها، مهما واصلت الحياة والتنفس وخوض المعارك، وتلقي أخبار الهزائم والانكسارات، وما تتطلبه الحرب من خداع ومؤامرات، حتى لو استدعى الأمر التنكر تحت جلد الروم بغية التسلل إلى قلاع الأعداء واحتلالها.
هي لحظة تسطع لتخبو في ذات الوقت وكأنها مولود عانى ارتعاشة موته المصاحبة لمولده.
لحظة أن ترجلت عن جوادها مع مدخل عشاء البارحة فاغرة فاها تعبًا: عطشانة، فقدم إليها مرزوق كأس شرابها، وتلاقت أعينهما كمثل نصلين غائرين: مولاتي. حينئذٍ أيقنت الصبا والطفولة … تلك اللحظة.
إلا أنها لم تتراجع عن تجرع كأسها من يد مرزوق، وكيف لفاطمة أن ترد لمرزوق صديق صباها، وعطر طفولتها كأس علقم أو سمًّا قابضًا لكل حياة؟ كيف لها أن تراودها الشكوك فيمن تبادل معها لبن الأم؟!
إذن لما عاد في هذا العالم الفسيح المتلاطم خبرًا يُرجى، ولتمرح مخلوقات الخيانة وحيواناتها وجراثيمها لترتع في كل جسد، وتومض في كل عين عبر اللحظة الخاطفة، التي تقود كل منا من كبير إلى حقير إلى مهانٍ، إلى حتفه وسقوطه من أعلى عطائه وتألقه.
كيف لفاطمة ابنة مظلوم التي عانت مرارة الأسر، وضيق الحاجة، وطحن الرحى، وجرش الملح، ورعي الجمال والإبل البرية في وهج الصحراء جنبًا إلى جنب مع مرزوق، أن يخالجها الشك والتراجع عن كأس ماء تقدمها يده الممدودة لها في حنو، لتتجرعها كمثل بلسم عشية يوم قائظ يعصر فيه عصرًا عرق الجبين.
تقلبت في فراشها بعدما أيقنت قبل الجميع من اختفاء مرزوق، وهي تعيد التساؤل المؤلم إلى حد غياب النوم عن عينيها المسهدتين، لكن دون أن تعثر لها في النهاية على مرفأ آمن يشفي غليل تساؤلاتها حول ما أقدم عليه ذلك «النذل» … مرزوق.
وعندما لم يعثروا لمرزوق على أثر، عم صمت ثقيل استردت فيه ذات الهمة أنفاسها، إلى أن تجمعت الأخبار من هنا وهناك حول ما حدث ليلة الأمس.
حين عادت من مهامها وتريضها، ولم تذق للأكل طعمًا عقب تناولها لشرابها من يد الوصيف، فترنحت لا تعرف لها تواجدًا، وما إن أوصلوها فراشها حتى لازمها ذلك النوم الثقيل الكابوس، لتجد نفسها على هذا الوضع وقد انحلَّ عنها كل ستر.
انحطت مستسلمة على فراشها، مشعثة الشعر، غائرة العينين، وقد ألمت وأدركت بتفاصيل ما حدث، حين تواتر إلى أذنيها اسم ابن عمها الحارث، ومجيئه إلى القصر عقب صلاة العشاء؛ بحجة زيارة زوجته وابنة عمه التي ألمَّ بها مرض فجائي، وأنها هي التي استدعته عاجلًا، كما أوهم حراسها وأتباعها في غيبة عن والده وعمه والدها.
وهكذا تجرع الجميع من ذات الكأس المسمومة التي لفقها الحارث، ووصل بها إلى مخدعها الذي لم يسبق له أبدًا دخوله، لينفذ فعلته الشنيعة التي لن يمحوها سوى جزِّ رأسه، على هذا النحو.
أجل … على هذا النحو المهين الجارح، يصل الأمر بذات الهمة، التي أذلت أعناق أعالي الرجال المحاربين والفرسان تحت سنابك خيلها: دماغي، رأسي.
كان قد ألم بها صداع طاحن أسال خيوط العرق مدرارًا على وجهها وجسدها بكامله.
ولم تجد الرباب وبقية الفتيات سوى تطويق رأسها، والإحاطة بها كمثل ذبيحة، وتجفيف أنهار العرق المتقاطرة من كل بدنها دون جدوى.
وحين أشارت الرباب باستدعاء طبيبها، هبت ذات الهمة معترضة منبهة: لأ … لأ … حذار.
وتبادل الجميع النظرات الخجلى والترحم الصامت لما انتهى إليه مصيرها بين القبائل … العرب.
من جديد تنبهت مهددة تطلب وصيفها الذي هو في موقع أخيها — في الرضاعة — والذي أسلمت له قيادها ليبيعها بخسًا على هذا النحو، فلولا خيانته لما تمكن الحارث من أن تطأ قدماه عتبات مقرها المصون؛ لينفذ إلى مخدعها وتتحول من قائدة محاربة إلى امرأة تحمل وتلد وترضع.
وعاد إليها الجميع من حرس ووصيفات بخبر انشقاق الأرض وابتلاعها لمرزوق الذي لم يُعثَر له على خيال.
وعلى الفور أصدرت ذات الهمة أمرها بالتحرك البحري لسد كل المنافذ البحرية للجزيرة بكاملها في وجه الفارين، وإحضار كلٍّ من ابن عمها الحارث وخادمها مرزوق أحياء أو قتلى، لكن دون جدوى.
ذلك أن الحارث بعد أن وصل إلى مبتغاه وحلمه القديم تولته رعشة عاتية، دفعت به إلى جمع حاشيته وحاجاته وأقرب مقربيه، قافزًا منتفضًا إلى أول سفينة صادفها هاربًا مصطحبًا مرزوقًا، ووسط أمواج البحر الضاربة لم يعرف له طريقًا إلى أن استقر رأي الجميع على الإبحار عائدين باتجاه الوطن، والحط في جزيرة آمد؛ حيث وصلت الأخبار بعودة والده وأخيه إليها.
وما إن وصلوها دون أن تلحق بهم سفن ذات الهمة المطاردة حتى تنفس الحارث الصعداء، مقررًا إطلاع والده على ما حدث وإسلام مقاليد الأمر إليه.
إلا أن والده ظالمًا ما إن وقعت عيناه على ابنه الحارث مسرعًا على صهوة جواد، ثم ترجله عنه مسلمًا مقبلًا جبينه، حتى ظن الوالد من فوره وكذلك أخوه مظلوم، بأن كارثة وقعت خلال أشهر غيبتهما.
بل إن مظلومًا تصور من فوره أن أعداءهم الرومان أعادوا شن غاراتهم على مالطة، وشتتوا الشمل العربي، فاتجه من فوره إلى الحارث سائلًا في جدة: ماذا حدث؟
– خير.
عاجله: وذات الهمة؟
أطرق الحارث منتفضًا مغمغمًا: بخير.
إلا أنه اختلى بوالده الأمير ظالم، الذي تحسس ما به وما يعانيه، فتفرسه: فاطمة … مرة أخرى!
هنا اندفع الحارث مفضيًا لأبيه بتفاصيل ما حدث مع ذات الهمة، إلى أن وصل به إلى لحظة تملكه لها وهي نائمة غائبة عن كل وعي.
هو يعرف ذات الهمة، وخاصة حين يتملكها الغضب الذي يفضي إلى العناد، الذي لن يمحوه أبدًا سوى الانتقام وسفك الدماء بين أفراد القبيلة الواحدة، الجسد الواحد، الأخ وأخيه.
ويكفي إصرارها وعنادها على رفض الزواج من ابنه الأمير أعوامًا إثر أعوام، رغم التوسل بكل غال وعزيز عليها لمجرد الامتثال والقبول، فحتى الخليفة ذاته الذي أشار عليها بأنه ليس للمرأة سوى بعلها، وشهد بنفسه على العقد والزواج الذي وُقِّع وأُتمَّ رغم أنفها، وضد رغبتها، لم يتمكن من الوساطة أكثر من ذلك.
فهو يعرف ابنة أخيه حين تكتشف ما حدث لها؛ شرفها، وكيف أنها لن يهدأ لها بال إلا إذا أقامت الدنيا وأقعدتها ضد ولده الطائش الحارث، بل وضده هو ذاته عمها، وتذكر على الفور منازلاتها له ولابنه، الذي كادت أن تزهق روحه على مرأى من شهودهما.
إلا أن الوالد الغارق في هواجسه عاد من فوره مستديرًا لابنه، مُشفقًا عما يعتمل داخله، قائلًا: فاطمة زوجتك بشهادة أمير المؤمنين.
وبدا الحارث كمن لم يسمع، مواصلًا شحذ أبيه والتوسل بمختلف الأعذار، كاشفًا للأب عن طاقات حقده الدفين لابنة عمه ذات الهمة، التي أصبحت متكبرة متعالية وكأن ما على هذه الأرض سواها، ولا أمجاد سوى أمجادها، ولا حديث لعربي سوى عن خوارقها وانتصاراتها.
وكيف أنها لم تعد تراه طيلة غيابهم، وكم حاولت إبعاده عن طريقها مرارًا! بل هي حرمت دخول عتبات مقرها عليه، وهو الزوج وابن العم.
والأب الواجم يستمع منصتًا مفكرًا، فلعلها اللحظة الوحيدة التي يصل فيها ظالم إلى دفائن أسرار ومكنونات ابنه الحارث نحو ابنة عمه ذات الهمة.
لعلها اللحظة الوحيدة التي يكتشف فيها الأب مدى مخالطة الكره للحب في حالة ابنه الحارث.
وضع ظالم قدميه في مداسيه مختطفًا عباءته، متجهًا من فوره إلى مضارب أخيه مظلوم.