مُقدِّمة: يوليو ١٩٥٦م
يبدو أنني سأقوم بالرحلة التي تشغل بالي منذ أيام. سأقوم بها وحدي مُستخدِمًا السيارة الفورد الفاخرة الخاصة ﺑ «مستر فراداي»، والتي ستحملني — كما أتوقَّع — عبر الريف الإنجليزي إلى المناطق الغربية، وتُبعدني عن «دارلنجتون هول» لمُدَّة خمسة أو ستة أسابيع.
لا بدَّ أن أقول إن فكرة هذه الرحلة كانت نتيجة اقتراح لطيف من «مستر فراداي» نفسه، عندما كنتُ أزيل الغبار عن بعض الصور في المكتبة، بعد ظُهر أحد الأيام منذ أسبوعَين تقريبًا.
كنتُ، على ما أذكر، واقفًا على درجة السُّلم العُليا، أنظف صورة «الفيكونت ويذربي» عندما دخل صاحب القصر حاملًا بعض المجلدات التي كان من المُفترض أن أعيدها إلى أماكنها على الأرفف. عندما رآني أمامه، وجدها فرصةً ليخبرني بأنه كان قد انتهى لتوِّه من برنامجه، حيث سيعود إلى الولايات المتحدة لمدَّة خمسة أسابيع بين شهرَي أغسطس وسبتمبر.
وبعد أن أعلن ذلك، وضع المجلدات على الطاولة وجلس على الأريكة وفرد ساقَيه. كان «مستر فراداي» يُحدِّق فيَّ وهو يقول: «تعرف يا ستيفنس … لا أتصوَّر أنك يمكن أن تظلَّ حبيس هذا القصر طيلة فترة غيابي. لماذا لا تأخذ سيارتي وتذهب إلى مكانٍ ما لبضعة أيام؟ يبدو أنك من النوع الذي يمكنه أن يفيد جيدًا من إجازة قصيرة …» ولأن الأمر كان مفاجأةً غير مُتوقَّعة، لم أعرف كيف أردُّ على اقتراح من هذا النوع، أذكر أنني شكرتُ له اهتمامه، ولكنْ يبدو أنني لم أقُل شيئًا محدَّدًا، لأنه واصل كلامه: «أنا جادٌّ يا ستيفنس. لا بدَّ أن تأخذ إجازةً وسوف أتحمَّل وقود السيارة. أمثالك يحبسون أنفسهم دائمًا في العمل في هذه القصور الكبيرة، متى إذَن يتسنَّى لكم الخروجُ لمشاهدة ريفكم الجميل؟»
لم تكُن تلك المرة الأولى التي يسأل فيها مُستخدمي مثل هذا السؤال، ويبدو أن الأمر كان يشغله بالفعل. في تلك المناسبة، دارت برأسي إجابةٌ رديئةٌ بينما أنا واقف على السُّلَّم، مفادها أن أمثالنا نحن العاملين بهذه المهنة قد «رأينا» الكثير وعرفنا الكثير عن إنجلترا، نتيجة وجودنا في مثل هذه القصور الكبيرة التي يتجمع فيها عِلية القوم. رأينا الكثير وعرفنا الكثير بالرغم من أننا لم نرَ بلادنا بمعنى التنزُّه في الريف وزيارة الأماكن الجميلة. وبالطبع، ما كان بإمكاني أن أُعبِّر عن ذلك للسيد «فراداي» دون أن يكون في كلامي قدْرٌ كبيرٌ من الجراءة، لذلك اكتفيتُ بالقول، وببساطة شديدة: «كان من المزايا التي أتاحها لي عملي أنني رأيتُ أفضل ما في إنجلترا بين هذه الجدران وعلى مرِّ السنوات.»
ويبدو أن السيد «فراداي» لم يفهم قولي؛ لأنه واصل حديثه: «أنا أقصد ذلك يا ستيفنس! من الخطأ ألَّا يخرج إنسانٌ ما؛ لكي يتعرف على بلاده. اعمَلْ بنصيحتي؛ اخرجْ من هذا القصر لبضعة أيام.»
وكما يمكن أن تتوقع، لم آخُذ اقتراح «مستر فراداي» بجدية في ذلك المساء، واعتبرتُه دليلًا آخر على جهل رجل أمريكي بما يحدث، أو بما لا يحدث، عادةً في إنجلترا.
والحقيقة أن موقفي من هذا الاقتراح نفسه، قد مرَّ بتطورات على مدى الأيام التالية، وبدأت فعلًا فكرة القيام برحلة إلى الريف الغربي تسيطر عليَّ، وذلك راجع بلا شك — ولماذا أخفي ذلك؟ — إلى وصول رسالة من «مس كنتون»، هي رسالتها الأولى منذ سبع سنوات، هذا باستثناء بطاقات الكريسماس بالطبع.
ولسوف أوضح فورًا ما أقصده. ما أريد أن أقوله هو أن رسالة «مس كنتون» أطلقَت برأسي العنان لعددٍ من الأفكار المُتعلِّقة بأمور مهنية هنا في «دارلنجتون هول»، ولا بدَّ أن أؤكد أيضًا على أن ذلك كان انشغالًا بالأمور المهنية ذاتها التي جعلَتني أعيد التفكير في الاقتراح الطيب ﻟ «مستر فراداي». ودعني أوضح المسألة أكثر من ذلك؛ على الأشهر القليلة الماضية، كنتُ سببًا في وقوع عدد من الأخطاء الصغيرة في تنفيذ واجباتي، ولا بدَّ أن أقول إن تلك الأخطاء كانت كلها، وبلا استثناء، تافهةً في حدِّ ذاتها، لكنني أعتقد أنك تدرك أن تلك الأخطاء بالنسبة لشخص لم يعتد الوقوع فيها، لا بدَّ أن تكون أمرًا مُزعجًا. وقد بدأتُ بالفعل البحث عن أسبابها، وكما يحدث غالبًا في مثل تلك المواقف كنتُ قد أصبحتُ عميًّا عن الأشياء البسيطة الواضحة، وأصبح تفكيري مُنصبًّا على الأشياء العميقة. مضمون رسالة «مس كنتون»، هو الذي فتح عيني أخيرًا على هذه الحقيقة البسيطة؛ الأخطاء التافهة التي حدثَت في الأشهر الأخيرة لم تكُن سوى نتيجة لخطة العمل في القصر. إنها بالطبع مسئولية أيِّ رئيس خدم أن يضع خطة عمل مُتقَنة لا تسمح بحدوث أيِّ خلل في الخدمة. ولكنْ في مرحلة وضع الخطة، مَن ذا الذي يمكنه أن يتوقع عدد المشاحنات أو الاتهامات الزائفة أو الاستغناءات، لكي تكون خُطةً شديدة الإتقان؟ ومع ذلك أنا أتفق في الرأي مع مَن يرون أن القدرة على وضع خُطة عمل جيدة، هي حجر الزاوية في مهارات رئيس الخدم الجيد. أنا شخصيًّا وضعتُ عِدَّة خُطط على مدار السنوات، وأستطيع أن أقول بكل فخر، إن القليل … القليل منها هو الذي كان في حاجة إلى تعديل. أمَّا إذا كانت الخطة الموجودة حاليًّا قاصرة، فالمسئولية لن تكون إلا عليَّ وحدي. وفي الوقت نفسه، من الإنصاف أن أقول إن مهامي في هذه الظروف كانت في غاية الصعوبة.
ما حدث هو الآتي: بمجرَّد أن تمَّت الصفقة؛ الصفقة التي انتقلَت بها ملكية هذا القصر من يد عائلة «دارلنجتون»، بعد قرنَين، أعلن «مستر فراداي» أنه لن يقيم هنا الآن، وأنه سيقضي أربعة أشهر في الولايات المتحدة لإنجاز بعض الأعمال. وفي نفس الوقت، كان حريصًا على الإبقاء على طاقم الخدمة الذي كان يعمل لدى المالك السابق، وهو فريق — سمع عنه كل خير — سيحتفظ به في «دارلنجتون هول». المجموعة التي تعمل هنا، والتي أشار إليها، مُكوَّنة من ستة أفراد لا أكثر، احتفظ بهم أقاربُ «لورد دارلنجتون» لرعاية شئون القصر أثناء الصفقة، وحتى الانتهاء من عملية البيع. ومن أسفٍ أنه بعد انتهاء عملية البيع، لم يكُن أمامي سوى القليل الذي يمكن أن أقوم به لكي أمنع كل العاملين من المغادرة لكي يعملوا في أماكن أخرى باستثناء «مسز كليمنتس».
وعندما كتبتُ لمستخدمي الجديد مُعبِّرًا عن أسفي لهذا الموقف، تلقيتُ منه ردًّا مع تعليمات بتوظيف مجموعة جديدة «جديرة ببيت إنجليزي عريق». شرعتُ على الفور في تنفيذ رغبة «مستر فراداي»، ولكن إيجاد مرشحين أكفاء وعلى مستوًى لائق، ليس أمرًا سهلًا هذه الأيام كما تعلم، وبالرغم من أنني كنتُ سعيدًا لتوظيف «روزماري» و«أجنس» عملًا بتوصية «مسز كليمنتس»، إلا أن ذلك كان هو كل ما فعلت، عندما حان أول لقاء عمل مع «مستر فراداي» أثناء زيارته الأولية القصيرة لشواطئنا في ربيع العام الماضي.
حدث ذلك في المكتبة في «دارلنجتون هول»، وكانت المكتبة خالية. كانت أول مرة يصافحني فيها «مستر فراداي»، كنَّا غرباء بصرف النظر عن موضوع العاملين الذين طلب تعيينهم، وكان مستخدمي الجديد يجد الفرصة في مناسبات مختلفة ليذكرني بصفات مُعيَّنة، كان من حُسن حظي أنني أمتلكها، ويرى أنها لا بدَّ أن تؤخذ بالاعتبار. ولذلك أعتقد أنه شعر على الفور بأنه يمكن أن يتحدث معي بطريقة عملية توحي بالثقة، وفي نهاية اللقاء ترك لي مبلغًا لا بأس به لمواجهة نفقات الترتيبات الكثيرة لمجيئه بعد ذلك بغرض الإقامة. على أيَّة حال، فإن ما أودُّ أن أقوله هو أنني في تلك المقابلة أثرتُ موضوع صعوبة تعيين مجموعة مناسبة من العاملين في هذه الظروف، لدرجة أن «مستر فراداي»، وبعد تفكير، طلب أن أبذل قُصارى جهدي لأضع خُطةَ عمل ﻟ «طاقم الخدمة»، كما قال، لكي يستمرَّ العمل في القصر بنفس الفريق المُكوَّن من أربعة أفراد أو مسز كليمنتس، والفتاتين، وأنا، وقال إن ذلك قد يتطلب إغلاق بعض أجزاء القصر وتغطيتها، وسألني إن كان بإمكاني أن أستخدم كل ما لديَّ من خبرة حتى أضمن أن تكون الخسارة عند أقلِّ حدٍّ ممكن. كانت فكرة وضع الخطط لطاقم مُكوَّن من أربعة أشخاص أمرًا مُروعًا، وبخاصة عندما أتذكر أنني أشرفتُ ذات يوم على فريق من ١٧ شخصًا، وأن فريقًا من ٢٨ شخصًا كان يعمل هنا، في «دارلنجتون هول»، منذ وقتٍ قريب.
بذلتُ جهدًا خارقًا لكي لا يبدوَ عليَّ الانزعاج، وبالرغم من ذلك لا بدَّ من أن يكون «مستر فراداي» قد أدرك حيرتي، لأنه قال، وكأنه يؤكد لي، إن بإمكاني تعيين شخص آخر إن دعَت الحاجة لذلك، إلا أنه سيكون شاكرًا، وكرَّر ذلك، إن استطعتُ تسيير العمل بأربعة أفراد.
والآن من الطبيعي أن أكون مثل معظمنا؛ متردِّدًا في تغيير الكثير من عاداتي القديمة، وفي الوقت نفسه، فإن التشبُّث بالقديم من أجل القديم، كما يفعل البعض، ليس فضيلةً بالمرة. في هذا العصر؛ عصر الكهرباء وأنظمة التدفئة الحديثة، ليس ثمة ما يدعو على الإطلاق لاستخدام ذلك العدد من الأفراد كما كان يحدث في الجيل الماضي. وكنتُ قد أصبحتُ مقتنعًا بأن الاحتفاظ بعمالة غير ضرورية لمجرَّد الحفاظ على التقاليد، هو أحد العوامل المهمَّة في انهيار المستوى المهني؛ لأن العاملين يصبح لديهم الكثير من الوقت الفائض، غير الصحي وغير الضروري. هذا بالطبع بالإضافة إلى أن «مستر فراداي» قد أوضح أنه يخطط لإحياء المناسبات القليلة والنادرة التي كانت تُقام في «دارلنجتون هول» في الماضي.
وهكذا رحتُ بكل تفانٍ، أنفِّذ المهمَّة التي أوكلها إليَّ «مستر فراداي»، فأمضيتُ عِدَّة ساعات في وضع خُطة عمل للطاقم الموجود، وأمضيتُ ساعاتٍ أخرى أراجعها وأنا أقوم بأعمال مختلفة، أو بعد الانتهاء من العمل. كنتُ كلما تصوَّرتُ أنني قد توصلتُ إلى شيء، أقلب الأمر على كل وجه، وأنظر إليه من جميع الزوايا. وفي النهاية خرجتُ بخُطة، ربما لا تكون الأفضل كما طلب «مستر فراداي» بالضبط، ولكنها كانت ممكنةً من الناحية الإنسانية كما أكد لي.
جميع الأجزاء الجذابة من القصر يمكن أن تظلَّ في حالة تشغيل؛ أماكن الخدم الواسعة، بما في ذلك الممر الخلفي، والغرفتان الخاصتان بالتقطير، والمغسلة القديمة، وممر صعود الضيوف إلى الطابق العلوي، كلها يمكن تغطيتُها لحمايتها من التراب، مع ترك غرف الدَّور الأرضي الرئيسية، وعدد كبير من غرف الضيوف.
وكما هو واضح فإن الفريق المُكوَّن من أربعة أفراد يمكن أن يُنفِّذ هذا البرنامج بمساعدة عمَّال يشتغلون باليوم. وهكذا فإن خطة العمل عندي سوف تستعين بخدمات بستاني يجيء مرةً في الأسبوع، ومرتَين في الصيف، وعاملي نظافة مرتَين في الأسبوع، أمَّا بالنسبة للأربعة الدائمين فإن جدول عملهم سيخضع لتغيرات جوهرية بالنسبة لأعمالهم المعتادة. وكما توقعتُ فإن الفتاتَين لن تجدَا ذلك التغيير صعبًا للتأقلم معه، وقد بذلتُ كل ما في وسعي بحيث لا تكون التعديلات صعبةً على «مسز كليمنتس»، كما تعهدتُ بأن أقوم بعدد من المهامِّ التي قد ترى أن رئيس الخدم الواسع الأفق فقط، هو الذي يستطيع القيام بها. وحتى الآن لا يمكن القولُ بأنها خُطة سيئة، حيث إنها تُمكِّن فريقًا من أربعة من تغطية مساحة غير مُتوقَّعة.
وبالرغم من ذلك، لا أشكُّ في أنك متفق معي على أن أفضل الخطط هي تلك التي تترك هامشًا احتياطيًّا للطوارئ؛ تحسُّبًا لمرض أحد العاملين فجأة، أو ضعف أداء عامل آخر لسببٍ ما غير مُتوقَّع. في مثل تلك الأحوال بالطبع، كان عليَّ أن أقوم بأعمال غير معتادة، إلى حدٍّ ما، مُدركًا أن أيَّ مقاومة من جانب «مسز كليمنتس»، أو الفتاتَين لتحملهن أعباء أكثر مما هو مطلوب منهن، لا بدَّ أن يكون سببها زيادة حجم العمل بالفعل.
لذا أثناء انشغالي بوضع الخطة، كنتُ حريصًا على ألَّا تجد «مسز كليمنتس»، ولا البنتان أنفسهن في حالة إرهاق نتيجة تقسيم العمل. وأنا أخشى، على أيَّة حال، أن أكون في قلقي لكسب تأييد «مسز كليمنتس» والبنتَين غير مُقدِّر بشكل دقيق أوجه قصور الخطة. وبالرغم من حذري المعتاد في مثل هذه الأمور فقد أغفلتُ مسألة أن أترك لنفسي هامشًا للحركة، ولم يكُن مفاجئًا إذَن أن يتبدَّى ذلك السهو على مدى عِدَّة أشهر، في شكل أخطاء صغيرة، ولكنها دالة في الوقت نفسه. وفي النهاية، أعتقد أن الأمر ليس أعقد من ذلك؛ فقد خصَّصتُ لنفسي أشياء كثيرة، وأكثر ممَّا ينبغي، لكي أقوم بها. وقد يدهشك أن يغيب عن تفكيري نقصٌ كهذا في وضع خُطة عمل، ولكنك ستوافق معي على أن تلك غالبًا هي طريقة سَير الأمور التي يوليها المرء تفكيرًا دائمًا على مدى فترة من الزمن، فالمرء لا يُواجَه بالحقيقة إلا عندما تجيء مصادفةً بسبب حدث خارجي.
هذا ما حدث مثلًا عندما وصلَتني رسالة «مس كنتون»، فبالإضافة إلى ما فيها، كانت تنطوي أيضًا على حنين واضح ﻟ «دارلنجتون هول»، وتلميح ملحوظ عن رغبتها في العودة إلى هنا، وهذا ما جعلني أعيد التفكير في خُطة العاملين من جديد.
حينذاك فقط، بدَا واضحًا لي أن هناك دَورًا يمكن أن يقوم به فرد آخر في الفريق، وكان ذلك بالفعل هو النقص الذي سبَّب كل المتاعب التي حدثَت مؤخرًا. وكلما أمعنتُ التفكير في ذلك، أكتشف أن «مس كنتون»، بما تكنُّه من حبٍّ كبير لهذا القصر العريق، وبما تتمتع به من خبرة نموذجية — وهذا أمر من الصعب أن تجده هذه الأيام — هي العامل المطلوب الذي يُمكِّنني من وضع خُطة عمل مُرضية ﻟ «دارلنجتون هول».
وبعد أن قمتُ بتحليل هذا الموقف، وجدتُ نفسي بسرعة أعيد النظر في العرض الذي قدَّمه لي «مستر فراداي» منذ أيام.
أدركتُ أن الرحلة المقترحة بالسيارة يمكن أن تكون مفيدةً من الناحية المهنية، أيْ إنني يمكن أن أذهب إلى المناطق الريفية الغريبة، وأمرَّ في طريقي على «مس كنتون»، وأقف مباشرةً على حقيقة رغبتها في العودة للعمل هنا في «دارلنجتون هول». ولا بدَّ أن أوضح أنني قمتُ بقراءة رسالة «مس كنتون» الأخيرة عِدَّة مرات، وليس هناك أدنى احتمال أن تكون تلميحاتُها بالرغبة في العودة محض خيال.
لذلك كله لم أتمكَّن، على مدى عِدَّة أيام، من إثارة الموضوع مع «مستر فراداي» مرة أخرى. كانت هناك جوانب كثيرة، رأيتُ من الضروري أن أستوضحها لنفسي قبل المُضي في ذلك؛ تكاليف الرحلة مثلًا، إذ بالرغم من العرض الكريم الذي قدَّمه إليَّ مستخدمي بتحمُّله ثمن الوقود، فإن رحلة كهذه لا بدَّ أن تتكلف كثيرًا، إذا وضعنا في الاعتبار الإقامة والطعام والوجبات السريعة في الطريق، ناهيك عن ثمن ملابس ملائمة إن كان الأمر يستحقُّ الإنفاق على مجموعة جديدة من الملابس. صحيحٌ أن لديَّ عددًا من الحلل الأنيقة التي تجمَّعَت بمرور السنوات عن طريق «لورد دارلنجتون» نفسه، وعن طريق ضيوف كثيرين نزلوا بهذا القصر وأعجبهم مستوى الخدمة هنا، لكنْ ربما قد يبدو معظم تلك الحلل رسميًّا جدًّا، أو قديمًا هذه الأيام. لديَّ بدلة حفلات أهداها إليَّ، في عام ١٩٣١م أو ۱۹۳۲م، «سير إدوارد بلير»، كانت جديدةً تمامًا في ذلك الوقت، وكان قياسُها مناسبًا، وهي قد تكون ملائمةً بالنسبة للأمسيات الرسمية في قاعات الاستقبال أو غرف الطعام في أيِّ نُزُل أقيم به. ما أحتاجه الآن هو الملابس التي تصلح للسفر، أيْ تلك التي يمكن أن أشاهَد بها وأنا أقود السيارة، إلا إذا ارتديتُ البذلة التي أعطاها لي «لورد تشارلمرز» أثناء الحرب، وبالرغم من أنها قد تبدو صغيرةً جدًّا عليَّ، إلا أنها يمكن أن تكون مناسبةً جدًّا.
وفي النهاية حسبتُ كل شيءٍ فوجدتُ أن مُدَّخَراتي يمكن أن تفي بالتكاليف وتُمكِّنني من شراء حُلَّة جديدة. أرجو ألَّا تعتبرني مغرورًا بسبب هذا الأمر الأخير. فالمرء لا يستطيع أن ينسى أنه ينتمي ﻟ «دارلنجتون هول» ولا بدَّ أن يكون دائمًا مرتديًا لثياب تناسب وضعه.
أثناء التفكير في ذلك أقلب صفحات أطلس الطرق وصفحات كتاب «مسز جان سيمونز»: «سحر إنجلترا». وإذا لم يكُن لديك فكرة عن كتب «مسز سيمونز» — وهي سلسلة من سبعة مجلدات — فأنا أوصيك بها، وبالرغم من أنها كُتِبَت في الثلاثينيات، إلا أن ما جاء بها يظلُّ حديثًا، وعلى أيَّة حال أنا لا أعتقد أن القنابل الألمانية قد غيَّرت ريفنا كثيرًا.
كانت «مسز سيمونز» في الحقيقة من الزائرين الدائمين لهذا القصر قبل الحرب، كما كانت هي الأكثر شهرةً بالنسبة للعاملين هنا، بسبب إعجابها الذي كانت تُبديه دائمًا. في تلك الأيام، وبسبب إعجابي بها أيضًا، أصبحتُ مُهتمًّا بكُتُبها كلما وجدتُ الفرصة لذلك، وأتذكر أنني بعد مغادرة «مس كنتون» إلى «كورنوول»، في عام ١٩٣٦م، وهو جزء من البلاد لم يحدث أن زرتُه من قبل، أتذكر أنني تصفَّحتُ الجزء الثالث من كتاب «مسز سيمونز»؛ ذلك الجزء الذي يصف للقارئ مباهج «ديفون» و«كورنوول» كاملةً وبالصور، بالإضافة إلى مجموعة من الاسكتشات التي رسمها فنانون لتلك الأماكن. هكذا أصبح لديَّ درجة من الإدراك والإحساس بنوعية وطبيعة المكان الذي ذهبَت إليه «مس كنتون» لتعيش حياتها الزوجية. ولكن ذلك، كما قلت، كان في الثلاثينيات، أيام كان هناك إعجاب شديد بكتب «مسز سيمونز» في مختلف القصور والبيوت العريقة في البلاد.
لم أكُن قد فتحتُ تلك الكتب من سنوات، إلى أن قادتني التطورات الأخيرة لأنْ أتناول من على رفِّ المكتبة مجلد «ديفون وكورنوول» مرةً أخرى. قرأتُ الوصف الرائع وتفحَّصتُ الصور البديعة، ولربما أدركتُ مدى تلهُّفي على فكرة القيام بتلك الرحلة بالسيارة حول ذلك الجزء نفسه من الريف. وفي آخر الأمر بدَا أن ليس هناك ما يجب عمله سوى إثارة الموضوع مرةً أخرى مع «مستر فراداي». بالطبع كان من المُحتمَل أن يكون اقتراح الأسبوعين الماضيين مجرَّد نزوة وليدة اللحظة، وأنه قد لا يوافق على الفكرة، أو ربما يكون قد صرف النظر عنها. ولكن من ملاحظتي للسيد «فراداي»، على مدى الأشهر الأخيرة، اكتشفتُ أنه ليس من ذلك النوع من الرجال أو أصحاب العمل المزعجين المتناقضين مع أنفسهم. لم يكُن هناك أيُّ سبب يجعلني أتوقَّع أنه سيكون أقلَّ حماسًا عن ذي قبل بشأن الرحلة المقترحة، أيْ إنه لن يُكرِّر عرضه بتحمُّل نفقات وقود السيارة، ولكنني فكرتُ جيدًا في اللحظة الأكثر مناسَبةً لإثارة الموضوع معه. وبالرغم من ثقتي في أنه لن يُغيِّر موقفه، إلا أنه كان من المهم جدًّا ألَّا أقترب من الموضوع وهو مشغول البال أو مُستغرق في أمر خاص. رفضه في مثل تلك الظروف لن يكون مُعبرًا عن مشاعره الحقيقية، ولكن تعليقه سيعني أنني لن أستطيع أن أتكلم فيه مرةً أخرى، كان من الواضح إذَن، بالنسبة لي، أن عليَّ اختيار اللحظة المناسبة بكل حكمة.
وفي النهاية وجدتُ أن أنسب لحظة في اليوم، هي أثناء تقديم شاي بعد الظهيرة في غرفة الاستقبال. في هذا الوقت، يكون «مستر فراداي» قد عاد لتوِّه من نزهته القصيرة في التلال، ولا يكون مستغرقًا في قراءة أو كتابة كما هو شأنه في المساء. الحقيقة أنني عندما آتيه بالشاي بعد الظهيرة، أجده يغلق الكتاب أو الجريدة التي في يده، ويقوم من مكانه ليتمطَّى أمام النافذة وكأنه يتوقَّع حديثًا معي.
وكما توقَّعتُ؛ يبدو أن اختياري للتوقيت كان صائبًا، أمَّا سَير الأمور في الاتجاه الذي سارت فيه فذلك راجعٌ لخطأ آخر في التقدير بالنسبة لأمر آخر، أقصد أنني لم أُراعِ جيدًا أن «مستر فراداي» لا يُفضِّل في هذا الوقت من اليوم سوى الأحاديث الفكهة الخفيفة. ولأنني كنتُ أعرف أن تلك طبيعته، وأعرف ميله العام لأنْ يمزح معي في مثل تلك الأوقات، لذلك عندما جئتُ بالشاي بعد ظهيرة الأمس وجدتُ أنه من الحكمة ألَّا أذكر اسم «مس كنتون» بالمرة. ولكنك ربما تفهم أنه كان هناك مَيل طبيعي من جانبي وأنا أطلب معروفًا، أن أُلمح إلى أن هناك دافعًا مِهْنيًّا وراء ذلك الطلب. ولذلك، وأنا أشرح له سبب تفضيلي لزيارة المناطق الريفية الغربية في رحلتي، أخطأتُ وصرحتُ بأن مُدبِّرة القصر السابقة تعيش في تلك المنطقة، ولم أذكر له التفاصيل الخلابة في كتاب «مسز سيمونز». أعتقد أنني كنتُ أريد أن أشرح ﻟ «مستر فراداي» إمكانية اكتشاف خيار قد يكون هو الحل الأمثل لمشكلاتنا الصغيرة الحالية في «دارلنجتون هول»، ولكني لم أدرك أن ذلك ليس مناسبًا إلا بعد أن ذكرتُ اسم «مس كنتون». لم أكُن متأكدًا من رغبة «مس كنتون» في العودة للعمل هنا، ليس هذا فقط، بل إنني لم أكُن قد ناقشتُ مع «مستر فراداي» موضوع الاستعانة بعاملين إضافيين منذ ذلك اللقاء الأول بيننا قبل أكثر من عام. الاستمرار في الإفصاح عن أفكاري بخصوص مستقبل «دارلنجتون هول» يمكن أن يكون وقاحةً على أقلِّ تقدير.
أعتقد أنني توقفتُ فجأة، وبدَا عليَّ الشعور بالحرج والارتباك. على أيَّة حال، انتهز «مستر فراداي» الفرصة وابتسم ابتسامةً عريضةً وهو يقول بتَرَوٍّ: «يا عزيزي ستيفنس … سيدة صديقة … وفي مثل هذا العمر؟!»
كان ذلك موقفًا مُحرجًا بالنسبة لي. موقف كان لا يمكن أن يضع «لورد دارلنجتون» أحد مُستخدِميه فيه أبدًا. في ذلك الوقت لم أقصد طبعًا أن أُلمح إلى شيء يمكن أن يُقلِّل من قيمة «مستر فراداي»، فهو بعد كل شيء رجل أمريكي وأسلوبه مختلف جدًّا. وليس هناك أيُّ احتمال أنه يقصد أيَّ ضرر، بَيْدَ أنك لا بدَّ مُدرِك كم كان الموقف مُزعجًا بالنسبة لي.
واصل «مستر فراداي» كلامه: «لم أتخيَّل أبدًا أنك زِيرُ نساءٍ يا «مستر ستيفنس»، هذا على ما أعتقد يحفظ شباب الروح، ولكنني حقيقةً لا أعرفُ إن كان من الصواب أن أساعدك على هذه اللقاءات الغرامية المُريبة!»
شعرتُ بالطبع بالرغبة في إنكار ذلك فورًا وبوضوح، ولكنني أدركتُ أنني لو فعلتُ ذلك، فسوف أقع في شَرَك «مستر فراداي» ليصبح الموقف أكثر حرجًا. وهكذا بقيتُ واقفًا أمامه مُنتظرًا أن يسمح لي بالقيام بتلك الرحلة بسيارته.
وبالرغم من شعوري بالحرج في تلك اللحظات، إلا أنني لا أريد أن أبدوَ وكأنني ألوم «السيد فراداي»، فالمؤكد أنه شخصٌ طيِّبٌ، ولكنه كان يستمتع بذلك النوع من المزاح الذي يعتبرونه في الولايات المتحدة ضربًا من التفاهم الودِّي بين صاحب العمل ومُستخدِميه، ونوعًا من التسلية! ما أريد أن أقوله هو أن ذلك النوع من المزاح من جانب مخدومي الجديد، كان هو الذي يُميِّز علاقتنا على مدى تلك الأشهر، على أنني لا بدَّ من أن أعترف بأنني لا أستطيع أن أُحدِّد درجة استجابتي لذلك. مرةً أو مرتَين في الأيام الأولى من عملي لديه، فاجأني بأشياء يقولها دون توقُّع. سألته مرةً إن كان الضيف الذي ننتظره قد يكون مصحوبًا بزوجته فقال سيادته: «فليكُن الله في عوننا إن جاءت معه! ربما استطعتَ يا «مستر ستيفنس» أن تُبعدها عنَّا، ربما أمكنك أن تأخذها إلى أحد تلك الإسطبلات حول مزرعة مستر «مورجان». استضفها هناك على القش، ربما كانت من النوع المناسب لك.»
وقفتُ مذهولًا، لحظةً أو لحظتَين، لا أعرف عمَّ يتحدث، ثم أدركتُ بعد ذلك أنه كان نوعًا من المزاح الذي يحب، وحاولتُ أن أبتسم بالرغم من بقاء الحيرة أو آثار الصدمة على وجهي. في الأيام التالية تعلَّمتُ ألَّا أدهش لمثل تلك التلميحات والتعليقات من سيادته، وأن أبتسم على النحو الصحيح كلما اكتشفتُ رنة المزاح في صوته. وبالرغم من ذلك لم أكُن متأكدًا بالضبط من المطلوب مني أن أفعله في مثل تلك الأحوال. ربما كان يتوقَّع أن أضحك من كل قلبي، أو أن أبادله تلميحاتٍ وتعليقاتٍ من نفس النوع، وهذا الاحتمال الأخير هو الذي أقلقني على مدى الأشهر الماضية، وهو الأمر الذي لم أتمكَّن من حسمه إلى الآن. ربما كانوا في «أمريكا» يعتقدون أن قدرة الموظف على تبادل المزاح، ميزة ودليل كفاءة. والواقع أنني أتذكر «مستر سمبسون»، صاحب فندق «بلومانز آرمز»، الذي كان يقول إنه لو كان ساقيًا أمريكيًّا في حانة، لَمَا تحدَّث معنا بذلك الأسلوب المهذب. كان سيمطرنا بملاحظاته الحادة عن مباذلنا وأخطائنا ويسبُّنا وينادينا بالسكارى، وذلك لكي يؤدِّيَ الدَّور الذي يتوقعه منه زبائنه. وأتذكر أيضًا «مستر راينيس» الذي سافر إلى أمريكا خادمًا خاصًّا ﻟ «مستر رينالد موفيز» الذي كان يقول لنا إن سائق التاكسي في «نيويورك» يخاطب الركاب بطريقة، لو حدثَت في لندن، لأدَّت إلى مشاجرة، هذا إذا لم تؤدِّ إلى اقتياد ذلك الشخص كالضفدعة إلى أقرب مخفر للشرطة. مُحتمَل جدًّا، إذَن، أن يكون مخدومي ينتظر مني استجابةً لمزاحه بطريقة مماثلة، وربما اعتبر فشلي في ذلك نوعًا من الإهمال. لا بدَّ أن أقول إن ذلك جعلني قَلِقًا، ومع ذلك لستُ متحمسًا لهذا النوع من المزاح.
في هذا الزمن المتقلب يمكن أن يُكيِّف المرء منَّا عمله ليقوم بأشياء ليست من صميم وظيفته، ولكن المزاح شيء آخر تمامًا، مثلًا كيف يضمن المرء أن يكون مزاحه هو المُتوقَّع بالفعل؟ لا بدَّ أن يتوقع المرء كارثةً لكي يقتنع بعدم جدوى ذلك. إلا أنني استجمعتُ شجاعتي ذات مرة منذ وقت قريب، وحاولتُ أن أردَّ بشيء مناسب. كنتُ أُقدِّم قهوة الصباح ﻟ «مستر فراداي» في غرفة الإفطار عندما قال: «لا أعتقد يا «مستر ستيفنس» أنكَ كنتَ مصدر تلك الضوضاء الشبيهة بنعيق الغربان هذا الصباح.»
فهمتُ أنه كان يشير إلى اثنين من الغجر كانَا يسيران هذا الصباح في الشارع، يجمعان الحديد الخردة ويناديان بطريقتهم المعتادة. في ذلك الصباح نفسه كنتُ أعيد التفكير في المأزق الذي أنا فيه؛ هل عليَّ أن أستجيب لمزاح مخدومي أم لا؟ وكنت أفكر؛ ماذا سيكون رأيه إن لم يجدني معه على نفس الموجة في مزاحه! فكرتُ في إجابة ذكية، عبارة ليست مزعجةً لا تثير غضبه إذا فشلت في تقدير الموقف. بعد لحظة أو لحظتَين قلت: «ربما كانت أقرب إلى صوت السنونو منها إلى نعيق الغرباء يا سيدي … هذا لو أخذنا بالاعتبار الطيور المهاجرة!» قلتُ ذلك وتبعتُه بابتسامة هادئة، مناسبة، لكي أبيِّن دون لبس أنني قد قلتُ نُكتةً أو دعابة. لم أكُن أريد أن يكبح «مستر فراداي» أيَّ مزاح تلقائي قد يريده، بسبب أيِّ شبهة عدم احترام. فما كان من سيادته إلا أن نظر إليَّ وهو يقول: «عفوًا يا مستر ستيفنس … ماذا قلت؟» وبالطبع، أدركتُ حينذاك فقط أن دعابتي لن تصل، ولن تجد تذوقًا بسهولة من شخص لا يدرك أن الذين كانوا يمرُّون بالشارع جماعةٌ من الغجر. لم أعرف كيف يمكن مواصلة الاستجابة لمزاحه، واكتشفتُ أنه قد يكون من الأفضل أن أكفَّ عن ذلك، مُدَّعيًا أنني تذكرتُ فجأةً شيئًا لا بدَّ أن أفعله على وجه السرعة، فاستأذنتُه، وتركتُه مشدوهًا مرتبكًا.
كانت تلك إذَن بدايةً غير مُشجِّعة لما يمكن أن يكون واجبًا جديدًا عليَّ أن أؤدِّيَه، بداية غير مُشجِّعة لدرجة تجعلني أعترف بأنني لم أحاول الاستمرار أبعد من ذلك في هذا المجال.
وفي الوقت نفسه لا يمكنني التخلصُ من الشعور بأن «مستر فراداي» لم يكُن راضيًا عن استجابتي لمزاحه، أمَّا مثابرته الأخيرة فربما كانت من ضمن أسلوبه الخاص لكي يحثَّني على مبادلته نفس الروح. والحقيقة أنني منذ تلك المزحة الأولى عن الغجر، لم أستطع أن أفكر في غيرها بسرعة.
مصاعبُ كهذه يمكن أن تشغل المرء هذه الأيام، حيث لم تعد وسيلة لتبادل الرأي والحوار مع زملاء محترفين، كما كان الأمر منذ زمن قريب. عندما كان الواحد منَّا يواجه مشكلاتٍ في العمل، كان يجد الفرصة دائمًا ليناقشها مع زملاء مع من ذوي الرؤى الصائبة، الذين كانوا يحضرون مع مخدوميهم إلى هذا القصر.
وفي أيام «لورد دارلنجتون»، عندما كان كبار الزائرين يجيئون إلى هذا القصر، كان من الطبيعي أن ينموَ التفاهم بيننا نحن العاملين هنا، وبين زملائنا الذين يجيئون معهم. في تلك الأيام الحافلة كان قاعة الخدم عندنا تشهد تجمُّعات أفضل المحترفين في إنجلترا، الذين كانوا يتسامرون حول المدفأة حتى الهزيع الأخير من الليل. ودعني أقول لك إنك لو كنتَ قد جئتَ إلى قاعة الخدم في واحدة من تلك الأمسيات، لكان من الممكن أن تستمع إلى سِجال عن أهمِّ القضايا التي تشغل بال مخدومينا، أو عن أشياء مُهمَّة تظهر في الصحف، وكنت ستستمع إلى محترفين مثلنا يناقشون مختلف جوانب المهنة. لم تكُن ثرثرةً فارغةً أبدًا. كانت هناك بطبيعة الحال خلافاتٌ بيننا ولكن الجو بشكل عام كان يسوده الاحترام المتبادَل.
ولربما استطعتُ أن أعطيَك فكرةً أفضل عن تلك الأمسيات، لو قلت إن الزائرين الدائمين كان من بينهم شخصيات مثل «مستر جراهام هاري» رئيس الخدم في بلاط «سير جيمس»، و«مستر جون دونالدز» الخادم الخاص ﺑ «مستر سيدني دكنسون». وربما كان هناك أيضًا مَن هُم أقلُّ منهم تميزًا، ولكن حضورهم الحيوي كان كفيلًا بأن يجعل أيَّ زيارةٍ زيارةً مُهمَّة. على سبيل المثال كان يأتي مثلًا «مستر ولكنسون» الخادم الخاص ﻟ «مستر جون كامبل» بقدرته على تقليد المشاهير، ومستر «ديفيدسون» من قصر «إيسترلي» بحماسه الذي يصل أحيانًا لدرجة الإزعاج عند مناقشة أيَّة مسألة، وفي الوقت نفسه تعاطفه مع الجميع في ظروف أخرى، و«مستر هيرمان» خادم «مستر جون هنري بيترز» الذي لا يصبر أحدٌ على الاستماع لآرائه المتطرفة، وبالرغم من ذلك لا يمكن أن تكرهه؛ وذلك بسبب ضحكته التي تجعل جسده كله يهتز، وافتتانه ﺑ «يوركشير» الذي لا يخفيه.
في تلك الأيام كان يسود جوٌّ من الصداقة الحميمة بين أبناء مهنتنا؛ مهما كانت الاختلافات في أساليب العمل. كنَّا كلنا من قماشة واحدة إن جاز التعبير. الأمر اليوم مختلف؛ فلو حدث مثلًا في مناسبة نادرة أن اصطحب أحدُ الضيوف الكبار خادمَه معه إلى هنا، فإنه يبدو مثل الغريب الذي ليس لديه ما يقوله عن أيِّ شيء غير اتحاد الكرة، ومنهم مَن لا يُحبِّذ قضاء المساء بجوار المدفأة في قاعة الخدم ويفضل الذهاب إلى الفنادق القريبة من أجل الشراب، وقد ذكرتُ لك منذ قليل اسم مستر «جراهام» الخادم الخاص في بلاط «سير جيمس».
منذ شهرَين تقريبًا سعدتُ بمعرفة أن «سيرجيمس» كان سيأتي لزيارة «قصر دارلنجتون هول». كنتُ أنتظر تلك الزيارة بفارغ الصبر، وذلك ليس لأن الزائرين منذ أيام «لورد دارلنجتون» قد أصبحوا نادرين، فدائرة «مستر فراداي» مختلفة عن دائرة فخامته، وإنما لأنني توقعتُ أن يأتي «مستر جراهام» بصحبة «سير جيمس»، ويمكن أن أعرف رأيه في مسألة المزاح تلك. ولكنها كانت مفاجأةً سيئةً لي، وخيبة أمل كبيرة أن أكتشف قبل الزيارة بيوم واحد أن «سير جيمس» كان سيأتي بمفرده. وفوق ذلك علمتُ أثناء الزيارة أن «مستر جراهام» قد ترك خدمة «سير جيمس»، وأن الأخير لم يعد لديه موظفون يعملون بشكل دائم. وددتُ أن أعرف ما حدث ﻟ «مستر جراهام»، وبالرغم من عدم وجود معرفة بيننا إلا أننا كنَّا نشعر بأننا منسجمَين معًا عندما تجمعنا الظروف. للأسف لم تُتَح لي فرصة لمعرفة ما حدث له، ولا بدَّ أن أقول إن أملي قد خاب، فقد كنتُ أودُّ أن أناقش معه مسألة المزاح.
على أيَّة حالٍ دعني أعود إلى الخيط الأصلي؛ كنتُ مضطرًّا كما قلتُ لأن أقضيَ بعض دقائق غير مريحة، وأنا واقفٌ بعد ظهيرة الأمس في غرفة الاستقبال. بينما كان «مستر فراداي» مستمرًّا في مزاحه. كان ردِّي كالعادة هو الابتسام، وكان ذلك يكفي على أيَّة حال للدلالة على أنني كنتُ أشارك على نحوٍ ما بنفس الروح المرحة التي كان يتحدث بها، وانتظرتُ لأرى إن كان مخدومي سيأذَن لي بالقيام بالرحلة أم لا.
وكما توقعت، لم يتأخر إذنُه طويلًا، بل إنه كان كريمًا وتذكَّر عرضه السابق بتحمُّل ثمن الوقود.
لذا لم يكُن هناك سببٌ يجعلني لا أقوم بهذه الرحلة إلى الريف الغربي، وكان لا بدَّ إذَن من أن أكتب إلى «مس كنتون» لكي أخبرها بأنني سأمرُّ عليها، كما كان يجب أن أفكر في موضوع الملابس.
كانت هناك أمور أخرى تتعلق بالعمل في القصر لا بدَّ من اتخاذ قرار بشأنها، ولكن أهم شيء هو أنه لم يكُن هناك أيُّ سبب جوهري يمنعني من القيام بهذه الرحلة.