اليوم الأول – مساءً

«ساليسبري»

ها أنا ذا أجد نفسي هنا هذه الليلة، هنا في أحد بيوت الضيافة في «ساليسبري». انقضى اليوم الأول من رحلتي، وأقول إنني بشكل عام راضٍ تمامًا. بدأت الرحلة هذا الصباح متأخرةً ساعةً عمَّا قدَّرت، بالرغم من أنني كنتُ قد انتهيتُ من حزم متاعي ووضعتُ كل احتياجاتي الضرورية بالسيارة قبل الساعة الثامنة. وحيث إن «مسز كليمنتس» والفتاتَين كُنَّ قد خرجن أيضًا لقضاء عُطلة نهاية الأسبوع، فقد كنتُ أشعر بأنني بمجرَّد رحيلي، سيصبح قصر «دارلنجتون» خاليًا لأول مرة في هذا القرن، وربما منذ تشييده. كان ذلك شعورًا غريبًا، وربما يُفسِّر سبب تأخري في المغادرة لأنني رحتُ أجول في أرجاء القصر عِدَّة مرات، لكي أتأكد للمرة الأخيرة من أن كل شيء كان في مكانه. من الصعب بالفعل أن أصف مشاعري عندما بدأت رحلتي.

وأنا أقود السيارة في العشرين دقيقةً الأولى لم أكُن أشعر بأيِّ إثارة، ولم أكُن أتوقَّع شيئًا مُعيَّنًا. وكان سبب ذلك بالتأكيد هو أنني كنتُ أجد نفسي في محيط ليس لديَّ إلمام به كلما حملَتني السيارة بعيدًا. لم أسافر قبل ذلك كثيرًا؛ لأنني كنتُ مُقيَّدًا بمسئولياتي، في القصر، ولكن هذا لا يمنع من القول بأنني مع الوقت قمتُ برحلات قصيرة لسبب مِهْني أو لآخر. وأنا أواصل قيادة السيارة باتجاه ضوء الشمس نحو حدود «بركشاير»، كانت المناظر الريفية تبدو مألوفةً لي شيئًا فشيئًا، ولكن هذه الألفة تبدَّدَت في النهاية فأدركتُ أنني قد تخطيتُ كل الحدود السابقة. كنتُ قد استمعتُ قبل ذلك إلى بعض الذين يصفون لحظة بدء الإبحار على سفينة عندما يختفي منظر اليابسة من أمامهم. وأعتقد أن تجربة القلق الممزوج بالبهجة والانتعاش، في مثل تلك اللحظات، كانت مشابهةً لمشاعري في السيارة الفورد، والأشياء من حولي تبدو غريبةً غير مألوفة. حدث ذلك بمجرَّد أن انعطفتُ بالسيارة لأجد نفسي في طريق ملتفة حول حافة الجبل. كنتُ أستشعر وجود مُنحَدَر عميق عن يساري بالرغم من عدم رؤيتي له بسبب الأشجار الصغيرة والنباتات التي تغطي جانب الطريق. انتابني شعور بأنني تركتُ قصر «دارلنجتون» ورائي، ولا بدَّ من أن أعترف بأنني انزعجتُ بعض الشيء، ثم ازداد هذا الشعور عمقًا لتصوُّري أنني لستُ على الطريق الصحيحة، وأنني مُسرع في الاتجاه الخطأ نحو مناطق برية. كان ذلك شعورًا لحظيًّا، ولكنه جعلني أهدِّئ من سرعتي، وحتى عندما تأكد لي أنها الطريق الصحيحة، كنتُ مُضطرًّا لإيقاف السيارة لكي أعيد تقييم الموقف.

قررتُ النزول من السيارة والسَّير على قدميَّ لمسافة قصيرة، وعندما فعلتُ ذلك صار لديَّ شعورٌ أشدُّ من ذي قبل بأنني جائم فوق جانب التل.

على أحد جانبي الطريق أدغالٌ وشجيراتٌ على أرض شديدة الانحدار، بينما أستطيع أن أرى، من الجانب الآخر، الريف البعيد من خلال ورق الشجر الكثيف.

ويبدو أنني سرتُ بعض الوقت بحذاء جانب الطريق وأنا أدقِّق النظر من خلال ورق الشجر والعشب أحاول أن أرى جيدًا، عندما سمعت صوتًا خلفي. كنتُ حتى تلك اللحظة أعتقد بأنني هنا بمفردي فاستدرتُ مدهوشًا. على مسافة قريبة، وفي الجانب العكسي الصاعد من الطريق، رأيتُ ممرَّ مُشاة يتجه صعودًا ويختفي بين الأدغال. وعلى صخرة كبيرة في تلك البقعة رأيتُ شخصًا ناحلًا أشيب الشعر يضع على رأسه قُبعةً من القماش ويدخن الغليون. ناداني، وبالرغم من أنني لم أتبيَّن كلماته جيدًا، أبصرتُه يومئ لي لكي أذهب إليه. تردَّدتُ لحظة، تصوَّرتُه أحد المُتشردين، ولكنني أدركتُ أنه ليس سوى أحد سكان المنطقة يستمتع بالهواء المنعش وشمس الصيف، ولم أجد سببًا يمنعني من الاستجابة لدعوته. كان يقول وأنا أقترب منه: أتساءل فقط يا سيدي عن لياقة ساقَيك!

«عفوًا! ماذا قلت؟»

أشار الرجل نحو الممرِّ وقال: «لا بدَّ من أن تكون ساقاك قويتَين ورئتاك جيدتَين لكي تصعد إلى هناك، ولأنني لستُ هكذا، تجدني جالسًا هنا، ولو أن حالي أفضل لكنتُ هناك. المكان هناك جميل، يوجَد مقعد، وكل شيء … لن تجد منظرًا أجمل من ذلك في إنجلترا كلها.»

قلت: «إن كان ما تقوله صحيحًا، يصبح من الأفضل إذَن أن أبقى هنا. لقد قمتُ برحلة بالسيارة أتمنَّى أن أرى أثناءها مناظرَ كثيرةً جميلة. فإذا كان أجمل المناظر قد جاء قبل أن أبدأ رحلتي، فذلك شيء يجيء قبل أوانه.» ويبدو أن الرجل لم يفهمني؛ لأنه أجابني قائلًا: «لن ترى منظرًا أجمل من ذلك في إنجلترا كلها، ولكنني أقول لك لا بدَّ من أن تكون لك ساقان قويتان ورئتان جيدتان.» ثم أضاف: «تبدو في حالة جيدة بالنسبة لعمرك يا سيدي، وأظنُّك يمكن أن تصعد دون متاعب … أقصد أنك يمكن أن تقضيَ هناك يومًا طيِّبًا.»

نظرتُ بسرعة إلى الممرِّ الذي كان يبدو صاعدًا ووعرًا.

«أقولها لك يا سيدي؛ ستندم إن لم تصعد إلى هناك. ولا أحد يعرف! ربما بعد عامَين يكون الوقتُ قد مضى.»

ثم ضحك بخشونة: «من الأفضل أن تصعد وأنت قادرٌ على ذلك … اصعد قبل فوات الأوان!»

يبدو لي الآن أن الرجل كان يحاول الاستظراف، أو لعله كان يمزح! وربما كان ذلك هو الذي دفعني لأن أُثبت له أن غمزه كان ساذجًا، ولذا صعدتُ إلى الممر. على أيَّة حالٍ أنا سعيد لأنني فعلتُ ذلك. كانت مسيرةً شاقةً بالتأكيد، بالرغم من أنها لم تُسبِّب لي أيَّة متاعب حقيقية، فقد كان الممرُّ يصعد متعرِّجًا مسافة مائة ياردة تقريبًا. بعد ذلك وجدتُ نفسي في بقعة صغيرة خالية، من المؤكد أنها كانت تلك المنطقة التي يقصدها الرجل. وجدتُ أمامي مقعدًا، والمنظر بالفعل جميل جدًّا من هنا؛ حيث يبدو الريف ممتدًّا على مرمى البصر من جميع الجهات.

رأيتُ أمامي حقلًا وراء حقل، والأرض تصعد وتهبط بنعومة وانسياب، والمساحات المزروعة مسيجة بالأشجار والأعشاب. على البُعد أرى أجسامًا صغيرةً يبدو أنها أغنام، وعلى يميني أرى في الأفق ما يشبه برج كنيسة مربعًا. كان شعورًا جميلًا في الواقع أن يكون المرء هنا وسط بشائر الصيف، والنسيم العليل يداعب وجهه. وأعتقد أنني حينذاك، وأنا أشاهد هذا المنظر الساحر، بدأتُ أستحضر الحالة الذهنية المناسبة للرحلة التي تنتظرني، شعرت بأول موجة من التوقعات الصحيحة والجيدة للتجارب الجديدة المثيرة والكثيرة، التي أعرف أن الأيام الماضية كانت تحملها لي. حينذاك أيضًا شعرتُ بتحرُّر جديد من الخوف من أيِّ شيءٍ ما يتعلق بالواجب المِهْني الذي ألزمتُ نفسي به أثناء هذه الرحلة، أقصد … يتعلق ﺑ «مس كنتون» وبمشكلة طاقم العاملين الحاليَّة.

هذا ما كان في الصباح، أمَّا في المساء فها أنا ذا مستقر في بيت الضيافة المريح، وفي شارع لا يبعُد كثيرًا عن وسط «ساليسبري»، مكان متواضع ولكنه نظيف ويفي بكل احتياجاتي. صاحبته سيدة في الأربعين تقريبًا، ويبدو أنها تظنُّني نزيلًا مُهمًّا بسبب سيارة «مستر فراداي» والبدلة الفاخرة التي أرتديها.

بعد ظهيرة هذا اليوم وصلتُ إلى «ساليسبري»، في الثالثة والنصف تقريبًا، عندما سجلتُ لديها أن عنواني الدائم هو «قصر دارلنجتون» رأيتها تنظر إليَّ مذعورة، يبدو أنها تصوَّرَتني شخصًا اعتاد النزول في أماكن مثل «ريتز» أو «دورشستر»، وأنني سوف أغادر هذا النُّزل الصغير بمجرَّد أن أرى غرفتي. أبلغتني أن هناك غرفةً مزدوجةً تُطلُّ على الواجهة، وأنها تحت أمري وبسعر الغرفة المفردة.

واصطحبَتني إلى الغرفة التي كان يغمرها ضوء الشمس في ذلك الوقت من النهار، ويلمع فوق ورق الحائط المزركش بالزهور. سريران صغيران ونافذتان متوسطتَا الحجم تُطلان على الشارع. سألتُ عن الحمام، فقالت صاحبة البيت إنه أمام باب غرفتي مباشرةً، إلا أنه لن يكون هناك ماء ساخن قبل العشاء. طلبتُ أن تُحضر لي إبريقًا من الشاي، وبعد أن انصرفَت رحتُ أستكشف الغرفة.

الأَسرَّة نظيفةٌ جدًّا ومُرتَّبة، وحوض الغسيل الموجود في الركن نظيفٌ جدًّا. نظرتُ من النافذة فرأيتُ في الجانب المقابل من الشارع مَخبزًا يعرض مجموعةً من الفطائر، وصيدليةً، ومحلَّ حلاقة. وعلى مسافةٍ ما حيث يمتدُّ الشارع، يبدو جسر مُقنطر، ومنطقة أكثر ريفية. غسلتُ وجهي ويديَّ بالماء البارد على الحوض، وجلستُ على كرسي خشبي بالقرب من النافذتَين في انتظار الشاي.

أعتقد أننا كنَّا بعد الرابعة بقليل عندما تركتُ بيت الضيافة وخرجتُ إلى شوارع «ساليسبري». الطبيعة المُنعشة والجوُّ المفتوح هنا في المدينة يعطيك إحساسًا بالاتساع، والشعور بالحرية، وكنتُ أجد متعةً في قضاء الساعات سائرًا في ضوء الشمس الدافئ. وإلى جانب اكتشاف أنها مدينة جميلة وساحرة، كنتُ أجد نفسي أكثر من مرة أمام صفوف رائعة من المنازل القديمة ذات الواجهات الخشبية، أو أعبر جسرًا حجريًّا صغيرًا فوق إحدى القنوات التي تنساب في المدينة. ولم أغفل عن زيارة الكاتدرائية الرائعة التي امتدحَتها كثيرًا «مس سيمونز» في كتابها. كان من الصعب أن أحدِّد مكان ذلك البناء الرهيب الذي كان يظهر برجُه الكبير لي أينما جُلتُ في «ساليسبري». والحقيقة أنني وأنا أشقُّ طريقي عائدًا إلى بيت الضيافة هذا المساء، كنتُ أكرِّر النظر خلفي، وفي كل مرة كنتُ أرى الشمس وهي تغطس وراء ذلك البرج المهيب.

إلا أنني هذه الليلة، وفي هدوء هذه الغرفة، أجد أن ما تبقَّى معي من اليوم الأول في هذه الرحلة، ليس كاتدرائية «ساليسبري»، ولا أي منظر جميل آخر من مناظر المدينة، ما تبقَّى معي هو ذلك المنظر البديع، منظر الريف الإنجليزي الممتد، الذي طالعني هذا الصباح. والآن أصبحتُ مُستعدًّا لأنْ أصدِّق أن بلادًا أخرى يمكن أن تُقدِّم مناظرَ جميلةً أخرى. كنتُ قد شاهدتُ في الموسوعات، وفي مجلة «ناشنال جيوجرافيك»، صورًا أخَّاذةً لأماكن من أربعة أركان المعمورة، رأيت صورًا بديعةً لوديان وشلالات وجبال. لم يحالفني الحظ لكي أراها رأي العين، إلا أنني بالرغم من ذلك أستطيع أن أقول وبثقة إن الريف الإنجليزي بجماله مثل الذي رأيتُ هذا الصباح، ينفرد بصفات لا تتوفر في أيِّ مناظر طبيعية أخرى في أيِّ مكان من العالم. وهي في رأيي صفة تميِّز الطبيعة الإنجليزية في نظر أيِّ مُراقب موضوعي، صفة تلخِّصها كلمة «العظمة». لأنني — وبحقٍّ — عندما وقفتُ على تلك الربوة هذا الصباح، ونظرتُ إلى الأرض المنبسطة أمامي، انتابني ذلك الشعور النادر الذي لا يخطئ، شعورٌ بأن المرء في حضرة العظمة. نحن نُسمي بلادنا هذه بريطانيا العظمى، وربما كان هناك مَن يظنُّ أن ذلك مبالغة وعدم تواضع، إلا أنني سأقول بكل جرأة إن المنظر الطبيعي في ريفنا يُبرِّر وحده استخدام هذه الصفة الشامخة. لكنْ ما هي تلك العظمة بالضبط؟ وفيمَ توجَد؟ أثق بأن إجابة هذا السؤال تحتاج إلى عقل أكثر حكمةً من عقلي، ولكنني إذا اضطررتُ للكلام أقول إنها وجود المشهدية الواضحة، أو الدراما التي تعطى جمال أرضنا ميزةً وتفرُّدًا. وهناك شيء آخر وثيق الصلة بالموضوع؛ وهو هدوء ذلك الجمال وتحفُّظه. كأن الأرض تعرف جمالها الخاص، وتشعر بعظمتها الخاصة، ولا تجد حاجةً لأنْ تُظهرها. ولو قارنَّا مناظرنا بمناظر أخرى في أماكن من أفريقيا وأمريكا — وهي لا شكَّ مثيرة أيضًا — فإن المُشاهد أو المُراقب الموضوعي سيجد الأماكن الأخرى أقلَّ قيمةً ومستوًى، وذلك بسبب وضوحها الفجِّ والمباشر. كان ذلك له صلة بموضوع أثار جدلًا كبيرًا في مهنتنا على سنوات.

ما هو رئيس الخدم «العظيم»؟ أتذكر أننا كنَّا نجلس حول المدفأة في قاعة الخدم ونحن نتناقش حول ذلك بالساعات في نهاية يوم العمل.

لاحظ أنني أقول «ما هو» وليس «مَن هو» رئيس الخدم العظيم؛ إذ لم يكُن هناك في واقع الأمر جدل كبير حول هُويَّة الرجال الذين وضعوا تلك المقاييس في جيلنا. أقصد أشخاصًا مثل «مستر مارشال» من قصر «تشارل فيل» أو «مستر لين» من «برايدوود». لو كان الحظ قد أسعدك والتقيتَ بأمثال أولئك الرجال لعرفتَ ما يتمتعون به من صفات، وهي تلك التي أقصدها، ولكنك بلا شكٍّ سوف تفهم قصدي لو أنني قلت: إنه ليس من السهل أبدًا تحديد تلك الصفات بالضبط.

وحيث إنني أفكر في هذا الموضوع الآن، لا بدَّ من أن أقول: إنه كان هناك أحيانًا اختلاف بسيط حول تعريف رئيس الخدم «العظيم» بين مَن يعرفون تلك الأمور. وبالطبع فإن قاعة الخدم في «قصر دارلنجتون»، مثل أيِّ قاعة خدم في أيِّ مكان آخر، كانت تستقبل خدمًا وعاملين من مستويات مختلفة في الذكاء والإدراك، وأتذكر كيف كنتُ أعضُّ شفتي مرارًا عندما كان أحد الذين يعملون تحت إشرافي — ويؤسفني أن أقول ذلك — يمتدح بإعجاب شديد رؤساء خدم مثل «مستر جاك نيبرز» مثلا. أنا لا أحمل أيَّ ضغينة ﻟ «مستر جاك نيبرز»، الذي يؤسفني أنه مات في الحرب، ولكنني أذكره هنا لأنه حالة نموذجية. على مدى عامَين أو ثلاثة في منتصف الثلاثينيات، كان اسم «مستر نيبرز» يسيطر على المناقشات في قاعات الخدم في البلاد. وأقول إن كثيرًا من العاملين الزائرين بقاعة «دارلنجتون» كانوا يجيئون بأحدث حكايات «مستر نيبرز» لدرجة أنني وأمثال «مستر جراهام» كان علينا أن نشارك في تجربة الاستماع المُحبِطة للنوادر التي تُروى عنه. والأكثر إحباطًا هو أننا كان علينا أن نرى الخدم يهزُّون رءوسهم بعد كل رواية عنه وهم يقولون: «نعم! «مستر نيبرز» هو الأفضل!»

أنا الآن ليس لديَّ شكٌّ في أن «مستر نيبرز» كان يمتلك مهاراتٍ تنظيميةً جيدة. فقد قام فعلًا بتنظيم عدد من المناسبات وأدارها بأسلوب رائع، ولكنه لم يرقَ أبدًا، في أيِّ مرحلة، إلى وضعية رئيس الخدم العظيم. كان يمكن أن أقول ذلك، وهو في أوْج شهرته، كما كنتُ أيضًا أتوقَّع سقوطه بعد سنوات قليلة. لقد سمعتُ كثيرًا أسماء رؤساء خدم يجري ذكرهم كأعظم أبناء جيلهم، ثم يتضح بعد سنوات قليلة أنهم لا شيء من ذلك بالمرة. المستخدمون أنفسهم الذين كالوا لهم المديح، ينشغلون بمديح آخرين، الأمر الذي يجعلك تتوقف مُتسائلًا عن قدرة أولئك على إصدار الأحكام. موضوع هذا النوع من الحديث في قاعات الخدم، هو دائمًا رئيسُ خدمٍ ما، يكون قد برز في القيام بتنظيم مناسبتَين أو ثلاث في قصرٍ أو بيتٍ عريق. بعد ذلك سرعان ما تبدأ الثرثرة في قاعات الخدم في أنحاء البلاد عن الشخصيات المُهمَّة التي تحاول الاقتراب منه، والقصور والفنادق التي تتنافس عليه بأجر مرتفع. ولكنْ ماذا حدث قبل سنوات قليلة؟ هذا الشخص القوي نفسه ربما كان مسئولًا عن خطأ فادح، وربما يكون قد فقد عطف ورضَا مخدوميه، فيترك المكان الذي حقَّق فيه شهرته، ويدخل عالم النسيان، فلا يسمع أحدٌ عنه شيئًا بعد ذلك.

وفي الوقت نفسه يكون هُواة الثرثرة قد وجدوا قادمًا جديدًا يتحمسون له. لقد اكتشفتُ أن مساعدي الخدم هم دائمًا الأسوأ والأكثر عدوانيةً بتطلعهم المتسرع لمنصب «رئيس خدم»، يُصمِّمون على أن هذا الشخص أو ذاك هو الجدير بالمحاكاة، أو يُردِّدون دون وعي ما يقوله شخص مُهم عن الأمور المِهْنية. على أنني لا بدَّ أن أضيف أن هناك مُساعدين كثيرين لا يفكرون في الانسياق خلف تلك الحماقات، وأنهم محترفون على مستوًى جيِّد. وعندما كان يجتمع شخصان أو ثلاثة في قاعة الخدم عندنا — وأقصد أشخاصًا من حجم «مستر جراهام» الذي فقدتُ صلتي به بكل أسف — كان يدور بينهم نقاش ذكي ومثير حول كل جوانب المهنة. إن تلك الأمسيات من أفضل ما بقي لديَّ من ذكريات عن تلك الأيام.

لكنْ دعني أعود للموضوع الأصلي المُهم؛ ذلك الموضوع الذي كنَّا نجد متعةً كبيرةً في مناقشته عندما لا يكون هناك أحدٌ من هُواة الثرثرة الذين لا يُقدِّرون المهنة حقَّ قدْرها، أقصد موضوع «ما هو رئيس الخدم العظيم؟»

على قدرْ ما لديَّ من معلومات، وبالرغم من كل الكلام الذي دار على مدى السنوات، لم يكُن هناك سوى محاولات قليلة داخل المهنة لوضع إجابة رسمية. والبادرة التي تحضُرني في هذا المجال هي محاولة «جمعية هايز» وضع معايير للعضوية. ربما لا يكون لديك فكرة عن «جمعية هايز» هذه؛ لأن قِلَّة هي التي تتكلم عنها هذه الأيام، لكن تلك الجمعية كان لها نفوذ كبير في العشرينيات والثلاثينيات في «لندن» وفي كثير من المناطق، والحقيقة أن كثيرين كانوا يشعرون أن نفوذها قد اتسع أكثر من اللازم، ولذلك لم يعتبروا إغلاق أبوابها أمرًا سيئًا، حدث ذلك على ما أظنُّ في عام ١٩٣٢م أو ١٩٣٣م.

«جمعية هايز» كانت تزعم أنها لا تقبل سوى رؤساء الخدم من المرتبة الأولى، أمَّا معظم الهيبة والقوة التي كانت لها فكانت بسبب كونها على خلاف كثير من الهيئات التي نشأت وانتهَت، استطاعت أن تقصر عضويتها على عددٍ قليل، ممَّا أعطى ذلك الزعم قدْرًا من المصداقية. يقال إن عدد الأعضاء لم يَزِد في أيِّ وقت عن ثلاثين، بل إنه كان في معظم الأحيان حوالي تسعة أو عشرة. هذا إلى جانب أن ظهورها بمظهر السرية أعطاها كثيرًا من الغموض لفترة، ممَّا يؤكد على أن الآراء التي كانت تصدُر عنها من وقت لآخر، والخاصة بالأمور المِهْنية، كانت تُستقبَل كأنها وصايا منحوتة على ألواح من الحجر.

ولكن أحد الأمور التي قاومت الجمعية البتَّ فيها لبعض الوقت، كان معيار العضوية، بَيدَ أن الضغوط عليها تزايدَت لكي تعلن موقفها، واستجابةً لسلسلة من الرسائل في إحدى الصحف اعترفَت الجمعية بأن أحد شروط العضوية هو أن يكون المُتقدِّم لها يعمل في قصرٍ أو بيتٍ عريق، وأضافت «رغم أن ذلك فقط لا يكفي للوفاء بالشروط»، ثم أوضحوا أن الجمعية لا تعتبر قصور رجال الأعمال، أو الأغنياء الجدد مُحدَثي الثروة، من البيوت العريقة المحترمة، وأنا أرى أن هذا الضرب من التفكير، والذي عفَا عليه الزمن، قد قلَّل من قيمة أيِّ سُلطة جادة يمكن أن تقوم بها الجمعية للتحكيم بشأن مستويات المهنة. واستجابةً لرسائل أخرى من إحدى المجلات، برَّرَت الجمعية موقفها قائلةً إنها في الوقت الذي تقبل فيه آراء بعض المراسلين بأن قصور رجال الأعمال تضمُّ أحيانًا رؤساء خدم من النوعية الممتازة، فإن الافتراض كان يجب أن يكون أن البيوت العريقة يجب ألَّا تُحجِم طويلًا عن طلب خدمات أمثال أولئك الأشخاص. وقالت الجمعية: «إن المرء لا بدَّ من أن يسترشد بأحكام عِليَة القوم من السيدات والسادة، وإلا فإننا قد نتبع أساليب روسيا البلشفية.»

وقد أثار ذلك جدلًا طويلًا، وتواصل تدفُّق الرسائل مُطالِبةً الجمعية بإعلان شروطها الكاملة للعضوية. وفي النهاية أعلنَت الجمعية أن أهمَّ الشروط التي يجب توفرُها في المُتقدِّم لعضويتها — وأنا أحاول هنا أن أتذكر بدقة — هو أن يكون لديه شعور تام بالكرامة لأنه يعمل في هذه المهنة، وبدون ذلك الشعور فإنه لن يكون مُستوفيًا للشروط مهما كان إنجازُه.

وبالرغم من عدم حماسي لجمعية «هايز» إلا أنني أعتقد أن هذا الإعلان تحديدًا كان يعتمد، على الأقلِّ، على حقيقة مُهمَّة. فنحن إذا نظرنا إلى أولئك الأفراد الذين نتفق على أنهم رؤساء خدم «عِظام»، وإذا نظرنا مثلًا إلى «مستر مارشال» أو «مستر لين» لَوجدنا أن ما يُميِّزهما عن الآخرين الذين لا يملكون سوى الكفاءة، هو أن «مستر مارشال» و«مستر لين» لديهما ذلك الشيء المطلوب؛ «الكرامة».

وهذا بالتأكيد يستدعي سؤالًا آخر: ممَّ تتكون هذه الكرامة؟ كانت هي النقطة التي نتجادل حولها كثيرًا، أنا و«مستر جراهام». كان من رأيه دائمًا أن الكرامة شيءٌ يشبه جمال المرأة، ولذا فإن تحليله لا يُجدي. أمَّا أنا فكان من رأيي أن تلك المقارنة تُقلِّل من شأن كرامة أمثال «مستر مارشال». بالإضافة إلى أن اعتراضي الرئيسي على تشبيه «مستر مارشال» هو أن تلك الكرامة شيء قد يمتلكه الفرد أو لا يمتلكه نتيجة مصادفة من الطبيعة، وإذا كان الفرد لا يمتلكها فإن السعي وراءها يكون بلا طائل، مثل المرأة التي تحاول أن تجعل نفسها جميلةً بينما هي ليست كذلك.

والآن إذا كنتُ أقبل القول بأن معظم رؤساء الخدم قد يكتشفون في النهاية أنهم يستطيعون ذلك، إلا أنني أعتقد جازمًا أن تلك الكرامة شيءٌ يمكن أن يسعى المرء جاهدًا لاكتسابه من خلال عمله. أولئك الكبار الذين يتمتعون بها مثل «مستر مارشال»، أنا واثق من أنهم قد حقَّقوها عن طريق التدريب الذاتي على مدى السنين، ومن التجربة والخبرة المُكتسَبة. وأرى أن قبول موقف مثل موقف «مستر جراهام» يُعتبَر هزيمةً من المنظور المِهْني. على أيَّة حال، بالرغم من كل تشكك «مستر جراهام»، وأستطيع أن أتذكر كم كنَّا نقضي معًا الأمسيات الطويلة ونحن نحاول أن نضع أصابعنا على دستور تلك الكرامة. لم نصل إلى شيء محدَّد، ولكنني أستطيع أن أقول إنني من جانبي قد كوَّنتُ بعض الأفكار الثابتة الخاصة بي في هذا الشأن أثناء تلك المناقشات، وإن تلك الأفكار ما زالت هي التي أؤمن بها إلى اليوم، وأودُّ هنا أن أقول ما هي تلك «الكرامة» كما أعتقد.

أظنُّك لن تختلف معي إذا كنتُ أعتبر «مستر مارشال» من قصر «شارل فيل»، و«مستر لين» من قصر «برايدوود»، أعظم رؤساء الخدم في الفترة الأخيرة. وربما تعتبر «مستر هندرسن» من فندق «برانبري كاسل» من العظماء أيضًا. وقد تعتبرني منحازًا إن قلتُ إن أبي شخصيًّا يمكن أن يكون على نفس المستوى في كثير من الأمور، وإن عمله كان هو الشيء الذي كنتُ أتأمله دائمًا من أجل تحديد معنى «الكرامة». وأعتقد جازمًا أن أبي عندما كان في أوْج عطائه في «لاقنبراو هاوس» كان هو التجسيد الحي لتلك الكرامة. وأنا مُدرك أن المرء إذا نظر إلى الأمر بموضوعية فلا بدَّ من أن يعترف بأن أبي أيضًا كانت تنقصه صفات مميزة عديدة من التي قد يتوقَّعها المرء من رئيس خدم جيد عادةً. صفات تُضفي جاذبيةً على الشخصية مثل الحلوى والألوان التي نُزيِّن بها وجه الكعكة، ولكنها، على أيَّة حال، ليست شيئًا جوهريًّا.

أقصد أشياءَ مثل اللكنة السليمة وإجادة اللغة وبعض المعلومات العامة حول بعض الموضوعات مثل الصيد بالصقور … أشياء لم يكُن أبي ليُفاخر بها. بالإضافة إلى ذلك يجب التذكر أن أبي كان رئيس خدم من جيلٍ أقدم، بدأ المهنة عندما كانت تلك الصفات لا تُعتبر ملائمة، ناهيكَ عن أن تكون مطلوبةً في رئيس للخدم. ويبدو أن الهوس بالفصاحة والمعلومات العامة أشياء جديدة ظهرَت مع جيلنا، وربما بعد «مستر مارشال»، عندما بدأ أناسٌ أقلُّ منه مستوًى يحاولون تقليده، فاهتموا بالسطحي على حساب الجوهري. وفي رأيي أن جيلنا كان مشغولًا جدًّا، وأكثر من اللازم بالشكليات، ويعلم الله مقدار ما ضاع من جهد في التدريب على اللكنة وإتقان اللغة، وكم أنفقنا من وقت في دراسة الموسوعات ودوائر المعارف وكتب «اختبر معلوماتك»، بينما كان يجب أن نهتمَّ بإجادة الأشياء الأساسية.

ورغم أننا لا ينبغي أن نحاول إنكار المسئولية التي تقع علينا بالكامل، إلا أنه لا بدَّ من أن نقول إن هناك عددًا من العاملين الذين فعلوا الكثير لتشجيع تلك التوجهات. من أسفٍ أنني أقول ذلك، ولكنْ يبدو أن هناك عددًا من البيوتات العريقة والقصور، وبعضًا من أكثرها عراقة، جنح في الوقت الراهن إلى التنافس مع الآخرين، ومحاولة التباهي أمام الضيوف بإظهار تفوُّق رؤساء الخدم في تلك الأمور التافهة. فقد سمعتُ أكثر من مرة عن رئيس خدم كانوا يُقدِّمونه على هيئة قرد يقوم بوظيفته في إحدى الحفلات في فندقٍ ما. وقد شاهدتُ بنفسي حالةً مؤسفةً في فندقٍ آخر عندما كانوا يدقون الجرس لرئيس الخدم ويوجهون إليه أسئلةً عشوائيةً مثل: مَن الذي فاز بالسباق في «دربي» في عام كذا أو كذا، كما يفعل المرء مع جهاز الذاكرة في قاعة الموسيقى. أمَّا والدي فقد جاء — والحمد لله — من جيل مُتحرِّر من مثل هذه الارتباكات والتخبُّطات في قِيَمنا المِهْنيَّة. وأستطيع القول إنه بالرغم من عدم إجادته للغة الإنجليزية، وبرغم معلوماته العامة المحدودة، إلا أنه كان يعرف كل شيء عن إدارة القصر، بل إنه في شبابه استطاع أن يُحقِّق تلك «الكرامة التي تتفق مع منصبه» كما وصفَتها جمعية «هايز». وإذا حاولتُ أن أصف لك ما جعله متميزًا، فسيكون ذلك تعبيرًا عن فهمي لمعنى تلك «الكرامة».

كان أبي مغرمًا بترديد قصة على مرِّ السنين، وقد سمعتُه يرويها للضيوف وأنا طفل، وفيما بعدُ عندما بدأتُ عملي خادمًا تحت إشرافه. وأتذكر أنني سمعتُه يُكرِّرها عندما رجعتُ لزيارته أول مرة بعد أن شغلتُ وظيفة رئيس الخدم. كان يرويها ﻟ «مستر ومسز ماجردج» في بيتهما المتواضع في «أول شوت-أوكسفورد شاير». وواضحٌ أن القصة كانت تعني الكثير بالنسبة له. لم يكُن جيل والدي معتادًا على المناقشة والتحليل مثل جيلنا، وأعتقد أن روايته لتلك القصة وتكرارها دليل على أنه كان يفكر دائمًا في المهنة التي مارسها. هي إذَن تُقدِّم مفتاحًا مُهمًّا لتفكيره. ويبدو أنها كانت قصةً حقيقيةً عن رئيس خدم سافر مع مخدومه إلى الهند ليعمل هناك، واستطاع على مدى عِدَّة سنوات أن يحافظ على نفس المستوى الذي كان له في إنجلترا. وبعد ظهيرة أحد الأيام دخل رئيس الخدم هذا إلى غرفة الطعام لكي يتأكد أن كل شيء كان على أكمل وجه لتقديم العشاء، وهنا لاحظ أن هناك نمرًا يتطلع إليه متأودًا من تحت طاولة الطعام. ترك رئيس الخدم الغرفة مسرعًا، لم ينسَ أن يغلق الباب وراءه، وتَقدَّم بهدوء إلى غرفة الاستقبال حيث كان مخدومه يتناول الشاي مع ضيوفه، ثم لفت انتباه مخدومه بسعلة خفيفة وهمس في أذنه: «آسفٌ يا سيدي، لكنْ هناك نمرٌ في غرفة الطعام. هل تسمح لي باستخدام البندقية؟»

وكما تقول الحكاية؛ بعد دقائق قليلة سمع الرجل وضيوفه ثلاث طلقات. وعندما ظهر رئيس الخدم بعد ذلك في غرفة الطعام لكي يُجدِّد أباريق الشاي، سأله مخدومه إن كان كل شيء على ما يُرام، وكانت إجابة رئيس الخدم: «كل شيء على ما يُرام، شكرًا يا سيدي، والعشاء سوف يتقدم في موعده، كما يسرُّني أن أقول إنه لن يكون هناك أيُّ أثر لما حدث».

كان والدي يُكرِّر العبارة الأخيرة «لن يكون هناك أيُّ أثر لما حدث»، ويهزُّ رأسه في إعجاب. لم يدَّعِ أنه كان يعرف اسم رئيس الخدم ذاك، ولا كان أحدٌ يعرفه، ولكنه كان يجزم بأن الحدث وقع كما يرويه بالضبط.

على أيَّة حالٍ ليس مُهمًّا جدًّا أن تكون القصة حقيقية، ولكن المُهم بالطبع هو ما تكشفه القصة عن مثل والدي؛ وذلك لأنني عندما أنظر إلى أدائه في عمله أستطيع أن أدرك أنه لا بدَّ من أن يكون قد حاول على مدى سنوات عمله أن يصبح إلى حدٍّ ما رئيس الخدم. ذلك الذي تحكي عنه القصة. وأنا أعتقد أنه استطاع أن يُحقِّق ذلك الطموح، وهو في أوْج نجاحه. وبالرغم من أنني متأكد من أنه لم يحدث أن واجه نمرًا تحت الطاولة، إلا أنني عندما أفكر في كل ما أعرف وما سمعتُ عنه، أجد أمثلةً كثيرةً أظهر فيها تلك الصفة التي كانت محلَّ إعجابه في قصة رئيس الخدم التي كان يرويها. مثالٌ من تلك الأمثلة رواه لي شخصٌ يُدعى «سير ديفيد تشارلز» من شركة «تشارلز وريدنج»، كان ينزل في «قصر دارلنجتون» من وقتٍ لآخر على أيام «لورد دارلنجتون». حدث ذلك في المساء وكنتُ أقوم على خدمته. قال «مستر تشارلز» إنه كان قد التقى بوالدي قبل سنوات عندما نزل في «لاقنبراو هاوس»، قصر مستر «جون سلفرز»، رجل الصناعة، حيث عمل والدي هناك لمدة ١٥ عامًا وهو في أوْج سنوات خدمته. وكما يقول فإنه لم ينسَ والدي أبدًا بسبب حادث وقع أثناء تلك الزيارة.

بعد ظهيرة أحد الأيام كان «مستر تشارلز»، للأسف الشديد، قد أفرط في الشراب لدرجة السُّكْر البيِّن في صُحبة زائرين، سأدعوهما ﺑ «مستر سميث» و«مستر جونز»، حيث ما زال الناس يذكرونهما في بعض الأوساط. بعد ساعة أو أكثر من مواصلة الشراب، قال السيدان المُرافقان إنهما كانا يريدان الخروج في نزهة مسائية بالسيارة في القُرى المجاورة، وكانت السيارة في مثل هذا الوقت شيئًا جديدًا وأقنعَا «مستر تشارلز» بأن يصحبهما، ولأن السائق كان في إجازة آنذاك، فقد عهدوا لأبي بقيادة السيارة.

وبمجرَّد انطلاقهم بدأ «مستر سميث» و«مستر جونز» يتصرفان مثل تلاميذ المدارس بالرغم من أنهما كانَا في منتصف العمر، راحَا يُغنيان أغنياتٍ بذيئة، ويُعلقان بعباراتٍ أكثر بذاءةً على كل ما يقع عليه بصرهما من النافذة. نظر السيدان إلى الخريطة فوجدَا ثلاث قُرًى محلية في المنطقة المحيطة، وهي «مورفي» و«سالاتش» و«بريجون». لست متأكدًا الآن من الأسماء، ولكن المُهم أن أسماء القُرى ذكرت السيدين «سميث» و«جونز» بمسرحية «ميرفي وسالتمان والقطة بريجيد» التي ربما تكون قد سمعتَ بها. وعندما لاحظَا تلك المصادفة الغربية، انتابَتهما رغبةٌ في زيارة تلك القرى تكريمًا لفناني الموسيقى كما قالَا. وكما يحكي مستر «تشارلز»؛ فإن والدي وصل بالسيارة إلى إحدى القُرى، وكان على وشك أن يدخل القرية الثانية عندما لاحظ «مستر سميث»، أو لعله «مستر جونز»، أنها كانت «بريجون»، أي القرية الثالثة وليست الثانية حسب التتابع. طلبَا من والدي بغضبٍ أن يعود بالسيارة فورًا ليتمكَّنا من زيارة القُرى حسب الترتيب الصحيح المُبيَّن على الخريطة. وكان ذلك يعني الرجوع مسافةً طويلةً مضاعفة، ويؤكد «مستر تشارلز» أن أبي قَبِل الطلب وكأنه شيء معقول، واستمرَّ في تعامله معهما وتصرُّفه بأدبٍ واضح.

ولكن تركيز مستر «سميث» ومستر «جونز» تحوَّل الآن إلى والدي. ولأنهما كانَا يشعران بالضجر من المناظر التي يرونها في الطريق، راحا يُسليان نفسَيهما بإبداء ملاحظات وتعليقات سخيفة وبصوتٍ عالٍ عن «الخطأ» الذي ارتكبه والدي. ويتذكر مستر «تشارلز» كيف كان إعجابه بوالدي الذي لم يبدُ عليه الضِّيق أو الغضب، وأنه كان يواصل قيادة السيارة وهو يوازن بين الكرامة الشخصية والانصياع لهما. على أيَّة حالٍ لم تستمرَّ رباطة جأش والدي، لأنهما عندما تعبَا من صبِّ الإهانات وهما جالسان وراءه، بدآ يتكلمان عن مضيفهما، أيْ «مستر جون سيلفرز» مخدوم والدي. التعليقات تمادت في وقاحتها وغلظتها لدرجة أن «مستر تشارلز»، كما يزعم على الأقل، اضطرَّ للتدخُّل قائلًا إن حديثًا من ذلك النوع كان رديئًا ومُزعجًا. وقد عارض الرجلان هذا الرأي بشدة لدرجة أن «مستر تشارلز» الذي لم يهتمَّ به بعد ذلك، كان يخشى من اعتداءٍ جسديٍّ يقع عليه. ولكن والدي، فجأةً، وبعد غمز شديد ضدَّ مخدومه، أوقف السيارة، ولا يستطيع أن ينسى مستر «تشارلز» ما حدث بعد ذلك. باب السيارة الخلفي المفتوح، ووالدي يقف وراءها ببضع خطوات يُحدِّق فيها بتركيز. وكما يصف مستر «تشارلز»، فقد كان الرجال الثلاثة مأخوذين تمامًا لقوة والدي الجسمانية البادية عليه.

كان رجلًا طويل القامة؛ حوالي ستة أقدام وثلاث بوصات، وملامحه رغم أنها مطمئنة حينما تعلم أنه مطبوع على الطاعة، إلا أنها قد تبدو وعرةً عندما تراها في إطار آخر. وطبقًا لرواية «مستر تشارلز» فإن والدي لم يقُل شيئًا ولم يبدُ أيُّ غضب.

ولكن التأهب الذي بدَا عليه جعل رفيقَي «مستر تشارلز» السكرانَين يتراجعان إلى الخلف وينكمشان كولَدَين أمسك بهما فلاحٌ متلبِّسَين بسرقة التفاح من حقله.

تقدَّم والدي قليلًا ليقف أمامهما لحظاتٍ لا يقول شيئًا، مُمسكًا بباب السيارة المفتوح. وأخيرًا قال «مستر سميث»، أو لعله «مستر جونز»: «ألن نكمل الرحلة؟»

لم يرُدَّ والدي، ظلَّ واقفًا في صمت، لم يطلب منهما النزول من السيارة، لم تصدُر منه أيَّة علامة تُعبِّر عن نيَّة أو قصد. يمكنني أن أتخيَّل كيف كان يبدو في ذلك اليوم وهو واقف وباب السيارة حوله مثل الإطار حول الصورة، وهيئته السمراء الفارعة تسدُّ عليهم المنظر الطبيعي لمنطقة «هيرت فورد شاير» من خلفه. كانت تلك لحظاتٍ مُثيرةً كما يتذكر «مستر تشارلز». وبالرغم من أنه لم يشاركهما السلوك الذي أدَّى إلى ذلك، إلا أنه كان يشعر بالذنب.

وساد صمتٌ قبل أن يستطيع أيٌّ من «مستر سميث» أو «مستر جونز» أن يجد في نفسه القدرة على القول مُتلعثمًا: «يبدو أننا تكلمنا على نحوٍ غير لائق إلى حدٍّ ما … لن يحدث ذلك مرةً أخرى.»

وبعد لحظة تفكير أغلق والدي السيارة برفق وعاد إلى عجلة القيادة ليواصل الجولة في القُرى الثلاث؛ الجولة التي أكد لي مستر «تشارلز» أنها تمَّت بعد ذلك في صمت كامل تقريبًا.

والآن بعد تذكُّري ذلك الحدث، يحضُرني حدثٌ آخر في عمل والدي، يعود إلى الفترة نفسها تقريبًا، ولعله يوضح بشكل أكثر جلاءً تلك الخاصية التي كانت تُميِّزه.

وهنا لا بدَّ من أن أشير إلى أنني أحد شقيقَين، وأن شقيقي الأكبر «ليونارد» قُتل في الحرب في جنوب أفريقيا، وكنتُ حينذاك صبيًّا. كان من الطبيعي أن يشعر والدي بفقده، ولكن ما يجعل الأمور أكثر سوءًا من العزاء الذي قد يجده الأب في مثل تلك المواقف، وهي فكرةُ أنه قد بذل حياته بشرف في سبيل الملك والوطن؛ كون أخي قد هلك في مناورة شائنة. وليس فقط لأن المناورة كانت هجومًا غير بريطاني على بعض مستوطنات «البوير»، وإنما لظهور دلائل قاطعة على أنها تمَّت بلا مسئولية، ومع قدْر كبير من الاستهانة بالتدابير العسكرية الأولية تجعل مَن ماتوا — ومن بينهم أخي — يموتون ميتةً مجانيةً لا مُبرِّر لها.

وعلى ضوء ما أنا بصدد روايته، فلن يكون من اللائق بالنسبة لي أن أحدِّد تلك المناورة بدقة أكثر من ذلك، رغم أنك تستطيع أن تُخمِّن جيدًا ما أقصده لو قلتُ إنها أثارت قدْرًا من اللغط في حينها، وهو الأمر الذي أضاف الكثير إلى الجدل حول الموضوع. فقد تعالت الأصوات المطالبة بإقالة «الجنرال» المسئول، بل وتقديمه لمحاكمة عسكرية، ولكن الجيش دافع عنه وسمح له بمواصلة الحملة. أمَّا غير المعروف على نحوٍ كافٍ فهو أن ذلك «الجنرال» قد تقاعد في تكتُّم وسِريَّة بالقرب من نهاية الصراع في جنوب أفريقيا، واشتغل بتجارة الشحن من هناك. وأنا أقول ذلك لأنه بعد عشر سنوات من الصراع، أو بمعنًى أدقَّ بعد أن التأمَت جراحُ فَقْد الابن، ولو سطحيًّا، تمَّ استدعاءُ والدي إلى مكتب «مستر جون سيلفرز»؛ ليُبلغه بأن ذلك الشخص نفسه — وسأدعوه بالجنرال — كان سيصل في زيارة لحضور حفل في القصر، وأن مخدوم والدي يتطلع إلى وضع أُسُس صفقة تجارية مربحة معه.

كان «مستر سيلفرز» يفكر في مغزى تلك الزيارة بالنسبة لوالدي، ولذا استدعاه ليعرض عليه أن يقوم بإجازة عِدَّة أيام أثناء وجود «الجنرال» في القصر.

كانت مشاعر والدي تجاه «الجنرال» — بالطبع — كلها نفور، بَيْدَ أنه كان يدرك أن الطموحات التجارية لمخدومه تتوقَّف على الإدارة السَّلِسَة للحفل، ولن يكون ذلك أمرًا سهلًا في مناسبة يحضُرها قرابة ثمانية عشر شخصًا. وكان ردُّ والدي هو أنه في الوقت الذي يشعر فيه بالامتنان لمراعاة شعوره، إلا أن «مستر سيلفرز» لا بدَّ من أن يطمئنَّ تمامًا، ويثق بأن الخدمة سوف تتمُّ على المستوى المعهود دائمًا.

والذي حدث هو أن محنة والدي أصبحَت أصعب ممَّا كان مُتوقَّعًا. أحد الأسباب هو أن آماله تبدَّدَت في أن تُثير مقابلة «الجنرال» أيَّ احترام أو تعاطف. كان «الجنرال» رجلًا بدينًا قبيحًا سُوقيًّا في سلوكه، أسلوبه في الكلام صادم للذَّوق، يصف كل شيء بتشبيهات عسكرية. والأسوأ من ذلك أن الأخبار جاءت لتقول إنه قادم بدون خادمه الخاص لأنه كان مريضًا. وكانت تلك مشكلةً صعبةً لأن أحد الضيوف الآخرين كان أيضًا بدون خادمه. ولأن والدي كان يُقدِّر موقف مخدومه، فقد تطوَّع في الحال ليكون في خدمة «الجنرال»، وهكذا كان مُضطرًّا للتعامل مع الرجل الذي يكرهه لمدة أربعة أيام. وفي الوقت نفسه فإن «الجنرال» الذي لم يكُن يعرف شيئًا عن مشاعر والدي تجاهه، وجدها فرصةً سانحةً ليحكي له عن إنجازاته العسكرية كغيره من القادة العسكريين الذين يميلون للكلام مع خَدَمهم في غرفهم الخاصة. لكن والدي نجح في إخفاء مشاعره، وقام بواجبه بكفاءة عالية، لدرجة أن «الجنرال» شكر «مستر جون سيلفرز» على تميُّز رئيس الخدم الذي يعمل لديه، وترك له بقشيشًا كبيرًا، وقد طلب والدي من مخدومه دون تردُّد أن يتبرع به للمؤسَّسات الخيرية.

بعد هاتين الحادثتَين اللتين رويتهما عن عمل والدي، وكلاهما مُوثَّق ومنقول بكل دقة، أعتقد أنك ستوافق معي على أن والدي لا يُمثِّل الكرامة فقط كما تصِفُها جمعية «هايز»، وإنما هو أيضًا تجسيدٌ حيٌّ لكل ذلك. وإذا قارن شخصٌ ما بين سلوك والدي في هاتين المناسَبتَين، وبين واحد مثل «مستر جاك نيبورز»، بالرغم من كل تأنقه الفني، فأغلب الظنِّ أنه سيقف على الفَرق بين رئيس الخدم العظيم، ورئيس الخدم الكُفء ليس إلا. والآن ربما نكون قد فهمنا على نحوٍ أفضلَ سِرَّ غرام أبي بقصة رئيس الخدم الذي لم يهتزَّ عندما اكتشف وجود نمر تحت طاولة العشاء؛ ذلك لأنه كان يعرف بالغريزة أن في موضعٍ ما في تلك القصة يوجد الجوهر الحقيقي لمعنى «الكرامة».

والآن دعني أفترض الآتي؛ الكرامة أمر وثيق الصلة بقدرة رئيس الخدم على عدم التخلي عن كيانه المِهْني الذي يسكنه. رؤساء الخدم الأقل شأنًا سيتخلَّون عن وجودهم المِهْني عند أقلِّ استثارةٍ أو استفزاز. عند أمثال هؤلاء، أن تكون رئيس خدم معناه أن تقوم بدَور تمثيلي صامت، دفعة خفيفة، زلة بسيطة ثم تنهار الواجهة لتكشف عن المُمثِّل تحتها. رؤساء الخدم العظام عظامٌ لأنهم قادرون على البقاء في دَورهم المِهْني، الإقامة فيه برسوخ، الأحداث الخارجية لا تهزُّهم مهمَا كانت مزعجةً أو مُنغِّصة، إنهم يرتدُون مِهْنيَّتهم كما يرتدي رجلٌ أنيقٌ حُلَّته، لا يترك الظروف تخلعها عنه في العلن، سوف يتخلى هو عنها عندما يريد ذلك فقط، وذلك لن يحدث إلا عندما يكون بمفرده. إنها «مسألة كرامة» كما أقول.

يُقال أحيانًا إن رؤساء الخدم موجودون في إنجلترا بالفعل. ومهما كان اللقب المُستخدَم في البلاد الأخرى فإنه لا يوجَد لديهم سوى خدم من الرجال فقط، وأنا أكثر ميلًا لتصديق ذلك. الأخرون لا يمكنهم أن يكونوا رؤساء خدم، فهم كسلالة ليسوا قادرين على التحفُّظ العاطفي، والتحكُّم في النفس الذي يتحلَّى به الجنس الإنجليزي فقط. أبناء القارَّة الآخرون، والسلت بخاصة، وأعتقد أنكَ ستوافقني، لا يمكنهم السيطرة على أنفسهم في لحظات الجيَشَان العاطفي، ولذلك لا يمكنهم الاحتفاظُ بتوازنهم المِهْني إلا في المواقف الأقلِّ تحدِّيًا.

ولو عدت إلى استعارتي السابقة، دعني أصف الأمر على نحوٍ قد يبدو خشنًا، وآسف لذلك. إنهم مثل الرجل الذي سيُمزق حُلَّته وقميصه عند أول استثارة ويجري ويصرخ. وباختصارٍ فإن «الكرامة» ليست في متناول مثل أولئك الأشخاص. نحن الإنجليز نمتاز عن الأجانب في هذا المجال، ولهذا السبب فإنك عندما تفكر في رئيس خدم عظيم فإنه لا بدَّ، حسب التعريف، من أن يكون إنجليزيًّا. بالطبع قد تردُّ عليَّ كما كان يفعل «مستر جراهام» عندما كنتُ أقول له ذلك ونحن جالسون بجوار المدفأة، ستقول إنني إذا كنتُ مُحقًّا في قولي، فإن المرء لا يمكنه التعرفُ على رئيس خدم عظيم إلا بعد رؤيته وهو يقوم بعمله في ظلِّ اختبار صعب. بينما نحن في الواقع نقول إن أشخاصًا مثل «مستر مارشال» أو «مستر لين» عظماء، بالرغم من أن معظمنا لا يستطيع أن يدَّعي أنه قد راقبهم في ظروف كتلك. ولا بدَّ من أن أعترف بأن «مستر جراهام» مُحقٌّ في هذه النقطة، ولكن كل ما أستطيع أن أقوله هو أن المرء بعد أن عمل في هذه المهنة، فإنه يستطيع أن يحكم بالبديهة على الكفاءة المِهْنيَّة والاحترافيَّة العالية لشخصٍ ما، دون أن يرى ذلك تحت ظروف ضاغطة.

والواقع أن ذلك إذا حدث، وكان المرء محظوظًا، وقابل رئيس خدم عظيم، بصرف النظر عن أيِّ دوافع لطلب «اختبار»، فإن المرء يكون في حيرة لكي يتخيَّل موقفًا يمكن أن يتخلى فيه رئيس الخدم عن مِهْنيَّته. وأعتقد أن شيئًا من ذلك هو الذي اخترق الضباب الكثيف الذي صنعه الشراب، وهو الذي جعل المسافرين مع والدي يلوذون بالصمت الخجول بعد ظهيرة ذلك الأحد منذ عِدَّة سنوات. مع رجال كهؤلاء يعرف المرء بسهولة أنه في حضرة العظمة، نفس الشيء الذي يحدث عندما تلتقي بالمناظر الطبيعة في الريف الإنجليزي. وأنا أعرف أنه سيكون هناك دائمًا مَن يقول: إن محاولة تحليل العظمة بالطريقة التي أقوم بها، أمرٌ لا طائل من ورائه.

وسيكون ردُّ «مستر جراهام» دائمًا: «أنت تعرف إن كانت موجودةً عند شخص، وإن كانت مُفتقَدةً عند آخر.»

ولكنني أعتقد أننا لا ينبغي أن نكون انهزاميِّين في هذا الشأن. والمؤكد أنها مسئوليتنا المِهْنيَّة جميعًا، وأن نفكر بعمق في هذه الأشياء لكي يحاول كلٌّ منَّا تحقيقَ هذه «الكرامة» لنفسه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤