شاعرية كثيِّر عَزَّة
١
عرفنا منزلة جميل في الشعر والعشق، ورأينا كيف كان موفور الحظ من الكرامة في دنياه، فعاش ومات وهو مهيبٌ جليل.
فكيف كان راويته كُثيِّر بن عبد الرحمن؟
الرواة متفقون على أنه كان قصير القامة إلى حدٍّ يثير السخرية والاستهزاء، وقد مرت إشارة في «أساس البلاغة» إلى أنه كان أعور، وهي إشارة لم أجدها في غير ذلك الكتاب، ولكن من المؤكد أن الزمخشري لم يتزيَّد عليه، ولعل هذا يفسِّر الدعابة التي نَبزَه بها بعض أصحابه حين زعم له أن الناس يتحدثون أنه الدَّجَّال!
كان كثيِّر قصيرًا، وكان أعور، والقصر والعَوَر عيبان فظيعان في البيئات التي تغلب عليها البداوة، ويقلُّ فيها الأدب في مخاطبة الرجال، ألم نر العرب يعطون شعراءهم وعلماءهم ألقابًا هي في الأصل أنباز، ثم لا يُعرَف أولئك الشعراء والعلماء بغير تلك الألقاب، فيقال: الأعشى والأعرج والأصم والأقطع وابن المقفع!
٢
وكان لتلك الآفات الخِلقيَّة تأثير شديد في حياة كثيِّر، فكان قليل الحَوْل في تأديب من يتطاول عليه من الشعراء، ولعله كان يشعر في قرارة نفسه بأنه غير أهل للمصاولات في الميادين الغرامية، وهي ميادين كان يستبق إليها الفتيان في ذلك الحين، وهل كان يمكن أن يشعر بغير ذلك وفي الميدان عمر ومُصعَب وجميل، وكانوا من الأعاجيب في نضارة الأجسام، وصباحة الوجوه، وعذوبة الأرواح!
إننا نعرف أن العشق كان بدعة طريفة في ذلك العهد، ونعرف أن الشعراء كانوا ورثوا عن عصر الجاهلية آدابًا في العشق، وأن تلك الآداب صار لها سوق في عصر بني أمية، بحيث كان الخلفاء يأنسون بدعوة الشعراء العُشَّاق من حين إلى حين، ونعرف أن الأنفاس الوجدانية كانت تتنقل بين الحجاز والشام بلا تهيُّب ولا تخوُّف؛ لأن العرب كانوا لا يزالون في دَوْر الفحولة العارمة التي ترى الصَّبَوات من أكرم شمائل الرجال.
٣
فماذا يصنع كثيِّر وهو لن يظفر بحظه من العشق إلا إذا تصدَّقت عليه إحدى الملاح!
لم يكن للرجل بدٌّ من الحديث عن النظرية الأخلاقية التي تقول بأن الجسم شيء والروح شيء، وهي نظرية لها وجه من الصدق، وإن لم تكن كل الصدق، وكذلك صح له أن يدافع عن قِصَره ونحافته بهذا القصيد:
٤
لا ريب في أن كثيِّرًا كان قليل الحظ من هذا الجانب، ولكنه كان وافر الحظ في جوانب كثيرة أهمها العقيدة والشعر والعشق.
فما هي عقيدة كثيِّر التي أمدَّته بالقوة؟
كان كثيِّر شيعيًّا مفرطًا في التشيع إلى حد السخف، وهذا السخف هو القوة العانية التي جعلته من أقطاب ذلك الزمان.
ومن العجب أن يكون السخف مصدر قوة، ولكن هذا هو الواقع، فالسخف لا يقع من أصحاب العقائد إلا بعد أن يُمْعِنُوا في الحماسة والصدق، ولا يمكن لإنسان يفنى في عقيدته أن يسلم من الانحدار إلى السخف؛ لأن التعقل الذي يوجبه الاعتدال في الإيمان بالمبادئ قد يكون شارة من شارات الارتياب، ولا تصح العقائد لمرتاب.
وتشيُّعُ كثيِّر له دلالة على قوته الذاتية، فقد كان الشيعة اندحروا في عهد بني أمية، ولم يبقَ لهم أمل في الظفر بالسلطان، ولا يثبت الرجل على عقيدة مخذولة منبوذة إلا إذا كان على جانب عظيم من قوة الروح.
وقد أوذي كثيِّر بسبب عقيدته أشدَّ الإيذاء، فقد كان خلفاء بني أمية يصارحونه برأيهم فيه، وكانوا يواجهونه بالتندُّر فيشيرون إلى أنه لا يصدُق حين يحلف بالله وإنما يصدُق حين يحلف بأبي تراب!
وبسبب تشيُّع كثيِّر قلَّت رواية شعره في العراق، وأعلن العراقيون أن رأيهم في شعره غير جميل، والشاعر يتأذَّى حين يسمع أن شعره الجيد يُقَابَلُ بالاستخفاف، وكان كثيِّر في نفسه وفي أنفس النقاد أعظم شعراء الإسلام.
كان كثيِّر يؤمن بالتناسخ فيرى أن الأرواح تنتقل من صورة إلى صورة، فتساير الوجود من زمن إلى أزمان، وكان يدين بالرجعة فيرى أن لا خوف من الموت، وكيف يخاف الموت وهو سيرجع إلى الدنيا بعد الموت بأيام؟
ولم يكن إيمان كثيِّر بالتناسخ والرجعة إيمانًا فلسفيًّا يتعرض للنقض إذا ارتاب فيه العقل، وإنما كان إيمان العوامِّ الذين يبلغ بهم الوهم إلى القول بأن عقائدهم أصح وأصدق من الحكم بأن الواحد نصف الاثنين.
وهذه العقيدة التي انحدرت بكثيِّر إلى السخف كانت السناد الأعظم لحياته الفانية، فقد كان يواجه الدنيا والناس بعزيمة كادت توهمه أنه أفتك من النار وأصلب من الحديد، وكذلك قضى أيامه وهو في أنس بالأمل «الصحيح» في الخلود.
٥
ومع ذلك لا يظهر لنا أن كثيِّرًا قد استمات في خدمة التشيع، فقد كان بالفعل أقلَّ اهتمامًا من الكميت بالدفاع عن آل البيت، وكانت حماسته فاترة في مقارعة الأمويين، فما تفسير ذلك؟
تفسيره سهل: فقد كان كثيِّر صغير الهمة وقليل الحَوْل، وكان في تشيعه يتأدب بأدب التقيَّة، وهو أدب الضعفاء.
ولو أن كثيرًا أمدَّته همةٌ عالية لاستطاع بقوة شعره وحِدَّةِ ذكائه أن يساهم في إقامة صرح الشعر السياسي لذلك العهد، ولكنه اكتفى بالسير في ركاب الخلفاء من بني أمية ليقي نفسه شر العَوَز، وليسلم من الاغتيال الذي كان يترصَّد أنصار الهاشميين في ذلك الحين، والطمع في السلامة طمعٌ محمود!!
ومع أن كثيرَا أتى بالأعاجيب في مدح خلفاء بني أمية فقد بخل المؤرخون عليه فلم يعدُّوه من شعراء الأحزاب؛ لأنه كان يمدح بني أمية بلا نيَّة وبلا يقين.
وخلاصة القول أنَّ التشيع كان عنصرًا أساسيًّا من شخصية كثيِّر، فقد ضمن له الحرص على متابعة التطورات السياسية والدينية، وفرض عليه أن يواجه الحياة بقلب كَرَبهُ التوجع لمصائب آل البيت، فعاش وهو مشبوب الحس مصهور الجنان، وتلك حال تعود على الشاعرية بأوفر نصيب من التوقد والاعترام.
يضاف إلى ذلك ما صنع التشيُّع في توجيه كثيِّر إلى عدِّ ذنوب بني أمية وتعقبُّه لآثارهم في رياضة المجتمع الإسلامي على قبول ما اختاروا من المذاهب في سياسة الناس وتدبير المُلك، فقد كان يتسمَّع أخبارهم، ويقبل فيهم قول السوء، ويعلن عطفه على من يناوئهم، ويبكي أحيانًا على من يصرعون من أهل التمرد والعصيان.
٦
وليس من العسير أن ندرك أن اتِّهام كثير بالكذب في العشق لم يكن إلا صورة جديدة من صور السخرية منه والتحامل عليه، وذلك لا يمنع من أن يكون ابتدأ حياته في العشق مازحًا ليكون لحياته من الطرافة ما كان لحيوات الشعراء العشاق في ذلك الحين، ثم صار إلى ما صار إليه الشاعر الذي قال:
ومهما يكن من شيء فقد صار حبُّ كثيِّر لعزة من الحقائق الأدبية التي لا يملك الباحث إغفالها حين يتحدث عن حياته الشعرية، وقد تنقلت أخبار ذلك الحب من جيل إلى جيل، وأضيف كثيِّر إلى عزة كما أضيف جميل إلى بثينة، وصار لهاتين الإضافتين مكانٌ في رموز الصوفية، وليس ذلك بالأثر الضئيل في تاريخ الحياة الأدبية والروحية.
والحق أن كثيِّرًا أعزَّ الحب أكرم الإعزاز، فقد صيَّره من الشرائع، وتحدَّث عن آدابه أجمل الحديث، وسارت قصائده في الحب مسير الأمثال.
٧
وقد اتصلتْ بذلك الحب أحاديث تُعَدُّ من الطرائف، فقيل إن عزة دخلت على عبد الملك بن مروان وقد عَجَزت فقال لها: أنت عزة كثيِّر؟ فقالت: أنا عزة بنت جُمَيْل. قال: أنت التي يقول لك كثيِّر:
فما الذي أعجبه منك؟ فقالت له: أعجبه مني ما أعجب المسلمين منك حين صيَّروك خليفة! فضحك عبد الملك حتى بدت له سنٌّ سوداء كان يخفيها، فقالت: هذا الذي أردت أن أبديه! فقال لها: هل تروين قول كثير فيك:
فقالت: لا، ولكني أروي قوله:
فأمر بها فأُدْخلت عَلَى أُمِّ البنين بنت عبد العزيز بن مروان فقالت لها: أرأيت قول كثيِّر:
ما هذا الذي ذكره؟ قالت قُبلة وعدته إياها. فقالت: أنجزيها وعَلَي إثمها.
وقيل إن كثيِّرًا كان له غلامٌ تاجرٌ فباع من عزة بعض سلعه ومطلته مدة وهو لا يعرفها، فقال لها يومًا: أنت والله كما قال مولاي:
وليس المهم أن تكون أمثال هذه الأخبار صحيحة أو غير صحيحة، إنما المهم أن نسجل أن غرام كثيِّر بعزة خلق في الأدب ألوانًا من طرائف الأقاصيص، وكان له تأثير فيما يدور بين الناس من أسمار وأحاديث.
٨
ذلك كثيِّر المتشيَع والعاشق، فمن هو كثيِّر الشاعر؟
يكاد الرواة يجمعون على أن كثيِّرًا أشعر الناس في عصر بني أمية، ويذكرون أنه قال لعبد الملك: كيف ترى شعري يا أمير المؤمنين؟ فقال: أراه يسبِق السحر، ويغلِب الشعر.
وكيف لا يصل كثيِّر إلى هذه المنزلة وقد غنَّى الجمهورَ وغنَّى الملوكَ أطيب الغِناء؟
أما الغناء الذي أطرب به الجمهور فهو تلك الأنفاس الوجدانية التي عطَّر بها أندية أهل الصبابة والوجد، وأما الغناء الذي أطرب به الملوك فهو مدائحه النفيسة في الخلفاء، وقد قيل إنه أول من فصَّل شمائل الرجال في قصائد المديح.
٩
ولكن ما هي خصائص كثيِّر من الوجهة الشعرية؟
أعتقد أن الفن هو أظهر تلك الخصائص: فنحن نقع في شعره على ألفاظ وتعابير تدلُّ على التأنق في تخيُّر الأبواب التي يزفُّ بها حرائر المعاني، ولننظر هذه الأبيات:
فهو في هذه الأبيات يصف طفلةً تَعِدُ بواكير صباها بأنْ ستكون من نوادر الجمال، فيحدثنا بأنها شبَّت وأن نهودها بانت، وأنها دُرِّعت قبل أن تُدَرَّع الأتراب، ولا يكون ذلك إلا في الجمال الواعد الذي يزدهر قبل الأوان. أما قوله:
فهو غاية الغايات في وصف العُذوبة التي تتَّسم بها الأحاديث الصوادر عن مليحات النساء.
وقد يجعل لحديث عزة نفحة سماوية فيقول:
وعبارة «كما سمعت» تبدو للغافل وهي لونٌ من الفضول، ولكنها عند التأمل من الدقائق الفنية، فهو يشير إلى أن الجمال لا يُدْرَكُ إلا باستعدادٍ خاصٍّ، وأن الرهبان لن يُفتنوا في دينهم عند سماع حديث عزة إلا إذا ملكوا ما يملك من يقظة الحِسِّ، وقوة الوجدان.
وقول كثيِّر:
لها فيه لفظةٌ مختارة، هي لفظة «موفَّق»، وهو يريد أن يجعل المشابهة بين عزة والشمس من المشكلات، وأن الحكم بتفضيل عزة لا يصدر إلا عن قاضٍ موفَّق، وذلك معنًى دقيق.
١٠
وقد يخفى فنُّ كثيِّر كل الخفاء لغَلَبة الفطرة عليه، فلا تحسبه يَنظم، وإنما تراه يتكلم، كأن تسمعه يقول:
هذه إحدى لاميات كثير — وكانت لامياته تعدُّ بالعشرات — ولهذه اللامية بقايا يجدها القارئ في الجزء الثاني من الأمالي.
والمهم هو النظر في سياق هذه اللامية، فليست نظمًا، وإنما هي حديثٌ يحاور به الشاعر نفسه ومحبوبته في لطف ورفق، وفيها موجاتٌ نفسية هي التي قضت بأن يُؤثر الالتفات من وقت إلى وقت، ليستقصي أسرار أساه بلا تكلُّف ولا احتفال.
وعزة في هذه القصيدة تسمَّى ليلى حين يقضي الوزن بذلك؛ لأن الشاعر يُؤثر السهولة ويكره التصنع، ولا يهمه إلَّا تأدية المعاني بعبارات بريئة من التعمُّل والافتعال.
والفن مع هذا موجود، ولكنه فنٌّ دقيق لا تظهر خصائصه لغير أصحاب الأذواق، ونرى الشاعر في هذه القصيدة ينتقل من الخصوص إلى العموم فيتحدث عن آداب الصداقة بعد الحديث عن آداب العشق، فيأتي بالحكمة الباقية حين يقول:
ثم يثب فيفضح بُخل معشوقته بهذا البيت:
والناقد المحدَث قد لا يرضى عن هذا الأسلوب في حَوْك القصيد، وقد يراه من شواهد الحيرة في سرد المعاني والأغراض.
ولو تأمل لعرف أن هذا أسلوبٌ جميل، فهو يتنقل من غرض إلى غرض وَفقًا للموجات النفسية التي يعانيها الشاعر وهو يتنقل من إحساس إلى إحساس، والشاعر الحق ينقل عن روحه قبل أن يفكر في مراعاة المأثور من الموازين.
وكما نرى الفن الدقيق الملامح في هذه القصيدة نرى الفطرة السَّمحة، فطرة الطفل الساذج الذي لا يحسن تنميق الأحاديث، فطرة الطفل الذي تسيطر عليه السجية البريئة من التعمُّل فيهتف:
كأنه يتوهم أن القتل لا يقع إلا في القِصاص!
وقد يميل كثيِّر إلى التأنق في الصياغة الشعرية، ومن شواهد ذلك ما وقع في التائية، فقد لَزِم فيها ما لا يلزم إلا في بيتين اثنين، وهي من القصائد الروائع، وفيها يقول:
وقد تحدث عنها الدكتور طه حسين في حديث الأربعاء، تحدث عنها بالملام وهي فوق الملام؛ لأن صاحبها هو الذي يقول:
١١
كان كثيِّر باتفاق أكثر الرواة أشعر الناس في عصر بني أميةَ، فأين أشعاره؟ أين؟ أين؟
المفهوم أن ديوانه ضاع، بِغَضِّ النظر عن المجموعة التي نشرها أحد المستشرقين، وبغض النظر عن القصائد المبثوثة في الأمالي ومنتهى الطلب والأغاني وتزيين الأسواق.
ومع هذا يظهر أن ديوانه بقي محفوظًا مدة طويلة، فقد قرأت «أساس البلاغة» حرفًا حرفًا فرأيته استشهد بشعره في مواطن كثيرة جدًّا، ثم رجعت إلى لسان العرب فقرأت منه جزأين لأتعقب الشواهد من شعر كثيِّر فرأيت ابن منظور يعوِّل عليه في كثير من الأحيان، وكذلك أعفيت نفسي من مراجعة بقية اللسان اكتفاءً بما رأيت في الجزأين الأولين. ومن ابن منظور عرفت أن هناك كثيِّرًا آخر يستشهد بشعره أصحاب المعاجم وهو كثيِّر بن جابر المحاربي، وهذا يفسر حرص اللغوين على إضافة كثيِّر إلى عزة على خلاف ما يصنعون حين يستشهدون بشعر جميل.
فإن سمح الدهر بأن نجد نسخة كاملة من ديوان كثيِّر فسنعرف أشياء كثيرة من صور المجتمع الإسلامي في العصر الأموي، وستتضح لنا أصول الصياغة الشعرية لذلك العهد بأكثر مما اتضحت؛ لأنَّ غَلَبَةَ كثيِّر تشير إلى أن صياغته الشعرية كانت ذات أفانين.
١٢
أما بعد فقد كان من ضروب التشابه في الحظوظ أن يزور كثيِّر مصر كما زارها جميل، مع الاختلاف في غرض الزيارة عند الشاعرين، فقد زار جميل مصر ليستعين عبد العزيز بن مروان على محنته في هوى بثينة، وكانت المصاعب تثور في وجهه من كل جانب، فوعده عبد العزيز بالحماية، ومنحه بيتًا يقيم فيه، ولكنه لم يُقِمْ إلَّا قليلًا حتى مات.
أما كثيِّر فزار مصر لينتفع بصلات عبد العزيز بن مروان وقد أطال فيه المديح.
والقصة التي فرضت أن يموت جميل بمصر وهو يهتف باسم بثينة أرادت أن تنقل كثيِّرًا من مصر إلى المدينة شوقًا إلى عزة، ولم تكتفِ بذلك بل جعلت كثيرًا يصادف عزة وهي قادمة إلى مصر لتمتع النظر بقوامه القصير النحيف! وتقول القصة إنهما تعاتبا في الطريق ثم افترقا متغاضبَيْن، هو إلى المدينة وهي إلى مصر، ثم عزَّ عليه أن يفارق بلدًا فيه هواه فرجع إلى مصر ولكنه لسوء البخت وجد الناس ينصرفون من جنازة عزة، فأتى قبرها وأناخ راحلته عنده ومكث ساعة ثم رحل وهو ينشد:
وكذلك ظفر ثرى مصر برُفاتين عزيزين: رفات عزة ورفات جميل.
والعشق نفسه قصة، فكيف تَسلم أخباره من زخرف الخيال؟!
فإن سأل القارئ: ومتى مات كثيِّر وأين مات؟ فإنا نجيب بأنه مات سنة خمس ومئة بالمدينة، وقد شاءت الرواية أن يموت مع عكرمة في يوم واحد ويُصَلَّى عليهما في موضع واحد ليقول المشيعون: مات أفقه الناس وأشعر الناس!