مقدمة المترجم

«هذا الكاتب وعالمه»

«كازو إيشيجورو» كاتب إنجليزي من أصل ياباني، فهو من مواليد «ناجازاكي»، ١٩٥٤م، رحلَت عائلته إلى بريطانيا في عام ١٩٦٠م، كانت العائلة تنوي العودة إلى الوطن الأصلي بعد سنوات قليلة، ومن هنا كان الحرص على تمهيده لتلك العودة والعيش في ظلِّ الثقافة اليابانية. هكذا نشأ الابن على حافة عالَمَين، ولكنه اكتشف بعد نمو مداركه أن بينهما من التشابه أكثر ممَّا كان يتصور. بدأ يرى الأشياء والآخرين من حوله من منظور شخص غريب دفعه للتفكير بشكل أكثر عمومية، في الصفات المشتركة بين الناس. وبالرغم من أن تلك النشأة مكَّنَته من معرفة أنواع كثيرة من البشر، إلا أنه لم يشعر أبدًا بأنه جزء من أيٍّ من الثقافتَين؛ اليابانية أو الإنجليزية.

ربما تكون الأُسرة قد استقرت في إنجلترا بسبب الحرية التي وجدَتها هناك كأجانب لا يواجهون توقعات ثقافية كبيرة، كما هو الحال في الوطن الأم، ولذلك كانت أفكار «إيشيجورو» عن اليابان مُستمَدة من الثقافة الإنجليزية، ومن الوالدَين، وليست وليدة احتكاك مباشر مع مجتمع ياباني واسع. والثابت أن الابن لم يذهب لزيارة اليابان إلا في عام ۱۹۸۷م، وبعد أن كان قد أصدر روايتَين، كلتاهما عن اليابان.

هذه النشأة بعيدًا عن الوطن، جعلَته يرى أن كتابته أقلُّ تعقيدًا، لأنه يخترع قصصه معتمدًا على الانطباعات أكثر منه على حقائق وواقع معاش.

درس «إيشيجورو» في جامعتَي «كنت» و«إيست أنجليا»، وبدأ حياته بالعمل في مجال الخدمة الاجتماعية؛ الأمر الذي هيَّأ له فرصةً جديدةً واسعةً للمشاهدة والملاحظة والاستماع إلى معاناة الكثيرين. فهل كان ذلك هو سبب سيطرة موضوع واحد على معظم كتاباته، وهو «ما يتمنَّاه الناس»، وكيفية تعاملهم مع فوضى أحداث الحياة اليومية التي تسير بهم بعكس أمانيهم؟

لم يبدأ «إيشيجورو» الكتابة إلا بعد أن تراجعَت أحلامه الأخرى، كأنْ يكون موسيقيًّا مثلًا، وإن كان قد استخدم تلك الخلفية أيضًا بعد ذلك في كتابة رواية تتمحور حول عازف بيانو.

بعد مجموعة قصص قصيرة، أصدر روايته الأولى «منظر شاحب للتلال» في عام ١٩٨٢م، ثم جاءت الثانية «فنان من العالم الطليق» في ١٩٨٦م، والروايتان عن اليابان المتخيَّلة وعن هموم البشر الذين يعيشون مع المأساة. في الرواية الأولى يسبر الكاتب أغوار مشاعر الفقد الشخصي، وفي الثانية يتناول حياةً مُعاشةً دفاعًا عن القضية السياسية الخطأ. الأفكار الأساسية في العملَين هي التطور الطبيعي الذي راح يتبناه «إيشيجورو» بعد ذلك عن طبيعة البشر ومساراتهم المتشعبة على مسرح الحياة.

الخلفية الثقافية الفريدة للكاتب خلقَت لديه حساسيةً خاصةً جعلَته يتأمل الحياة العريضة وأفكار الناس من حوله. كلاهما؛ الإنجليز واليابانيون، يتميزون بطبائع متحفِّظة، ولذلك لم يكُن غريبًا أن تميل شخصياته إلى الجوانب الأكثر رزانةً واتزانًا في السلوك. وهي شخصيات شديدة التهذيب، تكبح مشاعرها وعواطفها الخاصة، غير واضحة أحيانًا، تظلُّ مُدافِعةً عن أخطاء — خطايا — ارتكبَتها، وتحرص كل الحرص على السَّير مع التيار العام، كما تُولي اهتمامًا كبيرًا لمعاني الشرف والكرامة.

في الرواية الأولى «منظر شاحب للتلال» يستخدم الكاتب الغرب كعنصر للتحرر والهرب من ضغوط الحياة. ففي محاولة لنسيان الماضي — مأساة «ناجازاكي» وما تبعها من كوارث — تذهب الشخصيتان الرئيسيتان إلى الغرب لكي تبدآ حياةً جديدة. «إيتسوكو» تترك زوجها الياباني وتتزوج صحفيًّا إنجليزيًّا، وهو قرار سيكون سببًا في انتحار ابنتها بعد ذلك. و«ساشيكو» أرملة من ضحايا الحرب، ترتبط بعاشق أمريكي، يعدها بأن يأخذها معه إلى الولايات المتحدة، وهو سلوك سيكون سببًا في معاناة ابنتها «ماريكو» بعد ذلك، وإصابتها بصدمة تفقدها توازنها.

خيارات الشخصيات في الرواية، وما تتمخَّض عنه من نتائج، تعكس موضوعًا عامًّا في روايات «إيشيجورو»، وهو افتقاد الغرب للإحساس بالعمق والتاريخ والتواصل، ولذلك فإن الكاتب يعترف في أحاديثه بأن حيرة شخصياته الرئيسية هي في غالب الأمر انعكاس لصراعاته الخاصة. هو يعرف أن هناك أشياءَ كثيرةً في الحياة لا يمكن السيطرةُ عليها، ولذلك يظلُّ هائمًا بين أكثر من نهاية متطرفة. هل يستطيع المرء أن يسيطر على الأمور؟ إلى أيِّ مدًى؟ وما هي الأشياء التي يُعتبر مسئولًا عنها؟ ومتى يمكنه أن يتخلى عن تلك السيطرة التي يتوهم أنه يمتلكها؟ قصص «إيشيجورو» تبدو قريبةَ الشبه بحياتنا، وشخصياته تبدو وكأنها تخوض تجاربنا ذاتها، لذلك يُحقِّق نجاحًا كبيرًا في إصابتنا بالقلق الدائم، فلا نشعر بالراحة، لأنه يجتذبنا بمهارة وخبث لكي نعيش نيابةً عنهم … وفي النهاية يُخيِّبون أملنا. ولأننا نمتلك القدرة على رؤية الأشياء التي يغفلون عنها، نبدو مأسورين في شِراكٍ من صُنعهم. القرارات المهمة في حياتهم لا تُتخَذ، بينما تتواصل القضايا التافهة وغير المؤثرة التي يشغلون أنفسهم بها، يعطونها أولوية. فنحن نرثى لهم، وفي الوقت نفسه نشعر بالخذلان، لأنهم يفتقرون للشجاعة الكافية لفعل شيء ضروري في حياتهم.

«إيشيجورو» يكتب بأسلوب شديد الاقتصاد، لا يُقدِّم إلا التفاصيل الضرورية، بل إنه كثيرًا ما يقول شيئًا، وهو يعني شيئًا آخر. كتاباته خليط من الاستعارات المنفصلة والتلميحات والتشبيهات والتداخلات الغامضة بين الشخصيات. وهو كاتب مدهش في تقديم شخصيات ثانوية تحيط بأبطاله فتُبرزهم عن طريق العلاقة التي تربطهم معًا. كاتب يتقافز بأفكاره جيئةً وذهابًا في الزمن، ويستخدم الذكريات وتداعياتها وردود الفعل ليصوِّر الظروف التي تُجسِّد شخصياته. يخدعنا في كثير من الأحيان ويتركنا مرتبكين بسبب نقص في القَصِّ أو عدم وضوح، ولكنه يعتبر ذلك استراتيجيةً في كتاباته، فالمعلومات الشحيحة يريد بها أن يجعلنا نشحذ الذهن والخيال في أمور البشر. يضعنا في عالم ضبابي وملتبس لكي نستخلص صفاتنا الخاصة من الحكاية. لا يصف لنا بدقة أو تحديد ذلك المشهد الذي نهُمُّ بتصوُّره، لذلك يُشبِّهه بعض النقاد ﺑ «كافكا» عندما يستخدم أساليب مُعقَّدة تُشبِه الحلم وهو يصف شخصياته. وهو تِكنيك يجبر القارئ على المزيد من إعمال الخيال وشَخْصَنة القصة والاشتراك في كتابتها، إن جاز التعبير.

يقول إيشيجورو: «عندما يخرج الكاتب عن التقليدي والواقعي في الكتابة، يكون لزامًا عليه أن يبتكر، أن يخلق عالمًا جديدًا، وأن يلتزم به؛ هنا يصبح للفوضى وللمنطق الداخلي الخاص هدف.»

حتى عناوين أعمال «إيشيجورو» توحي بالتردُّد والحيرة وعدم اليقين، وبالواقعية الخشنة التي تصدم القارئ بعد الانتهاء من العمل، فيدرك أهمية العنوان ومغزاه.

بعد «منظر شاحب للتلال» و«فنان من العالم الطليق»، جاءت هذه الرواية التي بين أيدينا، «بقايا اليوم» (۱۹۸۹م)، وهي تداخُل وتقاطُع بين الذاكرة الفردية والتاريخ الوطني من خلال عقل رئيس خدم إنجليزي نموذجي «ستيفنس» الذي يعتقد أنه خدم الإنسانية، لا لشيء إلا لأنه سخَّر كل كفاءته وخبرته المهنية لخدمة رجل عظيم (اللورد دارلنجتون).

«إيشيجورو» يرى أن التاريخ وذاكرة الفرد عُرضة للانتقاء والكبح والمراجعة بشكل دائم. الذاكرة بالنسبة للفرد، هي بالضبط كالتاريخ بالنسبة للدولة. نحن الآن في عام ١٩٥٦م، وقصر «دارلنجتون» أو «دار لنجتون هول» يستأجره الآن رجل أعمال أمريكي. وعندما يبدأ «ستيفنس» رحلته بالسيارة (سيارة المالك الجديد) إلى الريف الغربي، فإنه يبدأ في الوقت نفسه رحلةً مُعذِّبةً في الذاكرة.

هنا سيكتشف ما يجعله يضع كل شيء موضع المساءلة؛ عظمة «اللورد» الذي خدمه بإخلاص، وكذلك معنى حياته التي عاشها في عزلة عن كل شيءٍ مُهمٍّ باستثناء وظيفته. أمَّا فكرة الرحلة ذاتها فهي بنيَّة ذكية اتخذها «إيشيجورو» ليقول لنا إن البطل كلما كان يبتعد عن قصر «دارلنجتون»، إنما كان يقترب من فهم حياته التي قضاها هناك.

ولكن تفاصيل الرحلة تكشف للقارئ أشياء أكثر عمقًا من تلك التي تتكشف ﻟ «ستيفنس». رئيس الخدم يعتقد، مثلًا، أنه يقوم بتلك الرحلة لأسباب مِهْنيَّة، أو لكي يقنع مُدبِّرةَ شئون القصر السابقة «مس كنتون» بالعودة للعمل في «دارلنجتون هول».

ومن خلال عمليات «الفلاش باك» واعترافات «ستيفنس» الساذجة، سرعان ما يدرك القارئ أن الأمر شخصي جدًّا: «ستيفنس» كان يحبُّ «مس كنتون»، ولكنه تركها تتزوج رجلًا آخر، وهو الآن يريد أن يستعيد بعضًا من الزمن المفقود، أن يُصحِّح خطأ الماضي. والأهمُّ من قصة الحبِّ المقنعة هذه — وعلى صلة بها أيضًا — هناك قضية «قصر دارلنجتون» ورأي «ستيفنس» في نفسه؛ ذلك الرأي الذي يستند فيه إلى اعتقاده بعظمة «اللورد» وسعيه لخدمة الإنسانية. القارئ يكتشف أنه يتأخر في الاعتراف بالخطأ. كان «اللورد» مجرَّد «عسكري شطرنج» في يد النازي، كان غبيًّا ربما، ضالًّا لا شك، ولكنه لم يكُن أبدًا ذلك الرجل العظيم الذي خدع «ستيفنس» نفسه به. هذه الاعترافات تتمُّ من خلال بنية محبوكة، حيث تتنقل رحلة «ستيفنس» بين السفر والتذكر والتفكير في المهنة ومعنى الكرامة، وحاضر «دارلنجتون» البائس، ونفوذ «اللورد» في العشرينيات، وتوترات وقلق الثلاثينيات قبل الحرب.

«ستيفنس» في هذه الرواية، يعكس أفكار وتأملات «إيشيجورو» الخاصة، وعدم وضوح الرؤية لديه، والتمادي في السَّير في الاتجاه الخطأ. وشخصيته مرسومة بعناية فائقة تُبرز مزايا وعيوب الطبيعة المتحفظة. فهو شخص رزين، محترف، يحاول أن يحافظ على النظام والانضباط ومستوى الخدمة الممتاز في قصر مخدومه. هذه الجهود كلها تفيض على حياته الشخصية، وتطغى عليها مُخلفةً رجلًا غامضًا بقلبٍ أجوف. والكاتب يُقدِّم لنا في الرواية أيضًا رجل سياسة أمريكيًّا، وهو «مستر فراداي»، ويرسم شخصيته بمعالم واضحة لكي يظهر التناقض بين الثقافتين. هذا الدبلوماسي، المالك الجديد للقصر، يأتي بعد صاحبه الإنجليزي الذي لطخ وجه إنجلترا بالعار بتأييده للنازي. لكن «ستيفنس» مخلص للمالك الجديد أيضًا بالرغم من أنهما على طرفَي نقيض.

كل تركيز «ستيفنس» مُنصَبٌّ على أداء وظيفته، القضايا الجادة والخطيرة لا تشغله، يحيط حياته بنظام صارم لكي يسير كل شيء في القصر على ما يُرام. والحقيقة أنه قد رهن حياته وهويَّته لشخصٍ آخر، ووضع نفسه في فخِّ ما يراه ضمانًا لأداء دَوره في العمل والحياة. وفي نهاية الرواية، يصل «ستيفنس» إلى درجة من ترويض النفس، درجة من الخمود في تفكيره عن «دارلنجتون هول» وعن نفسه. مصدر كبريائه هو نفسه مصدر شعوره بالعار. كان على استعداد لأن يلمع في أوج عظمة «دارلنجتون هول»، والآن لا بدَّ أن يتحمَّل نصيبه من العار.

«بقايا اليوم» مثل كل الأعمال الإبداعية الكبرى، عمل عضوي متماسك، متكامل الأجزاء؛ كل مشهد وكل شخصية تضيف إلى الصورة الكلية وتُبرزها، وأسلوب الكاتب المُحكَم يناسب موضوعه تمامًا، كما هو مناسب لشخصية الراوي الذي يسافر بسهولة بين المراحل الزمنية المختلفة. وباستدعائه الساحر للفكاهة والسخرية، يبدو «إيشيجورو» سيدًا في استخدام أدواته. تلك كلها عناصر تجمَّعَت في الرواية لكي ترسم صورةً نفسيةً وثقافيةً واضحةَ المعالم تُعبِّر عن فكرة «إيشيجورو» الدائمة؛ الفن وخداع الذاكرة.

في عمله الرابع «الذي لا عزاء له»، ١٩٩٥م، نحن أمام بشر يبنون حياتهم فوق أطلال. جراح لا تلتئم، أخطاء وقعَت في الماضي لكن تداعياتها وتوابعها مستمرة وحاضرة دائمًا، ومنذ بداية الرواية ونحن مع بطلها «رايدر»؛ تلك الشخصية القلقة المُقلقة، لأنها تعيش خدعة. «رايدر» عازف بيانو شهير وصل إلى مدينة أوروبية (غير مُسمَّاة)، ليُقدِّم حفلًا موسيقيًّا. ومع تقدُّم القصة يتضح أنه لا يتذكر شيئًا كثيرًا عن سبب زيارته، ويكتشف أن المُنتظَر منه أن يُقدِّم معجزة، وليس مجرَّد حفل موسيقي، معجزة لا تَقِلُّ عن استعادة الوجود الجمالي والروحي للمدينة. وعلى مدى الأيام الثلاثة السابقة على ذلك المساء المُرتَقب، يجد «رايدر» نفسه واقعًا في شرك حياة، ومتطلبات وشروط عدد من الغرباء؛ مدير فندق وأُسرته المختلة، حمَّال وابنته البعيدة عنه نفسيًّا وحفيده، وقائد أوركسترا سِكِّير وزوجته المنفرة، وضيوف مُهمِّين وغيرهم، إلى جانب شخصيات من ماضيه … كل أولئك يظهرون فجأةً مثل أشباح غرائبية في كرنفال. ووسط كل هذه التجارب والممارسات السريالية يُقدِّم «إيشيجورو» حياة الفنان العامة متشابكةً مع نسيج حُلم بلا أمل، وفي مكانٍ ما بين السطور، وفي الهوامش، وفي ثنايا الصفحات نفسها تكمن قصةٌ أخرى تنتظر أن تُروى، قصة معروفة، قاتلة في واقعيتها، قصة طفل مهمل غير محبوب، فشل في أن يُحقِّق توقُّعات والدَيه. في عملية الكشف السحرية، تصبح الشخصيات انعكاسًا مشوهًا ﻟ «رايدر» نفسه ولأمه ولوالده ولمخاوف ورغبات طفولته المُحبَطة، بينما متاهة المدينة وروح المكان القلقة لا تُعبِّر إلا عن عقله الباطن. أولئك الأغراب المستحيلون هم أشباح لنفس «رايدر»، وروح المدينة التي يحاولون أن يجعلوه ينقذها هي روحه.

يقول إيشيجورو: «إن ذلك استعادة لمعظم أصوات الناس.» فهو يستخدم أفكارًا مثل خداع النفس وتباعُد أفراد الأُسرة وخيبات الأمل في العلاقات، والتوترات الناجمة عن عدم التوافُق، والمُثُل الهابطة والكلمات التي لا تُقال … يستخدم ذلك كله لكي يجعل الناس يرون أنفسهم في ماضيهم. صحيحٌ أنهم مدانون بسبب ما ارتكبوه من أخطاء، لكن من الصحيح أيضًا أنهم يحاولون نسيان ذلك لكي يعيشوا مع أنفسهم في المستقبل. يقول الكاتب:

«أنت تحتاج أحيانًا لقدْر من خداع الذات، وذلك يعطيك الشجاعة على مواصلة الحياة، يحدث ذلك عندما تكتشف أنك ارتكبتَ أخطاءً كثيرةً، وهو ليس أمرًا سيئًا. لا شيء يمكن أن تفعله في هذه الحال سوى أن تُخفِّف عن نفسك بعض الشيء. فالناس يبحثون عن العزاء والسلوى في العلاقات، في الفن، في العمل الذي يقومون به. العزاء لا وجود له، لكن «رايدر» بطل الرواية يواصل البحث عنه ويستمر في البحث.»

«إيشيجورو» ينفر من كل ما هو تقليدي؛ خطوط القصِّ، وأسلوب الحكي، والمعتقد الشائع، والموروث السائد والمُسيطِر … وذلك يجعل بعض النقاد يُشبِّهونه بفنانين مثل «وودي آلن» و«هيمنجواي» و«سبلبيرج». فهو متأمل ذكي شديد الحساسية، مهووس بما يكتشفه من حقائق رغم أنه لا يفهمها. وهو فنان يجيد تصوير الفرص الضائعة والأخطار الناجمة عن الفشل في التواصل، وغربة الشخصيات في الحياة … كل ذلك لكي يثبت أن الحياة ليست جديرةً بأن تُعاش بدون تلك العلاقات المهتزة. ومن هنا فإن كل أبطاله يعيشون حالة نكران للذات، لا يؤثرون في ظروفهم المُعاشة، لأن نظراتهم إلى الماضي مشوهة. «رايدر» هو البطل الوحيد الذي يشعر بأهميته، وبأنه مركزي؛ لأن الأحداث كلها تتمحور حوله، ومتاهته هي متاهة أيِّ بطل آخر من أبطال رواياته.

في منتصف هذا العام (٢٠٠٠م)، أصدر «إيشيجورو» روايته الخامسة بعنوان «عندما كنَّا يتامى»، وهي تتناول الماضي أيضًا، وفيها بطلها «كريستوفر بانكس» أمام لغز اختفاء والدَيه وهو طفل. «كريستوفر» يعتقد أن حلَّ ذلك اللغز من شأنه أن يعيد التماسك إلى عالم طفولته المهتز، وبالتالي يمنع العالم نفسه من السقوط. شخصيات الرواية إنجليزية ويابانية من «شانغهاي».

عندما أصدر «إيشيجورو» روايته الأولى عام ۱۹۸٢م، قالت صحيفة «التيمز» إنها إنجاز كبير، وإن رشاقة اللغة المكتوبة بها تعكس ذكاء الكاتب وحِدَّة ذهنه. بينما قالت «الأوبزرفر» إنها رواية يابانية ذكية، وقد حصَلَت تلك الرواية الأولى على جائزة «وينفرد هولتباي». وعندما صدَرَت روايته الثانية عام ١٩٨٦م، احتفَلَت الصحافة الأدبية بظهور واحد من أساتذة الكتابة الإنجليزية المعاصرة. كما حصَلَت الرواية على جائزة «ويتبرد»، ووصلت إلى القائمة المختصرة لجائزة «بوكر» في العام نفسه.

أمَّا روايته الثالثة «بقايا اليوم»، ۱۹۸۹م، فقد حصَلَت على جائزة «بوكر» وتُرجمَت إلى لغات عِدَّة، وكانت من أكثر الكتب مبيعًا على مدى خمس سنوات (أكثر من مليون نسخة من الطبعة الإنجليزية وحدها في العام الأول)، كما حُوِّلَت إلى فيلم ناجح من بطولة «انتوني هوبكنز» و«إيما طومسون» حصل على ٧ جوائز أوسكار. أمَّا روايته الرابعة «الذي لا عزاء له»، ١٩٩٥م، فحصَلَت على جائزة «شلتنهام».

بقي أن نقول إن أكثر ما يضايق «كازو إيشيجورو» هو الاهتمام به لكونه كاتبًا يابانيًّا، وفي ذلك يقول: «إن استخدامي الدقيق والمُحدَّد للغة ليس خاصيةً يابانية، فقد كانت «جين أوستن» و«هنري جيمس» تستخدمان الأسلوب نفسه بنجاح كبير، وأنا بطبيعتي أكره الإسهاب والتطويل والتضخيم كما في مسرح الكابوكي وأفلام «كيروساوا» الملحمية. إنها أعمال يابانية حتى العَظم، وبعيدة عن الاقتصاد. وبالرغم من أن المؤسَّسة الثقافية الإنجليزية تعتبر «إيشيجورو» كاتبًا غير بريطاني، إلا أنه على خلاف الكُتَّاب الآخرين المهاجرين من الهند وبقية دول القارة الآسيوية؛ لا يجد لزامًا عليه أن يعكس اهتمامات التجمع الياباني في «لندن»، أو أن يُعبِّر عن قضاياه أو يخاطبه في أعماله.

«لا أعتقد أنني أشارك الكُتَّاب الآسيويين في بريطانيا هموم الهويَّة، وأذكر أنني عندما جئتُ إلى هنا كنتُ أنا الطفل الياباني الوحيد في المنطقة، ولم يكُن هناك مَن يسألني من أيِّ مجتمع أنت. وأنا حتى الآن لا أشعر بروابط مع المجتمع الياباني الذي يعيش هنا، فهو مجتمع عابر، يتكون من مجموعة من رجال الأعمال في شركات مُتعدِّدة الجنسية، يرسلون أبناءهم إلى مدارس يابانية ويأكلون في مطاعم يابانية، وأنا لا أفهم ثقافتهم، ولا أتكلم نفس اللغة، ولا أعيش حياتي بنفس أسلوبهم، ليس هناك ما يربطني بهم سوى أصلي، وأعيش هنا كما يعيش أيُّ روائي إنجليزي، وليس هناك أيُّ ضغوط سياسية تجعلني أفكر أن أكون متحدثًا رسميًّا باسم مجتمع أو جمهور مُعيَّن …»

طلعت الشايب
القاهرة، يوليو ٢٠٠٠م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤