الباب الأول
١
وكان الوقت متأخرًا بعد الظهيرة حين مالت الشمس منحدرةً في فناء منزل فرانسي نولان المغشَّى بالطحلب باعثة الدفء في السور الخشبي البالي، وانتاب فرانسي وهي تنظر إلى أشعة الشمس المائلة ذلك الشعور المرهف المعهود، الذي كان ينتابها حين تذكر قصيدةً كانوا يتلونها في المدرسة:
ولم تكن الشجرة الوحيدة النامية في فناء فرانسي من أشجار الصنوبر ولا من أشجار الشوكران، وإنما كانت أوراقها مدببة الطرف تنمو على سوقٍ خضر تنتشر من الغصن فتجعل الشجرة تبدو للعين كأنها مجموعةٌ من المظلات الخضراء المنبسطة، وقد سماها بعض الناس شجرة السماء؛ لأنها كانت تناضل حتى يبلغ طولها عنان السماء، أيًّا ما كان الموضع الذي تسقط فيه بذرتها، وكانت تنمو وسط الأحواش وتنبثق من أكوام النفايات المهملة، وإلى جانب ذلك كانت الشجرة الوحيدة التي برزت من الأسمنت ونمت، نمت في نضارة، ولكن في أحياء السكن فحسب.
وإنك لتسير في عصر يومٍ من أيام الأحد فتبلغ حيًّا قريبًا غاية في الإبداع، وترى الشجرة الصغيرة من تلك الأشجار من خلال البوابة الحديدية المؤدية إلى فناء بيت، فتدرك أن ذلك القطاع من بروكلين سوف يصبح عما قريب حيًّا من أحياء السكن، وكانت الشجرة تعلم ذلك، إذ كانت أول الساكنين، ثم يتسلل إلى الحي من بعدها أغراب من الفقراء، وتتحول البيوت القديمة الهادئة المشيدة من الحجر الأسمر إلى طوابق، وتدفع الحشايا المصنوعة من الريش إلى الخارج على عتبات النوافذ لتهويتها، وتزدهر شجرة السماء، كانت تلك الشجرة من هذا الطراز، تحب الفقراء من الناس.
أجل، كانت الشجرة التي في فناء فرانسي من ذلك الطراز، كانت أفنانها المتشابكة تلتفُّ حول سلم الطوارئ في الطابق الثالث ومن فوقه ومن تحته، وثمة فتاة في سن الحادية عشرة جالسة على هذا السلم تتخيل أنها تعيش في شجرة، ذلك ما كانت تتخيله فرانسي في عصر كل سبت من أيام الصيف.
ما كان أروع يوم السبت من يومٍ في بروكلين! وما كان أروعه في أي مكانٍ آخر: كان الناس يتسلمون أجورهم في يوم السبت، وكان يومًا من أيام العطلة لا يتسم بما يتسم به يوم الأحد من تزمُّت، يجد فيه الناس جيوبهم عامرة بالمال، فيخرجون من بيوتهم ويشترون ما يريدون، ويصيبون من الطعام الجيد مرة، ويُمعِنون في الشراب، ويلتقون على ميعاد، ويمارسون الحب، ويقضون ساعات الليل جميعها يغنون ويعزفون الموسيقى، ويتصارعون ويرقصون، فالغد يوم عطلتهم، وفي مقدورهم أن يناموا إلى وقتٍ متأخر؛ حتى القداس الأخير على أية حال.
وفي يوم الأحد كان معظم الناس يحتشدون في قداس الساعة الحادية عشرة، ولو أن بعضهم أو قليلًا منهم، كانوا يذهبون إلى قداس الساعة السادسة في الصباح المبكر، وكانوا يثابون على ذلك، وإن لم يكونوا يستحقون هذا الثواب لأنهم ظلوا خارج بيوتهم إلى الهزيع الأخير من الليل، فعادوا إلى بيوتهم مع الصباح؛ ولذلك ذهبوا إلى هذا القداس المبكر، وانتهوا منه ثم عادوا إلى بيوتهم وناموا النهار كله بنفسٍ راضية.
وفي كل مساء كانت فرانسي ونيلي يهبطان إلى «الكرار»، ويفرغان الرفوف مما كُدِّس عليها في النهار من نفايات، وكان لهما هذا الامتياز لأن أم فرانسي كانت هي خادمة الدار، ويسلبان من الرفوف الورق والخرق البالية والزجاجات الفارغة، ولم يكن للورق قيمةٌ كبيرة، فقد كانا يتقاضيان عن كل عشرة أرطال منه سنتًا واحدًا، وعن رطل الخرق البالية سنتَين، ورطل الحديد أربعة سنتات، وكان النحاس معدنًا له قيمته، الرطل منه بعشرة سنتات، وكانت فرانسي تعثر أحيانًا على قاعٍ مهمل من قيعان غلايات الغسيل، فتنتزعه بفتَّاحة العلب وتثنيه ثم تطرقه، ثم تُثنيه وتطرقه مرةً أخرى.
وكان الصبية بعد التاسعة من صباح السبت يبدءون مباشرة مسيرهم نحو طريق مانهاتان، وهو الطريق العام الرئيسي، بعد أن تلفظهم الشوارع الجانبية كالرذاذ ويشقون طريقهم في بطءٍ صاعدين في الطريق إلى شارع سكولز، وقد حمل بعضهم النفايات التي جمعها بين ذراعَيه، وجرَّ البعض الآخر عرباتٍ صُنعت من صناديق الصابون الخشبية، لها عجلاتٌ متينة من الخشب، ودفع القليل منهم أمامهم عرباتٍ صغيرة من عربات الأطفال محملة بالنفايات.
ووضعت فرانسي ونيلي النفايات التي جمعاها كلها في حقيبةٍ مصنوعة من القنب (الخيش)، وأمسك كلٌّ منهما بطرفٍ فيها، وجرَّاها في الطريق، صاعدَين شارع مانهاتان، مارَّين بشوارع موجير، وتن آيك، وستاج، حتى يبلغا شارع سكولز، ويا لها من أسماءٍ جميلة لشوارع قبيحة، وكانت جموعٌ من المساكين الصغار لابسي الأسمال تبرز من كل شارعٍ جانبي لتنضمَّ إلى هذا الحشد الرئيسي، وفي طريقهم إلى محل كارني، كانوا يقابلون الصبية الآخرين العائدين بأيديهم فارغة، بعد أن باعوا نفاياتهم وبعثروا ما أخذوه من بنسات، وعادوا يسيرون في خيلاء، ويهزءون بالصبية الآخرين صائحين: لُمَّام الخِرَق، لُمَّام الخِرَق!
واحمرَّ وجه فرانسي حين سمعت هذا النداء، ولم يخفف عنها ما تعلمه من أن هؤلاء الساخرين هم من لمَّامي الخرق أيضًا، أو أن أخاها سوف يعود هائمًا على وجهه خالي اليدين من عصبته، ويسخرون بالطريقة نفسها من الصبية الذاهبين بعدهم. أجل لقد أحسَّت فرانسي بالعار.
وكان كارني يمارس حرفة جمع النفايات وبيعها في حظيرةٍ آيلة للسقوط، ورأت فرانسي وهي تلف من المنعطف أن بابَي الحظيرة قد فُتحا على مصراعيَهما لاستقبال الوافدين، وخُيِّل إليها أن قرص الميزان يغمز لها مرحِّبًا، ورأت كارني يتصدر الميزان بشعره المغبَّر، وشاربه المصوف، وعينَيه المتآكلتَين بالصدأ، وكان كارني يفضل البنات على الصبيان، ويعطي البنات بنسًا إضافيًّا إذا لم تجفل حين يقرص خدَّها.
وخطا نيلي منتحيًا ليفسح لها صدر المكان، انتظارًا لما قد تناله فرانسي من منحة، وتركها تجرُّ الحقيبة إلى داخل الحظيرة، وقفز كارني إلى الأمام وقلب الحقيبة وأفرغها على الأرض، ثم نال قرصةً أولى من خدها، وبينما كان كارني يكوم النفايات على الميزان، رمشت فرانسي بجفنَيها لتُعوِّد عينَيها الظلام الجاثم على الحظيرة، وتنبَّهت إلى الجو المعتق، ونفذت إلى أنفها رائحة الخِرَق المبلَّلة. وصوب كارني نظرةً إليها وقال كلمتَين هما القيمة التي يشتري بها البضاعة، وكانت فرانسي تعلم أن المساومة ممنوعة، فأطرقت برأسها موافقة. وركل كارني النفايات بعنف، وترك فرانسي تنتظر وهو يكوم الورق في ركنٍ ويرمي الخرق في آخر، ويصنف المعادن، وفي هذه اللحظة فقط وضع يديه في جيب سرواله، وجذب كيسًا قديمًا من الجلد رُبط بخيطٍ مشمَّع، وعدَّ بعض البنسات القديمة الصدئة التي تشبه النفايات أيضًا، وصوَّب كارني إليها نظرةً عفنة باهتة وهي تهمس قائلة: أشكرك.
وقرص خدها بشدة، وملكت فرانسي زمام نفسها، فابتسم كارني وأعطاها بنسًا آخر، ثم تغير حاله وأصبح نشطًا صاخبًا.
ونادى من يليها في الصف، وكان صبيًّا، قائلًا: تعالَ، أخرج الرصاص.
وضحك ضحكةً في أوانها وقال: ولستُ أريد نفايات.
وضحك الأطفال في إذعان ورنَّ ضحكهم كغثاء حملانٍ صغيرةٍ ضالة، لكن كارني كان يبدو عليه الرضا.
وخرجت فرانسي وقالت لأخيها: لقد أعطاني ستة عشر، وبنسًا على القرصة.
وردَّ أخوها وفقًا لاتفاقٍ قديم بينهما: ذلك البنس لكِ.
ووضعت البنس في جيب ردائها وقدمت له باقي المبلغ، وكان نيلي في العاشرة من عمره، أصغر من فرانسي بسنةٍ واحدة، ولكنه كان «الرجل»، فأخذ المبلغ وقسم البنسات في عناية وحرص: «ثمانية سنتات للحصالة وأربعة سنتات لك وأربعة سنتات لي»، تلك كانت القاعدة أن يودعا نصف ما يحصلان عليه من أي مصدرٍ في علبة القصدير، التي ثبتاها بمساميرَ في أشد أركان الكرار ظلامًا.
وعقدت فرانسي النقود المدَّخرة في منديل يدها، ونظرت إلى البنسات الخمسة التي تمتلكها، وقد أدركت مغتبطة أنها يمكن أن تستبدل بها قرشًا كاملًا.
ورفع نيلي الحقيبة المصنوعة من القنب وطواها تحت ذراعه، وشق طريقه إلى محل تشارلي الرخيص الأسعار، وقد سارت فرانسي خلفه مباشرة، وكان مخزن تشارلي الرخيص الأسعار محلًّا مجاورًا لكارني، يبيع صنوف الحلوى ببنسٍ لكل قطعة، وتموِّنه تجارة النفايات، وكانت خزانته تمتلئ في نهاية يوم السبت ببنساتٍ علاها الصدأ، بيد أن فرانسي لم تدخل المحل ووقفت بجوار بابه، حيث إن العرف جرى على أن المحل للصبية من الذكور.
وكان الصبية ما بين الثامنة والرابعة عشرة من عمرهم، يتشابهون في شكلهم المتشرِّد بسراويلهم الصغيرة وقلانسهم ذوات القمم المنكسرة، ووقفوا حول المحل وأيديهم في جيوبهم وأكتافهم النحيلة محنية إلى الأمام في حدة، وإنه لمن المحتمل أن تنمو أجسامهم محتفظين بمنظرهم هذا، واقفين على هذا النحو في غير ذلك من الأماكن التي يغشاها المتسكعون، وقد يكون الفارق الوحيد الذي يحدث هو السيجارة، التي تبدو وكأنما ثبتت إلى الأبد بين شفاههم، ترتفع وتنخفض مع نبرات أصواتهم حين يتكلمون.
ومضى الصبية حينئذٍ يثرثرون في عصبية، ووجوههم النحيلة تستدير من تشارلي إلى بعضهم، ثم تتجه إلى تشارلي مرةً أخرى، ولاحظت فرانسي أن بعضهم قصَّ شعره لحلول الصيف، وأن الشعر قد اجتُزَّ قصيرًا، حتى إنها رأت على فروة رءوسهم حزوزًا في الأمكنة التي تخللها المقص بعمق، واستطاع هؤلاء المحظوظون أن يطووا قلانسهم في جيوبهم أو يزيحوها إلى الخلف على رءوسهم. أما أولئك الذين لم يحلقوا والذين تجعد شعرهم عند مؤخرة أعناقهم في رفقٍ لا تزال فيه سمات الطفولة، فقد أحسُّوا بالخزي وجذبوا قلانسهم على رءوسهم حتى بلغت آذانهم، فأكسبتهم بعض الشبه بالبنات على الرغم من حركاتهم النابية.
ولم يكن محل تشارلي الرخيص الأسعار رخيصًا، كان اسمًا على غير مسمى ولم يكن صاحبه تشارلي، ولكنه أخذ ذلك الاسم ووضعه على لافتة المحل، وما كان لفرانسي أن تكذب اللافتة، وكان تشارلي يعطي رقمًا لكل صبي مقابل كل بنس، ومن خلف مائدة الصرف ثبت خمسين خطافًا على لوحٍ من الخشب، تتدلى من كل خطاف جائزة، ولم يكن من الجوائز القيمة إلا القليل، مثل قبقاب الانزلاق ذي العجل، وقفاز لعبة البيسبول، ودمية لها شعرٌ حقيقي، وما إلى ذلك … وحملت الخطافات الأخرى نشافات وأقلام رصاص وغيرها من الأدوات التي تُباع ببنسٍ واحد، وراقبت فرانسي نيلي وهو يشتري رقمًا، وينزع الورقة القذرة من الظرف المهلهل ليجدها ستة وعشرين، ونظرت فرانسي على اللوحة آملة في نيل إحدى الجوائز، ولكن نيلي سحب ممحاةً تساوي بنسًا.
وسأله تشارلي: أتختار جائزةً أم حلوى؟
– أختار الحلوى، فما قولك؟
وكان هذا ما يحدث دائمًا، ولم تسمع فرانسي أبدًا عن صبيٍّ ربح جائزة قيمتها أكثر من بنسٍ واحد، وكانت قباقيب الانزلاق في الحقيقة صدئة، وشعر الدمية يغشاه التراب، وكأنما بقيت هذه الأشياء تنتظر هناك أمدًا طويلًا، مثلها مثل دمية الكلب الأزرق والجندي المصنوع من القصدير.
وقررت فرانسي أنها سوف تشتري في يومٍ ما حين تملك خمسين سنتًا الأرقام جميعًا، وتربح كل شيء على اللوحة، وتصورت أنها ستكون صفقةً رابحة حين تحصل على قباقيب الانزلاق والقفازات والدمية والأشياء الأخرى جميعها مقابل خمسين سنتًا. ترى ما الذي جعل قباقيب الانزلاق وحدها تساوي أربعة أضعاف هذه القيمة، ولسوف يحضر نيلي في هذا اليوم العظيم لأن البنات نادرًا ما كنَّ يناصرن تشارلي. والحق أن عدد البنات كان قليلًا في ذلك اليوم من أيام السبت، بناتٌ جريئاتٌ عصبيات، أكثر نضجًا مما يتناسب وأعمارهن، يتكلمن بصوتٍ عالٍ ويلعبن مع الصبية لعبة الجياد، بنات تنبَّأ لهن الجيران بمستقبلٍ لا يبشر بخير.
واخترقت فرانسي الشارع ذاهبةً إلى محل جيمبي لبيع الحلوى، وكان جيمبي أعرجَ، لكنه كان مهذبًا عطوفًا على الأطفال الصغار، أو لعله كان كذلك في نظر الناس، حتى كان ذلك اليوم المشمس بعد الظهيرة، حين غرر ببنتٍ صغيرة في حجرته الخلفية المعتِمة.
وتساءلت فرانسي عما إذا كان يجدر بها أن تضحي ببنسٍ مما معها من أجل تحفة جيمبي الخاصة، وهي الحقيبة الفائزة، وكانت مودي دونافان التي كانت ذات يوم صديقة فرانسي على وشك أن تبتاع شيئًا، فشقَّت فرانسي طريقها إلى الداخل حتى وقفت خلف مودي، وتظاهرت بأنها تنفق البنس، وكتمت فرانسي أنفاسها حين أشارت مودي بطريقةٍ مسرحية بعد تفكيرٍ طويل إلى حقيبةٍ بارزة في نافذة العرض، كانت فرانسي خليقة بأن تنتقي حقيبةً أصغر حجمًا، ونظرت من فوق كتف صديقتها، ورأتها تلتقط قليلًا من قطع الحلوى القديمة، وتفحص جائزتها التي كانت منديل يد من الكتان الخشن، وحصلت فرانسي مرةً على زجاجةٍ صغيرة من عطرٍ له رائحةٌ نفاذة، وتساءلت مرةً أخرى أيصحُّ لها أن تنفق بنسًا لتنال جائزة تفوز فيها بالحقيبة، وكان جميلًا أن تفاجأ بالجائزة وإن لم تستطع أن تأكل الحلوى، لكن فرانسي رأت حين تدبرت الأمر أن المفاجأة كانت في وجودها مع مودي وهي تشتري، وكان هذا لا يكاد يقل جمالًا عن مفاجأة الجائزة.
وسارت فرانسي صاعدةً في شارع مانهاتان تقرأ بصوتٍ عال أسماء الشوارع ذات الجرس الجميل، وهي تمر بها: سكولز، ميزيرول، مونتروز ثم شارع جونسون، وكان الإيطاليون يقطنون في الشارعَين الأخيرَين، وكانت الضاحية المسماة بمدينة اليهود تبدأ من شارع سيجل وتشمل شارع مور وشارع ماكيبن حتى شارع برودواي، واتجهت فرانسي تلقاء برودواي.
وماذا كان هناك في شارع برودواي في حي ويليمسبرج ببروكلين؟ لا شيء، اللهم إلا أجمل محل في العالم يبيع بضائعه بعشرة أو خمسة سنتات، وكان محلًّا كبيرًا تتلألأ أنواره، وبه كل شيء في العالم، أو هكذا خُيِّل لفتاةٍ في الحادية عشرة من عمرها، وكانت فرانسي تمتلك عشرة سنتات، تمتلك قوة … تستطيع أن تشتري أي شيء تقريبًا في ذلك المحل، وكان هو المكان الوحيد في العالم الذي يمكن أن يحدث فيه ذلك.
ووصلت فرانسي إلى المحل، وأخذت تتجول بين أقسامه ذهابًا وإيابًا، تمسك بأي سلعةٍ يهفو إليها خيالها، يا له من شعورٍ رائع تحسُّه حين تلتقط شيئًا ما وتمسكه بيدَيها لحظةً، تتحسس هيكله وتُجري يدها على سطحه، ثم تعيده إلى مكانه في حرصٍ وعناية، وكانت السنتات العشرة التي معها تمنحها هذا الامتياز، فإذا ما سألها سائلٌ إذا كانت تنوي شراء شيء فإنها تستطيع أن تقول نعم، وتشتريه مشيرةً إلى شيءٍ أو شيئَين، وقررت فرانسي أن المال شيءٌ عجيب، واستقر رأيها بعد فترةٍ من المتعة العارمة في لمس الأشياء، على أن تشتري رقائقَ من النعناع قرنفلية اللون مقابل خمسة سنتات.
وعادت فرانسي إلى بيتها هابطةً طريق جراهام وشارع غيتو، وبهرتها عربات اليد الممتلئة بالسلع، وكل عربة في ذاتها بمثابة محلٍّ صغير، زاخرة … بالمساومات، واليهودي الحاد المزاج، والرائحة الغريبة التي تنبعث من المنطقة المجاورة، رائحة السمك المطهو، وخبز الجويدار الحريف حين يخرج طازجًا من الفرن، ونفذت إلى أنفها رائحة تشبه رائحة العسل وهو يغلي، وحملقت فرانسي في الرجال الملتحين وعلى رءوسهم قلانس مصنوعة من صوف الباكاه، يرتدون معاطف من قماش السلكلين، وتساءلت في عجبٍ عما جعل عيونهم ضيقةً إلى هذا الحد، تنبعث منها تلك النظرات النفاذة، ونظرت من خلال الفتحات الصغيرة في جدران المحال، وشمت رائحة أقمشة الأردية التي وضعت بغير نظامٍ على المناضد، ولاحظت الأَسرَّة المصنوعة من الريش تبرز خارج النوافذ، والملابس ذات الألوان الشرقية الزاهية منشورة على سلم الطوارئ، والأطفال أنصاف العرايا يلعبون في بالوعات المياه، وقد جلست على حافة الطريق على كرسيٍّ خشبي صلب امرأةٌ تحمل في أحشائها طفلًا؛ جلست في صبرٍ تحت أشعة الشمس الدافئة، تراقب الحياة الجارية في الشارع، وترعى ما يستكنُّ في أعماقها من سر حياتها.
وكانت الساعة الثانية عشرة حين وصلت فرانسي إلى بيتها، وأقبلت أمها بعد مجيئها مباشرة تحمل دلوها ومكنستها، وضربت بهما في الركن، تلك الضربة الأخيرة التي تعني أنها لن تمسهما مرةً أخرى حتى يوم الإثنين.
وكانت أمها في التاسعة والعشرين من عمرها، سوداء الشعر، داكنة العينَين، يداها سريعتا الحركة، وكانت جميلة الشكل أيضًا، تعمل خادمةً وتنظف ثلاثة بيوت مستأجَرة، ترى هل يطرأ ببال أحد قط أن أمها تمسح الأرض لتعولهم هم الأربعة؟ كانت جميلة، خفيفة، مليئة بالحياة، تفيض بالمرح والنشاط دائمًا، وكانت يداها جميلتَين وأظافرهما جميلة بشكلها المقوس البيضاوي بالرغم من أن يدَيها كانتا حمراوَين مشققتَين من أثر استعمال الماء الممتزج بالصودا، وكان كل شخص يقول إنه لأمرٌ يستدر الشفقة أن امرأةً خفيفةً جميلة مثل كاتي نولان، تقتضيها الظروف أن تسعى لتمسح الأرض، ولكنهم كانوا يتساءلون: ماذا عسى أن تعمل ولديها ذلك الزوج الذي تعوله؟ وكانوا يعترفون أن جوني نولان رجلٌ وسيمٌ محبوب أفضل بكثيرٍ من أي رجل في الحي، بصرف النظر عن اختلاف نظرة الناس إليه، ولكنه كان سكِّيرًا. ذلك ما كانوا يقولونه، وكان قولًا حقًّا.
وتعمدت فرانسي أن تجعل أمها تشاهدها وهي تضع السنتات الثمانية في الحصالة المصنوعة من القصدير، واستمتعتا بخمس دقائقَ طيبةٍ تخمِّنان فيها قيمة النقود التي في الحصالة، وظنت فرانسي أنه لا بد أن يكون فيها ما يقرب من مائة دولار، ولكن أمها قالت إن ثمانية دولارات ربما تكون أقرب رقم إلى الحقيقة.
وأصدرت الأم لفرانسي تعليماتها بشأن الخروج لتشتري شيئًا للغداء، قائلة: خذي ثمانية سنتات من الفنجان المشدوخ، واشتري ربع رغيف من الخبز المصنوع من الجويدار وتأكدي أنه طازج، ثم خذي خمسة سنتات واذهبي إلى محل سوروين واطلبي طرف لسان، ولكن يجب أن تلحِّي وتلحفي لكي تحصلي عليه، ثم أضافت في تصميمٍ وحزم: أخبريه أن أمك هي التي قالت ذلك.
وأخذت تفكر في شيء، ثم قالت: لا أدري هل يجب أن نشتري كعك السكر الصغير بخمسة سنتات، أو نودع هذا المبلغ في الحصالة؟
– أوه يا أماه! هذا يوم السبت، وإنك ظللتِ تقولين طوال الأسبوع إننا سنأكل الحلوى يوم السبت.
– حسنًا، أحضري الكعك الصغير.
وكان المخبز الصغير مليئًا بالذين يشترون الخبز المصنوع من الجويدار، وشاهدت فرانسي البائع وهو يدس ربع رغيفها في كيسٍ من الورق، وظنت أنه بلا شك أروع خبز في العالم، وهو طازجٌ بقشرته العجيبة الفضية الهشة وقعره المغطى بالدقيق، ودخلت حانوت سوروين في إحجامٍ وتردد، فقد كان أحيانًا يبيع اللسان بثمنٍ مناسب وأحيانًا يبيعه بثمنٍ غير مناسب؛ ذلك أن شرائح اللسان يُباع الرطل منها بخمسة وسبعين سنتًا، وهو ثمنٌ لا يناسب إلا الأغنياء، ولكنك كنت تستطيع بعد أن يوشك الرجل على بيع اللسان كله، أن تشتري طرفه المربع بخمسة سنتات فحسب، لو أنك ساومته. ولم يكن يبقى بطبيعة الحال من طرف اللسان شيء اللهم إلا غضاريف صغيرة معظمها رخو، وليس به إلا أثرٌ يسير يذكرك باللحم. وتصادف أن كان ذلك اليوم من الأيام التي يكون فيها سوروين معتدل المزاج وديعًا، وقال الرجل لفرانسي: لقد نفد اللسان بالأمس، ولكني حفظته لكِ؛ لأني أعلم أن أمك تحب اللسان أخبري أمك بهذا.
وهمست فرانسي: نعم يا سيدي.
وأطرقت وهي تحس بالحرارة تسري في وجهها، لقد كرهت سوروين، ولم تصح نيتها على أن تنبئ أمها بما قال.
واختارت فرانسي حين وصولها إلى الخباز أربع كعكاتٍ صغيرة، وأخذت تنتقي بعنايةٍ الكعكة التي يغطيها السكر أكثر من غيرها، وقابلت نيلي خارج المخبز، واختلس نيلي نظرةً إلى داخل الحقيبة، ثم قفز من الفرح حين رأى الكعك، وبالرغم من أنه أكل في ذلك الصباح حلوى قيمتها أربعة سنتات، فإنه كان يشعر بجوعٍ شديد، وحمل فرانسي على أن تجري الطريق كله إلى البيت.
ولم يعد أبوها إلى البيت وقت الغداء، وكان نادلًا يغني بالقطعة، ومعنى ذلك أنه لم يكن يعمل في كثيرٍ من الأحيان، وكان يقضي عادةً صباح يوم السبت في مكتب العمل ينتظر عملًا يوكل إليه.
وحظيت فرانسي ونيلي وأمهما بأكلةٍ شهية جدًّا، أخذ كلٌّ منهم شريحةً سميكة من اللسان، وقطعتين من خبز الجويدار الطيب الرائحة تغطيها طبقةٌ من الزبد غير المملح، وأصاب كلٌّ منهم كعكةً من كعك السكر ثم فنجانًا من القهوة الساخنة ممزوجة بملعقةٍ من اللبن المركَّز المحلَّى بالسكر.
وكان لأسرة نولان فكرةٌ خاصة عن القهوة، فقد كانت متعتهم الوحيدة الكبرى، تصنع الأم منها كل صباح ملء وعاءٍ كبير، ثم تعيد تسخينه للغداء والعشاء، فتصبح القهوة أكثر تركيزًا كلما انقضى اليوم، وكانت الأم تضع كميةً هائلة من الماء على كميةٍ قليلة جدًّا من اللبن، ولكنها كانت تضيف إليهما قطعة من الشيكوريا تجعل لها طعمًا مركَّزًا مرًّا، وتسمح لكل فرد أن ينال ثلاثة فناجين منها مع اللبن، ويمكن في الأوقات الأخرى أن ينال المرء فنجانًا إضافيًّا من القهوة السوداء في أي وقتٍ يشاء. وإنك في بعض الأحيان، حين تكون خليَّ البال والجو ممطرًا والشقة خاوية إلا منك، تشعر بالثقة إذ تعلم أنك تستطيع أن تصيب شيئًا، حتى ولو لم يكن سوى فنجان من القهوة المرة السوداء.
وكان نيلي وفرانسي يحبان القهوة، ولكنهما قلَّما كانا يشربانها، وترك نيلي اليوم كشأنه دائمًا فنجان قهوته على حاله، والْتهم نصيبه من اللبن المركَّز واضعًا إياه على الخبز، ورشف من القهوة السوداء جريًا على العرف، وأفرغت الأم لفرانسي قهوتها ومزجت بها اللبن، بالرغم من أنها كانت تعلم أن الطفلة سوف لا تشربها.
وكانت فرانسي تحب نكهة القهوة وسخونتها، فبينما كانت تأكل خبزها وقطعتها من اللحم، تركت يدها مثنية تلتف حول فنجان القهوة مستمتعةً بدفئها، ومن حينٍ إلى حين تشم نكهة حلاوتها المُمرَّرة، وكانت تؤثر ذلك على احتسائها، وكان مصير القهوة بعد فراغها من طعامها إلى البالوعة.
وكان للأم أختان: هما سيسي وإيفي، تأتيان إلى الشقة في كثيرٍ من الأحيان، وكانتا في كل مرةٍ تريان فيها القهوة تنتهي إلى هذا المصير، تعطيان الأم محاضرةً في الإسراف، وشرحت الأم لهما الأمر قائلة: إن فرانسي يخصها في كل وجبة فنجان من القهوة مثل الباقين، وإذا كانت تؤثر إلقاءها في البالوعة على احتسائها، فلا ضير من ذلك، وإني أظن أنه من الخير لأناسٍ مثلنا أن يبدِّدوا شيئًا من حينٍ لآخر، ويستمتعوا بشعور الذين يتوافر لديهم مالٌ وفير، ولا يشغلون أنفسهم بالتقتير.
وأرضت الأمَّ هذه النظرة الغريبة إلى الأمور، وطابت لها نفس فرانسي؛ إذ كانت إحدى الروابط التي تجمع بين الفقراء المعدمين والأغنياء المسرفين، وشعرت الفتاة أنها كانت تملك أقل مما كان يملكه أي شخص في ويليمسبرج، فإنه كان لديها بوجهٍ من الوجوه شيءٌ أكثر مما لديهم جميعًا؛ لقد كانت أغنى لأن لديها شيئًا تستطيع أن تبدده، وأكلت كعكة الحلوى في بطءٍ مشفقة من أن تفقد طعمها الحلو، على حين أصبحت القهوة في برودة الثلج، ثم أفرغتها في البالوعة في عظمة، وقد أحست إحساسًا عارضًا بالتبذير، واستعدت بعد ذلك للذهاب إلى محل لوشر، لتشتري ما تحتاج إليه الأسرة من الخبز غير الطازج، الذي يكفيهم نصف أسبوع، وأخبرتها أمها بأن تأخذ خمسة سنتات وتشتري فطيرةً بائتة، إذا استطاعت أن تحصل على فطيرة لم تضرب عند عجنها ضربًا شديدًا.
وكان مخبز لوشر يزود بالخبز حوانيت المنطقة المجاورة، ولم يكن الخبز يُلفُّ في ورق الشمع، كما كان يفسد سريعًا؛ لذا فإن لوشر كان يخفي الخبز البائت عن زبائنه ويبيعه بنصف ثمنه للفقراء، وكان الحانوت الخارجي يتبع المخبز وتشغل جانبًا منه مائدة البيع المستطيلة، ويشغل الجانبين الآخرين صفٌّ من الأرائك، وثمة باب ذو مصراعَين ضخمٌ مفتوح وراء مائدة البيع، وكانت عربات المخبز تقف في مؤخرتها لصق المائدة، وتفرغ حمولتها من الخبز على هذه المائدة مباشرة، حيث كانوا يبيعون الرغيفَين بخمسة سنتات، ويندفع الجمهور حينما كانت العربات تفرغ حمولتها، ومن ثم فقد كان على المائدة متزاحمًا يجاهد في سبيل شراء الخبز، ولم يكن الخبز يتوافر قط للجميع، على البعض أن ينتظر حتى تقبل ثلاث عربات أو أربع قبل أن يتمكنوا من شراء الخبز، وكان الزبائن يشترون الخبز بهذا السعر ويتكفلون هم بلفِّه، وكان معظمهم من الأطفال، وكان بعض الصبية يطوون الخبز تحت أذرعتهم، ويعودون أدراجهم إلى بيوتهم يعلنون بلا حياء للعالم كله أنهم قومٌ فقراء، أما ذوو الكبرياء فكانوا يلفون خبزهم في أوراق الصحف القديمة أو في أكياس الدقيق النظيفة أو القذرة، ولكن فرانسي أحضرت معها كيسًا كبيرًا من الورق.
ولم تحاول فرانسي أن تحصل على خبزها سريعًا، وجلست على إحدى الأرائك وأخذت تراقب الناس، كان نفرٌ من الصبية يتدافعون ويتصايحون عند مائدة البيع، وأربعة رجال مُسنُّون ينعسون على الدكة المقابلة، وكان الرجال المسنون، وقد أصبحوا عالة على أسرهم، يكلفون بتوصيل الرسالات ورعاية الأطفال، وكان ذلك هو العمل الوحيد الذي بقي لهؤلاء الرجال الذين بلغوا من الكبر عتيًّا في ويليمسبرج، كانوا ينتظرون ما وسعهم الانتظار قبل أن يشتروا لأن رائحة الخبز في مخبز لوشر كانت طيبة، والشمس النافذة من الشرفات تسقط على ظهورهم الكليلة وتشعرهم بالراحة؛ لهذا جلسوا ونعسوا والساعات تمر، وأحسوا بأنهم يزجون بذلك وقت فراغهم، وقد جعل الانتظار لحياتهم هدفًا إلى حين، وأوشكوا أن يشعروا بأن الناس ما فتئوا يحتاجون إلى وجودهم.
وحملقت فرانسي في أكبر الرجال سنًّا، وأخذت تمارس لعبتها المفضلة في تأمل أشكال الناس، وكان شعره الخفيف المتشابك رماديًّا قذرًا كالهشيم يعفُّ على خديه الغائرين، وأحاط لعابه الجاف بزاويتي فمه، وراح الرجل المسنُّ يتثاءب فبدا فمه خاليًا من الأسنان، وراقبته فرانسي معجبةً منفعلة، وهو يغلق فمه ويجذب شفتَيه إلى الداخل، حتى يصبح وكأنه بلا شفتين، ويرفع ذقنه حتى يكاد يلمس أنفه، وأخذت تدرس معطفه العتيق، وقد تدلَّى حشوه عند طية الحياكة من الكم المهلهل، وكانت ساقاه تستلقيان على الأرض متباعدتَين في استرخاءٍ لا حول له ولا قوة، وقد فقد «زرار» من فتحة السروال التي تحيط بها طبقة من الشحم، ورأت أن حذاءه كان متعجنًا ممزَّقًا عند الأصابع، على أن فردة من فردتَي الحذاء، كانت قد خيطت بخيطٍ من خيوط الأحذية كثير العقد، وخيطت الأخرى بقطعةٍ من الدوبارة القذرة، ورأت إصبعَين من أصابع قدمَيه سميكتَين قذرتَين لهما أظافرُ رماديةٌ مجعدة، وصرحت بأفكارها قائلة بينها وبين نفسها: إنه لرجلٌ مسنٌّ جاوز بلا ريب سبعين سنة، وولد تقريبًا في الوقت الذي كان فيه إبراهام لنكولن يعيش متأهبًا لرياسة الجمهورية، وما من ريبٍ أن ويليمسبرج كانت حينئذٍ بلدةً ريفية، ولعل الهنود كانوا لا يزالون يعيشون في فلاتبوش، كان ذلك منذ أمدٍ بعيد.
واستمرت تحملق في قدمَيه وهي تهمس لنفسها: لقد كان طفلًا في يومٍ من الأيام، ولا بد أنه كان جميلًا نظيفًا، تُقبِّل أمه أصابع قدمَيه الصغيرة الوردية اللون، وربما كانت تمضي إلى مهده حين ترعد السماء بالليل، وتُحكم الغطاء حوله، وتهمس في أذنه بألا يخاف لأنها بجانبه، ثم ترفعه إليها وتضع خدها على رأسه، وتقول إنه طفلها الجميل، ولعله كان صبيًّا مثل أخي، يجري داخل المنزل وخارجه ويصفق الباب، وحينما تؤنبه أمه يذهب بها التفكير إلى أنه قد يصبح رئيسًا للجمهورية ذات يوم، ثم أصبح شابًّا قويًّا سعيدًا تبتسم له الفتيات حين يمشي في الشارع، ويلتفتن إليه ليشاهدنه ويبادلهن الابتسام وقد يغمز بعينَيه لأجملهن، وإني لأخمن أنه لا بد قد تزوج وأنجب أطفالًا، كانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى أروع أب في العالم؛ لأنه كان يكدُّ في العمل ويشتري لهم اللعب في ليلة عيد الميلاد، ولكن أطفاله الآن يتقدمون في العمر أيضًا مثله، وقد أنجبوا أطفالًا … بدورهم، ولم يعد أحدٌ منهم يرغب في الرجل المسن وإنهم لينتظرون موته، ولكنه لا يريد أن يموت، بل يريد أن يبقى حيًّا بالرغم من تقدمه الكبير في السن، ولم يعد أمامه شيء بعدُ يبعث في قلبه السعادة.
وكان المكان هادئًا، وشمس الصيف تنفذ إلى الداخل، محدثة شعاعاتٍ يغشاها الغبار تنحدر إلى أسفلَ من النافذة إلى الأرض، وأخذت ذبابةٌ كبيرةٌ خضراء تطنُّ داخلةً خارجة في الغبار المشمس، وكان المكان خاليًا إلا من هذه الذبابة والرجال المسنين الناعسين، وقد خرج الأطفال الذين ينتظرون الخبز ليلعبوا في الخارج، وبدأت أصواتهم العالية الصاخبة كأنها تأتي من بعيد.
وفجأة قفزت فرانسي واقفة، وقلبها يدق دقًّا سريعًا، وشعرت بالفزع وظنت بلا سبب مطلقًا أن أحدًا قد شد أوتار «الأكورديون» إلى آخرها ليعزف نغمةً قوية، وانتابتها فكرة بأن «الأكورديون» يقترب … ويقترب … واستولى عليها رعبٌ لا سبيل إلى وصفه حين تحققت أن كثيرًا من الأطفال الملاح في العالم، قد ولدوا لينتهوا في يومٍ من الأيام إلى ما انتهى إليه هذا الرجل المسن، وخيل إليها أنها يجب أن تخرج من ذلك المكان وإلا فقد يحل بها ذلك فجأة، فتصبح امرأةً عجوزًا خلا فمها من الأسنان، وينظر الناس إلى قدمَيها في تقززٍ واشمئزاز، وفي تلك اللحظة انفتح مصراعا الباب المزدوج خلف مائدة البيع، معلنين عن قدوم عربة من الخبز، وأقبل رجلٌ ووقف خلف المائدة، وبدأ سائق العربة يقذف له الخبز الذي أخذ يكومه على المائدة، واحتشد الصبية الذين سمعوا الباب وهو يفتح في الداخل، وأخذوا يتشاجرون حول فرانسي التي وصلت إلى المادة من قبلُ.
وصاحت فرانسي قائلة: إنني أريد خبزًا.
ودفعتها فتاةٌ كبيرة دفعةً قوية، وأرادت أن تعلم مَن تكون، وما هو الشأن الذي تدعيه لنفسها، وقالت لها فرانسي: لا عليكِ، لا عليكِ.
وصاحت فرانسي قائلة: أريد ستة أرغفة وفطيرة لم تضرب ضربًا شديدًا.
ودفع لها البائع، وقد تأثر بإلحاحها، ستة أرغفة وأقل الفطائر ضربًا من العائد، وأخذ منها عشرين سنتًا، وشقَّت طريقها خارج الزحام، وسقط منها رغيف التقطته من الأرض بعد عناء، حيث إنه لم تكن هناك فسحة تتيح لأحدٍ أن ينحني.
وجلست في الخارج على حافة الطريق تُسوِّي الخبز والفطيرة في حقيبة الورق، ومرت امرأة تجر طفلًا في عربةٍ صغيرة، وكان الطفل يحرك قدمَيه في الهواء، ونظرت فرانسي، ولم ترَ قدمي الطفل، وإنما رأت شيئًا غريبًا داخل حذاءٍ كبيرٍ مهلهل، واستولى عليها الرعب مرةً أخرى، وأطلقت ساقَيها للريح طول الطريق إلى البيت.
ووجدت الشقة خالية، كانت أمها قد ارتدت ملابسها وخرجت مع الخالة سيسي لتشهد حفلةً صباحية في السينما، مقابل عشرة سنتات لكل مقعدٍ في الشرفة العليا، وحفظت فرانسي الخبز والفطيرة في المكان المخصَّص لهما، وطوت الحقيبة بعنايةٍ حتى يمكن استعمالها في المرة المقبلة، وذهبت إلى حجرة النوم الصغيرة الخالية النوافذ، التي كانت ترقد فيها هي ونيلي، وجلست في مهدها في الظلام تنتظر انحسار موجات الرعب التي كانت تنتابها.
ودخل نيلي بعد قليلٍ وزحف تحت مهده وجذب قفازًا مهلهلًا ثم وقف، وسألته قائلة: إلى أين أنت ذاهب؟
– ذاهبٌ لألعب الكرة في الخلاء.
– هل أستطيع أن آتي معك؟
– لا.
وتبعته هابطةً إلى الشارع حيث كان ينتظره ثلاثة من إخوانه، وكان أحدهم يحمل مضربًا ويحمل الآخر كرة البيسبول، والثالث لا يحمل شيئًا، ولكنه يرتدي السراويل الخاصة بكرة البيسبول، واستأنفوا طريقهم إلى شقةٍ من الأرض خالية من المباني بالقرب من جرتينبونيت، ورأى نيلي فرانسي وهي تتبعهم ولم يقل شيئًا، لكن أحد الصبيان لكزه قائلًا: هاي! إن أختك تتبعنا!
ورد نيلي موافقًا: أجل!
واستدار الصبي وصاح في فرانسي قائلًا: امضي لشأنك.
وقالت فرانسي: هذا بلدٌ حر.
وردد نيلي القول للصبي: هذا بلدٌ حر.
ولم يعيروا فرانسي اهتمامًا بعد ذلك، وظلت فرانسي تتبعهم؛ إذ لم يكن لديها شيء يشغلها حتى الساعة الثانية، حينما تفتح مكتبة الحي مرةً أخرى.
وكان المسير بطيئًا كتبختر الجياد، يتوقف الصبية ليبحثوا عن رقائق القصدير في النفايات، ويلتقطوا أعقاب السجائر يدَّخرونها ويدخِّنونها بعيدًا عن الأنظار بعد ظهر اليوم الممطر التالي، وقضوا وقتًا في مشاكسة صبيٍّ يهودي كان في طريقه إلى المعبد، فاحتجزوه عن المضي في سبيله، وراحوا يتجادلون فيما يفعلون به، وانتظر الصبي وهو يبتسم في مذلة، ثم أطلقوا سراحه أخيرًا بعد أن زوَّدوه بإرشاداتٍ مفصَّلة عن السلوك الذي يجب عليه أن يتبعه في الأسبوع المقبل.
وأمروه قائلين: لا تظهر فتاتك في شارع ديفو.
ووعدهم قائلًا: لن أفعل ذلك.
وشعر الصبية بخيبة أمل؛ فقد كانوا يتوقعون منه مقاومةً أكثر من ذلك، وأخرج أحدهم قطعة طباشير من جيبه ورسم خطًّا متموجًا على جانب الطريق، وقال له آمرًا: لا تمش فوق هذا الخط.
وصمم الصبي الصغير، وقد عرف أنه ضايقهم لاستسلامه اليسير، على أن يجاوبهم، فقال لهم: ألا أستطيع حتى أن أضع قدمًا واحدة في البالوعة أيها الرفاق؟ وقالوا له: إنك لا تستطيع أن تبصق في البالوعة.
وتنهد الصبي متظاهرًا بالتسليم: وهو كذلك.
وقال واحدٌ من الصبية الأكبر سنًّا: وابتعدْ عن البنات من جنسنا، أتفهمني؟
ومضوا في طريقهم وتركوه يحملق خلفهم.
وهمس الصبي وهو يحرك عينَيه الكبيرتَين الداكنتَين: وي! وي!
وكانت الفكرة التي راودت هؤلاء الصبية، وجعلتهم يحسبون أن عوده قد اشتد، فأصبح يستطيع أن يفكر في أية فتاة قد أصابته بالاضطراب، فأخذ يترنح ومضى في طريقه يردد: وي! وي!
ومشى الصبية متباطئين يختلسون النظر في خبثٍ إلى الصبي الكبير الذي أشار إلى البنات متسائلين: هل سيفضي به الأمر إلى حديثٍ قذر؟ ولكن قبل أن يحدث ذلك سمعت فرانسي أخاها يقول: أعرف هذا الصبي، إنه يهوديٌّ أبيض.
وكان نيلي قد سمع أباه يقول ذلك عن يهوديٍّ يعمل في إحدى الحانات كان يميل إليه، وقال الصبي الكبير: ليس هناك من يسمى باليهودي الأبيض.
وقال نيلي بأسلوبه الذي جمع بين موافقة الآخرين مع الاحتفاظ بآرائه الخاصة مما حبب فيه القلوب: حسنًا! لو أن هناك من يسمى باليهودي الأبيض لكان خليقًا أن يكونه.
وقال الصبي الكبير: لا يمكن أن يوجد من يسمى باليهودي الأبيض ولو من قبيل الفرض.
ورأوا قبل أن يتعمقوا أكثر من ذلك في علم اللاهوت صبيًّا آخر، يتجه إلى شارع أينسلي قادمًا من شارع هامبولت يحمل سلةً في ذراعه، وكانت السلة مغطاةً بقطعةٍ نظيفة من القماش المهلهل، برزت من أحد أركانها عصًا نصب عليها كالعلم الفاتر الحركة، ست فطائر مملحة من فطائر البرتزل، وأصدر الصبي الكبير من زمرة نيلي أمرًا فانقضَّ الصبية متكاتفين على بائع فطائر البرتزل، وثبت الصبي في مكانه فاغرًا فمه وصاح قائلًا: أماه!
وارتفعت يدا فرانسي لتسدا أذنَيها حتى لا تقول للقسيس ساعة الاعتراف، إنها وقفت واستمعت إلى كلمةٍ نابية.
وقال نيلي وعلى وجهه تلك الابتسامة المحبَّبة التي ينال بها دائمًا رضا أمه: إننا لا نفعل شيئًا أيتها السيدة.
وقالت السيدة: إنك تقامر بحياتك، فلا تفعل، لن يحدث ذلك وأنا قائمة هنا.
ثم نادت ابنها دون أن تغير لهجتها: وأنت، اصعد على السلم إلى هنا، سأعلمك كيف تحترمني وأنا مستسلمة إلى النعاس وقت القيلولة.
وصعد الصبي صاحب فطائر البرتزل، وانطلقت عصبة الصبية يجرون بأقصى سرعتهم.
وهزَّ الصبي الكبير رأسه إلى الخلف ناحية النافذة، وقال: تلك السيدة امرأة قاسية!
ووافق الآخرون: أجل!
وقال الصبي الصغير: إن أبي رجلٌ شديد.
وتساءل الصبي الكبير في هدوء: وماذا يهمنا من ذلك؟
واعتذر الصبي الصغير قائلًا: قلت ذلك لمجرد القول.
وقال نيلي: إن أبي المسنَّ ليس رجلًا شديدًا.
وضحك الصبية ومضوا يجرون بأقصى سرعتهم، ويقفون بين الفينة والفينة ليستنشقوا في عمقٍ رائحة خور نيوتاون، الذي كان يشق طريقه الضيق جاهدًا، متجاوزًا في مسيره قليلًا من مجموعات المباني، صاعدًا إلى شارع جراند.
وقال الصبي الكبير: يا إلهي، إن مياهه نتنة!
وقال نيلي وقد بدا عليه الشعور بالرضا العميق: أجل!
وقال صبيٌّ آخر متفاخرًا: أراهن أن هذه البقعة أكثر بقاع العالم نتنًا!
– نعم.
وهمست فرانسي قائلة «نعم» مؤيدةً قولهم، بَيْد أنها كانت فخورًا بتلك الرائحة التي عرفت عن طريقها، أنه يوجد بالقرب منهم مجرى ماء، كان بالرغم من قذارته يلتقي بنهرٍ يصبُّ في البحر، وكانت هذه الراحة البالغة النتن توحي إلى فرانسي بالتفكير في السفن التي تعبر البحر وفي المغامرة، فاستراحت نفسها للتفكير في هذه الرائحة.
وما إن وصل الصبية إلى قطعة الأرض التي قام فيها نشز، أشبه بالماسة الشعثاء التي وطئتها الأقدام، حتى طارت فراشةٌ صفراء صغيرة عبر العشب، وجرى الصبية يطاردونها بغريزة الإنسان في الاستحواذ على كل شيء يجري أو يطير أو يعوم أو يزحف، وأخذوا يطاردونها ويلقون بقلانسهم المهلهلة مستبِقِين قدومها، وأمسكها نيلي، ونظر إليها الصبية نظرةً عابرة، وسرعان ما فقدوا اهتمامهم بها، وبدءوا يتبارون في لعبة البيسبول، يمارسونها أربعة لاعبين، وكان هذا من ابتكارهم.
وأخذوا يلعبون في عنف، يتلاعنون ويتصبَّبون عرقًا، ويقرص بعضهم بعضًا، وكانوا في كل مرة يتعثرون فترةً قصيرة، ويتلكئون لحظة، فيهرجون ويتباهون، وكانت هناك شائعة بأن مائةً من كشافة بروكلين يسيرون في الشوارع بعد عصر أيام السبت، ليراقبوا المباريات التي تُجرى في الخلاء وينتقوا اللاعبين المرموقين، ولم يكن من صبية بروكلين صبيٌّ واحد لا يؤثر اللعب في فريق بروكلين، على أن يصبح رئيسًا لجمهورية الولايات المتحدة.
وشعرت فرانسي بعد حينٍ بالتعب من مراقبة الصبية؛ لأنها كانت تدرك أنهم سوف يمضون في اللعب والعراك والتفاخر، حتى يحين موعد أوبتهم إلى البيت للغداء، وكانت الساعة قد بلغت الثانية، وآن وقت عودة أمينة المكتبة من غدائها، وعادت فرانسي تسير نحو المكتبة وقد غمرها شعور رضى بالتوقع والانتظار.
٢
كانت المكتبة مكانًا صغيرًا عتيقًا رثًّا، لكن فرانسي كانت تراها جميلة، وكان شعورها نحو المكتبة طيبًا كشعورها حيال الكنيسة، ودفعت الباب ففتحته ودخلت، وكانت تؤثر الرائحة التي تجمع بين جلد الكتب العتيق وبين طلاء المكتبة، والختَّامات المزوَّدة بالحبور، على رائحة البخور وهي تحترق في القداس الكبير.
وظنت فرانسي أن جميع كتب العالم قد حشدت في تلك المكتبة، وكانت لديها خطة تستهدف قراءة كتب العالم أجمع، وكانت تقرأ كل يوم كتابًا من الكتب حسب ترتيب الحروف الأبجدية، بدون أن تتخطى الكتب ذات المادة الجافة، وتذكرت أن المؤلف الأول كان أبوت، وظلت فترةً طويلة تقرأ كل يوم كتابًا، ولكنها لم تتجاوز حرف الباء، ولقد قرأت بالفعل عن النحل، والجواميس، والسياحة في برمودا، والعمارة البيزنطية، وإنها لتعترف بالرغم من حماستها كلها بأن بعض كتب المؤلفين التي تندرج تحت حرف الباء كانت عسيرة الهضم، لكن فرانسي كانت قارئةً نهمة تقرأ كل ما يقع بين يديها من مؤلفاتٍ تافهة أو روائع الكتب أو جداول التوقيت أو قوائم أسعار البقالة، وكان بعض ما قرأته رائعًا، مثل كتب لويزا الكوت، وعزمت فرانسي على أن تقرأ جميع الكتب مرةً أخرى بعدما تنتهي من المؤلفين الذين يندرجون تحت حرف الباء.
وكانت أيام السبت تختلف عن بقية الأيام، كانت تعمد فيها إلى الترفيه عن نفسها بقراءة كتاب، لا يلتزم بالترتيب الأبجدي التي تسير عليه طيلة الأسبوع، وطلبت في ذلك اليوم من أمينة المكتبة أن تنتقي لها كتابًا.
وبعد أن دخلت فرانسي المكتبة وأغلقت الباب في هدوء — وهو ما يطلب منك عندما تكون في المكتبة — نظرت نظرةً سريعة إلى وعاء الفخار الصغير ذي اللون البُنِّي المذهَّب، الذي كان قائمًا على طرف مكتب أمينة المكتبة، وكان بمثابة دليل لفصول السنة، يحمل في فصل الخريف قليلًا من أغصان نبات سكر المر، وفي وقت عيد الميلاد يحمل عددًا من نبات شرابة الراعي. وكانت فرانسي تعرف أن الربيع مقبل عندما ترى نبات البَسْوَل في الوعاء حتى ولو كان الجليد يكسو الأرض، ترى ماذا يحمل الوعاء اليوم، يوم السبت من صيف سنة ١٩١٢م؟ ورفعت فرانسي عينَيها ببطء إلى الوعاء، متجاوزة عن السيقان الرفيعة الخضراء والأوراق المستديرة الصغيرة، ورأت نبات «أبو خنجر» بألوانه المختلفة: الأحمر والأصفر والمذهَّب والأبيض كالعاج، وشعرت بألمٍ بين عينَيها وهي تستوعب هذا المنظر الرائع، كان شيئًا لا ينساه المرء طول حياته.
وفكرت بينها وبين نفسها: سيكون عندي حين أكبر وعاء بُنِّي اللون، وسيضمُّ هذا الوعاء في شهر أغسطس الحار نبات «أبو خنجر»!
ووضعت يدها على طرف المكتب المطلي وقد أعجبها ملمسه، ونظرت إلى الصف المنظم من أقلام الرصاص التي بُريَتْ حديثًا، وإلى مربع النشاف الأخضر النظيف، وإلى الوعاء الأبيض الغليظ المحتوي على معجون اللصق، وإلى حزمة الجذاذات المحكمة، وإلى الكتب المرتجعة تنتظر من يضعها مرةً أخرى على الأرفف، وكان قلم الرصاص المشهود موضوعًا إلى جانب النتيجة قريبًا من طرف النشافة.
«أجل إنني عندما أكبر ويصبح لي بيتٌ خاص بي، فسوف لا أتخذ كراسي من المخمل الرديء، ولا ستائر من المخرمات، ولا أشجارًا من المطاط، ولكن سأتخذ مكتبًا مثل هذا في بهو منزلي، وأحرص على أن تكون الحوائط مطليةً باللون الأبيض، ويكون لي في كل ليلة من ليالي السبت نشافٌ أخضرُ نظيف، وصفٌّ من أقلام الرصاص الصفراء اللامعة، وقد بُريت دائمًا استعدادًا للكتابة، ووعاءٌ بني اللون مذهَّب يحتوي دائمًا على زهرةٍ أو بعض أوراق الشجر أو التوت البري، ثم الكتب … الكتب … الكتب …
واختارت كتابًا لتقرأه يوم الأحد، كتابًا مؤلفه يُدعى براون، وتذكرت فرانسي أنها ظلت تقرأ لكُتَّابٍ يحملون اسم براون شهورًا، ولاحظت — حين ظنت أنها على وشك الانتهاء منهم — أن الحرف التالي يبدأ مرةً أخرى باسم براون، ويلي ذلك الكُتَّاب الذين يحملون اسم براونينج، تنهدت فرانسي وقد كانت مشوقة إلى بلوغ كتب المؤلفين، الذين يندرجون تحت حرف الكاف، فقد كان من بينها كتاب بقلم ماري كوريلي، كانت قد اختلست إليه النظر ووجدته مثيرًا، ترى هل يقيض لها أن تبلغ في قراءتها مؤلفات هذه الكاتبة؟ لعل ذلك كان يقتضي منها أن تقرأ كتابَين في اليوم الواحد، لعل …
ولبثت أمام المكتب وقتًا طويلًا قبل أن تتنازل أمينة المكتبة وتلتفت إليها، وسألتها تلك السيدة في لهجةٍ نكدة: ماذا تريدين؟
ودفعت فرانسي الكتاب إلى الأمام وقد فتح عن آخره، والبطاقة الصغيرة قد دفعت خارج المظروف، وقالت: أريد هذا الكتاب.
ولقد مرَّنت أميناتُ المكتبة الأطفالَ على أن يقدموا الكتب بهذه الطريقة، التي كانت توفر لهم مشقة فتح مئاتٍ عدة من الكتب في اليوم، واستخراج مئات عدة من البطاقات من مثل هذا العدد من المظاريف.
وأخذت أمينة المكتبة البطاقة وختمتها، ثم أسقطتها من فتحةٍ في المكتب، ثم ختمت بطاقة فرانسي وأعادتها إليها، والتقطتها فرانسي دون أن تنصرف.
وسألتها أمينة المكتبة دون أن تكلف نفسها مجرد النظر إليها: ماذا تريدين؟
– هل لك أن تختاري كتابًا لفتاة؟
– كم عمرها؟
– أحد عشر عامًا.
وكانت فرانسي في كل أسبوع تسأل السؤال نفسه، وتسأل أمينةُ المكتبة السؤال عينه، ولم يكن أي اسم يسجل بالبطاقة يعني شيئًا في نظر الأمينة، وما دامت لم تكن تنظر مطلقًا إلى وجه الطفلة، فإنها لم تصل أبدًا إلى معرفة الفتاة الصغيرة، التي تأخذ كتابًا كل يوم، وكتابَين في يوم السبت، وكانت الابتسامة خليقة بأن تعني أشياءَ كثيرة لفرانسي، كما كان التعليق العطوف جديرًا بأن يجعلها سعيدة كل السعادة. وأحبت فرانسي المكتبة وكانت مشغوفة بأن تحب السيدة المسئولة عنها أخلص الحب، ولكن أمينة المكتبة كان فكرها مشغولًا بأشياءَ أخرى، وكانت تكره الأطفال على أي حال.
وارتعدت فرانسي في ترقبٍ حين وصلت السيدة إلى ما تحت المكتب، ورأت فرانسي عنوان الكتاب وهو يرتفع في يدها «لو كنت ملكًا» بقلم ماكارثي، كتابٌ رائع! وكان كتاب الأسبوع الماضي هو بيفرلي من جروستارك، وتكرر هذا الكتاب في الأسبوعين السابقين. ولقد استعارت فرانسي كتاب مكارثي مرتين فحسب، وأوصت أمينة المكتبة بهذين الكتابين مرةً بعد مرةٍ بعد أخرى، ولعل هذين الكتابَين هما الوحيدان اللذان قرأتهما أمينة المكتبة، أو أنهما كانا ضمن القائمة المختارة، أو لعلها اكتشفت أنهما يلهبان مشاعر الفتيات اللاتي في سن الحادية عشرة.
وحملت فرانسي الكتابَين وضمتهما إليها، وأسرعت إلى البيت وهي تقاوم إغراء الجلوس في أول ظلةٍ تبلغها في البناء لتبدأ القراءة.
ووصلت السيدة إلى البيت أخيرًا، وبذلك حل الوقت الذي كانت تنتظره طوال الأسبوع؛ وقت الجلوس على سلم الطوارئ الخلفي، ووضعت خرقةً باليةً صغيرة على هذا السلم، وأحضرت الوسادة من فوق سريرها وأسندتها إلى القضبان. ومن حسن حظها أنها وجدت ثلجًا في صندوق الثلج، فقطعت منه قطعةً صغيرة ووضعتها في كوبٍ به ماء، ونظمت رقائق النعناع الوردية والبيضاء التي اشترتها صباحًا في وعاءٍ صغيرٍ مشدوخ، ولكن لونه كان أزرق جميلًا، ورتبت الكوب والوعاء والكتاب على عتبة النافذة، ثم تسلقت خارجة فوق سلم الطوارئ، وما إن كانت تخرج إلى هناك حتى تختفي بين فروع الشجرة، فلا يستطيع أحدٌ أن يراها، سواء كان في الطابق العلوي أو في الطابق السفلي أو عابرًا للطريق، على حين كانت تستطيع هي أن تطل بين أوراق الشجرة فترى كل شيء.
وكانت الشمسُ مشرقة بعد ظهيرة ذلك اليوم، وريحٌ حارةٌ عليلة تتهادى حاملة معها رائحة البحر، وأوراق الشجرة ترسم على غطاء الوسادة الأبيض ظلالًا هائمة، ومن حسن التوفيق أنه لم يكن في الفناء أحد، وكان الصبي الذي يؤجر أبوه المخزن الكائن بالطابق الأرضي قد أخلى الفناء من قبلُ كالمعتاد، بعد أن لعب لعبة المقبرة التي لا يُعرَف لها آخر، فراح يحفر نماذج صغيرةً لقبورٍ، ويضع فيها ما أمسكه من الأساريع الحية في صناديق الكبريت الصغيرة، ويدفنها في احتفالٍ غير رسمي، وينصب فوق آكام الأرض الصغيرة قوائم أضرحة من الحصباء، وكان يصاحب اللعبة جميعها نشيجٌ موهوم يصدر عنه وزفراتٌ حارة تخرج من صدره، ولكن هذا الصبي الحزين قد تغيب اليوم في زيارة عمة له في بنسونهيرست، وكان علمها بغيابه يكاد يبلغ من نفسها مبلغ حصولها على هديةٍ في عيد ميلادها.
واستنشقت فرانسي الهواء الدافئ، وراقبت ظلال الأوراق الراقصة، وأكلت الحلوى، ورشفت بضع رشفات من الماء البارد أثناء قراءتها الكتاب.
وكانت قصة فرانسوا فييون تزداد روعةً كلما قرأتها، حتى إنها كانت تقلق أحيانًا خشية أن يضيع الكتاب في المكتبة، فلا تستطيع أن تقرأه مرةً أخرى، وبدأت ذات مرة تنسخ الكتاب في مفكرةٍ ثمنها سنتان، وقد استبدَّت بها رغبةٌ جارفة في أن تمتلك كتابًا، وظنت أن نَسْخ الكتاب سوف يوفر لها ذلك، ولكن الأوراق المكتوبة بالقلم الرصاص لم تكن تشبه كتاب المكتبة، ولا تحمل رائحته، فأعرضت عن ذلك العمل، وهي تعزي نفسها بالقسم الذي أخذته على نفسها، أن تكد في عملها حينما تكبر، وتقتصد المال وتشتري كل كتاب يروقها.
وبينما هي تقرأ، ونفسها راضية عن العالم، وقد تملكتها السعادة بالقدر الذي تسعد به فتاةٌ صغيرة في حوزتها كتابٌ شائق، ووعاءٌ صغير من الحلوى، ووحيدة تمامًا في البيت، إذا بظلال أوراق الشجرة ترتفع وتؤذن الشمس بالمغيب، ودبَّت الحياة حوالي الساعة الرابعة داخل الشقق في البيوت المستأجرة بالجهة المقابلة لفناء فرانسي، ونظرت من خلال أوراق الشجرة إلى النوافذ المفتوحة الخالية من الستائر، ورأت الأقداح تُدفع ثم تعود، وقد امتلأت بالجعة المثلجة ذات الزبد، وجرى الأولاد داخلين خارجين، ذاهبين عائدين من عند الجزار والبقال والخباز، وأقبلت النساء ومعهن حزمٌ سميكة من لحم الخنزير، وقد عادت إلى البيت حلة صاحب الدار التي يرتديها يوم الأحد، لترتدَّ مرةً أخرى يوم الإثنين إلى المرابي لتبقى عنده أسبوعًا آخر، وكان حانوت لحم الخنزير يستفيد من الربح الأسبوعي، والحلة تحظى بمن يفرشها ويعلقها في وسط الكافور بعيدًا، حيث لا تستطيع العثة الوصول إليها، كانت الحلة تأتي يوم الإثنين وتخرج يوم السبت، ويأخذ عنها العم تيمي عشرة سنتات فائدة، كانت هذه هي الدائرة التي تدور فيها الحلة.
ورأت فرانسي الفتيات يتأهبن للخروج مع رفاقهن، وقد وقفن أمام أحواض المطبخ بقمصانهن وتنوراتهن، إذ لم يكن هناك حمامات بأية شقة من الشقق، وكان شكل أذرعتهن مثنية على رءوسهن وهن يغسلن ما تحت الذراع جميلًا كل الجمال، وكان هناك عددٌ كبير من الفتيات يظهرن في كثيرٍ من النوافذ وهن يغتسلن على هذا النحو، حتى إن المشهد بدا وكأنه نوعٌ من الطقوس الصامتة المرتقبة.
وتوقفت عن القراءة حين دخل جواد فريبر وعربته الفناء المجاور لها، حيث كانت مشاهدة الجواد الجميل تكاد تبلغ في متعتها مبلغ القراءة، وكان الفناء المجاور مرصوفًا بالحصباء، وفي نهايته حظيرةٌ حسنة المنظر، ويفصل الفناء عن الشارع بوابةٌ مزدوجة من الحديد المصقول، وفي طرف الأرض المرصوفة بالحصباء صدعٌ من الأرض أُحسن تسميده، حيث نمت شجرة ورد جميلة وصفٌّ من نبات الجرونيه الأحمر الزاهي، وكانت الحظيرة أنظف من أي بيت في الحي، والفناء أجمل فناء في ويليمسبرج.
وسمعت فرانسي صرير البوابة وهي تُغلَق، ورأت أول ما رأت الجواد الخصي ذا اللون البني اللامع بمعرفته وذيله الأسودَين، يجر عربةً صغيرة لونها أرجوانيٌّ داكن، وقد كُتب عليها اسم الدكتور فريبر، طبيب الأسنان، وعنوانه، في حروفٍ مطلية باللون الذهبي، ولم تكن هذه العربة المنسقة توزع شيئًا أو تحمل شيئًا، وإنما تسير في بطءٍ في الشوارع جميعها طوال اليوم كنوعٍ من الإعلان، لقد كانت لوحة إعلان متحركة لا تستقر على حال.
وكان فرانك — وهو شابٌّ وسيم، متورد الخدَّين مثل صبيان الأساطير في أغاني الأطفال — يخرج العربة كل صباح ليعود بها بعد الظهيرة، وكانت حياته ممتعة، والفتيات جميعًا يغازلنه، ولم يكن له من عملٍ سوى أن يقود العربة متمهلًا هنا وهناك، حتى يستطيع الناس أن يقرءوا ما عليها من اسمٍ وعنوان، فإذا عنَّ لأحدٍ أن يركب طقم أسنان أو يخلع سنًّا، تذكروا العنوان المكتوب على العربة وأقبلوا على الدكتور فريبر.
وخلع فرانك معطفه على مهل، وارتدى «فوطة» من الجلد، على حين راح الجواد بوب ينقل قدمًا بعد قدمٍ في صبرٍ وأناة، ثم حلَّ فرانك سرجه، ومسح جلده بإسفنجةٍ كبيرةٍ صفراءَ مبللة استمتع بها الجواد، ووقف هناك وأشعة الشمس تضفي عليه ألوانًا مختلفة، وتنطلق من حوافره أحيانًا شرارةٌ تنبعث من الحجارة، حين يضرب الأرض بحوافره، وصبَّ فرانك الماء على ظهره الداكن اللون، وأخذ يمسحه وهو يكلم الجواد الكبير طول الوقت: رويدك الآن يا بوب، كن ولدًا طيبًا، انهض، عد إلى الخلف هناك، مرحى مرحى!
ولم يكن بوب هو الجواد الوحيد في حياة فرانسي، فقد كان العم ويلي فليتمان زوج خالتها إيفي يقود جوادًا أيضًا، وكان جواده يُدعى درامر ويجرُّ عربة لبن، ولم يكن ويلي ودرامر صديقَين على نحو ما كان عليه فرانك وجواده، كان كلٌّ من ويلي ودرامر يتربص بصاحبه الدوائر مفكرًا في وسيلةٍ لإيذائه، ويسبُّ العم ويلي درامر كل ساعة، وحينما تسمعه يتكلم يُخيَّل إليك أن الجواد لم ينم طول ليله، وإنما وقف متيقظًا في حظيرة شركة اللبن، يفكر في وسائلَ جديدة يعذب بها صاحبه.
وأولعت فرانسي بأن تلعب لعبةً تتخيل فيها أن الناس يشبهون حيواناتهم المدلَّلة والعكس، وكانت كلاب البودل الصغيرة من الحيوانات المدللة المفضلة في بروكلين، والغالب أن المرأة التي تمتلك كلبًا من هذه الكلاب تكون صغيرة الحجم، ربلة، بيضاء قذرة الملابس، لها عينان نجلاوان كعينَي الكلب سواء بسواء، وكانت الآنسة تنمور العانس العجوز التي كانت تلقن الأم دروس الموسيقى، والتي كانت نحيلة القوام مشرقة تغرد كعصفور الكناريا تمامًا، الذي كان قفصه معلقًا في المطبخ، وإذا جاز أن ينقلب فرانك جوادًا فإنه خليقٌ بأن يشبه بوب، ولم تكن فرانسي قد رأت أبدًا جواد العم ويلي، ولكنها كانت تعلم ماذا كان شكله. إن درامر مثل ويلي خليقٌ بأن يكون صغير الحجم، نحيلًا، داكن اللون، له عينان قلقتان يغلب عليهما البياض، وخليقٌ أيضًا بأن يكون صخابًا مثل زوج الخالة إيفي. وتركت فرانسي لفكرها العنان يشرد بعيدًا عن العم فليتمان.
وكان في الشارع شرذمة من الصبية الصغار، تعلقوا بالبوابة الحديدية، يرقبون الجواد الوحيد في الحي، وقد راح صاحبه يغسله، ولم تكن فرانسي تستطيع أن تراهم، ولكنها تسمع أصواتهم وهم يتكلمون، وكانوا يقصون حكاياتٍ مختلفةً مخيفة عن هذا الحيوان اللطيف.
وقال صبي: إنه يبدو هادئًا سهل القياد، ولكن ذلك ليس سوى خديعة، إنه يتحيَّن الفرصة حين يكون فرانك غافلًا عنه فيعضُّه ويرفسه حتى يقضي عليه.
وقال آخر: نعم، لقد رأيته بالأمس يدوس طفلًا صغيرًا.
وقال صبيٌّ ثالث كأنما أُلهِم القول: رأيته يقف على قائمته ويتبول على امرأةٍ عجوز، تجلس بجوار البالوعة تبيع تفاحًا.
وأضاف قائلًا كأنما واتته الفكرة بعدُ: وفوق التفاح جميعًا أيضًا.
– إنهم يضعون المئمتين على عينَيه لكي يرى مدى صغر الناس، ولو أنه رأى مدى صغرهم لقتلهم جميعًا.
– أتجعله هاتان المئمتان يظن أن الناس صغار؟
– أجل صغار كالأشياء الحقيرة.
– وي!
وكان كل صبي يعلم أنه يكذب، إلا أنه صدق ما كان يقوله الصبية الآخرون عن الجواد، وأخيرًا، وبعد أن ملَّ الصبية مراقبتهم لبوب اللطيف وهو واقفٌ هناك، التقط أحدهم حجرًا وألقاه على الجواد، وتغضن جلد بوب في موضع إصابته بالحجر، وانتفض الصبية متوقعين أن يجنَّ جنونه، فيحمل عليهم كالفارس المغوار، ورفع فرانك بصره إليهم وقال لهم بصوتٍ لطيف، عُرف عن أهل بروكلين: خليقٌ بكم ألا تمضوا في هذا الصنيع، إن الجواد لم يصبكم بشيء.
وصاح أحد الصبية ساخطًا: طبعًا لا نريد أن نمسَّه بسوء.
وأجاب فرانك: كلا لا تريدون.
وجاءت الضربة القاضية التي لا مناص منها، حين قال أصغر الصبية: اذهب أنت، تبًّا لك …
وقال فرانك وما زال محتفظًا بهدوئه ووداعته، وهو يلقي على كفل الجواد بعض الماء المصبوب: ألا تريدون أن تنفضُّوا؟ انفضوا وإلا حطمتُ حمارَين منكم.
– لقد عرفناك، ومن يكون الآخر؟
– لأرينكم من يكون الآخر!
وانحنى فرانك فجأة والتقط حجرًا منفصلًا من الحصباء ولفَّه، كأنما يهم بأن يقذف به، وتراجع الصبية وهم يصيحون صيحات من يقرع الحجة بالحجة: أظن أن هذا بلدٌ حر.
– أنت لا تملك هذه الشوارع.
– سأذهب وأبلغ عمي بالأمر، عليك اللعنة.
وقال فرانك مستخفًّا: لقد حلت بكم الهزيمة الآن.
وأعاد الحجر إلى مكانه بعناية.
وانسحب الصبية الكبار وقد ملُّوا اللعبة، ولكن الصبية الصغار تسللوا عائدين، ليروا فرانك وهو يطعم بوب الشوفان.
وانتهى فرانك من غسل الجواد ووقفه تحت الشجرة ليكون رأسه في الظل، وعلق في رقبته حقيبةً ممتلئة بالعليق، ثم ذهب ليغسل العربة وهو يصفر منشدًا: «دعيني أناديك يا حبيبتي»، وكأنما كان نداه هذا يحمل إشارة استجابت لها فلوسي جاديس، التي كانت تقيم أسفل أسرة نولان، فأخرجت رأسها من النافذة وقالت بمرح: أهلًا يا من هناك.
وعرف فرانك من التي تنادي، فانتظر وقتًا طويلًا ثم أجاب: «أهلًا!» دون أن يرفع بصره إليها، وسار إلى الجانب الآخر من العربة، حيث لا تراه فلوسي، ولكن صوتها الملح أردف قائلًا: هل انتهيتَ من عملك؟
– نعم، سأنتهي حالًا.
– أظن أنك ستخرج للرياضة لأن الليلة ليلة السبت.
ولم يُحِرْ فرانك جوابًا.
– لا تقل لي إن شابًّا وسيمًا مثلك ليست له فتاة.
وسكت فرانك عن الجواب.
– إنهم يقيمون مباراة الليلة في نادي شامروك.
ولم يبدُ على فرانك الاهتمام وهو يقول: إيه؟
– إيه، لقد حصلت على تذكرةٍ لرجل وامرأة.
– متأسف، فأنا مشغولٌ طول الوقت.
– أتبقى في البيت لتؤنس أمك العجوز؟
– ربما.
– وي، فلتذهب إلى الجحيم!
وصفقت النافذة، وتنفس فرانك الصعداء، لقد تخلص منها.
٣
وعاد الأب إلى البيت في الساعة الخامسة، وما إن حل هذا الوقت حتى كان الجواد والعربة قد أوصد فريبر دونهما باب الحظيرة، وكانت فرانسي قد فرغت من كتابها وحلواها، ولاحظت كيف بدت شمس الأصيل شاحبةً على عوارض السور البالية، ورفعت الوسادة التي بثت فيها الشمس الدفء ورطَّبتها الريح، إلى خدها لحظةً قبل أن تعيدها إلى مكانها في مهدها، ودخل الأب يغني أنشودته التي يفضلها «مولي مالون»، وكان يغنيها دائمًا وهو يصعد السلم، حتى يعرف الجميع أنه عاد إلى البيت:
وفتحت فرانسي الباب وهي تبتسم في سعادةٍ، قبل أن يغني البيت التالي، وسألها قائلًا: أين أمك؟
كان دائمًا يسأل هذا السؤال حين يصل إلى البيت.
– ذهبت إلى المسرح مع سيسي.
وصاح في خيبة أمل: أوه!
كان يشعر دائمًا بخيبة أمل إذ لم يجد كاتي.
– سأعمل عند أسرة كلومر هذا المساء، وإنهم سيقيمون حفل عرس كبيرًا!
ومسح قبعته بكُمِّ معطفه قبل أن يعلقها.
وسألته فرانسي: أتخدم أم تغني؟
– الاثنين معًا، هل عندكِ يا فرانسي فوطة نظيفة من فوط الخدم؟
– هناك فوطةٌ نظيفة لكنها غير مكوية، سأكويها لك.
ونصبت فرانسي منضدة الكيِّ على كرسيين ووضعت المكواة على النار، وأحضرت قطعةً مربعة من القماش السميك المنقوش الذي يشبه الخيش، محلَّاة بأربطةٍ من أشرطة الكتان ورشَّتها بالماء، وبينما كانت المكواة تحمى على النار، سخنت فرانسي القهوة وقدمت له فنجانًا، وشرب الأب القهوة وأكل كعكة السكر التي ادخروها له، وكان سعيدًا كل السعادة لأنه سيقوم بعمل هذا المساء؛ ولأن اليوم كان يومًا طيبًا.
وقال: إن يومًا مثل هذا اليوم يشبه هدية يهديها لك صديق.
– أجل يا أبي.
– أليست القهوة الساخنة شيئًا رائعًا! ترى كيف كان يعيش الناس قبل أن تكتشف؟
– إنني أحب رائحتها.
– من أين اشتريت هذا الكعك؟
– من محل وينكلر، لماذا؟
– إنهم يجيدون صنعه يومًا بعد يوم.
– هناك قطعةٌ باقية من خبز الشوفان.
– حسنًا!
وأخذ قطعة الخبز وقلَّبها بين يديه، وكان طابع الاتحاد ملصقًا على هذه القطعة.
– إنه خبزٌ طيب، لقد أجاد خبازو الاتحاد صنعه!
ونزع الورقة الملصقة، وخطرت له فكرة فهتف قائلًا: أين علامة الاتحاد التجارية التي على فوطتي!
– إنها هنا مخيطة في طية الفوطة، سأكويها.
وصاح: هذه العلامة تشبه الحلية، بل تشبه الوردة التي تثبتينها في ثوبك، انظري إلى أزرار الاتحاد التي يلبسها الخدم (وكان «الزراران» الأخضر الباهت والأبيض مثبتَين على طية الفوطة، فنظفهما بكُمِّه).
– قبل أن ألتحق بالاتحاد كان رؤسائي يدفعون لي ما يرونه مناسبًا، وفي بعض الأحيان كانوا لا يدفعون لي شيئًا، وكانوا يقولون إن النفحات «البقشيش» ستعوضني، بل إن بعض المحالِّ كانت تستخدمني وتعدُّ ذلك فضلًا، ويقولون إن النفحات كانت عندهم كثيرة، حتى إن في استطاعتهم أن يتقاضوا ثمنًا للخدمة عندهم، ثم التحقتُ بالاتحاد، إن الاتحاد يدبر لي أعمالًا حيث يقتضي الأمر، أن يدفع رئيس العمال لي بعض الأجور، بصرف النظر عن النفحات التي آخذها، يجب أن تدخل جميع الأعمال تحت لواء الاتحاد.
– صدقت يا أبي.
وكانت فرانسي حينذاك قاربت أن تنتهي من الكي، وكانت تحب أن تسمعه وهو يتكلم.
وفكرت فرانسي في مركز إدارة الاتحاد، لقد ذهبت إلى هناك مرة، لتحضر له فوطة وأجر المواصلات ليذهب إلى عمل، ورأته جالسًا مع بعض الرجال، يرتدي لباس السهرة الذي لا يخلعه، إذ إن هذه هي الحلة الوحيدة التي يمتلكها، وكانت قبعته السوداء لها قنزعةٌ مطرزة بتأنق، وكان يدخن سيجارًا، ورفع قبعته وقذف بسيجاره بعيدًا، حين رأى فرانسي تدخل، وقال في فخر: هذه ابنتي.
ونظر الخدم إلى الطفلة النحيلة في ردائها المهلهل ثم تبادلوا النظرات، كانوا يختلفون عن جوني نولان، فقد كانت لهم أعمالٌ منتظمة أثناء الأسبوع، وينالون أجورًا إضافية نظير أعمال يؤدونها ليلة السبت، ولم يكن لجوني عملٌ منتظم، كان يعمل كل ليلة في أماكنَ مختلفة.
وقال: أريد أن أقول لكم أيها الرفاق إن لي طفلَين جميلَين في البيت وزوجةً جميلة، وأريد أن أقول لكم إنني لست كفئًا لهم.
وقال له صديقٌ وهو يربت كتفه: هوِّن عليك.
واسترقت فرانسي السمع لحديث رجلين بالخارج يتكلمان عن أبيها، قال الرجل القصير: أريدك أن تسمع هذا الرفيق وهو يتكلم عن زوجته وطفلَيه، إنه حديثٌ ممتع، ويا له من رجلٍ مُسلٍّ، يحمل أجوره إلى بيته ويعطيها لزوجته، لكنه يحتفظ بالنفحات لسكره ومتعته، لقد عقد اتفاقًا مضحكًا مع حانة ماكجريتي، فهو يعطي صاحبها كل ما يناله من نفحات فيزوده ماكجريتي بالشراب، إنه لا يعرف أهو مدينٌ لماكجريتي، أم أن ماكجريتي مدين له، وبرغم ذلك فهذه الطريقة لا بد أن تفيده كثيرًا، إنه يحمل عبئًا دائمًا.
ومضى الرجلان بعيدًا.
وشعرت فرانسي بألمٍ يحزُّ في قلبها، ولكنها حين رأت كيف يحب الرجال أباها هنا وهناك، وكيف يبتسمون ويضحكون لما يقول، وكيف ينصتون له في شغف، أحسَّت أن حدة الألم تخف، كان هذان الرجلان يشذان عن هذه القاعدة، كانت تعلم أن الجميع يحبون أباها.
أجل، إن الجميع يحبون جوني نولان، كان مغنيًا نديَّ الصوت يغني أغنياتٍ ندية، والناس جميعًا منذ بدء الخليقة، وخاصة الأيرلنديين، يحبون أن يروا المغني بينهم ويسعون إلى ذلك، كما كان إخوته الخدم يحبونه حقًّا، والرجال الذين يعمل من أجلهم يحبونه أيضًا، كما كانت تحبه زوجته وطفلاه، وكان لا يزال شابًّا مرحًا وسيمًا، ولم تكن زوجته قد انقلبت عليه، ولم يكن طفلاه يحسَّان أنهما أهل لأن يخجلا منه.
وانتزعت فرانسي أفكارها بعيدًا عن ذلك اليوم الذي زارت فيه مركز إدارة الاتحاد، وأنصتت إلى أبيها ثانية، وكان أبوها قد سرح مع ذكرياته، وقال وهو يشعل في هدوءٍ سيجارًا من فئة خمسة سنتات: أنا لا في العير ولا في النفير، أخذني قومي الأيرلنديون من أيرلندا في السنة التي قلَّ فيها محصول البطاطس، وقال أحدهم، وكان يدير شركةً للبواخر، إنه سوف يأخذ أبي إلى أمريكا حيث ينتظره عملٌ هناك، ثم قال إنه سيأخذ أجر ركوب السفينة من الأجور التي سوف يحصلها، وهكذا جاء أبي وأمي إلى أمريكا.
«وكان شأن أبي كشأني؛ لا يستمر قط في عملٍ واحد.» وأخذ يدخن في صمتٍ لحظة.
وكانت فرانسي تكوي في هدوء وهي تعلم أنه كان يفكر بصوتٍ عال، ولم يكن يتوقع منها أن تفهمه، لكنه كان يريد أن يستمع إليه أحد، وكان يكرر تقريبًا الأشياء نفسها التي يقولها كل يوم من أيام السبت، أما بقية أيام الأسبوع حين يكون ثملًا فإنه يدخل ويخرج ولا يتكلم إلا قليلًا، ولكن اليوم كان يوم السبت، يومه الذي يتكلم فيه.
– ولم يكن قومي يعرفون القراءة أو الكتابة، ووصلت أنا نفسي إلى الصف السادس في المدرسة فقط، وكان عليَّ أن أترك المدرسة حين مات الرجل المسنُّ، أما أنتما أيها الطفلان فإنكما محظوظان؛ لأنني أسعى لكي تواصلا دراستكما في المدرسة.
– أجل يا أبي.
– كنت صبيًّا في الثانية عشرة من عمري حينئذٍ، وأخذت أغنِّي في الحانات للسكارى وهم يلقون إليَّ بالبنسات، ثم بدأت أعمل في الحانات والمطاعم، أقف في خدمة الناس.
وصمت لحظةً وهو يغيب في أفكاره.
– كنت أريد دائمًا أن أصبح مغنيًا حقًّا من ذلك النوع الذي يظهر على المسرح ويرتدي ملابس كاملة، ولكني لم أكن تلقيتُ تعليمًا، ولم أكن أعرف كيف أهتدي إلى أول السلم الذي يقودني إلى الغناء على المسرح، وقالت لي أمي: حافظ على عملك، فأنت لا تعلم مبلغ توفيقك إذا توافر لك عمل. وهكذا جرفني التيار إلى العمل نادلًا يغنِّي، وهو عملٌ غير ثابت، وكنت خليقًا بأن أحصل على إيرادٍ أكبر لو أنني كنت نادلًا فحسب.
واختتم كلامه فجأة بدون تسلسلٍ منطقي قائلًا: هذا هو السبب الذي يدفعني إلى الشراب.
ورفعت فرانسي بصرها إليه كأنما تسأله سؤالًا، لكنها لم تقل شيئًا.
– إنني أشرب الخمر لأنني مضياع للفرص، وأنا أعلم ذلك، فإنني لا أستطيع أن أصل إلى القمة فيما أعمل، كل ما عليَّ هو أن أصبَّ الجعة، وأغني حين أريد أن أغني فحسب، وإني لأشرب الخمر لأن عليَّ تبعاتٍ لا أستطيع الوفاء بها.
وسكت لحظةً أخرى طويلة، ثم قال هامسًا:
أنا لست رجلًا سعيدًا، لي زوجة وطفلان، ولم يحدث أنني كنت رجلًا يجهد نفسه في العمل، لم يكن بودي أبدًا أن أكون رب أسرة.
وشعرت فرانسي بالألم يحزُّ في قلبها مرةً أخرى، ترى هل كان أبوها لا يريدها، لا هي ولا نيلي؟
– لمَ يريدُ رجلٌ مثلي أن تكون له أسرة؟ ولكنني أحببت كاتي روملي، أوه إنني لا ألوم أمك.
ثم أردف سريعًا: لو لم أتزوجها لتزوجتُ هيلدي أودير، وأنت تعلمين أن أمك لا تزال تغار منها، ولكني حين قابلت كاتي قلت لهيلدي: فليذهب كلٌّ منا في طريقه، وهكذا تزوجت أمك وأنجبنا الطفلين، وإن أمك يا فرانسي امرأةٌ طيبة، لا تنسَي ذلك أبدًا.
وكانت فرانسي تعلم أن أمها امرأةٌ طيبة، كانت تعلم ذلك، وأبوها يقول ذلك، فما بالها إذن تحب أباها أكثر من أمها؟ لماذا تحبه أكثر؟ إن أباها ليس صالحًا، وقد اعترف بذلك، ولكنها كانت تحب أباها أكثر من أمها.
– نعم، إن أمك تشقى في العمل، وأنا أحب زوجتي وأحب طفليَّ.
وشعرت فرانسي بالسعادة مرةً أخرى.
– ولكن ألا يجدر بالرجل أن تكون له حياةٌ أفضل؟ قد يحدث في يومٍ ما أن تتولى الاتحادات تدبير العمل للرجل، وتعطيه وقتًا لمتعته أيضًا، ولكن ذلك لن يكون في أيام حياتي، فالمرء الآن بين أمرين لا ثالث لهما: إما أن يعمل جاهدًا كل وقته، وإما أن يصبح من المتعطلين، وحين أموت لن يذكرني أحدٌ طويلًا، ولن يقول أحد: «كان رجلًا يحب أسرته ويؤمن بالاتحاد.» كل ما سوف يقولونه: «وا أسفاه! لم يكن إلا سكيرًا من أي زاويةٍ نظرت إليه، أجل إنهم خليقون بأن يقولوا ذلك.»
وكانت الحجرة هادئة كل الهدوء، وألقى جوني نولان لفافة التبغ التي احترقت حتى نصفها من النافذة العارية من الستائر بحركةٍ تنم عن المرارة والحسرة، وكان قد أحسَّ بنذيرٍ ينذره بأنه يستنفد حياته بسرعةٍ بالغة، وأنها تتسرب من بين يدَيه كذرات الرمال، ونظر إلى الفتاة الصغيرة وهي تكوي في هدوءٍ بالغ ورأسها محنيٌّ على المائدة، فأثر في نفسه ما رآه من حزنٍ رقيق يرتسم على وجه الطفلة النحيل، ومضى إليها ووضع ذراعًا حول كتفيها النحيلتَين وقال: «أنصتي! لو أنني حصلت على قدرٍ كبير من النفحات هذه الليلة، فسوف أراهن بالنقود على جوادٍ طيب، أعلم أنه سيجري يوم الإثنين، سوف أراهن عليه بدولارين وأكسب عشرة، ثم أراهن بالعشرة على جوادٍ آخر أعرفه وأكسب مائة، ولو أنني قدحت ذهني وواتاني بعض الحظ فسوف أزيدها إلى خمسمائة دولار.»
وكان يعلم بينه وبين نفسه أنها أحلام اليقظة، حتى حين كان يسبح بخياله فيما سوف يربحه، ولكنه فكر كم يكون رائعًا لو تحقق كل شيء يهجس به المرء! ومضى في حديثه: أتعلمين إذن ما الذي نويت أن أفعله أيتها المغنية الأولى؟
وابتسمت فرانسي في سعادة، وسَرَّها أن يناديها بالاسم المستعار الذي كان قد أطلقه عليها وهي طفلة؛ لأنه أقسم حينئذٍ إن بكاءها كان متنوع الألوان منغومًا، كأنما هي مغنية من مغنيات الأوبرا.
– لا، ما الذي نويت أن تفعل؟
– سآخذك في رحلة، أنت وأنا فقط أيتها المغنية الأولى، سنهبط نحو الجنوب حيث يتفتح نوار القطن.
وأطربته الجملة فقالها ثانية: سنهبط نحو الجنوب حيث يتفتح نوار القطن.
ثم تذكر أن الجملة شطر بيت من أغنيةٍ يعرفها، فوضع يديه في جيوبه وصفر، وبدأ يقلد بات روني في رقصات الفالس التي عُرف بها، ثم مضى يغني:
إني لمشوق أن أمثل هناك حيث ألاقي من ينتظرني، في منبسطٍ يزهر فيه نوار القطن.
وقبَّلت فرانسي خده في رفقٍ وهمست: أبتاه! إنني أحبك حبًّا شديدًا.
وضمها إليه بقوة، وأحسَّ مرةً أخرى بشيءٍ يحز في قلبه، وراح يردد مرةً أخرى في ألمٍ مبرح لا يكاد يحتمل! «رباه! رباه! ما أشقاني من أب!»، ولكنه حين عاود الحديث معها تكلم في هدوءٍ، وقال: ألم تفرغي من كي الفوطة بعد هذا كله؟
– «لقد انتهيت من كيِّها يا أبي.» وطوتها في عنايةٍ أربعًا.
– هل في البيت أي مال يا طفلتي؟
ونظرت في الفنجان المشدوخ القائم على الرف، وقالت: توجد قطعة من فئة البنسات الخمسة وبعض الفكة.
– هل لك أن تأخذي سبعة سنتات وتذهبي لتشتري لي صدرية وبنيقة من الورق؟
وذهبت فرانسي إلى مخزن المنسوجات لتشتري لأبيها صدرية ليلة السبت، وكانت الصدرية قميصًا أماميًّا صنع من «الموسلين» المنشَّى الصلد، تربط حول الرقبة بزرارٍ للعنق، ويثبتها الرداء في مكانها، وكانت تلبس بدلًا من القميص، مرةً واحدة ثم تنبذ، ولم تكن بنيقة الورق قد صُنعت حقًّا من الورق، وإنما سميت على هذا النحو ليفرقوا بينها وبين بنيقة السليلوز التي كان يلبسها الرجال الفقراء؛ لأنها كانت تنظف بسهولةٍ بمسحها بخرقةٍ مبللة، وكانت بنيقة الورق تصنع من قماش القمبري الرفيع بعد أن ينشَّى، حتى يصبح صلدًا وحتى تستعمل البنيقة مرةً واحدة فحسب.
وحينما عادت فرانسي وجدت أباها حلق ذقنه وبلَّل شعره، ولمَّع حذاءه، وارتدى قميصًا داخليًّا نظيفًا لم يكن مكويًّا وبه ثقب كبيرٌ من الخلف، ولكن رائحته كانت طيبة، تدل على نظافته، ووقف على أحد المقاعد وأخذ صندوقًا صغيرًا من أعلى رفٍّ في الصوان، وكان يحتوي على أزرار القميص اللؤلئية التي أعطتها له كاتي هدية بمناسبة عيد زواجهما، وقد كلفتها مرتب شهرٍ كامل، وكان جوني جد فخور بها، ولم تكن هذه الأزرار تُرهَن أبدًا مهما تأثرت حال أسرة نولان.
وساعدته فرانسي على تثبيت الأزرار في الصدر، وربط طرف البنيقة بزرارٍ مذهَّب، وهو هدية هيلدي أودير التي أعطتها له قبل أن يخطب كاتي، وإنه لا يتخلى عن تلك الهدية أيضًا، وكانت ربطة عنقه قطعةً من الحرير الأسود الثقيل، كان يربطها بمهارةٍ فائقة، وكان النُّدُل الآخرون يلبسون ربطة العنق الجاهزة التي تثبت بالمطاط، ولكن جوني نولان لم يكن ليفعل ذلك، وكان النُّدُل الآخرون أيضًا يلبسون قمصانًا غير ناصعة البياض، أو قمصانًا بيضاء كويت بغير عناية، ويرتدون بنيقاتٍ مقوَّاةً بالباغة، ولكن ليس هذا شأن جوني نولان، كانت ملابسه نظيفة ناصعة حتى ولو كانت تُلبس إلى حينٍ ثم تُنبذ.
وأخيرًا فرغ من ارتداء ملابسه، وكان شعره المتموج الأشقر يلمع وتنبعث منه رائحةٌ عطرة من أثر الاغتسال والحلاقة، وارتدى معطفه وزرَّره في تأنق، وكانت قلبة بذلة السهرة المصنوعة من الساتان باليةً، ولكن من ذا الذي ينظر إليها والحلة تناسبه كل المناسبة، وكذلك ثنية السروال منتظمة كل الانتظام، ونظرت فرانسي إلى حذائه الأسود الذي لمع بعناية، ولاحظت كيف يتدلى السروال الذي لا ينتهي بثنيةٍ من الخلف على الكعب، وكيف يصنع كسرة جميلة على رسغ القدم، وهيهات أن تتدلى سراويل غيره من الآباء على هذا النحو، كانت فرانسي فخورًا بأبيها، ولفَّت بعنايةٍ فوطته المكوية بقطعةٍ من الورق النظيف ادَّخرتْها لهذا الغرض.
وسارت معه حتى عربة التروللي، وكانت النساء يبتسمن حين يلاحظن البنت الصغيرة التي تتعلق بيده، وبدا جوني كفتًى أيرلنديٍّ وسيم لا يحمل مثقال ذرة من الهم كزوج لامرأةٍ عادية وأبٍ لطفلين جائعين على الدوام.
ومرَّا بمحل جابريل للأدوات المعدنية وتوقفا لينظرا إلى قباقيب الانزلاق في النافذة، إن أمها لا تجد وقتًا لمثل هذا الترف، وتكلم أبوها كما لو كان خليقًا بأن يشتري لها زوجًا في يومٍ من الأيام، وسارا إلى المنعطف، وعندما أقبل التروللي الذي يصل إلى شارع جراهام، قفز جوني إلى داخل التروللي الذي كان يبطئ في سيره، وحينما سارت العربة مرةً أخرى وقف في ممر العربة الخلفي ممسكًا بالقضيب، على حين مال بجسمه إلى الخارج ولوح بيده لفرانسي، ودار بخلدها أنه ما من رجلٍ مثل أبيها في ظرفه وأناقته.
٤
وبعد أن ودعت فرانسي أباها، ذهبت لترى أي نوع من الحلل أعدتها فلوس جاديس للرقص في ذلك المساء.
وكانت فلوس تعول أمها وأخاها باشتغالها قلابة قفازات في مصنعٍ لقفازات الأطفال، وكانت القفازات في هذا المصنع تُحاك مقلوبة، وعليها هي أن تردَّها إلى وضعها الصحيح، وكثيرًا ما كانت تعود بشغلها إلى البيت لتنجزه ليلًا؛ لأن أسرتها كانت تحتاج إلى كل سنت تحصل هي عليه، فقد كان أخوها لا يستطيع العمل؛ لأنه مريضٌ بالسل.
وكانت فرانسي قد علمت أن هني جاديس موشكٌ على الموت، لكنها لم تصدق ذلك؛ لأن الموت لم يكن باديًا عليه، فقد كان مظهره رائعًا حقًّا، له بشرةٌ صافية، وخَدَّان جميلان مشربان بالحمرة، وعينان واسعتان داكنتان، ينبعث منهما شعاعٌ دائم كأنه شعلة مصباحٍ مكنونٍ بعيد عن الريح، ولكنه كان يعلم مصيره، وكان قد بلغ التاسعة عشرة من عمره، يقبل على الحياة ويشتهيها، ولم يستطع أن يفهم لم كُتب عليه هذا المصير، وسعدت السيدة جاديس حين رأت فرانسي، وكانت تعلم أن هني ينشغل عن أفكاره في وجود الآخرين، وصاحت في مرح: «هني، إن فرانسي هنا.»
– أهلًا فرانسي.
– أهلًا هني.
– ألا ترين يا فرانسي أن هني يبدو في صحةٍ جيدة، قولي له إنه يبدو في صحةٍ جيدة.
– إنك تبدو في صحةٍ جيدة يا هني.
وقال هني كأنما يخاطب شخصًا لا تراه العين: إنها تقول لرجلٍ يحتضر إنه يبدو في صحةٍ جيدة.
– أنا أعني ما أقول.
– لا، إنك لا تعنين ما تقولين، وإنما تقولين بلسانك فحسب.
– كيف تقول ذلك يا هني؟ انظر إليَّ، ألا تراني مع شدة نحول جسمي لا أفكر في الموت أبدًا.
– لن تموتي يا فرانسي، إنك ولدتِ لتنتصري على هذه الحياة الفاسدة.
– ومع ذلك كله لا أزال أتمنى أن يكون لي خدان متوردان جميلان مثلك.
– لا، أنت لا تتمنين ذلك، وخاصةً إذا علمت سر توردهما.
وقالت أمه: هني، عليك أن تطيل الجلوس على السطح.
وخاطب هني ذلك الشخص الوهمي الذي لا تراه العين: إنها تقول لرجلٍ يحتضر إنه يجب عليه أن يجلس على السطح!
– إن ما تحتاج إليه هو الهواء النقي وأشعة الشمس.
– دعيني وشأني يا أماه.
– إن ما أقوله في مصلحتك.
– أماه، أماه، دعيني وشأني دعيني وشأني.
ثم مال برأسه فجأة متكئًا على ذراعيه، وراح ينتزع من أعماقه في ألمٍ مبرح نشيجًا يختلط بالسعال، وتبادلت فرانسي وأمه النظرات، ووافقتا في صمتٍ على أن يدعاه وشأنه، وتركتاه يسعل وينتحب في المطبخ، وذهبتا إلى الحجرة الأمامية لتطلع المرأة فرانسي على الأثواب.
وكانت فلوس تقوم بثلاثة أعمال كل أسبوع، عملٌ تؤديه في مصنع القفازات، وعملٌ تقوم به في حياكة أثوابها، وعملٌ تعمله في سبيل الفوز بفرانك، وكانت تذهب إلى حفلةٍ تنكرية في كل ليلةٍ من ليالي السبت، وهي تلبس ثوبًا مختلفًا كل مرة، وكانت الأثواب تصمَّم بطريقةٍ خاصة لتخفي ذراعها اليمنى المشوَّهة، فقد سقطت إبان طفولتها في غلايةٍ للغسيل بها ماء حارق، تركت في إهمالٍ على أرض المطبخ، واحترقت ذراعها اليمنى احتراقًا بشعًا، وشبَّ عودها وذراعها يكسوها جلدٌ مجعدٌ أرجواني اللون؛ ولهذا كانت تلبس القفازات الطويلة دائمًا.
ولما كان من الضروري أن يكون الثوب الذي يلبس في الحفلة التنكرية مفتوح الصدر، فقد ابتكرت ثوبًا بدون ظهر، مفتوحًا من الأمام لتظهر صدرها الممتلئ، وله كمٌّ واحدٌ طويل يغطي ذراعها اليمنى، وظن المحكمون أن هذا الكم يرمز إلى شيء، ونالت فلوس الجائزة الأولى بلا منازع.
وارتدت فلوس الثوب الذي كانت سترتديه في تلك الليلة، وكان يشبه ما يتوقع الناس أن تلبسه راقصة في صالة، وقد صنعته من قطعةٍ خارجية من الساتان الأرجواني، تشتمل على ثنيات من الشاش المزركش بلون الكرز اتخذتها قميصًا، وقد طرزت فراشةً سوداء من قماش السكوين على موضع بروز نهدها الأيسر، وكان الكم الوحيد مصنوعًا من حرير الشيفون في خضرة البازلاء، وأعجبت فرانسي بالثوب، وفتحت أم فلوس الصوان على مصراعيه، ونظرت فرانسي إلى صف الملابس ذات الألوان الزاهية البراقة.
وكانت فلوس تمتلك ست سترات بألوانٍ مختلفة، ونفس العدد من القمصان المصنوعة من الطرلطان، وعشرين كمًّا من الشيفون على الأقل من كل لونٍ من الألوان التي يمكن أن تخطر للمرء على بال. وفي كل أسبوعٍ كانت فلوس تبدل هذه المجموعات لتخرج منها بثوبٍ جديد، وربما ارتدت في الأسبوع التالي قميصًا في لون الكرز، يبزغ من تحت سترة زرقاء بلون السماء لها كم واحد من الشيفون الأسود، وهكذا … وكان في ذلك الصوان عشرات من المظلات الحريرية طُويت بإحكام ولم تُستعمل أبدًا، نالتها فلوس جوائز، وجمعتها لتستعرضها على النحو الذي يجمع به الرياضي كئوس التفوق، وشعرت فرانسي بالسعادة وهي تنظر إلى المظلات جميعًا؛ إن الفقراء من الناس تستهويهم كثيرًا المقادير الضخمة من الأشياء.
وبينما كانت فرانسي تعجب بالأثواب بدأ ينتابها القلق، وساورها شعورٌ وهي تنظر إلى الألوان البراقة الزاهية، ألوان الكرز والبرتقالي والأزرق والأحمر والأصفر، بأن شيئًا ما كان يتسلل مختفيًا وراء تلك الأثواب، كان شيئًا مكتسيًا بعباءةٍ طويلة داكنة اللون، له رأسٌ عابس، ويدان من عظام، كان مختبئًا وراء تلك الألوان البراقة ينتظر هني.
٥
وعادت الأم إلى البيت في الساعة السادسة ومعها الخالة سيسي، وشعرت فرانسي بالسعادة حين رأت سيسي لأنها خالتها المفضلة، وكانت فرانسي تحبها وتفتتن بها، وكانت سيسي قد عاشت حتى ذلك الحين حياةً مثيرة كل الإثارة، وبلغت حينذاك الخامسة والثلاثين، وقد تزوجت ثلاث مرات، وأنجبت عشرة أطفال، ماتوا جميعًا بعد ولادتهم، ودأبت سيسي على أن تقول دائمًا إن فرانسي هي كل ما بقي لها من أطفالها العشرة.
وكانت سيسي تعمل في مصنع للمطاط، وكانت ذات عاطفةٍ جامحة جدًّا مع الرجال، لها عينان سوداوان هائمتان، وشعرٌ مجعدٌ أسود، وبشرةٌ صافية كل الصفاء، ويحلو لها أن تلبس في شعرها مشبكًا بلون الكرز، وكانت الأم ترتدي قبعتها الخضراء المائلة إلى الصفرة، والتي جعلت بشرتها تبدو كالزبد على فوهة الزجاجة، وقد اختفت خشونة يدَيها الجميلتَين تحت قفازٍ أبيض من القطن، ودخلت الأم وسيسي تتحدثان في ابتهاجٍ وفرح، وتضحكان وهما تتذكران الفكاهات التي سمعتاها في المسرح.
وأحضرت سيسي معها هديةً لفرانسي، وهي أنبوبة من الحديد ينفخ فيها فتنطلق منها دجاجة من المطاط تنتفخ فوق الأنبوبة، ولقد جلبت الأنبوبة من المصنع الذي كانت تعمل فيه، وكان المصنع يصنع لعبًا قليلة من المطاط للتمويه، وكان يحصل على أكبر أرباحه من أدوات المطاط الأخرى التي تُباع سرًّا.
ورجت فرانسي أن تبقى سيسي للعشاء، فقد كان كل شيء يبدو في وجودها مرحًا فاتنًا، وشعرت فرانسي أن سيسي تفهم كيف ينبغي معاملة البنات الصغيرات، وكان الآخرون يعاملون الأطفال كأنهم شيءٌ حبيب إلى النفس، وإن كانوا شرًّا، ولكنهم شرٌّ لا بد منه، أما سيسي فكانت تعاملهم كأناسٍ لهم شأنهم. على أن سيسي لم تبقَ بالرغم من إلحاح الأم، وقالت إنها يجب أن تعود إلى بيتها لترى إن كان زوجها لا يزال مقيمًا على حبها، وأضحك قولها الأم وفرانسي أيضًا بالرغم من أنها لم تفهم ما الذي عنته سيسي بقولها هذا، ومضت سيسي بعد أن وعدت بأن تعود في أول الشهر ومعها المجلات، وكان زوج سيسي الحالي يعمل في دارٍ لإصدار مجلات تنشر قصصًا بوليسية وجنسيةً مثيرة، وفي كل شهر كان يتسلم نسخًا من مطبوعاتها مثل قصص الحب وقصص الغرب الجامحة، والقصص البوليسية والقصص الخارقة للطبيعة وما إلى ذلك.
وكان لهذه المطبوعات أغلفةٌ براقةٌ ملونة، يتسلمها من المخزن وقد رُبطت بخيوطٍ صفراءَ جديدة، وكانت سيسي تحضرها إلى فرانسي بالهيئة التي تأتي بها تمامًا، فتقبل فرانسي على قراءتها جميعًا في اشتياق، ثم تبيعها بنصف ثمنها لمحلٍ مجاور يبيع أدوات الكتابة ولوازمها، وتضع النقود في حصالة الأم المصنوعة من القصدير.
فلما مضت سيسي أخبرت فرانسي أمها بالرجل المسن الذي رأته في محل لوشر بقدمه المنفرة، وقالت الأم: هراء، إن الشيخوخة ليست مأساة على هذا النحو، وكان من الممكن أن تكون كذلك لو أنه كان الرجل المسن الوحيد في العالم، ولكن هناك رجالًا مسنين آخرين يؤنسونه، وإن المسنين ليسوا أشقياء، فهم لا يتمنون الأشياء التي نريدها، ولكنهم يريدون أن يشعروا بالدفء فحسب، ويجدوا طعامًا لينًا يأكلونه، ويتذاكروا الأمور معًا، لا تكوني بلهاء إلى هذا الحد، فلو أن ثمة شيئًا واحدًا معلومًا لكان هو أننا سوف نصبح مسنين في يومٍ من الأيام، فوطِّني نفسك على هذه الفكرة بأسرع ما في وسعك.
وكانت فرانسي تعلم أن أمها على صواب، ولكن … ولكنها كانت تسعد حينما تتكلم أمها عن شيءٍ آخر، وفكرت هي وأمها: أي نوع من المأكولات يمكن أن يصنعاه من الخبز البائت في الأسبوع المقبل؟
وكانت أسرة نولان تكاد تعيش على ذلك الخبز البائت، والأصناف العجيبة التي كانت كاتي تستطيع أن تصنعها منه! كانت تأخذ رغيفًا من الخبز البائت وتصب عليه ماءً مغليًّا، وتُقلِّبه حتى يصبح عجينة، ثم تُطيِّبه بالملح والفلفل والصعتر والبصل المفروم وبيضة (إذا كان البيض رخيصًا)، ثم تخبزه في الفرن، وحينما ينضج ويصبح داكن اللون، فإنها تصنع مملوحة من نصف قدح من عصير الطماطم وقدحَين من الماء المغلي، وتتبل مزيجًا من القهوة الغليظة بإضافة الدقيق إليها، ثم تصب ذلك فوق الطعام الناضج. وكان الصنف طيب المذاق ساخنًا، لذيذًا، يبقى مدةً طويلة دون أن يفسد، وكان ما يتبقى منه يقطع قطعًا رقيقة في اليوم التالي، ويحمر في شحم الخنزير.
وكانت الأم تصنع كعكعة خبز لذيذةً جدًّا من قطع الخبز البائت والسكر والقرفة وتفاحة ثمنها بنسٌ واحد، قُطِّعت شرائح رقيقة، فإذا تم نضجها حتى أصبح لونها داكنًا فإنها تضيف إلى سطحها السكر المذاب، وفي بعض الأحيان كانت تصنع ما تسميه «المفتفتة»، وهو اسم إذا كَلَّ المرء في فهمه، فإنه يعني شيئًا صنع من فتات الخبز الذي يلقى غالبًا في المهملات، وكانت الأم تضع فتات الخبز في عجينةٍ صنعت من الدقيق والماء والملح وبيضة، ثم تحمره في شحمٍ غزير، وأثناء التحمير تنطلق فرانسي مهرولة إلى مخزن الحلوى، وتشتري بما يساوي بنسًا قطعةً من الحلوى الصلدة الداكنة اللون، تُسحق في الهاون ثم تذر فوق الفتات المحمر قبل أكله مباشرة، ولم تكن البلورات تذوب تمامًا، وهذا ما يجعلها رائعة.
وكان عشاء ليلة السبت هو الأكلة المشهودة، وكانت أسرة نولان تُعدُّ لحمًا محمَّرًا، وقد صنعت الأم من رغيف من الخبز البائت عجينة بالماء الساخن، ومزجتها بما يساوي عشرة سنتات من شرائح اللحم، تضاف إلى ذلك بصلةٌ مقطعة مع ما يساوي بنسًا من البقدونس المفري، ثم صنعت من ذلك كراتٍ صغيرة حمرتها ثم قدمتها مع صلصة الطماطم الساخنة، وكانت هذه الكرات من اللحم تسمى المقانق، بل لقد تحدث أضحوكةً كبيرة لفرانسي ونيلي.
وكان معظم اعتمادهم في معيشتهم على تلك الأصناف المصنوعة من الخبز البائت واللبن المركز والقهوة والبصل والبطاطس، ويقترن بهذا دائمًا شيء يساوي بنسًا يُشترى في اللحظة الأخيرة، ويضاف لفتح الشهية، وكانوا يشترون الموز في بعض الأوقات، ولكن فرانسي كانت نفسُها تهفو دائمًا إلى البرتقال والأناناس، وخاصة اليوسفي الذي كانت تحصل عليه في عيد الميلاد فحسب.
وفي بعض الأحيان حينما يتبقى معها بنس كانت تشتري به حلوى مكسرة، وكان البائع يصنع بوقًا على هيئة كيس من قطعة من الورق المطوي يملؤه بقطعٍ من الحلوى التي تكسرت في الصندوق، ولا يمكنه أن يبيعها بعدئذٍ كحلوى سليمة، وكانت القاعدة التي تؤمن بها الأم هي: إذا كان معك بنس فلا تشترِ حلوى أو كعكًا، وإنما اشترِ تفاحة، ولكن أي شيء كانت التفاحة؟ لقد وجدت فرانسي أن البطاطس قبل أن تُطهى لها طعم التفاحة، وهي تستطيع أن تحصل على البطاطس دون عناء.
ومع ذلك كانت تمر بفرانسي أوقات لا تستطيب فيها شيئًا مهما بلغ بها الجوع، وخاصةً قرب نهاية فصول الشتاء الطويلة الباردة المظلمة، وكان ذلك هو أفضل وقت لصنع المخللات، إذ كانت تأخذ بنسًا وتذهب إلى محل في شارع هور، ليس به إلا مخلل مما يصنعه اليهود، يسبح في محلولٍ مملحٍ ثقيل أضيف إليه كثيرٌ من التوابل، وكان يتصدر المحل أمام الأحواض شيخٌ وقور له لحيةٌ طويلة بيضاء ويلبس قلنسوةً سوداء، وتظهر لثته خالية من الأسنان، يمسك بعصًا كبيرة من الخشب، لها أطرافٌ مسننة كالشوكة، وطلبت فرانسي نفس طلب الأطفال الآخرين: أعطني ببنس مخللًا من المخلل البراق.
ونظر اليهودي الشيخ إلى الطفلة الأيرلندية نظرةً قاسية بعينَيه الصغيرتَين الناريتَين، وقد ظهر فيهما الحقد، وأحاطت بهما جفون محمرَّة اللون: اغربي عن وجهي! اغربي!
وبصق نحوها كارهًا كلمة «براق»، ولم تكن فرانسي تقصد بذلك سوءًا، ولم تكن أيضًا تعلم مدلول الكلمة حقًّا، فقد كانت اصطلاحًا لشيءٍ أجنبي، ولكنه محبوب، وكان اليهودي يجهل ذلك بلا شك، وكانت فرانسي قد سمعت أنه يحتفظ بحوضٍ واحد يبيع منه لغير اليهود فحسب، وقيل إنه كان يبصق في هذا الحوض مرةً كل يوم، أو يفعل ما هو شرٌّ من ذلك.
كانت هذه طريقته في الانتقام، ولكنها لم تثبت على هذا اليهودي المسنِّ قط، ولم تصدق فرانسي هذا القول مرةً واحدة.
وبينما هو يقلب في الحوض بعصاه والسباب ينطلق من بين شفتَيه على لحيته البيضاء المبقعة، إذا بنوبةٍ من الجنون تتملكه حين طلبت فرانسي قطعةً من المخلل من قاع الحوض، وأخذت عيناه تدوران ولحيته تنتفض، وأخيرًا اصطاد قطعةً غليظة من المخلل الجيد ذات لونٍ أصفرَ ضاربٍ إلى الخضرة وأطرافٍ صلبة، ووضعها على قطعةٍ من الورق الداكن اللون، وأخذ منها البنس في راحته التي أصابها الخل بالندوب، ومضى يسب ويلعن، ثم انزوى في مكانٍ خلف المحل حيث هدأت أعصابه، وهو جالسٌ مطرق بلحيته يحلم بالأيام السالفة في بلده القديم.
وبقي المخلل طول اليوم وفرانسي تمص قطعةً وتقضمها، ولم تكن تأكلها تمامًا، ولكنها كانت تريد أن تحصل عليها فحسب، وحين كان الطعام في البيت لا يتجاوز في كثيرٍ من الأحيان الخبز والبطاطس، كانت أفكار فرانسي تنصرف إلى أكل المخلل اللاذع، ولم تكن تعرف لذلك سببًا، ولكنها كانت تشعر بعد يوم المخلل أن الخبز والبطاطس قد عاد إليهما طيب مذاقهما، أجل، كان يوم المخلل يومًا تتطلع النفس إليه.
٦
وعاد نيلي إلى البيت، ثم أرسلته أمه هو وفرانسي لشراء لحم نهاية الأسبوع، وكان ذلك سُنةً متبعة، تقتضي من الأم أن تصدر في شأنها أوامر مفصَّلة: اشتري من محل هاسلر عظامًا للحساء بخمسة سنتات، ولكن لا تشتري شرائح اللحم من هناك، بل اطلبيها من محل ويرنر، أحضري شريحةً مستديرة من اللحم بعشرة سنتات، ولا تقبلي أن يعطيها لك من وعاء اللحم المفروم، وخذي بصلةً معك أيضًا.
ووقفت فرانسي وأخوها أمام المنضدة وقتًا طويلًا، قبل أن يلحظهما الجزار، وسألهما أخيرًا: ماذا تطلبان؟
وبدأت فرانسي المساومة قائلة: أعطني شريحةً مستديرة من اللحم بعشرة سنتات.
– مفرومة؟
– لا.
– إن إحدى السيدات اشترت منذ لحظة شرائح لحم مفرومة بربع دولار، وقد فرمت لحمًا أكثر من اللازم، والباقي في الصحن يساوي عشرة بنسات فحسب، أقسم بشرفي إنني فرمته منذ لحظة فقط.
وكانت أم فرانسي قد حذَّرتها من الوقوع في مثل هذه الحيلة، وألَّا تشتري من وعاء اللحم المفروم مهما قال الجزار.
– لا، إن أمي قالت لي: شرائح مستديرة من اللحم بعشرة سنتات.
وقطع الجزار في غضبٍ قطعة من اللحم ورماها على الورقة بعد أن وزنها، وكان على وشك أن يلفها حين قالت فرانسي في صوتٍ مرتعش: أوه! لقد نسيت، إن أمي تريدها مفرومة.
– تبًّا لكِ!
وقطع اللحم وضغطه في المفرمة وهو يفكر في مرارةٍ أنه خُدع مرةً أخرى، وخرج اللحم قطعًا لولبية حمراء طازجة، وجمعها في يده، وكان على وشك أن يرميها على الورقة … وإذا بفرانسي تقول: إن أمي قالت لي افرمي هذه البصلة مع اللحم.
ودفعت البصلة المقشورة التي أحضرتها معها من البيت على المنضدة في خوف، ووقف نيلي بجوارها ولم يقل شيئًا، وكان شأنه معها أن يشدَّ أزرها.
وانفجر الجزار قائلًا: يا إلهي!
ولكنه استمر يعمل بمفرمتين ليفرم البصلة مع اللحم، وراقبته فرانسي وقد أعجبت بالضربات المنتظمة التي تحدثها نصال المفرمة، وجمع الجزار اللحم مرةً أخرى ورمى به على الورقة وحملق في فرانسي، التي ابتلعت ريقها، كأن الأمر الأخير هو أصعبها جميعًا، وكأن الجزار يعلم ما سيأتي، فوقف يرتعد من أعماقه، وقالت فرانسي في نفسٍ واحد: وقطعةً من الشحم لنحمرها بها.
وهمس الجزار في مرارة: سحقًا لكِ!
وانتزع قطعةً من الشحم الأبيض، وتركها تسقط على الأرض انتقامًا، ثم التقطها وألقى بها فوق اللحم، ولفها في غضبٍ شديد، ثم اختطف منها قطعة السنتات العشرة، وبينا هو يناولها إلى رئيس المحل ليزنها لعن الحظ الذي جعله جزارًا.
وذهبا بعد شراء اللحم إلى محل هاسلر ليشتريا عظام الحساء، وكان هاسلر جزارًا ممتازًا في بيع العظام، أما بيع شرائح اللحم فلا؛ لأنه كان يفرمها خفية، ويعلم الله أي نوع من اللحم تأخذه منه، وانتظر نيلي خارج المحل ومعه لفة اللحم حتى لا يراه هاسلر، فيقول له في كبرياء أن يذهب ويشتري العظام من حيث اشترى اللحم.
وطلبت فرانسي قطعة عظام طيبة عليها شيءٌ من اللحم لحساء يوم الأحد نظير خمسة سنتات، وجعلها هاسلر تنتظر ليروي لها النكتة المبتذلة عن الرجل الذي اشترى قطعةً من لحم الكلاب بسنتَين، وكيف أن هاسلر سأله: أيلفها له أم أنه يريد أن يأكلها هناك! وابتسمت فرانسي في خجل، وذهب الجزار المغتبط إلى الثلاجة وعاد ممسكًا بقطعة عظامٍ بيضاء لامعة، بداخلها نخاعٌ سميك وتتعلق بطرفَيها قطعة صغيرة من اللحم الأحمر؛ مما جعل فرانسي تعجب بها، وقال: بعد أن تطهي أمك هذه، أوصيها بأن تخرج منها النخاع وتبسطه على قطعةٍ من الخبز، وتضع عليه شيئًا من الملح والفلفل، وتصنع منه شطيرةً طيبة لكِ.
– سأقول لأمي.
– وإنكِ إذا أكلتها كسا اللحم عظامك، ها ها …
ولف العظام في الورقة وتسلَّم ثمنها، ثم قطع قطعة سميكة من مقانق الكبد وأعطاها لها، وشعرت فرانسي بالأسف لأنها خدعت ذلك الرجل الطيب، واشترت اللحم من محلٍّ آخر، لقد أساءت أمها كل الإساءة لأنها لا تثق باللحم المفروم الذي يبيعه.
وكان الليل لا يزال في أوله، وأنوار الشارع لم تُشعَل بعدُ، على أن بائعة الفجل كانت جالسة أمام محل هاسلر تهصر جذور الفجل الحريفة.
ورفعت لها فرانسي القدح الذي أحضرته معها من البيت، وملأته المرأة العجوز إلى النصف مقابل سنتَين، واشترت فرانسي بسنتَين خضرة للحساء من بائع الخضر، وشعرت بالسعادة بعد أن انتهت من شراء اللحم، وأخذت جزرةً ناضجة وفرعًا ذابلًا من الكرفس، وقطعةً من الطماطم اللينة، وحزمةً من البقدونس الطازج، وكان هذا كله يغلي مع العظام فيخرج من هذا المزيج حساءٌ دسم تطفو على سطحه قطعٌ صغيرة من اللحم، ويضاف إليه الشحم وعجينة البيض، وهذا مع النخاع المبسوط على الخبز، خليق بأن ينتهي إلى غذاءٍ شهي يوم الأحد.
ونزل نيلي إلى الشارع ليلعب مع أصدقائه بعد العشاء الذي كان يتكون من مقانق الكبد المحمرة والبطاطس وشطائر الفطير والقهوة، وكان الصبية بدون اتفاق أو إشارة يجتمعون دائمًا بعد العشاء عند المنعطف، حيث يقضون الأمسية كلها وأيديهم في جيوبهم وأكتافهم تبرز إلى الأمام، يتجادلون ويضحكون ويتدافعون ويرقصون على أنغام الصفير.
وأقبلت مودي دونافان لتمضي إلى الكنيسة للاعتراف مع فرانسي، وكانت مودي يتيمةً تعيش مع خالتَيها العانسين اللتين تشتغلان في البيت في صنع أكفان النساء، وترتزقان ببيع «الدستة» منها بثمنٍ معلوم لشركة من شركات النواويس، وكانتا تصنعان الأكفان من قماش الساتان، وكانت الأكفان البيضاء للعذارى، وذات اللون الخزامي الفاتح للزوجات الشابات، وذات اللون الأرجواني للسيدات اللائي في منتصف العمر، وذات اللون الأسود للمتقدمات في العمر، وأحضرت مودي بعض الجذاذات وهي تظن أن فرانسي قد ترغب في عمل شيءٍ منها، وتظاهرت فرانسي بالغبطة، ولكنها ارتعدت وهي تضع الأقمشة اللامعة بعيدًا.
وكان جو الكنيسة عابقًا بدخان البخور والشموع المتألقة، وقد وضعت الراهبات الزهور النضيرة على الهياكل، ووضعن على هيكل الأم المباركة أنضر الزهور، فقد كانت محبوبة من الراهبات، واصطف الناس خارج أمكنة الاعتراف، وقد رغب الأولاد والبنات أن ينتهوا من الاعتراف قبل أن يذهبوا إلى مواعيدهم، وكان صف الناس أمام المربع الخاص بالأب أوفلين أطول الصفوف؛ إذ كان هذا الأب شابًّا رحيمًا سمحًا يتسهل في الكفارة.
ودفعت فرانسي الستارة الكثيفة جانبًا حين حل دورها، وركعت في مكان الاعتراف، وحل السر القديم الأزلي حين فتح الكاهن الباب الصغير الذي يفصله عن الآثم، ورسم علامة الصليب أمام النافذة ذات القضبان، وبدأ يهمس بصوتٍ سريعٍ رتيب باللغة اللاتينية وعيناه مغمضتان، وشمَّت فرانسي رائحة البخور ممتزجة برائحة الشموع والزهور وملابس الكاهن السوداء الجيدة وعطر حلاقته.
– باركني يا أبتِ فقد أثمت …
وما أسرع ما اعترفت بذنوبها، وسرعان ما غفر لها، وخرجت وقد انحنى رأسها على يديها المتشابكتَين، وركعت أمام الهيكل، ثم ركعت عند الحاجز، وتلت التوبة عن آثامها وهي تستخدم سبحةَ أمِّها المصنوعة من الصدف، وكانت مودي التي تعيش حياة أقل تعقيدًا من حياة فرانسي، قد ارتكبت من الآثام التي تقتضي الاعتراف أقل من فرانسي وخرجت قبلها، وجلست خارج الهيكل على السلم تنتظر قدوم فرانسي.
وسارت الفتاتان صاعدتَين هابطتَين المنطقة السكنية، وقد لفَّت كلٌّ منهما ذراعها حول خصر الأخرى، مثلما تفعل البنات الصديقات في بروكلين، وكان مع مودي بنس اشترت به شطيرةً من الكريمة المثلجة، وقدمتها لفرانسي لتصيب قدرًا منها، وسرعان ما حل وقت عودة مودي إلى بيتها؛ إذ لم يكن يسمح لها بأن تبقى خارج البيت بعد الثامنة مساءً، وافترقت الفتاتان بعد أن تواعدتا على الذهاب للاعتراف معًا يوم السبت التالي.
وقالت مودي وهي تمشي عائدةً مبتعدة عن فرانسي: لا تنسي، لقد أتيت إليك هذه المرة، وسيكون دورك المرة القادمة أن تأتي إليَّ.
ووعدت فرانسي قائلة: لن أنسى.
وكان هناك جمعٌ في الحجرة الأمامية حين وصلت فرانسي إلى البيت … خالتها إيفي وزوجها ويلي فليتمان، وكانت فرانسي تحب خالتها إيفي؛ لأنها تشبه أمها إلى حدٍّ كبير، مليئة بالفرح والفكاهة، تحكي لك ما يجعلك تضحك، كما يضحك الناس في المسرح، وهي تستطيع أن تقلد أي شخص في العالم.
وكان الخال فليتمان قد أحضر قيثارته معه وأخذ يعزف عليها، في حين طفق الجميع يغنون، وفليتمان رجلٌ نحيل داكن اللون، له شعرٌ أسود ناعم وشارب كالحرير، ويعزف على قيثارته عزفًا جيدًا، وخاصةً أنه فقد إصبعه الوسطى ليده اليمنى، فإذا اقتضى الأمر منه أن يستخدم هذا الإصبع، فإنه يضرب القيثارة ضربةً شديدة لتشغل الزمن الذي كان يجب أن تشغله النغمة، وهذا يعطي أغانيه إيقاعًا غريبًا، وكان فليتمان قد وصل إلى ختام أناشيده تقريبًا حين دخلت فرانسي، إنها وصلت في الوقت المناسب لتسمع أنشودته الأخيرة.
وخرج فليتمان بعد عزف الموسيقى وأحضر إبريقًا من الجعة، وأخذت الخالة إيفي رغيفًا من الخبز المحمَّص، وما يساوي عشرة سنتات من جبن الليمبرجر وتناولا الشطائر مع الجعة، وانحلت عقدة لسانه بعد احتسائه الجعة، وقال للأم: انظري إليَّ يا كاتي تري رجلًا فاشلًا.
وأدارت الخالة إيفي عينَيها إلى أعلى، وتنهدت وهي تشد شفتها السفلى، وقال فليتمان: إن أولادي لا يحترمونني، وزوجتي لا تجد لي نفعًا، ودرامر الذي يجرُّ عربة اللبن الخاصة بي أصبح يفعل ما يشاء، هل تعرفين ماذا فعل بالأمس فقط؟
ومال إلى الأمام، ورأت فرانسي عينَيه تلمعان بدموعٍ حبيسة: كنت أقوم بغسله في الحظيرة، وبلغت في غسله إلى ما تحت بطنه، فإذا به يبول فوقي.
وتبادلت كاتي وإيفي النظرات وعيونهما ترقص بضحكاتٍ مكتومة، ونظرت كاتي فجأة إلى فرانسي والضحك ما زال في عينَيها، لكن شفتَيها كانتا صارمتَين وأطرقت فرانسي إلى الأرض عابسة، بالرغم من أنها كانت تكتم الضحك في أعماقها.
– هذا ما فعله معي، وضحك عليَّ جميع الرجال الذين في الحظيرة.
– أجل إن الناس جميعًا يضحكون مني.
وشرب كأسًا أخرى من الجعة.
وقالت زوجته: لا تتكلم على هذا النحو يا ويل.
وقال للأم: إن إيفي لا تحبني.
وأكدت له إيفي حبها بصوتها الحنون الرقيق الذي كان في حد ذاته ينم عن التدليل: إني أحبك يا ويل.
– لقد أحببتني عندما تزوجنا، ولكنك لا تحبينني الآن، أليس كذلك؟
وانتظر الرد، لكن إيفي لم تقل شيئًا، فقال للأم: أرأيتِ، إنها لم تعد تحبني!
وقالت إيفي: حان الوقت لنعود إلى البيت.
وقد فُرض على فرانسي ونيلي قبل الذهاب إلى النوم أن يقرآ صفحةً من الإنجيل وصفحةً من شكسبير، وكانا قد درجا على هذه العادة، فقد تعودت الأم أن تقرأ لهما الصفحتَين كل مساء، حتى كبرا واستطاعا أن يقرآ بمفردهما، وقرأ نيلي صفحة الإنجيل، وقرأت فرانسي صفحة شكسبير اقتصادًا للوقت، وظلَّا مستمرَّين على هذه القراءة منذ ست سنوات، حتى وصلا إلى منتصف الإنجيل وإلى مسرحية ماكبث من مسرحيات شكسبير الكاملة، وتسابقا في القراءة، وما إن حلت الساعة الحادية عشرة، حتى كانت أسرة نولان جميعًا قد ذهبت إلى الفراش، ما عدا جوني الذي لا يزال في عمله.
وكان يسمح لفرانسي في ليالي السبت أن تنام في الحجرة الأمامية، فحملت مقعدَين وضمتهما لتصنع سريرًا أمام النافذة، حيث تستطيع أن تراقب الناس في الشارع، وكانت، وهي راقدة في مكانها، تستمع إلى الأصوات المنبعثة في الليل من المنزل؛ أناسٌ يدخلون ويذهبون إلى شققهم، بعضهم متعبٌ يجر قدمَيه جرًّا، وبعضهم يصعد السلم جريًا في خفة، أحدهم تعثرت قدمه فلعن المشمع الممزق الذي يغطي أرض الصالة، وبكى طفلٌ في شيءٍ من التصنع، وأخذ رجلٌ مخمور في إحدى الشقق السفلية يسرد في إيجاز الحياة الآثمة التي زعم أن زوجته عاشتها.
وسمعت فرانسي في الثانية صباحًا صوت أبيها يغني في رقةٍ وهو يصعد السلم:
وفتحت الأم الباب عند كلمة «باكية»، وكان ذلك من الأب على سبيل المباراة، فإذا ما فتحوا له الباب قبل أن ينتهي من إنشاده، فازوا، أما هو فيفوز إذا فرغ من غنائه وهو في البهو.
ونهض نيلي وفرانسي من فراشهما وجلس الجميع حول المائدة، وأكلوا بعد أن وضع الأب على المائدة ثلاثة دولارات، وأعطى لكل طفل خمسة سنتات، ثم حملتهما الأم على أن يضعاها في الحصالة المصنوعة من القصدير، مبيِّنة أنه قد سبق لهما أن تسلما في ذلك اليوم مالًا من بيع النفايات، وأحضر الأب معه إلى البيت حقيبة من الورق ممتلئة بالطعام المتبقي من حفل الزفاف؛ لأن بعض المدعوين لم يحضروا، فوزعت العروس الطعام الفائض على الخدم، وكان يحتوي نصف سرطانٍ بحريٍّ مشويٍّ بارد، وخمس محاراتٍ مقليةٍ متجمدة، ووعاءً يحتوي مقدار بوصة من الكافيار، وقطعة من جبن الروكفور. ولم يكن الطفلان يحبان السرطان البحري، ولم يكن للمحار البارد أي طعم يسيغان، وبدا الكافيار مملَّحًا أكثر مما ينبغي، ولكن الجوع كان قد بلغ بهما مبلغه فأتيا على كل ما احتوته المائدة، بل هضماه أيضًا خلال الليل، وكان في إمكانهما أن يهضما المسامير لو استطاعا أن يمضغاها.
وبعد أن أكلت فرانسي واجهت الحقيقة أخيرًا، وهي أنها قد أفسدت الصيام الذي بدأته في منتصف الليل، وكان يجب أن تستمر فيه إلى ما بعد قداس الصباح التالي، وبذلك فهي لا تستطيع أن تتناول القربان المقدس، وهذه خطيئةٌ صريحة يجب أن تعترف بها للقسيس في الأسبوع التالي.
وعاد نيلي إلى فراشه وواصل نومه العميق، أما فرانسي فقد ذهبت إلى الحجرة الأمامية المظلمة وجلست بجوار النافذة، ولم تشعر برغبةٍ في النوم، وجلس الأب والأم في المطبخ، وكانا خليقين بأن يجلسا هناك وأن يتحدثا حتى تبدأ تباشير الصباح، وكان الأب يحكي عن عمله في تلك الليلة، والناس الذين رآهم وكيف بدوا له وكيف كانوا يتحدثون، ولم ترَ أسرة نولان الكثير من الحياة، كانوا يعيشون حياتهم بكل ما فيها، ولكن ذلك لم يكن كافيًا، فعليهم أن يكملوها بحياة جميع الناس الذين يتصلون بهم.
وهكذا أخذ جوني وكاتي يتحدثان طول الليل، وكان صوتهما وهو يرتفع وينخفض يبعث الاطمئنان والأمن في الظلام، وبلغت الساعة حينذاك الثالثة صباحًا والشارع هادئ كل الهدوء، ورأت فرانسي الفتاة التي تسكن في الشقة الكائنة بالناحية الأخرى من الشارع تعود إلى البيت من إحدى الحفلات مع صديقها، ووقفا في مدخل بيتها يتعانقان، دون أن يتكلما حتى مالت الفتاة إلى الوراء وضغطت على الجرس دون أن تدري، فنزل أبوها بملابسه الداخلية الطويلة وأخبر الشاب بلهجةٍ هادئة، ولكنها شديدةٌ جارحة، بأنه يستطيع أن يذهب إلى حال سبيله، ولقنه ما ينبغي أن يكون عليه سلوكه، وجرت الفتاة صاعدةً السلم وهي تقهقه قهقهةً عصبية، على حين مضى صديقها الشاب هابطًا في الشارع يصفر بلحن أغنية «عندما نتقابل الليلة».
وعاد إلى بيته السيد توموني الذي يملك محلات للرهون في عربةٍ أنيقة بعد أن قضى ليلةً في نيويورك، أنفق فيها الكثير، ولم يكن السيد توموني قد دخل محل الرهون الذي ورثه بمديره الكفء، ولا أحد يعلم لماذا يسكن السيد توموني في الشقة التي فوق المحل، وهو يمتلك مثل هذه الأموال، وكان يحيا حياة رجلٍ أرستقراطي من نيويورك في حي ويليمسبرج، وأذاع عامل طلاء دخل شقته مرةً، بأنها مزينة بالتماثيل ورسومات الزيت وقطع الفراء البيضاء، وكان السيد توموني عزبًا، لا يراه أحدٌ طول الأسبوع، أو وهو خارج لقضاء الأمسيات من أيام السبت، كانت فرانسي وحدها هي والشرطي صاحب النوبة يريانه حين يعود إلى بيته، وأخذت فرانسي تراقبه وهي تشعر كأنها متفرجة تجلس في مقصورةٍ بمسرحٍ من المسارح.
وكانت قبعته الحريرية العالية تميل على إحدى أذنيه، ونور الشارع يتلألأ على عصاه الفضية المحببة وهو يتأبطها تحت ذراعه، وقد أزاح إلى الخلف «حرملته» المصنوعة من حرير الساتان ليخرج من جيبه بعض النقود، وأخذ السائق أجره، ولمس بطرف السوط الغليظ حافة قبعته العالية، وهزَّ أعنَّة الجواد، وراقبه السيد توموني وهو يقود العربة مبتعدًا كأنما كانت العربة هي آخر صلةٍ له بحياةٍ اكتشف أنها طيبةٌ ممتعة، ثم صعد إلى شقته الفاخرة.
وكان من المفروض أن يؤم الأماكن الفاخرة مثل فندقَي ريزنويبرز ووالدروف، وصممت فرانسي على أن ترى هذه الأماكن يومًا ما، أجل سوف تخترق في يومٍ من الأيام جسر ويليمسبرج الذي لا يبعده عنها إلا قليلٌ من المناطق السكنية، وتشق طريقها في المدينة إلى نيويورك حيث توجد هذه الأماكن الجميلة، ثم تشبع عينَيها من المناظر التي تبدو خارجها، وحينئذٍ تستطيع أن تقدر السيد توموني حق قدره.
وهبَّت ريحٌ منعشة فوق بروكلين، آتية من البحر، ووصل إلى سمعيها صياح ديكٍ من الشمال البعيد، حيث يسكن الإيطاليون ويربون الدجاج في أفنيتهم، ورد على الصياح نباح كلب من بعيد، وصهيلٌ متسائل من الجواد بوب الذي يرقد هادئًا في حظيرته.
وكانت فرانسي سعيدة بيوم السبت، تكره أن تقضيه في النوم، وقد جعلها خوفها من حلول الأسبوع تشعر بالقلق، فوعت ذكرى يوم السبت في مخيلتها، وكان يومًا بريئًا من الشوائب، اللهم إلا من الرجل المسن الذي ينتظر الخبز.
وفي ليالي الأسبوع الأخرى كانت فرانسي ترقد على فراشها، وتسمع من خلال بئر التهوية أصواتًا مبهمة تصدر من العروس الشبيهة بالطفلة، التي تسكن في إحدى الشقق الأخرى مع زوجها سائق العربة الشبيه بالقرد، وانبعث صوت العروس عذبًا مستعطفًا وصوته خشنًا آمرًا، تعقب ذلك فترة صمت قصيرة، يبدأ بعدها غطيط الزوج، في حين تبكي الزوجة بكاءً يستدرُّ الشفقة، حتى يوشك الصباح أن ينبلج.
وكانت فرانسي إذا تذكرت نشيج العروس ارتعدت وارتفعت يداها بلا وعي تسدَّان أذنَيها، ثم تذكرت أن ذلك حدث يوم السبت، وأنها كانت في الحجرة الأمامية حيث لا تستطيع أن تسمع الأصوات الصادرة من بئر التهوية، أجل كان لا يزال يوم السبت، وهو يومٌ ممتع، أما يوم الإثنين فلا يزال بعيدًا يسبقه يوم الأحد الآمن، الذي تستطيع أن تفكر خلاله طويلًا في زهر «أبو خنجر» ماثلًا في الزهرية البنية اللون، وفي منظر الجواد بعد غسله، وهو يقف في أشعة الشمس والظل، وبدأ النعاس يغلب على فرانسي فأنصتت لحظةً إلى كاتي وجوني، وهما يتحدثان في المطبخ، يستعيدان الذكرى.
وقالت كاتي: كنتُ في السابعة عشرة حينما رأيتك لأول مرة، كنت أعمل في مصنع كاسل بريد.
وقال جوني مستذكرًا: وكنتُ في التاسعة عشرة حينئذٍ صديقًا لصديقتك الحميمة هيلدي أودير.
وقالت كاتي: أوه، هي!
وتخللت الريح الدافئة العطرة في رفق شعر فرانسي، وثنت ذراعيها على عتبة النافذة ووضعت خدها عليها، وكانت تستطيع أن ترفع بصرها فترى النجوم تتلألأ في سمائها فوق أسطح شقق السكن، وراحت في النوم بعد فترةٍ قصيرة.