اليوم الثاني – صباحًا

«ساليسبري»

الأَسِرَّة الغريبة لا تناسبني في العادة. بعد فترة وجيزة من نوم خفيف مُضطرب، استيقظتُ منذ ساعة أو أكثر قليلًا، كان الجوُّ لا يزال مظلمًا، ولأنني أعرف أن أمامي رحلةً طويلةً بالسيارة قد تستغرق يومًا كاملًا، حاولتُ أن أعود للنوم، لم أستطع. وعندما قرَّرتُ في النهاية أن أقوم كان الظلام ما زال مُخيِّمًا فاضطررتُ إلى إضاءة النور الكهربائي لأحلق ذقني على الحوض في ركن الغرفة.

وبعد أن انتهيت، أطفأته حيث كان ضوء النهار الباكر قد ظهر على حواف الستائر.

عندما أزحتُها منذ لحظة، كان ضوء النهار ما زال شاحبًا، والضباب يُعوِّق الرؤية، فلا أرى محلَّ الحلاقة والصيدلية في الجانب المقابل من الشارع. وعندما تتبَّعتُ بنظري الشارع الممتدَّ عبر الجسر المُقنطَر، رأيت الضباب يتصاعد من النهر ويكاد يُخفي أعمدة الجسر. ليس هناك بشر، وباستثناء جلبة آتية من مكان بعيد، وسعال متقطع من غرفةٍ في نهاية الفندق، لم يكُن هناك أيُّ صوت. يبدو أن صاحبة الفندق لم تستيقظ بعد، وهذا معناه أنه لن تكون هناك فرصةٌ لتناول الإفطار قبل الوقت المُحدَّد؛ وهو السابعة والنصف.

الآن، وفي لحظات الهدوء هذه، وأنا أنتظر أن يستيقظ العالم من حولي، أجد نفسي مرةً أخرى أستعيد بذاكرتي فقراتٍ من رسالة «مس كنتون».

وبالمناسبة كان ينبغي أن أفسِّر معنى إشارتي إليها دائمًا باسم «مس كنتون». «مس كنتون» هي على وجه الدقة «مسز بن»، وهكذا هي منذ عشرين عامًا تقريبًا.

ولكنْ لأنني عرفتُها عن قُرب قبل أن تتزوج، ولم أرَها بالمرة منذ أن غادرَتنا إلى الريف الغربي لتصبح «مسز بن»، فقد تلتمس لي العذر في عدم صحة الإشارة إليها كما عرفتُها، وبقيتُ في عقلي أدعوها بذلك على تلك السنوات.

وبالطبع فإن رسالتها قد أعطتني سببًا إضافيًّا لكي أواصل التفكير فيها باعتبارها «مس كنتون»، ما دام زواجها — للأسف الشديد — سوف ينتهي. الرسالة لم تتناول هذا الأمر بالتحديد كما قد يتوقع المرء، وإن «مس كنتون» تقول بشكل لا لبس فيه إنها قد اتخذَت قرارًا بترك منزل «مستر بن» في «هلستون»، وإنها الآن مُقيمةٌ مع أحد المعارف في قرية «ليتل كومتون» القريبة من هنا.

وهي مأساة بالفعل أن ينتهي زواجُها بالفشل. ولا شكَّ في أنها في هذه اللحظة تحديدًا تفكر بأسًى في القرارات التي جعلَتها الآن حزينةً ووحيدةً في منتصف العمر. ومن السهل أن يدرك المرء كيف تكون فكرة العودة إلى «دارلنجتون هول»، وهي في تلك الحالة، مصدر راحة نفسية كبيرة بالنسبة لها. «مس كنتون» لم تفصح عن رغبتها في العودة، ولكن المعنى العام المُتضمَّن في رسالتها، وعبارات أخرى كثيرة، كلها تعكس حنينًا عميقًا لأيام «دارلنجتون هول». «مس كنتون» بالطبع لا تأمُل في استعادة تلك السنوات الضائعة، ولذا سيكون أول شيء أفعله عندما نلتقي هو أن أوضح لها ذلك. سأشرح لها كيف أن الأمور قد تغيَّرَت كثيرًا، وأن الزمن قد مضى، عندما كان العمل مع فريق ممتاز وإدارة جيدة أمرًا مُمكنًا. ولكن «مس كنتون» ذكية، ولا بدَّ من أنها ستفهم جيدًا. على أيَّة حالٍ لا أجد سببًا يمنع من أن يكون خيار عودتها إلى «دارلنجتون هول» ونجاحها هناك، سببًا لراحتها الحقيقية في حياةٍ يملؤها الشعور بالضياع، وأنا، ومن وجهة نظر مِهْنيَّة، أرى أن «مس كنتون»، ولو بعد فترة انقطاع لمدة سنوات، يمكن أن تكون هي الحل الأمثل لمشكلة «دارلنجتون هول» الحاليَّة. وعندما أقول إنها مشكلة، ربما أكون مبالغًا. أنا أشير — على أيَّة حال — إلى مجموعة من الأخطاء البسيطة من جانبي، والنهج الذي أسلكه الآن ما هو إلا وسيلة لتلافي أيَّة مُشكلة قبل حدوثها. صحيحٌ أن تلك الأخطاء التافهة نفسها قد سبَّبَت لي بعض القلق في البداية، ولكنْ بمجرَّد أن تيَّسر الوقت لتشخيصها جيدًا كأعراض لا تزيد عن كونها نقصًا في عدد العاملين، لم أعد أوليها كبيرَ اهتمام. ووصول «مس كنتون»، كما أقول، سيضع نهايةً دائمةً لها.

ولكنْ فلنعُد إلى رسالتها. أحيانًا تُعبِّر عن يأس من وضعها الحالي، وهذه حقيقة مُقلِقة إلى حدٍّ ما. فهي تبدأ جزءًا منها بقولها: «بالرغم من عدم وجود أيَّة فكرة لديَّ عن كيفية مَلء بقية حياتي بشكل مفيد …» وفي موضع آخر تكتب: «حياتي الباقية ممتدة أمامي كفراغ.» لكن معظم الرسالة — كما قلت — يعكس حنينًا شديدًا.

في جزء آخر كتبَت: «هذه الحادثة كلها ذكَّرتني ﺑ «أليس وايت»، هل تذكرها؟ والحقيقة أنني لا أتصور أنك تكون قد نسيتها. أمَّا أنا فما زالت تطاردني مثل شبح تلك الأصوات والعبارات الركيكة التي تنطقها. هل لديك فكرةٌ عن كيف وأين هي الآن؟»

الحقيقة أنني لا أعرف شيئًا عنها، رغم أنني لا بدَّ من أن أقول إنني قد ضحكتُ عندما تذكرتُ تلك الخادمة المزعجة التي أصبحَت في النهاية من أكثر العاملين كفاءةً وإخلاصًا.

وفي جزء آخر من رسالتها كتبَت «مس كنتون»: «كنتُ مغرمةً دائمًا بتأمُّل ذلك المنظر من غرف الطابق الثاني المُطلة على المرج والتلال المُعشبة. هل ما زال على حاله؟ كان لذلك المنظر سحره الخاص في أمسيات الصيف، ودعني أعترف لك الآن أنني قد أمضيتُ أوقاتًا كثيرةً وثمينةً وأنا واقفة في إحدى النوافذ مأخوذة به.» وتضيف: «ولتعذرني إن كانت تلك ذكرى مؤلمة، ولكنني لن أنسى مرةً كنَّا أنا وأنت نراقب والدك وهو يروح جيئةً وذهابًا أمام السقيفة الصيفية وهو ينظر إلى الأرض كأنه يبحث عن جوهرة ثمينة وقعَت منه هناك.»

مفاجأة مثيرة أن تكون هذه الذكرى، التي مضى عليها أكثر من ثلاثين عامًا، قد ظلَّت باقيةً مع «مس كنتون»، كما هي باقية معي.

والحقيقة أنها لا بدَّ من أن تكون قد حدثَت في إحدى أمسيات الصيف التي ذكرتها، لأنني أتذكر بوضوح يوم أن صعدتُ إلى منبسط السُّلم في الطابق الثاني، وأمامي حزمة من الأشعَّة البرتقالية المنبعثة من شمس الغروب تكسر كآبة الممر، بينما كانت أبواب غرف النوم مغلقة. وأثناء مروري أمام الغرف، رأيت «مس كنتون» أمام إحدى النوافذ عندما التفتَت ونادت بصوتٍ ناعم: «لحظة من فضلك يا مستر ستيفنس …»

وعندما دخلتُ عادت هي إلى النافذة. تحتنا كانت ظلال أشجار الحور مُستلقيةً على الأرض المُعشِبة، وإلى اليمين كانت الأرض مرتفعةً قليلًا في اتجاه السقيفة الصيفية، وهناك كان والدي ينقل الخطى ببطء وهو يبدو عليه الانشغال. كان، كما قالت «مس كنتون» تمامًا، كأنه يبحث عن جوهرة ثمينة وقعَت منه هناك.

هناك بعض الأسباب التي تجعل تلك الذكري باقيةً في ذهني كما أودُّ أن أوضح، هذا إلى جانب أنني عندما أفكر فيها، قد لا يبدو الأمر مفاجئًا أو مُدهشًا أن يكون لدى «مس كنتون» ذكرى ما تتعلق بوالدي منذ أيامها الأولى في «دارلنجتون هول».

«مس كنتون» ووالدي كانَا قد جاءَا إلى القصر في نفس الوقت تقريبًا، أيْ في ربيع عام ١٩٢٢م، وكان مجيئهما نتيجةً لفقداني — بضربة واحدة — مُدبِّرة القصر السابقة ومساعد رئيس الخدم. وكان ذلك قد حدث نتيجة أن الشخصَين الأخيرَين قرَّرَا الزواج وتركَا المهنة.

لقد كنتُ دائمًا أرى ذلك النوع من العلاقات تهديدًا حقيقيًّا لنظام العمل في القصر. منذ ذلك الحين فقدتُ كثيرًا من العاملين في ظروف مشابهة. لا بدَّ من أن يتوقَّع المرء بالطبع حدوث أشياء كتلك بين الخادمات والخدم، ولا بدَّ من أن يُراعيَ رئيس الخدم الجيد مثل تلك الأمور في تخطيطه، إلا أن زيجاتٍ مثل هذه بين كبار العاملين، لا بدَّ من أن يكون لها أثر شديد السوء على سَير العمل، وربما يكون مُدمِّرًا. بالطبع إذا وقع اثنان من العاملين في الحبِّ وقرَّرَا الزواج، فمن الظلم توزيع اللوم عليهما. ولكن الأكثر مَدعاةً للقلق والإزعاج هم أولئك الأشخاص ومُدبِّرات البيوت والقصور من المذنبات هنا على نحوٍ خاص، الذين ليس لديهم أيُّ التزام حقيقي بالمهنة، والذين يتنقلون من مكانٍ لآخر بحثًا عن القصص الغرامية.

إن إنسانًا من هذا النوع لا بدَّ من أن يكون وبالًا على المهنة. ولكن دعني أقول بدايةً إنني لا أضع «مس كنتون» بالمرة في ذهني عندما أقول ذلك، فهي في النهاية قد تركت فريق العمل عندي لكي تتزوج، وأستطيع أن أشهد أنها أثناء الفترة التي عملَت فيها مُدبِّرةً للقصر تحت إشرافي كانت شديدة الإخلاص، ولم تسمح أبدًا لأيِّ شيء بأن يصرفها عن أولويات المهنة.

ولكنْ يبدو أنني قد شردتُ عن الموضوع الأساسي. كنتُ أوضح أننا أصبحنا في حاجة إلى مُدبِّرة ومساعد لرئيس الخدم، وجاءت «مس كنتون» لتَشغَل الوظيفة الأولى، وكانت شهاداتها جيدة، وتنمُّ عن خبرة ممتازة. وحدث أن جاء والدي في الوقت نفسه بعد أن كانت خدمته الممتازة قد انتهَت لدى «لافنبراو هاوس» بعد وفاة مخدومه «مستر جون سيلفرز»، وكان في حاجة ماسة للعمل ومكان للإقامة.

وبالرغم من أنه كان لا يزال حرفيًّا من أعلى مستوى، إلا أنه كان في السبعين من عمره ويعاني بشدة من التهاب في المفاصل وأوجاع أخرى. لم نكُن حينذاك نعرف كيف سيكون وصفه مقارنةً بالمتقدِّمين الآخرين لوظيفة مساعد رئيس الخدم ممَّن هم أصغر منه سنًّا وكفاءة. وعلى ضوء ذلك كان حلًا معقولًا أن نطلب من والدي أن يأتيَ بخبرته الكبيرة وتميُّزه إلى «دارلنجتون هول».

وبعد أن التحق والدي و«مس كنتون» بالعمل هنا بوقت قصير، أذكر أنني كنتُ جالسًا في غرفتي، ذات صباح، أراجع بعض الأوراق الخاصة بالعمل، عندما سمعتُ طرقةً على الباب. وفوجئت ﺑ «مس كنتون» تفتح الباب وتدخل قبل أن أطلب منها ذلك. كانت ممسكةً بمزهرية مليئة بالزهور وهي تقول مبتسمة: «أعتقد أن هذا سيُضفي بعض البهجة على غرفتك يا مستر ستيفنس.»

– عفوًا يا «مس كنتون»!

– من أسفٍ أن غرفتك تبدو هكذا مظلمةً وباردةً يا «مستر ستيفنس»، بينما الشمس مشرقة في الخارج. أعتقد أن هذا سوف يبعث الحياة قليلًا هنا.

– هذا جميل منكِ يا «مس كنتون».

– مؤسفٌ ألَّا يدخل كثيرٌ من ضوء الشمس غرفتك، كما أن الجدران رطبة نوعًا ما … أليس كذلك يا مستر ستيفنس؟!

عدت إلى أوراقي وأنا أقول: «من أثر الرطوبة فقط يا مس كنتون على ما أعتقد.» وضعَت المزهرية أمامي على الطاولة، ثم نظرَت حولها وقالت: «يمكنني أن أُحضر لك المزيد من النباتات يا «مستر ستيفنس» إن كنت تريد ذلك.»

– «مس كنتون»، أشكر لك اهتمامك، ولكنها ليست غرفةً للترفيه، وأنا سعيدٌ لأنها ليست مكتظةً بأشياء كثيرة قد تُشتِّت انتباهي.

– ولكنْ ليس هناك ما يدعو يا «مستر ستيفنس» لأن تترك غرفتك جرداءَ هكذا … خاليةً من أيِّ لون!

– إنها تناسبني تمامًا هكذا يا «مس كنتون»، مع فائق تقديري لاهتمامك. وبما أنك هنا، فإنني أريد أن أناقش معك موضوعًا.

– حقًّا يا «مستر ستيفنس»؟

– حقًّا يا «مس كنتون». موضوع صغير.

– حدث أن كنتُ أمرُّ بالأمس بالمصادفة أمام المطبخ عندما سمعتُكِ تنادين شخصًا باسم «وليم».

– هل حدث ذلك يا «مستر ستيفنس»؟

– نعم يا «مس كنتون»، سمعتُكِ عِدَّة مراتٍ تنادين «وليم» … هل لي أن أسأل: مَن كنتِ تنادين بهذا الاسم؟

– لماذا يا «مستر ستيفنس»؟ لا بدَّ من أنني كنتُ أخاطب والدك. ليس هناك شخص آخر بهذا الاسم على ما أظن.»

قلتُ بابتسامةٍ صغيرة: «هذا خطأ بسيط على أيَّة حال. هل أطلب منك أن تخاطبي والدي في المرات القادمة ﺑ «مستر ستيفنس»؟ أمَّا إذا كنتِ تذكرين اسمه أمام طرف ثالث فيمكن أن تقولي «مستر ستيفنس الكبير»، وذلك تمييزًا له عني. شكرًا يا مس كنتون.»

وعُدتُ لأوراقي. ولدهشتي فإن «مس كنتون» لم تنصرف.

وبعد لحظة قالت: «عفوًا يا مستر ستيفنس.»

– نعم يا مس كنتون.

– أخشى ألَّا أكون قد فهمتُ ما تقول. كان من عادتي في الماضي أن أنادي صغار الخدم بأسمائهم الأولى، ولا أجد سببًا لأنْ أفعل غير ذلك هنا.

– هذا خطأ واضح يا «مس كنتون»، ولو أنكِ فكرتِ في الأمر لحظة، فقد تدركين أنه ليس من اللباقة من شخص مثلك أن يتكلم بمثل هذا الاستعلاء عن شخص مثل والدي.

– ما زلتُ لا أفهم قصدَك يا «مستر ستيفنس». تقول شخصًا مثلي، ولكنني على قدْر ما أفهم، مُدبِّرة هذا القصر، بينما والدك ليس سوى مساعد رئيس الخدم.

– هو طبعًا مساعد رئيس الخدم بحُكم المُسمَّى الوظيفي كما تقولين، ولكنْ يُدهشني أن قوة ملاحظتك لم تُمكِّنك من إدراك أنه في الحقيقة أكثر من ذلك … أكثر بكثير.

– لا شكَّ في أنني لم أدرك … غفلتُ عن ذلك يا «مستر ستيفنس». لقد لاحظتُ فقط أن والدك مساعد رئيس خدم جيد، وخاطبتُه بما يناسب ذلك. ولا بدَّ من أن يكون مَدعاة فرح له أن يخاطبه شخصٌ مثلي بمثل ما خاطبتُه به.

– واضحٌ من أسلوبك يا «مس كنتون» أنكِ لم تفهمي والدي. ولو حدث لأدركتِ أنها فعلًا عدم لباقة بأن يناديَه شخصٌ في مثل عمرك ومركزك باسم «وليم».

– ربما لا أكون قد عملتُ كمُدبِّرة قصر لفترة طويلة يا «مستر ستيفنس»، ولكنني أستطيع أن أقول إن كفاءتي كانت محلَّ تقدير على مدى الفترة التي عملتها.

– أنا لم أشكِّك في كفاءتك لحظةً يا «مس كنتون»، ولكنْ لا بدَّ من أنه كان هناك مائة شيء يمكن أن تدلك على أن والدي شخص متميز، واستثنائي، ويمكنك أن تتعلمي منه أشياءَ كثيرةً لو أنكِ أكثر قدرةً على الملاحظة.

– شكرًا لنصيحتك الغالية يا «مستر ستيفنس». والآن تفضَّل خبِّرني … ما هي الأشياء الرائعة التي يمكن أن أتعلمها من السيد والدك؟

– كنتُ أعتقد أن ذلك واضح لكل ذي عينَين يا «مس كنتون».

– ولكننا اتفقنا على أنني قاصرة في هذا الأمر … أليس كذلك؟

– يا «مس كنتون»، إن كنتِ تعتقدين أنكِ في هذه السنِّ قد وصلتُ إلى الكمال، فلن تصلي أبدًا إلى المستوى الذي يليق بك. ولا بدَّ من أن أشير مثلًا إلى أنك عادةً غير مُلِمَّة على نحوٍ كافٍ بما يحدث وأين يحدث وما هو ضروري.

ويبدو أن ذلك جرَّد «مس كنتون» من أسلحتها إلى حدٍّ ما، فبَدَا عليها الضِّيق وقالت: «عندما جئتُ إلى هنا واجهتُ مصاعبَ قليلة … ولكن هذا شيء عادي في البداية.»

هكذا إذَن يا «مس كنتون». ولو أنكِ راقبتِ والدي الذي جاء إلى هذا القصر بعدك بأسبوع، لأدركتِ أن معرفته كاملة، وشاملة، وكانت هكذا منذ أن وضع قدمه للمرة الأولى في «دارلنجتون هول».

بدَا عليها أنها كانت تفكر في ذلك قبل أن تقول وهي مُقطِّبة: «أنا أعرف تمامًا أن «مستر ستيفنس» الكبير ماهر جدًّا في عمله، ولكن المؤكَّد أيضًا أنني أنا الأخرى ماهرة جدًّا في عملي يا «مستر ستيفنس». ولسوف أتذكر أن أخاطب والدك بلقبه كاملًا في المستقبل، والآن أستأذنك في الانصراف.»

بعد هذه المواجهة لم تحاول «مس كنتون» أن تأتيَ بزهور بعد ذلك إلى غرفتي، وبشكل عام فقد كنتُ سعيدًا بملاحظة أنها كانت هادئةً ومتزنةً في عملها. كان واضحًا أيضًا أنها من مُدبِّرات البيوت اللائي يأخذن عملهن بجدية شديدة، وبالرغم من صغر سنِّها كان من السهل أن تكتسب احترام مَن يعملون تحت إشرافها.

كما لاحظتُ أنها بدأت تخاطب والدي ﺑ «مستر ستيفنس»، إلا أنها جاءت بعد ظهيرة أحد الأيام، ربما بعد أسبوعَين من حوارنا، وكنتُ أقوم بعملٍ ما في المكتبة عندما قالت: «معذرةً يا «مستر ستيفنس»، إن كنتَ تبحث عن لقاطة الكناسة، فهي هناك في الرَّدهة.»

– عفوًا يا «مس كنتون» …

– لقاطة الكناسة يا «مستر ستيفنس». لقد تركتَها أنتَ هناك، هل تريد أن أُحضرها لك؟

– أنا لا أستخدم لقاطة الكناسة يا «مس كنتون».

– معذرةً إذَن يا «مستر ستيفنس». تصوَّرتُ أنكَ كنتَ تستخدمها وتركتَها هناك. على أيَّة حالٍ أنا متأسفة لإزعاجك.

همَّت بالانصراف ولكنها استدارت عند الباب وقالت: «كان بودِّي أن أحضرها بنفسي يا «مستر ستيفنس»، إلا أنني لا بدَّ من أن أذهب إلى الطابق الثاني الآن … أرجو أن تتذكرها.»

– طبعًا … طبعًا يا «مس كنتون»، وشكرًا لأنكِ نبَّهتِني.

– لا بأس يا «مستر ستيفنس».

كنتُ أسمع وقْع أقدامها وهي تعبُر الرَّدهة وتصعد درجات السُّلَّم، وتقدَّمتُ أنا في اتجاه المدخل، وكانت بوابة القصر الرئيسية واضحةً لي وأنا عند باب المكتبة. في وسط المسافة بالضبط وبشكلٍ واضحٍ مُنافٍ للذوق، كانت لقاطة الكناسة التي أشارت إليها «مس كنتون» مُلقاة.

صدمني ذلك بالطبع لخطأ بسيط ولكنه يبعث على الضِّيق والإزعاج؛ كانت لقاطة الكناسة واضحةً للعيان وبشكل غير لائق من مداخل الطابق الأرضي الخمسة التي تُفتح على الرَّدهة. ومن مدخل السُّلم وشرفات الطابق الأول.

عبرتُ الرَّدهة، وتناولتُ ذلك الشيء المزعج قبل أن أفهم مغزى كلام كنتون. وتذكرتُ أن والدي كان يقوم بتنظيف ردهة المدخل قبل حوالي نصف الساعة. في البداية كان من الصعب أن أنسب ذلك الخطأ له، ولكنْ سرعان ما ذكَّرتُ نفسي بأن مثل تلك الهفوات البسيطة يمكن أن تحدث من أيِّ شخص أحيانًا، وتحوَّل غضبي إلى «مس كنتون» التي حاولَت افتعال تلك الضجَّة الجوفاء حول الحدث.

بعد أقلَّ من أسبوع، وكنتُ عائدًا من المطبخ من الممرِّ الخلفي، رأيتُ كنتون تخرج من غرفتها وتنطق بعبارة يبدو أنها كانت تتدرب عليها، بما معناه أنها بالرغم من شعورها بعدم الارتياح لأنها لفتَت نظري إلى أخطاء يقع فيها العاملون تحتي، إلا أننا، أنا وهي، لا بدَّ من أن نعمل معًا كفريق، وأنها تتمنَّى ألَّا أتردَّد في أن أفعل الشيء نفسه إذا لاحظَت أيَّ خطأ من جانب العاملين تحت إشرافها. وواصَلَت كلامها لتُشير إلى أن بعض القِطَع الفِضيَّة المُعَدَّة لغُرفة الطعام تحمل آثار المُلمِّع. وإلى أن هناك شوكةً حافتُها سوداء. شكرتُها وانصرفَت هي إلى غرفتها. لم يكُن من الضروري بالطبع الإشارة إلى أن الفِضيَّات كانت إحدى مسئوليات والدي، وأحد المهامِّ التي يفخر بها. ومن الممكن أن تكون هناك أشياءَ أخرى من هذا القَبيل، ولكني نسيتُها. على أيَّة حالٍ أذكر أن الأمور وصلَت إلى ذروتها ذات يومٍ بعد الظهر، كان المطر يتساقط خفيفًا والجوُّ رمادي، وكنتُ في قاعة البلياردو أعتني بتذكارات «لورد دارلنجتون» الرياضية.

دخلَت «مس كنتون»، وقالت وهي على عتبة الباب: «لقد لاحظتُ شيئًا في الخارج الآن، وهو يُحيِّرني يا مستر ستيفنس.»

– ماذا يا مس كنتون؟

– هل هي رغبة سيادته في أن يستبدل تمثال الرجل الصيني على منبسط السُّلَّم بذلك الموجود أمام الباب؟

– أيُّ تمثالٍ يا مس كنتون؟

– تمثال الرجل الصيني يا «مستر ستيفنس»، التمثال الذي كان على المنبسط، ستجده الآن هنا أمام هذا الباب.

– أخشى أن يكون الأمر قد اختلط عليك يا «مس كنتون».

– لا أظنُّ أن الأمر قد اختلط علي، ومن صميم عملي أن أعرف مكان كل شيء. التماثيل فيما أعتقد قد قام شخصٌ ما بتلميعها، ثم وُضِعَت في الأماكن الخطأ. وإن كنتَ في شكٍّ ممَّا أقول يا «مستر ستيفنس»، يمكنك أن تخرج لكي ترى بنفسك.

– أنا مشغول الآن يا مس كنتون.

– ولكنْ لا يبدو عليك يا «مستر ستيفنس» أنك تُصدِّق ما أقول، ولذا أطلب منك أن تخرج لكي تتأكد بنفسك.

– الأمر ليس عاجلًا، وسوف أرى ذلك بعد قليل.

أنتَ مُعترف إذَن بأنني لستُ مخطئة يا «مستر ستيفنس» في هذه النقطة.

– أنا لا أوافق على شيء من هذا القبيل يا «مس كنتون» حتى أجد فرصةً لفهم الأمر. على أيَّة حالٍ أنا الآن مشغول.

وعدتُ إلى عملي ولكن «مس كنتون» ظلَّت واقفةً تراقُبني. وأخيرًا قالت: أرى أنك سوف تنتهي ممَّا في يدك بعد قليل يا «مستر ستيفنس»، وسأنتظرك في الخارج لكي تحسم الموضوع عندما تخرج.

أنتِ تعطين الموضوع أهميةً وإلحاحًا لا يستحقُّهما يا «مس كنتون».

ذهبَت «مس كنتون»، ولكن وقْع أقدام، أو صوتًا آخر، جعلني أشعر عندما عُدتُ لمواصلة عملي، أنها كانت هناك أمام الباب. قرَّرتُ أن أشغل نفسي بأعمال أخرى في قاعة البلياردو، متصوِّرًا أنها سوف تكتشف سخف موقفها بعد فترة وتنصرف. على أنه بعد مرور بعض الوقت، وبعد أن انتهيتُ ممَّا كان بيدي من أعمال، وما كان يمكن أن أشغل نفسي به، كانت «مس كنتون» لا تزال واقفةً في الخارج. عقدتُ العزم على ألَّا أضيِّع وقتًا أكثر من ذلك في هذه القضية التافهة، وهذا السلوك الطفولي. فكرتُ في أن أخرج من النافذة، ولكن الطقس هو الذي منعني من تنفيذ هذه الفكرة. كانت هناك تجمُّعات مائية صغيرة وبُقَع من الطين ظاهرة، وكان معنى ذلك أيضًا أن أعود مرةً أخرى إلى قاعة البلياردو لكي أغلق النوافذ من الداخل. وفي النهاية وجدتُ أن أفضل خُطةٍ هي أن أخرج من الغرفة فجأة، مرةً واحدة، وباندفاع. وهكذا سرتُ بهدوء وحذر شديدَين إلى مكانٍ يمكن أن أنفُذ منه بسرعة، ونجحتُ في الاندفاع من الباب والسَّير عِدَّة خطوات في الممر، قبل أن تتمكن «مس كنتون» التي أذهلَتها المفاجأة من أن تستعيد انتباهها، ولكنها فعلَت ذلك بسرعة مذهلة، وفي لحظة وجدتُها أمامي تسدُّ عليَّ الطريق.

– هذا هو التمثال الصيني الموضوع في المكان الخطأ يا «مستر ستيفنس»، ألا توافقني؟

– أنا مشغول جدًّا يا «مس كنتون»، ويُحيِّرني ألَّا يكون لديك شيء أفضل من الوقوف في الممرات طيلة اليوم!

– يا مستر ستيفنس، هل هذا هو مكان التمثال الصحيح أم لا؟

– يا «مس كنتون» أنا أطلب منكِ أن تخفضي صوتك.

– وأنا أطلب منك يا «مستر ستيفنس» أن تلتفت وتنظر إلى التمثال.

– مس كنتون … أرجوك … اخفضي صوتك. ماذا سيظنُّ العاملون في الدَّور الأرضي وهم يستمعون إلى صياحنا هكذا بأعلى صوت عن مكان التمثال الصحيح أو غير الصحيح؟

– الحقيقة يا «مستر ستيفنس» أن كل التماثيل في هذا القصر قذرة منذ فترة. والآن ها هي ذي توضَع في الأماكن الخطأ.

– أنت غريبة جدًّا يا «مس كنتون»! أرجوكِ دعيني أمر.

– هلَّا نظرتَ من فضلكَ إلى التمثال الموجود خلفك يا مستر ستيفنس؟

– إن كان الأمر مُهمًّا لكِ إلى هذا الحدِّ يا «مس كنتون»، فأنا سوف أسمح بأن يوضَع التمثال الموجود خلفي في المكان الخطأ. ولكنْ لا بدَّ من أن أقول إنني في حيرة شديدة من هذا الأمر. لماذا أنتِ مشغولة جدًّا بهذه الأخطاء؟

– قد تكون أخطاءً تافهةً بحدِّ ذاتها يا «مستر ستيفنس»، ولكنْ لا بدَّ من أنكَ شخصيًّا مدرك لأهميتها.

– مس كنتون، أنا لا أفهمك! والآن أرجوكِ دعيني أمر.

– الواقع يا «مستر ستيفنس» أن والدك قد عُهِد إليه بما لا يستطيع القيامَ به رجلٌ في مثل عمره.

– واضح يا «مس كنتون» أن فكرتك ضحلة عمَّا تقولين …

– بصرف النظر عمَّا كان عليه والدك في الماضي يا «مستر ستيفنس»، إلا أن قُواه الآن قد قلَّت. هذا معنى ما تظنُّه أخطاءً تافهة. وإذا لم تنتبه لذلك فسوف يقع والدك في أخطاء فادحة قبل أن يمرَّ وقت طويل.

– أنتِ تدللين على غبائكِ يا مس كنتون.

– أنا متأسفة يا «مستر ستيفنس»، ولكني لا بدَّ من أن أكمل؛ أعتقد أن هناك واجباتٍ كثيرةً يجب إعفاءُ والدكَ منها.

أولًا؛ لا ينبغي أن يستمرَّ في حمل الصواني المُحمَّلة بأشياء كثيرة وثقيلة. ارتعاشة يديه وهو يدخل بها إلى قاعة العشاء ليست إنذارًا هيِّنًا. والمؤكد أنها مسألة وقت، قبل أن تقع منه صينية في حجر واحد أو واحدة من الضيوف.

والأكثر من ذلك يا «مستر ستيفنس» — ويؤسفني جدًّا أن أقول ذلك — أن أنف والدك قد لفت نظري.

– هل حدث ذلك يا مس كنتون؟

– حدث للأسف! مساء أول أمس كنتُ أراقب والدكَ وهو يتقدم ببطء نحو قاعة العشاء حاملًا الصينية، ويؤسفني القول إنني رأيتُ نقطةً كبيرةً تتدلى من أرنبة أنفه على أوعية الحساء. ولا أظنُّ أن هذا المستوى من الخدمة يمكن أن يفتح شهية أحد!

والآن، عندما أفكر فيما حدث بعمق، لا أظنُّ أن «مس كنتون» كانت تتكلم بوقاحة في ذلك اليوم. كنَّا على مدى سنواتِ عملنا معًا، نتبادل الملاحظات الحادة أحيانًا، ولكن ذلك المساء الذي أتذكره كان في وقت باكر في علاقتنا، ولا أظنُّ أن «مس كنتون» كانت اقتحاميةً هكذا. لا أعتقد أنها كانت من الممكن أن تتمادى لتقول عبارةً مثل: «قد تكون أخطاءً تافهةً بحدِّ ذاتها، ولكنْ لا بدَّ من أنكَ شخصيًّا مدرك لأهميتها.»

والحقيقة أنني عندما أفكر في ذلك الآن ينتابني شعور بأنه ربما يكون «لورد دارلنجتون» نفسه، هو الذي أبدى تلك الملاحظة لي عندما استدعاني إلى مكتبته، بعد مرور شهرين تقريبًا على هذا الحوار مع «مس كنتون»، أمام قاعة البلياردو.

في ذلك الوقت كان الموقف بالنسبة لوالدي قد تغيَّر تمامًا بعد سقوطه على الأرض.

أثناء نزولك على السُّلَّم الكبير تكون أبواب المكتبة في مواجهتك. واليوم يوجَد خارج المكتبة خزانة زجاجية يُعرض فيها عددٌ من أوسمة ونياشين «مستر فراداي». في أيام «لورد دارلنجتون» كان يوجَد في هذا المكان نفسه رفٌّ كُتِب عليه عِدَّة مجلدات من بينها أجزاء الموسوعة البريطانية كاملة. واضح أنها كانت خُطةً من «لورد دارلنجتون» أن يقف أمام ذلك الرفِّ ليقرأ عناوين الأجزاء، لكي يجعل المسألة وكأنها حدثَت مصادفةً وهو مستغرق في القراءة، فيوقفني وأنا نازلٌ على السُّلَّم، عندما مررتُ من أمامه قال: «مستر ستيفنس، كنتُ أودُّ أن أقول لك شيئًا …» ثم يعود مرةً أخرى يجول في مكتبته مواصلًا تظاهره بأنه مستغرق في القراءة.

كان هناك شعور بالحرج بسبب الموضوع الذي سيتكلم فيه؛ الأمر الذي جعله يلجأ إلى هذا الأسلوب، وبمجرَّد أن أغلق الباب علينا، وقف بجوار النافذة متظاهرًا بأنه يبحث عن شيءٍ ما في الموسوعة أثناء حوارنا.

إن ما أصفه الآن عرضًا هو مجرَّد موقف من المواقف الكثيرة التي يمكن أن أرويَها لتصوير طبيعة «لورد دارلنجتون» الخجولة والمتواضعة. في السنوات الأخيرة تردَّد ونُشِر هراءٌ كثيرٌ عن سيادته، وعن الدَّور المُهم الذي لعبه في القضايا الكبرى، كما ظهر كثير من التقارير الجاهلة عن أنه مدفوع بالأنانية أو الغطرسة. دعني أقول هنا إن ذلك كله عارٍ عن الحقيقة تمامًا. المواقف العامة التي اتخذها كانت تتنافى مع طبيعته وميوله، وأستطيع أن أقول بكل ثقة إن سيادته كان مقتنعًا بأن يتغلب على الجانب الأكثر انسحابًا في نفسه من خلال شعور بالواجب الأخلاقي. وأيًّا كان ما يُقال عن سيادته هذه الأيام — ومعظمه في رأيي هراء — أستطيع أن أقول إنه فعلًا رجل طيِّب القلب وإنسان محترم وشخص أفخر بأنني أنفقتُ أجمل سنوات عمري في خدمته.

في ذلك المساء الذي أتحدث عنه كان سيادته لا يزال في منتصف الخمسينيات، ولكنْ، على ما أذكر، كان رأسه قد اشتعل شيبًا، والقوام الرشيق انحنى قليلًا؛ الأمر الذي زاد في أواخر العمر.

رفع بصره عن المجلد الذي كان يمسك به وسألني: «هل والدك الآن أفضل يا ستيفنس؟»

– يسرُّني أن أقول إنه قد شُفي تمامًا يا سيدي.

– وأنا سعيدٌ لسماع ذلك … سعيدٌ جدًّا.

– شكرًا يا سيدي.

– اسمع يا ستيفنس … هل كانت هناك علامات من أيِّ نوع؟ أقصد علامات تدل على أن والدك يريد أن يتخفَّف من بعض الأعباء الواقعة عليه، أقصد بصرف النظر عن حكاية وقوعه على الأرض.

– كما قلتُ يا سيدي؛ والدي يبدو عليه أنه قد شُفي تمامًا، وإنه شخص يُعتمد عليه الآن. صحيحٌ أنه قد لوحظ خطأ أو خطآن في أدائه مؤخرًا أثناء قيامه بعمله، ولكنها على أيَّة حال أخطاء تافهة.

– لكن أحدًا منَّا لا يريد أن يرى شيئًا كذلك ثانية … أليس كذلك؟ أقصد أن نرى والدك يقع مثلًا.

– بالتأكيد يا سيدي.

– وطبعًا إذا كان ذلك قد حدث في الحديقة فمعناه أنه يمكن أن يحدث في أيِّ مكان آخر، وفي أيِّ وقت.

– نعم يا سيدي.

– يمكن أن يحدث مثلًا أثناء العشاء، وهو يقوم بالخدمة على المائدة.

– ممكن يا سيدي.

– اسمع يا ستيفنس … الوفد الأول سيصل قبل أقلَّ من أسبوعَين.

– نحن جميعًا مستعدون يا سيدي.

– إن ما يحدث داخل جدران هذا القصر ربما يكون له بعد ذلك أصداء واسعة ومُهمَّة.

– نعم يا سيدي.

– أنا أعني ما أقول؛ أصداء واسعة ومُهمَّة. وعلى كل المسار الذي تتخذه أوروبا، وبناءً على أسماءِ مَن سيحضُرون، لا أعتقد أن هناك مبالغةً فيما أقول.

– ليس هناك مبالغةٌ يا سيدي.

– ولا يجب أن نُعرِّض أنفسنا لمخاطر يمكن تلافيها مسبقًا.

– بالتأكيد يا سيدي.

– اسمع يا ستيفنس … ليس هناك نِيَّة للاستغناء عن والدك. المطلوب منك فقط هو أن تعيد النظر في المهامِّ المُسنَدة إليه.

وأظنُّ أن «لورد دارلنجتون» قال حينذاك، وهو ينظر مرةً أخرى في المجلد الذي يحمله عندما أشار إلى أحد العناوين: «هذه الأخطاء قد تكون تافهةً بحدِّ ذاتها يا ستيفنس، ولكنْ لا بدَّ من أنكَ شخصيًّا مدرك لأهميتها. أيام الاعتماد على والدك قد انقضَت. يجب ألَّا يُكلَّف بأعمال في مجال يمكن أن يؤدِّيَ أيُّ خطأ فيه إلى إفشال مؤتمرنا القادم.»

– بالتأكيد يا سيدي، وأنا أفهم ذلك جيدًا.

– حسنًا! سأتركك تفكر في الأمر إذَن يا ستيفنس.

أنا أستطيع أن أؤكد أن «لورد دارلنجتون» قد لاحظ بالفعل وقوع والدي منذ أسبوع أو أكثر قليلًا. كان سيادته يستضيف شخصيتَين، سيدةً ورجلًا، في السقيفة الصيفية، ورأى والدي بينما كان يقترب من المكان حاملًا صينيةً مُحمَّلةً بمشروبات للترحيب بالضيفَين. الأرض أمام السقيفة مرتفعة قليلًا. وفي تلك الأيام كانت توجَد أربع درجات الآن حجرية مُغطاة بالحشائش، مستخدمة كسُّلَّم كما هي الآن. في هذه المسافة البسيطة وقع والدي وتبعثَر ما كان يحمله — إبريق الشاي والفناجين والأطباق والسندوتشات والكعك — على الحشيش ودرجات السُّلَّم. عندما تلقيتُ الخبر وهُرِعتُ إلى هناك كان سيادته وضيفاه قد أرقدَا والدي على جنبه وجاءوا بوسادة وسجادة خفيفة من السقيفة وغطَّوه بها.

كان أبي قد فقد الوعي واستحال لون وجهه رماديًّا بشكل غريب. أرسلوا يستدعون الدكتور «ميرديث»، ولكنْ كان من رأي سيادة «اللورد» أن ينقلوا والدي من الشمس قبل وصول الطبيب. وأخيرًا جاءوا بكرسي حمَّام ونقلوه بصعوبة إلى داخل القصر. عندما وصل الطبيب كان والدي قد أفاق إلى حدٍّ كبير وانصرف الطبيبُ بعد أن أبدى بعض الملاحظات العامة عن احتمال أن يكون قد أُصيبَ بالإرهاق من كثرة العمل.

كانت القصة كلها مصدر إزعاج وحرج لوالدي، وعندما كنتُ أتحدث مع «لورد دارلنجتون» في المكتبة كان يعود لكي يشغل نفسه. لم يكُن أمرًا سهلًا أن أفتح مع سيادته موضوع تخفيف مسئوليات والدي، وضاعف من صعوبة الموقف أنني ووالدي كنَّا قد أصبحنا لا نتحاور كثيرًا، ولا أعرف سببًا لذلك. حتى عندما جاء للعمل في «دارلنجتون هول» كانت العبارات الضرورية المتبادلة بيننا والمتعلقة بالعمل، تتمُّ في جوٍّ من التحفُّظ والضِّيق المُشترَك من الجانبَين. وفي النهاية وجدتُ أن أفضل خيارٍ هو أن نتكلم على انفرادٍ في غرفته، وبذلك أعطيتُه فرصةً لكي يفكر في وضعه الجديد بعد أن أنصرف.

الأوقات الوحيدة التي يمكن أن يوجَد فيها والدي في غرفته هي أول الصباح وآخر الليل. اخترتُ أول الصباح، فصعدتُ إلى غرفته الصغيرة على السطح في جناح الخدم، في وقتٍ باكر، وطرقتُ الباب برفق. وقبل تلك المناسبة كنتُ نادرًا ما أدخل غرفته لأيِّ سبب. وصدمني من جديد فقرُها وحجمها الصغير. أتذكر شعوري في ذلك الوقت وكأنني دخلتُ زنزانةَ سجن، ولكنْ لعلَّ ذلك كان بسبب الضوء الشحيح أو حجم الغرفة وجدرانها الجرداء. كان والدي قد أزاح الستائر وجلس حليقًا بكامل لباسه الرسمي على حافة سريره، من حيث يمكنه أن يرقب السماء وهي تنشقُّ عن فجرٍ جديد.

كان لا بدَّ من أن أفترض على الأقلِّ أنه كان يرقب السماء لأنه لم يكُن هناك شيءٌ آخر يمكن رؤيتُه من تلك النافذة الصغيرة سوى بلاط السطح وقنوات المزاريب. كان المصباح الزيتي بجوار سريره مُطفَأ، وعندما رأيتُه يُحدِّق منزعجًا في المصباح الذي جئتُ به ليرشدني على السُّلَّم المُتداعي، خفضتُ نوره بسرعة. عندما فعلتُ ذلك لاحظتُ بشكل أكثر وضوحًا أثر الضوء الشحيح الداخل إلى الغرفة، وكيف يُبرز ملامح والدي الصخرية المتغضنة، والتي كانت لا تزال مُثيرةً للخوف.

قلتُ وأنا أتنهَّد: «نعم كان لا بدَّ من أن أعرف أن والدي مستيقظ ومستعد لاستقبال اليوم.»

قال وهو ينظر إليَّ من أعلى لأسفل متأمِّلًا: «أنا مستيقظ منذ ثلاث ساعات.»

– أرجو ألَّا يكون ذلك بسبب آلام المفاصل.

– أنا أنام جيدًا.

مدَّ والدي يدَيه نحو الكرسي الوحيد الموجود في الغرفة، وهو كرسي خشبي، ثم وضع كلتا يدَيه على ظهره ووقف على قدمَيه. لم أعرف إن كان سببُ انحناءة ظهره الضعف العام الذي اعتراه، أم طول الإقامة في هذه الغرفة ذات السقف المُنحدِر.

– جئتُ لأبلغك بشيء يا أبي.

– قُلْه إذَن، فورًا وبإيجاز، فلن أضيع الصباح في الاستماع إلى ثرثرتك.

– سأدخل مباشرةً في الموضوع.

– ادخل في الموضوع وانتهِ منه، بعضنا لديه أعمال لا بدَّ من أن يذهب لإنجازها.

– حَسَنٌ! ما دمتَ تريدني أن أوجز، فسوف أحاول ذلك. الحقيقة أن صحة أبي قد وهنَت، وبشكل متزايد، لدرجة أن مهامَّ مساعد رئيس الخدم قد أصبحَت أكبر من طاقته.

وسيادة «اللورد» يرى — كما أرى أنا أيضًا في الحقيقة — أن السماح لوالدي بالاستمرار في القيام بواجباته يُمثِّل تهديدًا دائمًا لسَير العمل بسلاسة في القصر، وبخاصةٍ بالنسبة للمؤتمر الذي سيُعقَد في الأسبوع القادم. لم يبدُ على وجهه أيُّ نوع من الانفعال أو ردِّ الفعل في هذا الضوء الشحيح. واصلتُ كلامي: «بوجهٍ عام، هناك شعور بأن والدي لا يجب أن يُكلَّف بعد اليوم بالخدمة على مائدة الطعام سواء في وجود ضيوف أم لا.»

قال والدي بصوت هادئ غير مُتعجِّل: «لقد خدمتُ على المائدة على مدى أيام الخمس والأربعين سنةً الأخيرة.»

قلتُ: «ثم إنه قد تقرَّر ألَّا يحمل أيَّ صينية مُحمَّلة بأيِّ شيء، ولو حتى لمسافة قصيرة. وعلى ضوء هذه التحديدات، ومراعاةً لاحترام والدي للدقة، فقد كتبتُ هنا قائمةً بالمهامِّ التي سوف يقوم بها اعتبارًا من اليوم.»

لم أكُن في الواقع راغبًا في إعطائه الورقةَ التي كانت بيدي، فوضعتُها على حافة السرير. نظر إليها بسرعة ثم حدَّق فيَّ. حتى الآن كان وجهه خاليًا من الانفعال، ويداه مسترخيتَين تمامًا على ظهر الكرسي. وسواء أكان في جسمه انحناءة أم لا، كان من المستحيل ألَّا يشعر المرء بحضوره الجسدي، ذلك الحضور الذي أعاد رجلَين مخمورَين إلى وعيهما داخل السيارة. وأخيرًا قال: «أنا وقعتُ في تلك المرة بسبب الدرجات ليس إلا، فهي ليست مستوية. لا بدَّ من أن يطلب أحدٌ من «شيموس» أن يقوم بإصلاحها لكيلا يحدث الشيء نفسه لشخص آخر.»

– صحيح. على أيَّة حالٍ هل أطمئنُّ إلى أن والدي سيدرس ما في هذه الورقة؟

– لا بدَّ من أن يطلب من «شيموس» إصلاح الدرجات، وبالذات قبل أن يبدأ أولئك السادة الوصول من أوروبا.

– فعلًا يا والدي. حَسَنٌ! نهارك سعيد.

ذلك المساء الصيفي الذي أشارت إليه «مس كنتون» في رسالتها جاء سريعًا بعد تلك المواجهة، وربما كان مساء ذلك اليوم نفسه. لا أستطيع أن أتذكر سبب ذهابي إلى الطابق العلوي، حيث توجَد غرف نوم الضيوف على امتداد الممر. وإن كنتُ أتذكر جيدًا — كما قلتُ — كيف كان آخر ضوء للنهار يتسلل من الأبواب المفتوحة، ويُلقي بأشعَّته البرتقالية على أرضية الممر. وبينما كنتُ أمرُّ أمام غرف النوم غير المُستخدَمة، تذكرتُ منظر «مس كنتون» واقفةً وخلفها إطار نافذة كبيرة.

عندما أفكر في ذلك، وأتذكر الطريقة التي تكلمَت بها مرارًا عن والدي أثناء أيام عملها الأولى في «دارلنجتون هول»، أستغرب كيف ظلَّت معها ذكرى ذلك المساء كل تلك السنوات. لا شكَّ في أنها كانت تشعر بشيء من الذنب ونحن ننظر إلى والدي أسفل القصر، كانت أشجار الحور تُلقي بظلالها على معظم المساحة الخضراء، ولكن الشمس كانت تضيء الزاوية البعيدة حيث ترتفع الحشائش صاعدةً إلى السقيفة. وكان والدي يقف إلى جوار تلك الدرجات الحجرية الأربع مستغرقًا في التفكير، ونسمةٌ من الهواء تُطيِّر شَعره.

وكما لاحظنا، تقدَّم ببطءٍ شديدٍ فوق الدرجات، وعند آخرها استدار ونزل بسرعة أكبر. ثم استدار مرةً أخرى وبقي ساكنًا بضع ثوانٍ يتأمل الدرجات أمامه. وفي النهاية صعد مرةً أخرى بتأنٍّ شديد. في هذه المرة استمرَّ في سَيره عبر المساحة المُعشِبة إلى أن وصل إلى السقيفة، ثم استدار ليسير ببطء وعيناه لا ترتفعان عن الأرض. الحقيقة أنني لا أستطيع أن أصف سلوكه في تلك اللحظة بأفضل ممَّا فعلَت «مس كنتون» في رسالتها، كان بالفعل كأنه يبحث عن جوهرة ثمينة وقعَت منه هناك.

ولكنني أجدني قد أصبحتُ مشغولًا أكثر من اللازم بتلك الذكريات، وقد يكون في ذلك بعضُ الحماقة.

وهذه الرحلة الحاليَّة تُمثِّل بعد كل شيء فرصةً نادرةً بالنسبة لي لكي أستمتع تمامًا بجمال الريف الإنجليزي، وأدرك أنني سأندم كثيرًا فيما بعدُ لو أنني تركتُ نفسي مشغولًا بغيرها، والواقع أنني ألاحظ أن عليَّ أن أسجِّل هنا كل شيء عن رحلتي إلى هذه المدينة، علاوةً على أن أذكر باختصارٍ تلك الوقفة على جانب طريق التل، والتي كانت في بدايتها تمامًا. وهي فرصة حقيقة إذا وُضِعَت في الاعتبار؛ تلك المتعة التي تحقَّقَت وأنا أقود السيارة بالأمس.

لقد خططتُ للرحلة إلى «ساليسبري» بعناية تامة، مُتجنِّبًا كل الطرق الرئيسية تقريبًا، قد يبدو خطُّ السَّير بالنسبة للبعض مُلتفًّا أو غير مباشر دون داعٍ، ولكنه يمكِّنني من مشاهدة عدد كبير من المناظر التي أوصَت بها «مسز جي سيمونز» في كتابها القيِّم. الطريق تحملني في معظم الوقت إلى أراض زراعية وسط عبق المروج الخضر، وكثيرًا ما أجدني أخفض من سرعة السيارة للاستمتاع برؤية جدول صغير أو واد أمر به، وإن كنتُ — على ما أذكر — لم أنزل من السيارة مرةً ثانيةً إلى أن اقتربتُ من «ساليسبري» تمامًا.

في تلك المرة كنتُ أتقدَّم على امتداد طريق مستقيمة وسط مروج خضراء فسيحة على كلا الجانبَين. الأرض مفتوحة أمامي ومنبسطة في تلك المنطقة بما يمكِّن من الرؤية لمسافة بعيدة في جميع الاتجاهات، وكان برج كاتدرائية «ساليسبري» واضحًا أمامي على خطِّ الأفق. نزلتُ على حالة من الهدوء والسكينة وأعتقد أنني لذلك، مرةً أخرى، كنتُ أقود السيارة ببطء، وربما بسرعة لا تزيد عن خمسة عشر مِيلًا في الساعة. وكان ذلك أمرًا جيدًا؛ لأنني تمكَّنتُ في الوقت المناسب من رؤية دجاجة تقطع الطريق أمامي بتمهُّل. أوقفتُ السيارة على بُعد قَدَم أو اثنتَين من الدجاجة التي وقفَت هي الأخرى أمامي تمامًا. بعد لحظة، ولأنها لم تتحرك، لجأتُ إلى آلة التنبيه، ولكن ذلك لم يكُن له أيُّ أثر سوى أن بدأَت تنقر شيئًا ما أمامها على الأرض.

مُغضَبًا إلى حدٍّ ما، تهيأتُ للنزول من السيارة، وقبل أن تلمس قدمي الثانيةُ الأرضَ سمعتُ صوت امرأة.

«معذرةً يا سيدي!»

نظرتُ حولي فوجدتُني في مواجهة كوخ ريفي تقف أمامه سيدة ترتدي مريلة، من المؤكد أن آلة التنبيه هي التي جعلَتها تخرج مُسرِعة. مرَّت أمامي وحملَت الدجاجة وراحَت تُهدهِدُها وهي تُقدِّم اعتذاراتها مرةً أخرى. وعندما طمأنتُها لعدم حدوث أيِّ ضرر قالت: «أشكركَ لأنكَ توقَّفتَ ولم تدهس «نيللي». «نيللي» طيِّبة، وهي تُزوِّدنا بأكبر بَيضٍ يمكن أن تراه في حياتك. كان شيئًا جميلًا منك أن تتوقَّف، ولعلك كنتَ أنتَ أيضًا في عجلة من أمرك.»

قلتُ وأنا أبتسم: «أبدًا! لستُ في عجلة، هذه أول مرة من سنوات عديدة يكون وقتي ملكي، ويمكن القول إنها تجربة ممتعة، أنا أقود السيارة للفسحة كما تَرَين.»

– هذا جميلٌ يا سيدي، وأعتقد أنكَ في طريقكَ إلى ساليسبري.

– نعم! أليس ذلك هو برج الكاتدرائية الذي يبدو من هناك؟ يُقال إنه بناء رائع!

– فعلًا يا سيدي، بناء جميل جدًّا، والواقع أنني نادرًا ما أذهب إلى هناك، ولذا لا يمكنني أن أقول كيف يبدو عن قُرب، ولكنني أقول لك إننا نشاهد برج الكنيسة من هنا كل يوم تقريبًا، وأحيانًا يكون الضباب كثيفًا فلا نراه، ولكنْ كما ترى الآن، في يومِ صحوٍ كهذا يبدو المنظر رائعًا! أنا ممتنة لكَ لأنكَ لم تدهس «نيللي». منذ ثلاث سنوات قُتِلَت لنا سلحفاة بنفس الطريقة، وربما في المكان نفسه، وأسِفنا لذلك جميعًا.

– هذا فعلًا أمرٌ مؤسِف.

– نعم يا سيدي، البعض يقول: إننا نحن سكان الريف قد تعوَّدنا رؤية الحيوانات وهي تؤذي أو تقتل، وهذا ليس صحيحًا. ابني الصغير ظلَّ يبكي عِدَّة أيام، جميل أنكَ توقَّفتَ وانتظرتَ «نيللي» يا سيدي. هل تتفضَّل لتناوُل فنجان من الشاي، بما أنكَ قد نزلتَ من السيارة؟ مرحبًا بك يا سيدي، أهلًا وسهلًا! سيكون ذلك مفيدًا لكَ في طريقك.

– هذا كرمٌ كبيرٌ منك، ولكنني أعتقد أنني لا بدَّ من أن أواصل طريقي. أريد أن أصل إلى «ساليسبري» في وقت مناسب لأتمكَّن من إلقاء نظرة على الأماكن الجميلة في المدينة.

– عندك حقٌّ يا سيدي … شكرًا لكَ مرةً أخرى!

انطلقتُ بالسيارة مرةً أخرى مُحافظًا على سرعة منخفضة توقُّعًا لمزيد من الحيوانات التي قد تعبُر الطريق. لا بدَّ من أن أقول إن شيئًا ما في هذا اللقاء قد أنعش روحي. العطف البسيط الذي تلقيتُ عليه الشكر، والكرم الشديد الذي تلقيتُه في المقابل؛ كل ذلك جعلني أشعر بالتفاؤل والإقبال على كل ما هو قادمٌ في الأيام التالية. كانت تلك هي حالتي المعنوية إذَن عندما واصلتُ رحلتي إلى «ساليسبري».

إلا أني أشعر بضرورة العودة للحظةٍ إلى موضوع والدي، فأنا يزعجني أن أكون قد أعطيتُ انطباعًا أنني عاملتُه بغِلظةٍ بخصوص قُدراته المتدهورة.

لم يكُن أمامي خيار آخر لتناوُل الموضوع على نحوٍ مختلفٍ عمَّا تناولتُه به، كما أظنُّ أنكَ ستوافقني على ذلك ما دمتُ قد شرحتُ لك مدى أهمية تلك الأيام، أيْ إنني أريد أن أقول إن المؤتمر العالمي الوشيك الذي كان سيُعقَد في «دارلنجتون هول» لم يترك لنا فرصةً للتساهل ولا لأنْ نحوم حول الموضوع. ومن المُهمِّ أن نتذكر أيضًا أنه بالرغم من أن كان سيشهد أحداثًا أكثر، وعلى نفس الدرجة من الأهمية على مدى الخمس عشرة سنةً التالية، وبالرغم من أن مؤتمر الثالث والعشرين من مارس كان هو أولها، إلا أنني لم يكُن لديَّ خبرةٌ كافية، ولم أكُن أميل إلى ترك أمور كثيرة للمصادفة. والحقيقة أنني كثيرًا ما أعودُ بذاكرتي إلى ذلك المؤتمر، لأكثر من سبب، وأراه نقطةَ تحوُّل في حياتي؛ فهو من ناحيةٍ يُعتبَر اللحظة التي وصلتُ فيها وفي مهنتي إلى منصب رئيس الخدم. لا أقصد بهذا طبعًا أنني أصبحتُ رئيس خدم عظيمًا، فمن الصعب أن أُصدِر أحكامًا من هذا القَبيل. ولكنْ لو شاء أحدٌ أن يقول إنني قد حقَّقتُ ولو قدْرًا ضئيلًا من تلك الصفة (الكرامة) في حياتي العملية، فلعله يريد أن يعود إلى ذلك المؤتمر الذي عُقِد عام ۱۹۲۳م، فهو اللحظة التي ظهر فيها لأول مرة ما لديَّ من قُدرات لامتلاك تلك الصفة.

كان المؤتمر أحد الأحداث الحاسمة في تطوُّري الشخصي، ويُمثِّل مرحلةَ تحدٍّ تجعل المرء ينطلق بأقصى إمكانياته ويتجاوزها، وبعدها يكون لديه معايير جديدة يحكُم بها على نفسه. وهو مؤتمر لا يُنسى لأسباب أخرى مختلفة كما أودُّ أن أوضح هنا.

كان مؤتمر ۱۹۲۳م ذروةَ تخطيطٍ طويلٍ من جانب «لورد دارلنجتون»، والحقيقة أنني عندما أستعيد الأحداث، أرى بوضوح كيف كان سيادته يتحرك نحو تلك النقطة منذ ثلاث سنوات وربما أكثر.

وكما أتذكر فإنه لم يكُن في البداية مشغولًا بمعاهدة السلام عندما عُقِدَت في أعقاب الحرب العُظمى، وأعتقد أن من الإنصاف القول إن اهتمامه لم يكُن مدفوعًا إلى حدٍّ كبيرٍ بتحليل المعاهدة، بل بسبب صداقته للهر «كارل هاينز بريمان».

الهر «بريمان» زار «دارلنجتون هول» بعد الحرب بفترة قصيرة جدًّا، وكان لا يزال في الخدمة العسكرية، وكان من الواضح أن بينه وبين «لورد دارلنجتون» صداقةً حميمة.

لم يكُن ذلك مفاجئًا لي، حيث كان يمكن أن ألحظ من نظرة واحدة أن السيد «بريمان» رجلٌ في غاية الدماثة. بعد أن ترك الجيش الألماني، كان يجيء بانتظام على مدى العامَين التاليَين، وكان من السهل أن نلاحظ — مع بعض الانزعاج — ذلك التدهور الذي ينتابه من زيارة لأخرى. ثيابه تزداد رثاثة، وجسمه يصبح أكثر نحولًا، وتبدو في عينيه نظرةُ حيرةٍ وتساؤل. وفي زياراته الأخيرة كان يُمضي فتراتٍ طويلةً ذاهلًا عن وجود سيادة «اللورد» معه، وأحيانًا كان لا يعي أن الكلام مُوجَّه إليه. كان يمكن أن أستنتج أن «الهر بريمان» يعاني من مَرضٍ عُضال، لولا بعض الملاحظات التي أبداها سيادة «اللورد» في ذلك الوقت، مؤكِّدًا أن الأمر لم يكُن كذلك؛ أيْ إن الرجل لم يكُن ليعاني من أيِّ مَرض.

لا بدَّ من أننا كنَّا في نهاية عام ١٩٢٠م عندما قام «لورد دارلنجتون» بأول رحلة من رحلاته العديدة إلى «برلين»، وأستطيع أن أتذكر الأثر العميق لذلك عليه. بعد عودته ظلَّ جوٌّ ثقيلٌ من الانشغال والهمِّ مُخيِّمًا عليه لعِدَّة أيام، وأذكر أنه مرةً قال لي عندما سألتُه كيف كانت رحلتُه: «كانت مزعجةً يا «ستيفنس» … مزعجةً جدًّا. من العار علينا أن نعامل عدوًّا مهزومًا على هذا النحو، ذلك انتهاكٌ تامٌّ لتقاليد هذا البلد.»

ولكن هناك ذكرى أخرى ظلَّت حيةً معي، وهي متعلقة بالأمر نفسه. قاعة الاحتفالات القديمة ذات السقف العالي الرائع، والتي لا يوجَد بها طاولة الآن، أصبحَت اليوم مناسبةً ﻟ «مستر فراداي» وتفي بأغراضه كقاعةِ عرض. أيام سيادة «اللورد» كانت القاعة مطلوبةً باستمرار، وكانت الطاولة الضخمة الموجودة بها تستوعب ثلاثين ضيفًا أو أكثر لتناوُل العشاء، وهي بالفعل واسعةٌ وكان بالإمكان — عند الضرورة — إضافة عدد آخر من الطاولات لاستيعاب خمسين ضيفًا. في الأيام العادية كان «لورد دارلنجتون» يتناول وجباته، كما يفعل «مستر فراداي» اليوم، في غرفة العشاء حيث الجوُّ أكثر حميمية، وهي تتسع لحوالي اثني عشر شخصًا.

ولكن في تلك الليلة الشتوية التي أتذكرها جيدًا، كانت غرفة العشاء مهجورةً لسببٍ ما، وكان «لورد دارلنجتون» يتناول عشاءه مع ضيف واحد — أعتقد أنه كان «سير ريتشارد فوكس» زميله منذ أيام عمل سيادته في وزارة الخارجية — في قاعة الاحتفالات الواسعة. ولا شكَّ في أنكَ ستوافقني عندما أقول إن أصعب المواقف الخاصة بالخدمة على العشاء، هي عندما يكون هناك اثنان فقط.

أنا شخصيًّا أفضِّل خدمةَ شخص واحد، حتى وإن كان غريبًا، ولكنْ عندما يكون هناك اثنان، وحتى عندما يكون أحدهما مخدومك، يصبح من الصعب تحقيقُ ذلك التوازن بين اليقظة والتظاهر بعدم الوجود، ذلك التوازن الضروري في عمل الخادم. في مثل هذا الموقف نادرًا ما يكون المرءُ متحرِّرًا من الشكِّ في أن وجوده مفيد للحديث. في تلك المرة كان معظم الغرفة مُظلمًا، وكان الرجلان يجلسان جنبًا إلى جنبٍ في منتصف الطاولة تقريبًا. ولأن الطاولة كبيرة وعريضة، كان من الصعب أن يجلسا متقابلَين. كانا جالسَين في بقعة الضوء التي تُلقيها شموع الطاولة والمدفأة التي تطقطق في الناحية الأخرى. حاولتُ أن أجعل وجودي غير ملحوظ بأن وقفتُ في الظلام بعيدًا عن الطاولة، وهذا أكثر ممَّا أفعله عادةً. كان لتلك الفكرة عيبُها بالطبع؛ لأنني عندما كنتُ أتقدم في كل مرة نحو الضوء لأخدم السيدَين، كانت أقدامي تُحدِث صدًى طويلًا قبل أن أصل إليهما، فتلفت النظر لاقترابي بشكل واضح، أمَّا ميزتها الوحيدة فكانت أنها تجعل هيئتي واضحةً جزئيًّا بينما أنا ثابتٌ في مكاني.

وبينما أنا واقفٌ هكذا في الظلام على مَقربةٍ من المكان الذي يجلس فيه السيدان، في منتصف الطاولة بين صفوف المقاعد الخالية، سمعتُ «لورد دارلنجتون» يتكلم عن «الهر بريمان». كان صوته هادئًا وناعمًا كعادته، يتردَّد صداه وسط الجدران العالية. سمعتُه يقول: «كان عدوِّي، ولكنه كان يتصرف دائمًا تصرف «الجنتلمان»، كلانا كان يعامل الآخر بشكل محترم ومُهذَّب، على مدى ستة أشهر، ونحن يقصف كلٌّ منَّا الآخر. كان «جنتلمان» يؤدِّي واجبه، ولم أكُن أحمل له أيَّ حقد أو ضغينة. قلتُ له: انتبه! نحن أعداء، وسوف أحاربك بكل ما أملك من وسائل، ولكننا سنشرب كأسًا معًا بعد أن ينتهي هذا العمل التَّعِس.»

الشيء التَّعِس هو أن تلك المعاهدة جعلَتني كذابًا؛ أقصد أنني قلتُ له إننا لن نكون أعداءً بمجرَّد انتهائها.

ولكنْ كيف يمكن أن أواجهه الآن أو أنظر في وجهه وأقول له إن ذلك قد تحقَّق؟

وبعد وقت قصير، في تلك الليلة نفسها، قال سيادته بجديةٍ وهو يهزُّ رأسه: «لقد خضتُ هذه الحرب لأحافظ على العدالة في هذا العالم. وعلى قدْر ما فهمتُ لم أكُن مشاركًا في ثأرٍ ضدَّ الجيش الألماني.»

واليوم، عندما يسمع المرء الأقاويل عن سيادته، عندما يسمع المرء مثل تلك التوهُّمات والتخرُّصات عن دوافعه، كما يحدث كثيرًا هذه الأيام، يسرُّني أن أستعيد ذكرى تلك اللحظة، عندما كان يُردِّد تلك الكلمات المؤثرة في قاعة الاحتفالات الخالية.

ومهمَا كانت التعقيدات التي ظهرَت في مسيرة سيادته على مدى السنوات التالية، إلا أنني لا يمكن أن أشكَّ أبدًا في أن الرغبة في رؤية العدالة تسود العالم كانت في الصميم من كل أعماله.

ولم يمرَّ وقتٌ في ذلك المساء، حتى جاءت الأخبار الحزينة أن «الهر بريمان» أطلق الرصاص على نفسه في القطار بين «هامبورج» و«برلين». وبالطبع كان سيادته حزينًا جدًّا، وقام في الحال بوضع خُطةٍ لإرسال المعونات، ومواساته ﻟ «فراو بريمان». إلا أنه بعد عِدَّة أيام من المحاولة والسعي الذي بذلتُه أنا أيضًا لتقديم المساعدة، لم يكُن سيادته قادرًا على اكتشاف مكانِ أحدٍ من أُسرة «الهر بريمان». وبدَا أن سيادته كان بلا سكن لفترةٍ ما، وأن أُسرته تشتَّتَت. وأنا أعتقد جازمًا أنه حتى بصرف النظر عن هذا الخبر المأساوي، فإن «لورد دارلنجتون» كان سيمضي في نفس المسار الذي اتخذه. كانت الرغبة في أن يرى نهايةً للظلم والمعاناة متأصلة في طبيعته بعمق، وكان لا يمكن أن يكون غير ذلك. وما حدث في الأسابيع التي تلَت موت «الهر بريمان» هو أن سيادته بدأ يُخصِّص ساعاتٍ أكثر وأكثر لقضية الأزمة التي حدثَت في ألمانيا. مشاهير ورجال متنفذون أصبحوا من الزوَّار المنتظمين للقصر، منهم على ما أذكر «لورد دانيلز» و«مستر جون مانيارد كينز» و«مستر ﻫ. ج. ويلز»، المؤلِّف الشهير، إلى جانب آخرين من المحظور أن أذكر أسماءهم هنا، كانوا يجلسون كثيرًا مع سيادته يتناقشون بالساعات.

بعض الزائرين بالطبع لم يكُن مسموحًا بإعلان أسمائهم، ولدرجة إعطائي تعليماتٍ بأن العاملين لا يجب أن يعرفوا شيئًا عن هُويَّاتهم أو النظر إليهم أحيانًا، وأنا أقول ذلك ببعض الفخر والاعتزاز، إلا أن «لورد دارلنجتون» لم يحاول أبدًا أن يُخفيَ شيئًا عن عينيَّ وأذنيَّ. أذكر أن البعض كان يتوقف أحيانًا عن الكلام في منتصف الجملة وينظر إليَّ، وكان سيادته يقول: هذا جيد، تستطيع أن تقول أيَّ شيء أمام «ستيفنس» بكل تأكيد.

وعلى مدى العامَين اللذَين أعقبَا وفاة «الهر بريمان»، نجح سيادته، هو و«السير ديفيد كاردينال» الذي أصبح أقرب حُلفائه في ذلك الوقت، في عمل تحالُف عريض من الأشخاص الذين يشتركون في الاعتراف بأن الوضع في ألمانيا لا ينبغي أن يستمرَّ على ما هو عليه. ولم يكُن أولئك من البريطانيين أو الألمان فقط، بل كان بينهم بلجيك وفرنسيون وطليان وسويسريون، وكان منهم الدبلوماسيون وكبار الساسة ورجال الدين والعسكريون المتقاعدون والكُتَّاب والمُفكرون.

كان البعض، مثل سيادته، يشعر بأن اللعب في «فرساي» لم يكُن نظيفًا، وأن الاستمرار في عقاب أمَّة من أجل حربٍ قد انتهَت، ليس أمرًا أخلاقيًّا. صحيحٌ أنهم كانوا يُبدون اهتمامًا أقلَّ بألمانيا وسكانها، ولكنهم كانوا يرَون أن الفوضى الاقتصادية في البلاد قد تنتشر بسرعة مخيفة في العالم كله، إن لم يتمَّ إيقافُها.

وبنهاية عام ١٩٢٢م، كان سيادته يعمل وفي ذهنه هدفٌ واضح؛ وهو أن يجمع تحت سقف «دارلنجتون هول» أكثر المسئولين نفوذًا من الذين حصل على دعمهم لفكرة عقد مؤتمر دولي «غير رسمي»، مؤتمر يناقش البنود المُجحفة في معاهدة «فرساي». ولكي يكون ذا قيمة، فإن مؤتمرًا كذلك يجب أن يكون له وزن وتأثير حاسم على المؤتمرات الدولية «الرسمية» التي عُقِد العديد منها بغرض مراجعة الاتفاقية، ولم تُخلِّف سوى الارتباك والمرارة.

كان رئيس وزرائنا في تلك المرحلة، مستر «لويد جورج»، قد دعَا إلى مؤتمر كبير آخر يُعقَد في إيطاليا، في ربيع ۱۹۲۲م، وكان هدف سيادته في البداية تنظيم تجمُّع في «دارلنجتون هول» لتوفير نتيجة مُرضية لهذا الحدث. وبالرغم من الجهد الشاق الذي قام به مع «السير ديفيد»، إلا أن ذلك كان موعدًا نهائيًّا صعبًا. ولكن بسبب انفضاض مؤتمر «مستر جورج» دون الوصول إلى قرارات، راح سيادته يفكر في مؤتمر كبير آخر تقرَّر أن يُعقَد في سويسرا في العام التالي. وأتذكر أنني ذات صباح في تلك الفترة، وأنا أحمل قهوة «لورد دارلنجتون» إليه في قاعة الإفطار، أنه قال لي باشمئزاز وهو يطوي جريدة «التيمز»: «فرنسيون! أريد أن أقول يا «ستيفنس» إنهم بالفعل ليسوا سوى فرنسيين!»

– نعم يا سيدي.

– وعندما يفكر المرء في أن العالم يمكن أن يرانا معهم ذراعًا في ذراع، يتمنَّى أن يغتسل … لا بدَّ من أن يغسل نفسه لمجرَّد التفكير في ذلك.

– نعم يا سيدي.

– وعندما كنتُ في «برلين» آخر مرة يا «ستيفنس»، جاءني البارون «أوفيراث»، أحد أصدقاء والدي القُدامى، وقال: «لماذا تفعلون ذلك بنا؟ ألا ترَون أننا لا يمكننا أن نستمرَّ هكذا؟»

كنتُ فعلًا أودُّ أن أقول له ذلك، ولكني أعتقد أن المرء لا يمكنه أن يفعل شيئًا كهذا. لا يجب أن نذكر حلفاءنا بهذا السوء، أو نتكلم عنهم بمثل هذا الأسلوب.

ولكن لأن الفرنسيين هم الأكثر عنادًا وتصلبًا في موضوع تخليص ألمانيا من قسوة وظلم معاهدة «فرساي»، أصبحَت هناك حاجة مُلِحَّة لأنْ يكون هناك فرنسي واحد، على الأقلِّ، ضمن تجمُّع «دارلنجتون هول»، ويكون له تأثير واضح على سياسة بلاده الخارجية.

والحقيقة أنني سمعتُ سيادته عِدَّة مرات يُعبِّر عن رأيه قائلًا إنه بدون إسهام شخصي كذلك، فإن مناقشة أيِّ موضوع يتعلق بألمانيا لن تكون أكثر من فضفضة شخصية لا تأثير لها. وبناءً على ذلك شرع سيادته، هو و«سير ديفيد»، في هذه الاستعدادات والتحضيرات التي تُعبِّر عن إصرار وعزم في وجه الإحباطات المتكررة، فقد أرسَلَا العديد من الرسائل والبرقيَّات، كما قام سيادته شخصيًّا بثلاث رحلات إلى «باريس» في مدى شهرَين. وفي النهاية، بعد أن تأكَّدَا من موافقة شخصية فرنسية بارزة — سأُسميه مسيو ديبو — على حضور المؤتمر على أساس واضح، وهو أنه يحضُره بصفة غير رسمية، تمَّ تحديدُ الموعد، وكان ذلك في شهر مارس ۱۹۲۳م.

ومع اقتراب الموعد كانت الضغوط تتزايد عليَّ، رغم أنها بطبيعتها كانت أقلَّ من تلك الواقعة على سيادته. كنتُ أعرف جيدًا أن أيَّ إقامة غير مُريحة لأيِّ ضيف في «دارلنجتون هول» سيكون لها أثر كبير، إلى جانب ذلك فإن عدم تأكدي من العدد المُشارِك جَعَل تخطيطي لتلك المناسبة أكثر صعوبة.

ولأن المؤتمر كان على مستوًى عالٍ جدًّا، كان المشاركون ثمانية عشر فقط من الرجال وسيدتان؛ «كونتيسة» ألمانية، والسيدة المَهيبة «اليانور أوستن» التي كانت ما زالت مُقيمةً في «برلين» حتى ذلك الحين. ولكن كل واحد من الضيوف سيُحضِر معه خدمًا وسكرتارية ومترجمين، ولم تكُن هناك أيَّة إمكانية لمعرفة العدد المتوقَّع بالضبط. والأصعب من ذلك أن عددًا من المشاركين كان سيحضُر قبل الأيام الثلاثة المُحدَّدة للمؤتمر بغرض التحضير والتعرف على الآخرين، بالرغم من أن مواعيد حضورهم أيضًا لم تكُن معروفةً لنا بالتحديد.

كان من الواضح إذَن أن العاملين لا بدَّ من أن يعملوا بجد، وأن يكونوا على أُهبة الاستعداد وعلى درجة عالية من المرونة.

وكنتُ أشعر أحيانًا في الواقع بأن ذلك التحدِّي الكبير لا يمكن أن نتغلب عليه سوى بالاستعانة بعدد إضافي من العامين من الخارج، وبصرف النظر عن خشية سيادته من انتشار الثرثرة، فقد استبعدتُ هذا الخيار خوفًا من وقوع أخطاء من عناصر غير معروفة قد تُكلِّفنا كثيرًا. وهكذا بدأتُ أحضُر للأيام القادمة كأنني جنرال يحضُر لمعركة. وضعتُ خُطةَ عملٍ مُحكمةً لفريق الخدم، تضع في الاعتبار كافة التوقعات والاحتمالات؛ درستُ مكامن الضعف لدينا، وفكرتُ في خُطط طوارئ في حال حدوث أيِّ خطأ. تكلمتُ مع العاملين مثل قائد عسكري يرفع معنويات جنوده، وذلك لاستثارة حماسهم وإقناعهم بأنهم بالرغم من العمل الشاق، إلا أنهم سيشعرون بالفخر لأنهم يؤدُّون واجبهم. قلت لهم: «تحت سقف هذا المبنى سيتمُّ صنعُ التاريخ.» ولأنهم كانوا يعرفون أنني شخص غير معروف بالمبالغة؛ أدركوا أنهم كانوا مُقبِلين على شيء شديد الأهمية.

ستفهم إذَن شيئًا عن الجوِّ العام الذي كان سائدًا في أرجاء «دارلنجتون هول»، عندما وقع والدي أمام السقيفة، ومعنى أن يحدث ذلك قبل أسبوعَين من وصول أول ضيوف المؤتمر وما أعنيه بقولي إنه لم تكُن هناك إمكانية لترك أيِّ شيء للمصادفة. اكتشف والدي بسرعة طريقة لكي يروغ من تحديد مهامِّه، عندما قرَّروا ألَّا يحمل أيَّ صينية مُكدَّسة بأشياء كثيرة. منظره وهو يدفع أمامه عربة «تروللي» عليها أدوات ومواد التنظيف موضوعةً بشكل مُرتَّب حول أباريق الشاي والأكواب والفناجين لدرجة أنها كانت تبدو أحيانًا مثل عربة يد بائع جوَّال، منظره هذا أصبح مألوفًا في القصر. واضحٌ أنه كان ما زال لا يستطيع أن يقتنع بالتخلي عن واجباته في غرفة الطعام، ولكن «التروللي» مكَّنه من إنجاز أشياء كثيرة. والحقيقة أنه مع اقتراب موعد التحدِّي الكبير، أقصد المؤتمر، اعترى والدي تغيُّر هائل. وكأن قُوًى خارقةً للطبيعة تملَّكَته فجعلَته يصغر عشرين عامًا. تلاشت من وجهه النظرة الغائرة التي كانت له في الأعوام الأخيرة، وكان يقوم بواجباته بحمية الشباب لدرجةٍ تجعل أيَّ شخص غريب يتصور أن هناك أكثر من شخص يدفع عربات «تروللي» أمامهم في أروقة وممرات «دارلنجتون هول». أمَّا بالنسبة ﻟ «مس كنتون» فأنا أتذكر ذلك التوتر المتنامي وأثره الملحوظ الذي كان يبدو عليها في تلك الأيام. أذكر مثلًا تلك المرة عندما التقيتُها في الممر الخلفي؛ ذلك الممر الذي يُعتبر العمود الفقري لأجنحة العاملين في «دارلنجتون هول»، وكان دائمًا مكانًا كئيبًا إلى حدٍّ ما نتيجةَ قِلَّة الضوء الذي يصل إليه بالنهار بسبب طوله الكبير، حتى في أيام الصحو كان يبدو مُظلمًا، ويكون السائر فيه مثل السائر في نفق.

لو لم أتعرَّف على وقع أقدام «مس كنتون» على الأرضية الخشبية وهي تقترب مني في ذلك اليوم، لكان يمكن أن أعرفها من هيئتها. توقَّفتُ أنا عند أحد الأماكن القليلة التي يخترقها شعاعُ ضوء، ثم قلتُ وهي تقترب مني: «مس كنتون … من فضلك …»

– نعم يا مستر ستيفنس!

– أرجو أن ألفت انتباهك إلى أن أغطية الأَسِرَّة في الدَّور العلوي يجب أن تكون جاهزةً بعد الغد.

– كل شيء تحت السيطرة يا مستر ستيفنس.

– يُسعدني أن أسمع ذلك، ولكنه مجرَّد شيء تذكرتُه ليس إلا.

وهممتُ بمواصلة سَيري، ولكن «مس كنتون» لم تتحرك من مكانها.

تقدَّمَت خطوةً أخرى نحوي بحيث وقع شعاع ضوء على وجهها، فكان يمكن أن أرى تعبير الغضب عليه.

– من أسفٍ يا «مستر ستيفنس» أنني مشغولة جدًّا الآن، وليس لديَّ لحظة واحدة. لو كان لدي مثلك متسع من الوقت لأسعدني أن أجول في هذا القصر، لكي أُذكرك بواجباتك الكثيرة.

– ليس هناك ما يدعو للغضب هكذا يا «مس كنتون»، لقد شعرتُ فقط بالرغبة في معرفة أن ذلك لم يغِب عن اهتمامك.

– هذه هي المرة الرابعة يا «مستر ستيفنس» في اليومَين الأخيرَين تشعر فيها بهذه الرغبة، وغريبٌ أن أجد لديك متسعًا من الوقت لكي تجُول هكذا في أرجاء المكان وتزعج الآخرين بمثل تلك التعليمات التي لا مُبرِّر لها.

– لو ظننتِ للحظة يا «مس كنتون» أن لديَّ متسعًا من الوقت، فإن ذلك يوضح عدم خبرتك أكثر من أيِّ شيء آخر. أنا واثقٌ من أنكِ في السنوات القادمة ستكون لديك فكرةٌ أفضلُ عمَّا يدور في مكانٍ كهذا.

– تتكلم كثيرًا عن عدم خبرتي يا «مستر ستيفنس»، وبالرغم من ذلك لا تستطيع أن تُحدِّد لي عيبًا أو نقصًا واحدًا في عملي. ولا شكَّ في أنكَ كنتَ ستفعل ذلك، وبالتفصيل، منذ وقتٍ بعيد. والآن لديَّ أعمال كثيرة يجب إنجازُها، وسأكون شاكرةً لو أنكَ لم تتبعني وتقاطعني هكذا. أمَّا إذا كان لديك وقت كثير لا تعرف ماذا تفعل به، فأنا أقترح عليكَ أن تخرج لتتمشَّى في الهواء الطلق، وسيكون ذلك مفيدًا جدًّا لك.

انصرفَت من أمامي وهي تدقُّ الأرض بقدمَيها، أمَّا أنا فقرَّرتُ ألَّا أترك الأمر يتطور أكثر من ذلك، فمضيتُ في طريقي. لم أكد أصل إلى مدخل المطبخ حتى سمعتُ وقْع أقدامها عائدةً نحوي.

قالت: «والحقيقة يا «مستر ستيفنس» أنني أرجو من الآن فصاعدًا ألَّا تتكلم معي مباشرةً.»

– ماذا تقولين يا «مس كنتون»؟

– عندما يكون من الضروري أن تُبلغني رسالةً أرجو أن يكون ذلك عن طريق طرف ثالث، أو يمكنك أن تكتب مذكرةً وترسلها إليَّ. أعتقد أن علاقة العمل بيننا ستكون أفضل.

– مس كنتون …

– أنا مشغولة جدًّا يا «مستر ستيفنس». مذكرة مكتوبة إن كانت الرسالة مُعقَّدة. وربما قد تُفضِّل أن تتكلم مع «مارتا» أو «دوروثي» أو أيَّة واحدة من العاملات اللاتي تثق بهن. أمَّا الآن فلا بدَّ من أن أعود لعملي وأتركك لجولاتك.

وبالرغم من أن تصرُّف «مس كنتون» كان مُزعجًا هكذا، إلا أنني لم أُعِره اهتمامًا كبيرًا، لأن أول الضيوف كان قد وصل. الممثلون القادمون من الخارج كان أمامهم يومان أو ثلاثة، الضيوف الثلاثة الذين كان يشير إليهم سيادتُه على أنهم «فريقُه المحلي» — وزيرَا خارجية يحضُران المؤتمر بشكل غير رسمي، و«السير ديفيد كاردينال» — فكانوا قد وصلوا مُبكرين، لكي يُجهزوا للمؤتمر على قدْر استطاعتهم. وكالعادة لم تكُن هناك محاولات تُذكر لإخفاء شيء عني عندما أدخل أو أخرج من الغرف المختلفة، حيث كان أولئك السادة يتناقشون فيها بعمق. وهكذا لم يكُن مُمكِنًا الخروج بانطباع مُعيَّن عن الحالة المعنوية العامة في هذه المرحلة التحضيرية للمؤتمر.

وبالطبع فإن سيادة «اللورد» وزملاءه كانوا مَعنيِّين بأن يُبلغ بعضهم الآخر، وبشكل دقيق وموجز، عن الأشخاص المُتوقَّع حضورُهم، إلا أن التركيز كان على شخص بعينه، وهو «المسيو ديبو» الفرنسي، وعلى توجُّهاته وما يحبُّ وما يكره.

حدث أن دخلتُ ذات مرة إلى غرفة التدخين فسمعتُ أحد السادة يقول: «إن مصير أوروبا قد يكون مُتوقفًا على قُدرتنا على أن نجعل «مسيو ديبو» يوافق على هذه النقطة.» وكان في خِضمِّ تلك المناقشات، أن عُهِد إلى سيادة «اللورد» بمهمَّةٍ من الغريب أن تظلَّ عالقةً بذاكرتي إلى اليوم، إلى جانب ما وقع من أحداث في ذلك الأسبوع الاستثنائي.

استدعاني «لورد دارلنجتون» إلى مكتبته، ولاحظتُ لأول وهلة أنه كان متوترًا إلى حدٍّ ما. جلس إلى مكتبه وفتح كتابًا أمامه كعادته — كان هذه المرة كتاب أشهر الشخصيات في التاريخ — وراح يقلب إحدى الصفحات عِدَّة مرات. بدأ متظاهرًا بعدم الاكتراث: «هيه يا ستيفنس!» ثم بدَت عليه الحيرة، لا يعرف كيف يُكمل عبارته. بقيتُ في مكاني متأهبًا لإزالة القلق عنه عند أول فرصة. راح يقلب الصفحة للحظة، وانحنى لكي يفحص أحد العناوين، ثم قال: «ستيفنس، أعرفُ أنه شيء غير عادي، ومع ذلك أطلب منك أن تفعله.»

– نعم يا سيدي؟

– الحقيقة أن هناك أشياءَ كثيرةً مُهمةً تشغلني الآن.

– يسرُّني أن أكون مفيدًا، وأن أقوم بأيَّة مساعدة يا سيدي.

– آسف أن أطلب منكَ شيئًا كهذا يا «ستيفنس»، وأعرف أنكَ لا بدَّ من أن تكون مشغولًا جدًّا أنتَ أيضًا، ولكنني لا أعرف كيف يمكن أن يتمَّ ذلك.

انتظرتُ لحظةً بينما أعاد سيادتُه كتاب «أشهر الشخصيات».

ثم قال دون أن يرفع رأسه: «أعتقد أنكَ مُلِم بحقائق الحياة.»

– ماذا يا سيدي؟

– حقائق الحياة يا ستيفنس؛ الطيور، النحل … أنتَ مُلِم بذلك … أليس كذلك؟

– أخشى ألَّا أكون قد فهمتُ قصدك يا سيدي.

– دعني أكشف أوراقي يا «ستيفنس»؛ «السير ديفيد» صديق قديم جدًّا، وكان مُهمًّا جدًّا في تنظيم هذا المؤتمر. ويمكن أن أقول إن لولاه لمَا تمكنَّا من الحصول على موافقة «مسيو ديبو» على الحضور.

– نعم يا سيدي.

– إلا أن ﻟ «سير ديفيد» جانبه الهزلي يا «ستيفنس»، وربما تكون قد لاحظتَ ذلك بنفسك. لقد أحضر ابنه «رينالد» معه ليكون سكرتيرًا له، والحقيقة أنه خاطبٌ وسوف يتزوج، أقصد «رينالد» الصغير.

– نعم يا سيدي.

– سأصل إلى النقطة المُهمَّة يا «ستيفنس»، أنا بالمناسبة عرَّاب الشابِّ الصغير، وعليه فقد طلب مني «سير ديفيد» أن أشرح له حقائق الحياة.

– نعم يا سيدي.

– «سير ديفيد» يجد الأمر مُخيفًا … له رهبةٌ إلى حدٍّ ما، ويشكُّ في أن بإمكانه إنجازه قبل يوم زفاف «رينالد».

– نعم يا سيدي.

– والحقيقة أنني مشغول جدًّا يا «ستيفنس»، ولا بدَّ من أن «سير ديفيد» يعلم ذلك، إلا أنه طلب مني أن أقوم بالمَهمَّة. ثم توقف سيادتُه عن الكلام وراح يقرأ في الصفحة الموجودة أمامه.

قلتُ: «هل أفهم من ذلك يا سيدي أنكَ تريدني أن أنقل المعلومات إلى الشاب؟»

– إن كان ذلك لا يثقل عليك يا «ستيفنس». إنه موضوع يشغل تفكيري ويُرهقني. «السير ديفيد» يسألني كل ساعتَين تقريبًا إن كنتُ قد فعلتُ ذلك أم لا.

– فهمتُ يا سيدي. لا بدَّ من أن يكون ذلك مُرهقًا في مثل هذه الظروف.

– هذا بالطبع خارج نطاق واجباتك يا ستيفنس.

– سأبذل قُصارى جهدي يا سيدي، إلا أنني قد أجد صعوبةً ما في اختيار اللحظة المناسبة لنقل مثل هذه المعلومات.

– سأكون شاكرًا لمجرَّد المحاولة يا «ستيفنس». هذا لطيفٌ منك. اسمع … لا داعيَ للكلام عن هذا الموضوع. انقل إليه المعلومات الضرورية فقط وانسَ الحكاية. الأسلوب البسيط هو الأفضل. هذه نصيحتي يا ستيفنس.

– نعم يا سيدي، سأبذل كل جهدي.

– شكرًا جزيلًا يا «ستيفنس». دعني أعرف كيف ستنجح في ذلك.

– لا بدَّ من أن تتوقع أنني كنتُ قد فُوجئتُ بهذا الطلب، وكان من الطبيعي أن أفكر فيه. ولأنه جاء وأنا في قمة انشغالي قررتُ أن أنجزه في أقرب فرصة حتى أفرغ منه.

وأذكر أنني بعد ساعة واحدة من تكليفي بهذه المَهمَّة لاحظتُ وجود «مستر كاردينال» الأصغر بمفرده في المكتبة جالسًا على طاولة، ومستغرقًا في بعض الأوراق. بتفحُّص الشابِّ عن قُرب، كان من السهل إدراك الصعوبة التي تنتاب سيادة «اللورد» وتنتاب والد الشابِّ بهذا الخصوص. كان الابن الروحي لسيادة «اللورد» يبدو طالبًا مجتهدًا، وتبدو على ملامحه سمات الجدية، وكنتُ أفضِّل أن يكون شابًّا خاليًا من الهموم، وأكثر طيشًا ليتناسب ذلك مع الأمر المطلوب. على أيَّة حالٍ لأنني كنتُ قد قررتُ أن أنتهيَ من ذلك على وجه السرعة، تقدمتُ داخل المكتبة ووقفتُ بالقُرب من الطاولة التي يجلس عليها، وسعلت. «عفوًا يا سيدي! لديَّ رسالة أودُّ أن أنقلها إليك.» رفع «مستر كاردينال» رأسه عن الأوراق التي أمامه، وقال: «حقًّا؟ رسالة من والدي؟»

– نعم يا سيدي … بالضبط.

– «دقيقة واحدة.» ومدَّ الشابُّ يده إلى حقيبة صغيرة كانت مُلقاةً عند قدمَيه وأخرج دفترًا وقلمًا، وقال: «هيَّا … بسرعة يا ستيفنس.» سعلتُ مرةً أخرى وحاولتُ أن يكون صوتي محايدًا قدْر الاستطاعة وأنا أقول: «سير ديفيد» يريدك أن تعرف يا سيدي أن السيدات والسادة مختلفون في نواحٍ كثيرة. وتوقفتُ قليلًا لكي أجد العبارة التالية، لأن «مستر كاردينال» تنهَّد قائلًا: «أعرف ذلك جيدًا يا ستيفنس، هلَّا دخلتَ في الموضوع مباشرةً؟» «أنت تعرف يا سيدي؟»

– إن والدي دائم الاستخفاف بي. لقد قرأتُ وبحثتُ كثيرًا في هذا المجال!

– هكذا إذَن يا سيدي؟

– أنا لم أفكر في شيء غير هذا الموضوع طيلةَ الشهر الماضي تقريبًا.

– حقًّا يا سيدي! في هذه الحال لا ضرورة إذَن لرسالتي.

– يمكنكَ أن تؤكد لوالدي أنني مُلم بذلك جيدًا. وهذه الحقيبة — ثم ركلها بقدمه — مليئة بمذكرات ومعلومات عن كل ما قد يتخيله المرء.

– هكذا إذَن يا سيدي؟!

– أعتقد أنني قد فكرتُ بالفعل في كل ما يمكن أن يدور بالعقل البشري. أرجو أن تؤكد ذلك لوالدي.

– سأفعل ذلك يا سيدي!

بدَا أن «مستر كاردينال» قد هدأ واسترخى قليلًا، ثم ركل حقيبته مرةً أخرى — الحقيبة التي شعرتُ بأنني لا بدَّ من أن أغضَّ الطرف عنها — وقال: «ربما تتساءل لماذا لا أتخلى عن هذه الحقيبة دائمًا. حَسَنٌ! ها أنتَ ذا تعرف الآن. لك أن تتخيَّل لو أن شخصًا ما فتحها بالخطأ!»

– سيكون ذلك أمرًا مُحرِجًا يا سيدي!

– «طبعا!» ثم جلس فجأة: «إلا إذا كان الوالد قد جاء بشيء جديد يريدني أن أفكر فيه.»

– لا أتخيَّل ذلك يا سيدي.

– لا؟ لا شيء بخصوص ذلك المدعو «ديبو»؟

– لا أظنُّ يا سيدي!

كنتُ أبذل قُصارى جهدي لكيلا أكشف شيئًا من قلقي؛ لأن الأمر الذي كنتُ أعتقد أنه قد انتهى، كان في الحقيقة ما زال مجهولًا أمامي، ولم أقترب منه. وأعتقد أنني كنتُ أستجمع أفكاري لبذل جهد آخر، عندما قام الشابُّ فجأةً مُمسِكًا بحقيبته مُتشبثًا بها وهو يقول: أعتقد أنني لا بدَّ من أن أخرج في الهواء الطلق قليلًا. شكرًا لمساعدتك يا ستيفنس.

كنتُ أنوي أن أُجريَ مقابلةً أطول مع «مستر كاردينال» بسرعة، ولكن ذلك كان مستحيلًا بسبب وصول «السيناتور» الأمريكي «مستر لويس» في ذلك المساء، وقبل يومَين من موعده. وكنتُ في غرفتي أقوم بمراجعة بعض القوائم الخاصة بموادِّ التموين، عندما سمعتُ أصوات سيارات تقف في الساحة. وبينما أنا مُسرع إلى الطابق الثاني، حدث أن وجدتُ أمامي «مس كنتون» في الممرِّ الخلفي، مسرح لقائنا الأخير بالطبع، وربما كانت تلك المصادفة السيئة هي التي شجَّعَتها على مواصلة ذلك السلوك الطفولي الذي مارسَته في المرة الماضية. لأنني عندما سألتُ عن الأشخاص الذين وصلوا، لم تتوقف «مس كنتون»، ومرَّت من أمامي وهي تقول بكل بساطة: «رسالة … إن كانت مسألةً عاجلةً يا مستر ستيفنس!» كان ذلك أمرًا شديدَ الإزعاج، ولكنْ لم يكُن أمامي خيار آخر سوى أن أسرع إلى الطابق العلوي.

ما أتذكره عن «مستر لويس» هو أنه كان رجلًا ذا ابتسامة لطيفة لا تفارق وجهه. وكان وصوله الباكر سببًا لضِيق واضح لسيادة «اللورد» والذين كانوا يتمنَّون يومًا أو يومَين من الخصوصية للانتهاء من استعداداتهم.

إلا أن طريقة «مستر لويس» الجذابة والودية، وقوله على العشاء إن الولايات المتحدة ستقف دائمًا إلى جانب العدل، ولا تمانع من الاعتراف بالأخطاء التي حدثَت في فرساي. كل ذلك ساعد على اكتساب ثقة فريق سيادة «اللورد». وأثناء العشاء كانت المناقشات تتمُّ بهدوء وثقة، وتنتقل بين موضوعات مثل مزايا منطقة بنسلفانيا — وهي منطقة «مستر لويس» — إلى المؤتمر القادم. وعندما كان السادة يدخنون السيجار كانت بعض المخاوف قد زالت بسبب ذلك الجوِّ الحميم. وفجأةً قال «مستر لويس» للحضور: «أنا مُتفِق معكم أيها السادة على أن «مسيو ديبو» شخص لا يمكن الاطمئنانُ إليه، لكن دعوني أقول إن هناك شيئًا واحدًا يمكن أن نراهن عليه. شيء واحد بكل تأكيد …»

ثم انحنى ولوَّح بسيجاره مؤكِّدًا: «ديبو يكره الألمان؛ كان يكرههم قبل الحرب كما يكرههم الآن، وبعنف، ومن الصعب عليكم أن تفهموا ذلك!» وجلس «مستر لويس» في مقعده وعادت الابتسامة العريضة اللطيفة إلى وجهه، ثم واصل كلامه: «لكنْ قولوا لي … هل يمكن أن تلوموا فرنسيًّا لأنه يكره الألمان؟ على كل حالٍ فإن الرجل لديه سبب كافٍ لهذا، أليس كذلك؟»

مرَّت لحظة ارتباك وحرج، بينما «مستر لويس» ينظر إلى الجالسين حول الطاولة. ثم قال «لورد دارلنجتون»: «بالطبع لا بدَّ من بعض المرارة، لكننا نحن الإنجليز أيضًا قد حاربنا الألمان طويلًا وبضراوة.»

قال «مستر لويس»: «لكنْ هناك فرق. يبدو أنكم يا معشر الإنجليز لم تعودوا تكرهون الألمان بالفعل. الموضوع، كما يراه الفرنسيون، أن الألمان قد دمَّروا الحضارة هنا في أوروبا، وأن عدم عقابهم سيكون أمرًا سيئًا. وهذا بالطبع يبدو موقفًا غير عملي بالنسبة لنا في الولايات المتحدة، ولكن الشيء الذي كان يُحيِّرني دائمًا هو أنكم، معشر الإنجليز، لا تشاركون الفرنسيين هذه النظرة، وكما تقول؛ فإن بريطانيا قد خسرَت الكثير في تلك الحرب أيضًا.»

ثم كانت هناك لحظة حذر، قبل أن يقول «سيرديفيد» بهدوء: «نحن الإنجليز كان لنا دائمًا أسلوبنا المختلف عن الفرنسيين يا مستر لويس.» فاتسعَت ابتسامة «مستر لويس» وهو يقول: «تقصد نوعًا من الاختلاف المزاجي!» ثم راح يهزُّ رأسه وكأن أشياء كثيرة قد باتت واضحةً له، وجذب نفسًا عميقًا من سيجاره. يمكن أن يكون ذلك حالةَ إدراك أصبحَت تُلوِّن ذاكرتي مؤخرًا، بَيْدَ أنني أشعر بوضوح بشيء غريب لأول مرة؛ أشعر بشيء من الازدواجية في شخصية هذا السيد الأمريكي الذي يبدو جذابًا. ولكن إذا كانت شكوكي الخاصة قد أُثيرَت في تلك اللحظة، فإن «اللورد دارلنجتون» لم يكُن ليشاركني إياها، لأنه بعد فترة قصيرة من السكوت الحذر بدَا أن سيادته قد وصل إلى قرار. قال: «دعني أقول بصراحة يا «مستر لويس». معظمنا في إنجلترا يرَون الموقف الفرنسي الحالي موقفًا حقيرًا جديرًا بكل ازدراء. قد تعتبر ذلك اختلافًا مزاجيًّا، إلا أنني أزعم أننا نتحدث عن شيء أكبر من ذلك. لا يليق بنا أن نستمرَّ في كراهية عدوٍّ، هكذا، بعد أن انتهى الصراع. عندما تنجح في إسقاط خصمك على الحلبة لا بدَّ من أن تكون تلك هي نهاية المسألة، لن تستمرَّ في ضربه ثم تركله وتتركه. وبالنسبة لنا فإن السلوك الفرنسي قد أصبح همجيًّا، وبشكلٍ متزايد.»

ويبدو أن هذا القول حقَّق ﻟ «مستر لويس» بعض الارتياح، فابتسم ابتسامةَ رضًا وهَمْهَم بعباراتِ تعاطف للزملاء الذين كانوا يتناولون العشاء وسط سُحُب دخان التبغ الكثيفة حول المائدة.

جاء الصباح التالي بقادمين جُدُد وصلوا مُبكرين. وبالتحديد السيدتان القادمتان من ألمانيا، جاءتا معًا بالرغم من صعوبة تصوُّر التناقض الكبير بينهما، وجاء معهما فريق كبير من الخدم والوصيفات وعدد كبير أيضًا من الحقائب. وفي المساء وصل رجل إيطالي، ومعه خادم خاص وسكرتير وخبير وحارسان شخصيَّان. ولا أعرف كيف كان ذلك الرجل يتصور المكان لكي يأتي بحراسة خاصة. ولذلك لا بدَّ من أن أقول إن منظر الحارسَين كان غريبًا في «دارلنجتون هول» وهما صامتان، ينظران في ريبة في كل الاتجاهات حول المكان الذي يجلس فيه الرجل. كان نظام عملهما يقتضي أن ينام أحدهما في وقتٍ غير عادي لضمان أن يكون في الخدمة طوال الليل. وبمجرَّد أن عرفتُ ذلك حاولت إبلاغ «مس كنتون»، ولكنها رفضَت مرةً أخرى أن تتكلم معي. ولكي أضمن تنظيم الأمور على وجه السرعة اضطررتُ لكتابة مُذكِّرة ووضعتُها تحت باب غرفتها.

وفي اليوم التالي جاء ضيوف آخرون، وكان قد بقي على بدء المؤتمر يومان. كان القصر مكتظًّا بأناس من كل الجنسيات يتحدثون في الغرف أو يتحلقون في الرَّدهة والممرات وعلى مُنبَسط السُّلَّم بلا هدف، أو يتأملون الصور والأشياء المختلفة في القصر. كان الضيوف يتعاملون مع بعضهم بأدب شديد، ولكن الجو العام كان شديد التوتر ويوحي بعدم الثقة. وتعبيرًا عن هذا القلق، كان الخدم الخصوصيون الذين جاءوا مع مخدوميهم ينظرون إلى بعضهم الآخر ببرود واضح، أمَّا خدم القصر المشغولون جدًّا، فكانوا سعداء لأنهم لا يقضون معهم وقتًا طويلًا.

في قمة هذا الانشغال بالواجبات والمهام، حدث أن كنتُ أنظر من إحدى النوافذ فرأيتُ «مستر كاردينال» الأصغر واقفًا في الهواء الطلق. أبصرتُه مُمسكًا بحقيبته الصغيرة كالعادة، ويسير ببطء في الممرِّ حول المساحة الخضراء مستغرقًا في أفكاره.

تذكرتُ بالطبع مَهمَّتي الخاصة به وتصوَّرتُ أن مكانًا خارجيًّا كهذا مع جمال الطبيعة المُتمثِّل في الإوزِّ السابح بالقرب منَّا، قد يكون مكانًا ملائمًا لكي أنقل إليه الرسالة التي كُلفتُ بها. رأيتُ أيضًا أنني إذا خرجتُ مُسرعًا وأخفيتُ نفسي خلف الشجيرات بجوار الممر، لن يمرَّ وقت طويل قبل أن يصل «مستر كاردينال» إلى مكاني، وحينذاك يمكن أن أخرج وأنقل إليه الرسالة. في هذا الوقت كانت مَهمَّةٌ كتلك لها أهميتها بلا شك، كانت الأرض مُغطاةً بالندى وبكثير من ورق الشجر، ولكنه كان يومًا معتدلًا في مثل هذا الوقت من العام.

عبرتُ المساحة الخضراء بسرعة ووقفتُ خلف الشجيرات، وبعد لحظاتٍ سمعتُ وقْع أقدام «مستر كاردينال» قادمًا، ولكنني — لسوء الحظ — لم أحسن تقدير الوقت الذي أخرج فيه. كنتُ أودُّ أن أظهر من خلف الأشجار وهو على مسافة معقولة، لكي يراني في وقت مناسب، فيعتقد أنني كنتُ في طريقي إلى السقيفة أو إلى كوخ البستاني.

وكان يمكن بالتالي أن أتظاهر بأنني رأيتُه فجأةً وأستدرجه إلى حوار بشكل تلقائي، ولكن الذي حدث هو أنني برزتُ له من خلف الشجيرات متأخرًا قليلًا، وأعتقد أنني فاجأتُه على حين غرة، فوجدتُه يُبعد حقيبته عني بسرعة ويضمُّها إلى صدره بكلتا يدَيه.

– معذرةً يا سيدي!

«يا إلهي! لقد أفزعتَني يا «ستيفنس». تصورتُ أن الأمور لم تعد آمنةً هناك.

– آسف يا سيدي! لكن الحقيقة أن لديَّ رسالةً أرجو أن أنقلها إليك.

– يا إلهي! لقد أفزعتَني حقًّا!

– إن كان لي أن أدخل مباشرةً في الموضوع، فلا بدَّ من أنكَ تلاحظ تلك الإوَزَّات القريبة منَّا.

– إوَز؟ ونظر حوله مستغربًا!

– نعم! ها هو ذا.

والزهور والشجيرات والبراعم الصغيرة … ولكن هذا طبعًا ليس الوقت المناسب لرؤيتها في أوْج جمالها. على أنكَ بالتأكيد تعلم يا سيدي أننا سنشهد تغيرًا مع قدوم الربيع، تغيرًا من نوع خاص في كل هذه الأشياء المحيطة بنا.

– نعم! أنا أعرف أن الأرض ليست في أبهى حُلةٍ الآن، ولكنْ لكي أكون صريحًا معك يا «ستيفنس» فأنا لم أكُن أولي اهتمامًا كبيرًا لجمال الطبيعة وتألقها. كل شيء يبعث على الملل. كل شيء مُضجر. ذلك «المسيو ديبو» جاء في أسوأ حالة مزاجية، وهذا آخر ما كنَّا نريده في الحقيقة.

– مسيو ديبو وصل إلى هذا المكان يا سيدي؟

– منذ نصف ساعة تقريبًا، وفي أسوأ حالاته.

– أستأذنك يا سيدي؛ لا بدَّ من أن أذهب الآن لكي أكون في خدمته.

– بالطبع يا ستيفنس. على كل حالٍ هذا شيء جميل منكَ أن تجيء لكي تتكلم معي.

– عفوًا! ولتسمح لي يا سيدي، فأنا لدي بضع كلمات أريد أن أنقلها إليك، خاصةً بذلك الموضوع الذي وصفتَه بنفسك، جمال الطبيعة وتألقها، ولو تفضَّلتَ بالاستماع إلى أكون شاكرًا، ولكنْ يبدو أن ذلك لا بدَّ من أن يؤجَّل لوقتٍ آخر.

– حَسَنٌ! سأنتظر ذلك يا ستيفنس، بالرغم من أنني خبير بكافة أنواع السمك؛ أسماك المياه الحلوة والمياه المالحة.

– كل الكائنات الحية لها علاقة بحديثنا القادم يا سيدي، ولتسمح لي الآن بالانصراف، فلم أكُن أعرف أن «مسيو ديبو» قد وصل.

وأسرعتُ عائدًا إلى القصر وقابلني أول خادمٍ قائلًا: «نحن نبحث عنكَ يا سيدي، لقد وصل الرجل الفرنسي.» كان «مسيو ديبو» رجلًا طويلَ القامة، أنيقًا، له لحيةٌ رماديةُ اللون، ويضع على عينيه «مونوكل». وصل مرتديًا ملابسَ كتلك التي يرتديها الأوروبيون في الإجازات، والحقيقة أنه طول مُدَّة إقامته كان مظهره يوحي بأنه جاء إلى «دارلنجتون هول» من أجل الاستجمام والاستمتاع بالجوِّ الودِّي. وكما قال «مستر كاردينال» فإن «مسيو ديبو» لم يكُن في حالة مزاجية جيدة. ولا أستطيع أن أتذكر الآن الأشياء التي أزعجَته منذ وصوله إلى إنجلترا قبل أيام، ولكنه بالتحديد كان قد أُصيبَ ببعض التقرحات المؤلمة في قدمَيه بعد جولاته لمشاهدة معالم «لندن»، وكان يخشى أن تتفاقم حالتُها.

أحلتُ الخادم الخاص به إلى «مس كنتون»، ولكن ذلك لم يمنع «مسيو ديبو» من أن يُطقطق أصابعه نحوي، من وقتٍ لآخر، قائلًا: «أريد المزيد من الضمادات.»

بَدَا مزاجُه معتدلًا عندما رأى «مستر لويس». كان هو و«السيناتور» الأمريكي يتبادلان التحية كزميلَين قديمَين، كما كانَا يشاهدان معًا بقية اليوم تقريبًا، يضحكان ويتذكران أيامهما الماضية. والحقيقة أنه كان يمكن ملاحظةُ أن التقارب المستمر بين «مستر لويس» و«مسيو ديبو» لم يكُن مُريحًا ﻟ «لورد دارلنجتون»، الذي كان حريصًا بالطبع على إقامة اتصال شخصي بهذا الرجل المحترم قبل بدء المناقشات. وقد رأيتُ سيادته أكثر من مرة وهو يبذل محاولاتٍ لسَحب «مسيو ديبو» بعيدًا من أجل حديثٍ خاص، ولكن «مستر لويس»، المبتسم دائمًا، كان يفرض نفسه عليهما وهو يقول مثلًا: «عفوًا! هناك شيءٌ ما يُحيِّرني …» وكان سيادة «اللورد» يجد نفسه مُضطرًّا للاستماع إلى نوادر «مستر لويس» المرحة. أمَّا إذا تركنا «مستر لويس» جانبًا، فإن الضيوف الآخرين كانوا يحتفظون بمسافة حذرة بينهم وبين «مسيو ديبو»، ربما رهبةً وربما شعورًا بالعداء، وهي حقيقة كانت واضحةً حتى في ذلك الجوِّ المتحفِّظ، والتي بدأت تؤكد أن «مسيو ديبو» كان هو الرجل الذي يملك — إلى حدٍّ ما — مفتاح نجاح الأيام القادمة.

بدأ المؤتمر في صباح مَطير من الأسبوع الأخير من شهر مارس ۱۹۲۳م، في قاعة الاستقبال التي لم تكُن مناسبةً تمامًا، حيث تمَّ اختيارُ المكان ليلائم الصبغة غير الرسمية لمعظم الحضور. والحقيقة أن الطابع غير الرسمي بدَا لي زائدًا عن الحدِّ، وإلى درجة مُضحكة. كان غريبًا أن ترى تلك القاعة الفخمة مكتظةً بعدد كبير من مرتدي السُّترات الداكنة، وكيف كان كل ثلاثة أو أربعة منهم يجلسون جنبًا إلى جنبٍ على أريكةٍ واحدة، وكان ذلك رغبةً في تصميم بعض الشخصيات على أن تبدوَ مناسبةً اجتماعيًّا ولا أكثر، لدرجة أن بعضهم كان يفرد الصحف والمجلات على ركبتَيه ويتصفحها. طوال ساعات الصباح الأول كنتُ مُضطرًّا للدخول والخروج بصفة مستمرة من القاعة، ولذا لم أتمكَّن من متابعة الأحداث جيدًا، وإن كنتُ أذكر أن «اللورد دارلنجتون» افتتح المناقشات بالترحيب رسميًّا بالضيوف، قبل أن ينتقل إلى تلخيص الأوضاع الصعبة، من أجل تخفيف كثير من بنود معاهدة «فرساي»، مؤكِّدًا على المعاناة الشديدة التي لمسها شخصيًّا في ألمانيا. كنتُ بالطبع قد سمعتُ تلك الآراء والأفكار نفسها من سيادته في مناسبات مختلفة قبل ذلك، ولكن الاقتناع الذي كان يتحدث به في هذا الموقف المَهيب جعلني أتأثر بشدة من جديد.

وبَعدَه تكلم «السير ديفيد كاردينال»، وبالرغم من أن معظم حديثه قد فاتني إلا أنه كان فنيًّا في طبيعته إلى حدٍّ ما، وأقولها بصراحةٍ إنه كان أعلى من قُدرتي على الفَهم، ولكن مضمونه كان قريبًا ممَّا قال سيادة «اللورد»، وأنهاه بالدعوة لتجميد دفع التعويضات الألمانية وانسحاب القوَّات الفرنسية من منطقة «الروهر».

بعد ذلك بدأت «الكونتيسة» الفرنسية كلامها، ولكنني لسببٍ لا أتذكره، كنتُ مُضطرًّا عند ذلك لمغادرة القاعة لفترةٍ أخرى طويلة، وعندما عُدتُ كان الجميع في نقاش مفتوح، وكلام كثير عن التجارة وسعر الفائدة لم أفهم منه شيئًا.

لم يكُن «مسيو ديبو» — على قدْر ما لاحظتُ — ليشارك في النقاش، وبسبب تغطية وجهه لم يكُن من السهل معرفة ما إذا كان يتابع ما يسمعه جيدًا، أم إنه كان مستغرقًا في أفكار أخرى. وعندما خرجتُ من القاعة، أثناء كلمة أحد الضيوف الألمان، قام «مسيو ديبو» فجأةً وتبعني إلى الخارج.

بمجرَّد أن كنَّا في الرَّدهة قال: «ليتك تستطيع أن تُغيِّر لي ضمادات قدمي فهما تُسبِّبان لي إزعاجًا شديدًا، ولا أستطيع أن أستمع إلى هؤلاء السادة.» وعلى ما أذكر فقد طلبتُ من «مس كنتون» — عبر رسول بالطبع — أن تساعد في هذا الأمر، وتركتُ «مسيو ديبو» جالسًا في حجرة البلياردو ينتظر الممرضة، عندما جاء الخادم الأول مُسرعًا، حزينًا، وهو يهبط من على السُّلَّم ليُبلغني بأن والدي مريض جدًّا، وأنهم قد نقلوه إلى الطابق العلوي. هُرِعتُ إلى الطابق الأول، وعندما استدرتُ على مُنبَسط الدَّرج رأيتُ منظرًا غريبًا. في نهاية الممر، وأمام النافذة الكبيرة التي كان يبدو منها الضوء الرمادي والمطر، رأيت والدي ثابتًا على وضع واحد، وكأنه يشارك في طقس شعائري. كان قد وقع على إحدى ركبتَيه، ويبدو برأسه المنحني وهو يدفع عربة «التروللي» أمامه، وكانت لسببٍ ما قد توقَّفَت في مكانها لا تتحرك. على مسافة قريبة كان هناك خادمتان من خدم غرف النوم تشاهدان محاولاته الجهيدة لزحزحة العربة، وكان يبدو عليهما الهلع. ذهبتُ إلى والدي وخلَّصتُ يديه من حافة «التروللي» وأرقدتُه على السجادة. وكان وجهه شاحبًا شحوب الموت، وجبهته مُغطاةً بعرق غزير. طلبنا مساعدةً إضافيةً فجاءوا بكرسي متحرك ونقلوه إلى غرفته.

وبعد أن وضعناه في السرير لم أكُن لأعرف ماذا أفعل. لم يكُن من المُحبَّذ أن أتركه على هذه الحال، وفي الوقت نفسه لديَّ الكثير من الأعمال التي يجب القيامُ بها. وقفتُ مُتردِّدًا في مدخل الغرفة ثم ظهرَت «مس كنتون» إلى جانبي وهي تقول: «أعتقد يا «مستر ستيفنس» أن لديَّ الآن وقتًا أكثر ممَّا لديك، سأهتمُّ بوالدك إن رغبتَ في ذلك. وسوف أرافق الدكتور «ميرديث» إلى الطابق العلوي وسأُبلغكَ بما يقول.» شكرتُها وانصرفتُ لعملي.

عندما عدتُ إلى غرفة الاستقبال، كان أحد رجال الدين يتكلم عن المصاعب والمعاناة التي يعيشها أطفال «برلين». وبعد وقت قصير كنتُ مشغولًا بتقديم المشروبات للضيوف. لاحظتُ أن القليل منهم كانوا يتناولون المشروبات الروحية، وأن ضيفًا أو اثنين فقط يدخنون بالرغم من وجود السيدتَين. وأتذكر أنني كنتُ خارجًا من الغرفة حاملًا إبريقًا فارغًا عندما أوقفَتني «مس كنتون» قائلة: «الدكتور ميرديث سينصرف الآن.» في الوقت نفسه رأيتُ «الدكتور ميرديث» مُرتديًا مِعطفَ المطر والقُبَّعة في الرَّدهة، فذهبتُ إليه والإبريق لا يزال في يدي. نظر الطبيب إليَّ وعلامات الاستياء بادية على وجهه، وقال: «والدكَ في حالة سيئة، أرجو إذا تدهورَت صحتُه أكثر من ذلك أن تُبلغوني في الحال.»

– شكرًا جزيلًا يا سيدي. سنفعل بالتأكيد!

– كم عمر والدك يا سيتفنس؟

– اثنان وسبعون عامًا يا سيدي.

فكر الدكتور «ميرديث» لحظةً ثم قال: «إذا حدث أيُّ تدهور استدعوني في الحال.» شكرتُه مرةً أخرى ورافقتُه حتى الباب.

في ذلك المساء نفسه، وقبل العشاء بوقت قصير، حدث أن سمعتُ الحوار الدائر بين «مستر لويس» و«مسيو ديبو». كنتُ لسببٍ ما قد اتجهتُ نحو غرفة «مسيو ديبو»، وقبل أن أطرق الباب توقفتُ لحظةً للإصغاء. ربما لا يكون من عادتكَ أن تفعل ذلك حتى لا تطرق الباب في لحظة غير مناسبة، ولكنني كنتُ هكذا دائمًا، وأجزم بأن ذلك يُعتبر سلوكًا عامًّا بين كثير من المحترفين. ما أريد أن أقوله هو أنه لا توجَد أيَّة خدعة في ذلك، هو احتراز ليس إلا، ولم يكُن قصدي أبدًا أن أسترق السمع إلى الحدِّ الذي حدث في ذلك المساء.

على أيَّة حالٍ شاء الحظ أنني عندما وضعتُ أذني على باب «مسيو ديبو» سمعت صوت «مستر لويس». وبالرغم من أنني لا أتذكر بدقة الكلمات الأولى التي سمعتُها، إلا أن نبرة صوته هي التي أثارت ارتيابي. كنتُ أستمع إلى نفس الصوت المعتدل الهادئ الذي سحر به السيدُ الأمريكيُّ الكثيرين منذ وصوله إلى هنا، إلا أن أسلوبه كان يكتنفه الآن بعض الغموض. هذا بالإضافة إلى أنه كان في غرفة «مسيو ديبو» ويوجِّه كلامه إلى ذلك الشخص المُهم، ولعلَّ ذلك هو الذي جعلني أكفُّ يدي عن طرق الباب وأواصل الإصغاء بدلًا من ذلك.

ولأن أبواب غرف النوم في «دارلنجتون هول» سميكة جدًّا، كان من الصعب أن أسمع جيدًا، وبالتالي لا أستطيع أن أتذكر بدقة كما قلتُ لسيادة «اللورد» في ذلك المساء. ولكن هذا لا يعني أنني لم أكوِّن فكرةً عامةً عمَّا كان يحدث في الغرفة. كان السيد الأمريكي يُعبِّر عن فكرته، وهي أن سيادة «اللورد» ومشاركين آخرين في المؤتمر يتلاعبون ﺑ «مسيو ديبو»، وأن الأخير قد دُعي في وقت متأخر عن قصد، لكي يتمكنوا من مناقشة الأمور المُهمَّة في غيابه، وأنه حتى بعد وصوله كان سيادة «اللورد» يتناقش أحيانًا مع أكثر الوفود أهميةً دون أن يدعو «مسيو ديبو» للمشاركة. ثم بدأ «مستر لويس» ينقل لهم بعض الملاحظات والآراء التي أبداها سيادة «اللورد» والآخرون على العشاء في أول مساء بعد وصوله.

سمعتُ «مستر لويس» يقول: «ولكي أكون صريحًا جدًّا معكَ يا سيدي فقد راعَني موقفُهم من مواطنيكم. لقد استخدموا في وصفهم لهم كلماتٍ مثل «همج» و«حقراء»، والحقيقة أنني سجلتُها في مُفكرتي بعد ساعات قليلة من ذلك.» بعد ذلك قال «مسيو ديبو» شيئًا لم أتبيَّنه تمامًا، ثم قال «مستر لويس» ثانية: «دعني أخبرك يا سيدي بأنني قد انزعجتُ كثيرًا، هل يليق أن تصف حليفًا وقفتَ معه جنبًا إلى جنبٍ من سنوات قليلة بمثل تلك الكلمات؟»

لستُ متأكدًا إن كنتُ قد تقدمتُ لأطرق الباب. من الجائز جدًّا أن أكون قد فعلتُ ذلك بعد ما سمعتُه وأزعجني، ولذلك قررتُ أن أنسحب تمامًا.

على أيَّة حالٍ لم أتباطأ كثيرًا، كما كان عليَّ أن أشرح لسيادة «اللورد» بعد ذلك، لكي أسمع شيئًا يمكن أن يُفسِّر موقف «مسيو ديبو» من الكلام الذي سمعه من «مستر لويس». في اليوم التالي بلغَت المناقشاتُ في غرفة الاستقبال مستوًى جديدًا من الحدة، وبحلول وقت الغداء كان الحوار قد أصبح شديد السخونة. كان انطباعي هو أن التعليقات كلها كانت تتجه بشيء من الاتهام، وبحدة متزايدة، نحو المقعد الذي كان يجلس فيه «مسيو ديبو» وهو يعبث في لحيته بأصابعه.

وعندما كان المؤتمر يتوقَّف لأيِّ سبب، كنتُ ألاحظ ببعض القلق — مثل سيادة «اللورد» بالتأكيد — أن «مستر لويس» ينتحي بسرعة ﺑ «مسيو ديبو» جانبًا ويتكلمان معًا على انفراد، وفي هدوء شديد. وحدث أن صادفتُهما مرةً بعد الغداء وهما يتحدثان خُلسةً في مدخل المكتبة، ولاحظتُ أنهما قد توقَّفَا عن الكلام عندما اقتربتُ منهما. في الوقت نفسه لم تتحسن صحة أبي، ولم تتدهور، وكما علمتُ فقد كان نائمًا معظم الوقت، وكما رأيتُه في المرات القليلة التي تيسَّر لي فيها وقت للصعود إلى غرفته على السطح. لم يكُن لدي فرصةٌ للكلام معه حتى ذلك المساء الثاني بعد أن عاد إليه المرض، وفي تلك المرة أيضًا كان نائمًا عندما دخلت، ولكن الخادمة التي عينتُها «مس كنتون» للعناية به وقفَت عند رؤيتي وراحت تهزُّ كتفه.

قلت: «غبية! ماذا تفعلين؟»

– لقد طلب مني «مستر ستيفنس» أن أوقظه عند حضورك يا سيدي.

– دعيه نائمًا، لم يُمرضه سوى الإرهاق.

قالت الفتاة: «لقد أكد عليَّ أن أوقظه.» ثم هزَّت كتفه مرةً ثانية. فتح أبي عينَيه، وحرَّك رأسه قليلًا على الوسادة، ونظر إليَّ، قلت: أتمنَّى أن يكون والدي أفضل الآن!»

ظلَّ مُحدِّقًا فيَّ للحظةٍ ثم سأل: «هل كل شيء على ما يُرام في الدَّور الأسفل؟»

«الوقت متقلب إلى حدٍّ ما، ونحن الآن بعد السادسة، ويستطيع أبي أن يتصوَّر الجوَّ في المطبخ الآن.»

علَت وجهَه نظرةُ قلق ثم قال: «لكنْ … هل كل شيء تحت السيطرة؟»

«نعم! يمكن أن أُطمئنكَ على ذلك، ويُسعدني أنكَ تشعر بتحسن.»

سحب ذراعَيه من تحت الغطاء ببطء، وراح ينظر إلى ظهر يدَيه بوهن، وظلَّ يفعل ذلك لبعض الوقت. وأخيرًا قلت: «أنا سعيد لأن صحتك تتحسن يا أبي، والآن لا بدَّ من أن أنصرف لأن الموقف متقلب كما قلتُ لك.»

بقي ينظر إلى يدَيه بعض الوقت ثم قال ببطء: «لو أنني كنتُ أبًا جيدًا لك!»

ضحكتُ وقلت: «أنا سعيد لأنك تشعر بتحسن الآن.»

قال: «أنا فخور بك. ليتني كنتُ أبًا جيدًا، وأعتقد أن ذلك لم يكُن.»

قلت: «أعتقد أننا مشغولون جدًّا الآن، على أيَّة حالٍ يمكن أن نتحدث مرةً أخرى في الصباح.»

كان أبي ما زال يتأمل يدَيه وكأنه يرى بهما ما يُزعجه، ثم قلتُ له: «أنا سعيد لأنك تشعر بالتحسن.» وانصرفت.

عندما نزلتُ وجدتُ المطبخ على شفَا حفرة من الجحيم، كان الجوُّ شديد التوتر بين العاملين من كل المستويات، ولكنْ بشكل عام يسرُّني أن أتذكر أننا عندما قدَّمنا العشاء للضيوف بعد ساعة تقريبًا، كان كل شيء على ما يُرام، وكان كل ما قدَّمه فريقي يدل على كفاءة وحِرفية عالية.

رؤية قاعة الاحتفالات مليئةً عن آخرها منظرٌ لا يُنسى، ولم يكُن ذلك المساء استثناء. كان عدد الرجال المرتدين لثياب السهرة أكبر بكثير من عدد مُمثِّلي الجنس اللطيف، وكانت الثريَّتان الكبيرتان المعلقتان فوق المائدة تعملان بالغاز، وتُلقيان بضوء ناعم خفيف في القاعة، ولم تكونَا مصدر زغللة شديدة مثلما حدث بعد أن أصبحتَا تعملان بالكهرباء. كان ذلك هو العشاء الثاني والأخير للمؤتمر، وكان من المُتوقَّع أن يتفرق الجميع بعد غداء اليوم التالي. وكان من الملاحَظ أيضًا أن كثيرًا من تحفُّظ الأيام الأولى قد زال. لم تكُن المحادثات تُجرى بحرية أكثر وبصوت أعلى فقط، بل إننا اكتشفنا أننا كنَّا نُقدِّم النبيذ بإفراط. وفي ذلك العشاء الذي مرَّ دون أيِّ صعوبة من الناحية المِهْنيَّة، وقف سيادة «اللورد» ليتحدث أمام ضيوفه. بدأ بتوجيه الشكر لجميع الحاضرين لأن مناقشات اليومَين السابقَين جرَت في جوٍّ من الصداقة والرغبة الحقيقية في أن يتحقَّق الخير للجميع «بالرغم من أنها كانت صريحةً جدًّا أحيانًا.»

كان الإجماع الذي لاحظتُه على مدى اليومَين الماضيَين أكبر وأعظم ممَّا كان يتمنَّى، كما قال إنه يثق بأن جلسات الصباح المتبقية من أجل «بلْوَرة الموقف» ستكون مُعبِّرةً عن التزام الجميع بالعمل الذي سيقوم به كل فريق قبل المؤتمر العالمي المُهم في سويسرا. وعند هذه النقطة تحديدًا، ولا أعرف إن كان سيادته قد خطَّط لذلك من قبل، بدأ يتذكر صديقه الراحل «الهر كارل هاينز بريمن»، ولم يكُن ذلك أمرًا سارًّا بعض الشيء؛ لأن الموضوع قريب من قلب سعادته، وهو يحبُّ الحديث عنه مُطولًا.

ويمكن أن يُقال أيضًا إن «لورد دارلنجتون» لم يكُن مُحدِّثًا جيدًا بطبيعته، ولا يجيد مواجهة الجمهور، ولذلك سرعان ما سرَت في القاعة أصوات وهمهمات قَلِقة تدل على الانصراف عن حديثه. والحقيقة أن «اللورد» في نهاية كلمته، وعندما دعَا الضيوف لشرب نخب «السلام والعدل في أوروبا»، كان مستوى الضوضاء قد اقترب من سوء السلوك، وربما كان ذلك بسبب كميَّات النبيذ الكثيرة. جلس الجميع مرةً أخرى، وما كادت المناقشة تُستأنف حتى سمعنا طرقات تنبيه متوالية، ووقف «مسيو ديبو»، وفجأةً خيَّم الصمت.

نظر الرجل حوله مُحدِّقًا ثم قال: «أتمنَّى ألَّا أكون قد تعدَّيتُ على اختصاصات أحد السادة الحاضرين هنا، ولكنني لم أستمع إلى أيِّ اقتراح برفع نخب شكر لمضيفنا الكريم، المحترم «لورد دارلنجتون».» وعلى الفور سرَت في أرجاء المكان همهمةُ استحسان لما قال. وواصل «مسيو ديبو» كلامه: «لقد طُرِحَت أفكار كثيرة مُهمَّة في هذا القصر على مدى اليومَين الماضيَين، أفكار كثيرة مُهمَّة جدًّا.» ثم توقَّف، بينما الصمت التام مُخيِّم في القاعة، ثم استأنف كلامه: «قيل الكثير الذي فُهِم منه ضِمنًا أنه نقد، والنقد ليست كلمةً قاسيةً للسياسة الخارجية لبلدي.» ثم توقَّف مرةً أخرى وهو يبدو عليه التجهُّم. كان غاضبًا: «سمعنا في اليومَين الماضيَين تحليلاتٍ عديدةً عميقةً وذكيةً للموقف الحالي الشديد التعقيد في أوروبا، لكن لا شيء منها استطاع أن يضع يده على أسباب الموقف الذي اتخذَته فرنسا تجاه جارتها.» ثم رفع إصبعه قائلا: «إلا أن ذلك ليس الوقت المناسب للدخول في مثل هذا الجدل. والحقيقة أنني قد أحجمتُ عمدًا عن تلك الأمور الخلافية، فأنا جئتُ في الأساس لكي أستمع. ودعوني أقول الآن إن بعض ما سمعتُه هنا كان له أثره الكبير عليَّ. ولعلكم تتساءلون عن هذا الأثر، هذا الانطباع.» ثم توقَّف عن الكلام مرةً أخرى، وعيناه تتنقلان برَوِيَّة على جميع الوجوه الناظرة إليه.

وواصل كلامه: «أيها السادة — عفوًا … والسيدات — لقد أوليتُ اهتمامًا كبيرًا لتلك الأمور، وأودُّ أن أقول بصراحة بينكم هنا إنه بالرغم من وجود اختلافات في الرؤى بيني وبين الكثير من الحضور حول فهم ما يحدث في أوروبا الآن؛ بالرغم من ذلك كله إلا أنني مُقتنع أيها السادة … مقتنع بعدالتها وجَدواها العملية.» وفي هذه المرة ارتفعَت أصوات الارتياح والشعور بالانتصار، فرفع «مسيو ديبو» صوته ليقول: «كما يُسعدني أن أؤكد لكم جميعًا هنا أنني سأبذل كل ما أستطيع من جهد، وأسخر كل ما لدي من نفوذ لتشجيع إحداث تغيير في السياسة الفرنسية بما يتفق ومعظم ما طُرِح هنا. ولسوف أسعى ليتحقَّق ذلك في وقت مناسب قبل انعقاد المؤتمر السويسري.»

كانت هناك بعد ذلك موجةٌ من التصفيق الحادِّ، ورأيتُ سيادة «اللورد» يتبادل النظرات مع «السير ديفيد»، ثم رفع «مسيو ديبو» يده، ربما ليُعبِّر عن شكره لتصفيقهم، وربما ليُوقفه، لا أعرف … ثم أكمَل: «لكنْ قبل أن أوجِّه الشكر لمضيفنا «اللورد دارلنجتون»، فإن لديَّ شيئًا بسيطًا أريد أن أُخرجه من صدري، ولربما تراءى للبعض منكم أن إخراج مثل تلك الأشياء على مائدة عشاء ليس من حُسن الخُلُق.» فانفجر الجميع في الضحك. «إلا أنني دائمًا مع الصراحة في تلك الأمور. كما أن هناك ضرورةً للتعبير عن الامتنان بشكل رسمي وعلني ﻟ «لورد دارلنجتون» الذي استطاع أن يجمعنا هنا، وأن يوفر هذه الروح من التعاون والحماس، كما أعتقد أن هناك ضرورةً قويةً للإدانة العلنية والشجب الصريح لأيِّ شخصٍ جاء إلى هنا لكي يُسيء استخدام كرم مضيفنا، ويحاول أن يبذر الخلاف والشكَّ بيننا، فمثل أولئك ليسوا فقط بغيضين على المستوى الاجتماعي، وإنما هم خطرٌ على المناخ الذي نعيشه هذه الأيام.» ثم توقَّف مرةً أخرى، ومرةً أخرى كان الصمت تامًّا. بعد ذلك واصل كلامه بصوت واضح وبتأنٍّ شديد: «سؤالي الوحيد بخصوص «مستر لويس» هو: إلى أيِّ مدًى يُمثِّل سلوكه البغيض موقف الإدارة الأمريكية؟ دعوني أيها السيدات والسادة أخمِّن إجابة، لأن مثل ذلك الرجل القادر على مستويات الغش والخداع التي أظهرها على مدى الأيام الماضية لا يمكن الاعتماد عليه لكي يُقدِّم لنا إجابةً أمينة، ولذا فسوف أجازف بالتخمين. أمريكا قَلِقَة بالطبع بخصوص دفع ديوننا لها في حال تجميد التعويضات الألمانية. لكنني قد أُتيحَت لي فرصةُ مناقشة هذا الأمر مع عدد من كبار المسئولين الأمريكيين على مدى الأشهر الستة الأخيرة، وأعتقد أن التفكير في ذلك البلد أبعد نظرًا ممَّا يُمثِّله هذا الرجل الموجود هنا. كل مَن يُهمُّه استقرار ورخاء أوروبا في المستقبل سيكون سعيدًا بمعرفة أن «مستر لويس» — كيف أصِفُ ذلك — لم يعد له النفوذ الذي كان. قد تعتبرون ذلك قسوةً مني أن أُعبِّر عن الأمر بهذه الصراحة، والحقيقة أنني رحيمٌ جدًّا أيها السيدات والسادة. وسترَون أنني مُحجِمٌ عن إبلاغكم بما كان يقوله ذلك الرجل عنكم جميعًا، وبأسلوب رديء لا يمكن أن أصدِّق وقاحته وفجاجته. لكن … كفَى شجبًا وإدانة، حان وقتُ توجيه الشكر، ولتشاركوني من فضلكم أيها السيدات والسادة في شُرب نخب «لورد دارلنجتون»!

لم يوجِّه «مسيو ديبو» نظره بالمرة نحو «مستر لويس» أثناء إلقاء كلمته، وبمجرَّد أن شربَت الجماعةُ نخبَ «لورد دارلنجتون» وجلسوا مرةً ثانية، كان الجميع يتجنبون النظر إلى السيد الأمريكي.

ساد صمتٌ غير مُريح لبعض الوقت، ثم قام «مستر لويس»، الذي كان يبتسم مسرورًا على طريقته المعهودة: «حَسَنٌ! ما دام كل واحد يمكن أن يتكلم، فلا بدَّ من أن أخْذ دَوري» (وكان واضحًا من صوته أنه قد أفرط في الشراب): «ليس لديَّ ما أقوله أو أردُّ به على هذا الهراء الذي هَذَى به صديقُنا الفرنسي. كل ما في الأمر أنني أرفض هذا النوع من الكلام، لقد صادفتُ في حياتي كثيرين حاولوا أن يضعوا شخصًا آخر فوق منزلتي عِدَّة مرات، ودعوني أقول لكم أيها السادة إن قليلين هم الذين نجحوا في ذلك.» توقَّف عن الكلام وبدَا مُرتبكًا لا يعرف ماذا يقول، ثم ابتسم في النهاية وواصل: «وكما قلتُ فإنني لن أضيع وقتي في الردِّ على صديقنا الفرنسي الجالس هناك، وإن كان لديَّ ما أريد أن أقوله لكم، وبما أننا نتكلم الآن جميعًا بصراحة، فسوف أكون صريحًا أيضًا معكم. أنتم أيها السادة كلكم — وعذرًا لذلك — مجموعة من الحالمين السُّذَّج! ولو كفَفْتم عن التطفُّل على القضايا الكبرى التي تؤثر على الكرة الأرضية لكنتم رائعين. وأنا واثق من أنْ لا أحد هنا يوافق على ذلك. رجل إنجليزي كلاسيكي، لطيف، أمين، وحَسَن النيَّة … سيادة «اللورد» هنا رجل هاوٍ … مجرَّد هاوٍ.»

وتوقَّف عند هذه الكلمة ونظر حوله إلى الجالسين على الطاولة «هاوٍ … والشئون الدولية في أيامنا هذه ليست للهُواة. ولو أدركتم ذلك هنا في أوروبا لكان من الأفضل. أيها السادة — وكلكم حَسَن النيَّة — دعوني أسألكم: هل لديكم أيُّ فكرة عن كيف أصبح العالم من حولكم؟ لقد ولَّت تلك الأيام عندما كان يمكن الانطلاق من النوايا الحسنة، ولكن يبدو أنكم هنا في أوروبا لا تفهمون شيئًا من ذلك. البعض مثل مضيفنا؛ ما زال يعتقد أن من شأنه التدخل وإقحام نفسه في أمور لا يفهمها، لذلك سمعنا كلامًا كثيرًا تافهًا على مدى اليومَين الماضيَين. كلام ضحل، ساذج … أنتم هنا في أوروبا في حاجة إلى خبراء … إلى محترفين لإدارة شئونكم، وإن لم تدركوا ذلك بسرعة فأنتم لا محالة متجهون نحو الكارثة، وبسرعة شديدة. والآن فلنرفع نخبًا … أيها السادة … في صحتكم جميعًا! في صحة الخبرة والحِرْفانية.»

ران صمتٌ وذهولٌ ولم يتحرك أحدٌ في مكانه. هزَّ «مستر لويس» كتفَيه ورفع كأسه للجميع، وشرب، وجلس في مقعده. وعلى الفور وقف «لورد دارلنجتون».

قال سيادته: «لستُ راغبًا في الدخول في جدل أو شجار في هذا المساء الأخير لنا معًا، والذي يستحقُّ أن نحتفل به جميعًا كمناسبة سعيدة ومُبهجة. ولكن بدافع الاحترام لوجهة نظرك يا «مستر لويس»، التي أشعر بأنه لا يجب أن يهملها المرء وكأنها صادرة من شخص أخرق غريب الأطوار يقف فوق صندوق خشبي ليخطب في الأسواق؛ لذا دعني أقول الآتي: إن ما تصفه بالهواية هو ما أعتقد أن معظمنا هنا يُفضِّل أن يطلق عليه اسم الشرف.»

تعالت همهمة دليل الاستحسان مع أصوات هتاف وتصفيق.

وواصل سيادة «اللورد»: «وأكثر من ذلك يا سيدي هو أنني أعتقد أن لدي فكرةً جيدةً عمَّا تعنيه ﺑ «الحِرْفانية»، ويبدو أنها تعني أن يصل المرء إلى ما يريد بالغش والخداع. تعني أن يُرتِّب المرء أولويَّاته طبقًا للجشع والإفادة أكثر ممَّا هي طبقًا للرغبة في رؤية الخير والعدل يعُمَّان العالم. فإذا كانت تلك هي الحرفانية التي تقصدها يا سيدي، فهي لا تعنيني في كثير أو قليل، ولا أريد أن أمتلكها أو أن أحقِّقها.»

قُوبِل ذلك بترحيب واستحسان كبيرين، وبتصفيقٍ حادٍّ استمر طويلًا. وكنتُ أرى «مستر لويس» يبتسم لكأس النبيذ أمامه وهو يهزُّ رأسه في ضجر. في هذه اللحظة تقريبًا شعرتُ بالخادم الأول بجواري يهمس في أذني: «مس كنتون موجودة في الخارج وتريد أن تتكلم معكَ يا سيدي.» خرجتُ بحذر شديد، وكان سيادة «اللورد» ما زال واقفًا يتحدث عن شيء آخر. كانت «مس كنتون» تبدو منزعجة: «والدكَ في حالة سيئة يا «مستر ستيفنس»، وقد أرسلتُ لاستدعاء الدكتور «ميرديث»، ويبدو أنه سوف يتأخر.» بدَا عليَّ الارتباك لأنها قالت بعد ذلك: «إنه في حالة سيئة بالفعل يا «مستر ستيفنس»، ومن الأفضل أن تأتي لكي تراه.»

– لا وقت لديَّ الآن، فقد يخرج الضيوف إلى حجرة التدخين في أيَّة لحظة.

– أفهم ذلك، لكنْ لا بدَّ من أن تأتي الآن يا «مستر ستيفنس»، ولربما ندمتَ بعد ذلك إن لم تفعل!

كانت «مس كنتون» تسير أمامي بالفعل وأسرعنا نجتاز القصر صعودًا إلى غرفة والدي على السطح. كانت «مسز مورتيمر» الطاهية تقف بجوار سريره مُرتديةً مريلتها، وعندما دخلنا قالت: «آه يا مستر ستيفنس! إنه في حالٍ يُرثى لها.»

كان لون وجهه قد استحال إلى حُمرة كئيبة لم يسبق أن رأيتُها على وجه بشر حي، وسمعتُ «مس كنتون» تقول بصوتٍ خافتٍ من ورائي: «نبضه ضعيف جدًّا.» نظرتُ إلى والدي لحظة، ثم تحسستُ جبهتَه بهدوء وسحبتُ يدي.

قالت «مسز مورتيمر»: «يبدو أنه قد أُصيبَ بسكتة دماغية، لقد شهدتُ حالتَين كهذه من قبلُ، وأظنها سكتة.» وراحت تبكي. كانت تفوح منها رائحة دهن وشواء قوية. استدرتُ وقلتُ لها: «إنه أمر مؤسف، إلا أنني لا بدَّ من أن أعود إلى الطابق الأسفل.»

«طبعًا يا «مستر ستيفنس». وسأقوم بإبلاغك على الفور عند مجيء الطبيب، أو عند حدوث أيِّ تطورات جديدة.»

هُرِعتُ إلى الطابق الأسفل، وأدركتُ الضيوف وهم متجهون إلى غرفة التدخين. بدَا الارتياحُ على الخدم عندما رأوني، وأعطيتُ على الفور إشارةً لهم بالتوجُّه إلى مواقعهم. وأيًّا كان ما حدث في قاعة الاحتفالات بعد ذهابي، إلا أن الجوَّ العام الآن كان جوَّ احتفال بين الضيوف. كانوا منتشرين في أرجاء غرفة التدخين في تجمُّعات صغيرة يضحكون ويربتون على أكتاف بعضهم الآخر. أمَّا «مستر لويس»، كما فهمت، فكان قد انسحب إلى غرفته. وجدتُ نفسي أشقُّ طريقي بين الضيوف حاملًا قنينةً من الخمر البرتغالية على صينية، وكنتُ قد فرغتُ لتوِّي من صبِّ كأس لأحدهم عندما سمعتُ صوتًا يهمس من ورائي: «آه يا ستيفنس! أنتَ مغرم بالسمك كما تقول.»

ابتسمتُ قائلًا: «سمك يا سيدي؟!»

«كنتُ أربِّي جميع أنواع السمك الاستوائية في حوض لدي، عندما كنتُ صغيرًا. حوض سمك صغير. أقول يا ستيفنس، هل أنت بخير؟» ابتسمتُ مرةً ثانية: «بخير يا سيدي. شكرًا جزيلًا.»

قال: «كما قلت بحق، لا بدَّ من أن أعود إلى هنا في الربيع، من المؤكَّد أن «دارلنجتون هول» يكون أجمل في ذلك الوقت. كنتُ هنا آخر مرة في الشتاء على ما أعتقد. أقول يا «ستيفنس»، هل أنتَ على ما يُرام؟»

– نعم يا سيدي! شكرا!

– ألا تشعر بأيِّ مُنغِّصات؟

– لا يا سيدي، بالمرة، عن إذنك يا سيدي!

ذهبتُ لأُقدِّم الشراب لضيوف آخرين، وكنتُ أسمع ورائي ضحكًا صاخبًا، كما سمعتُ رجل الدين البلجيكي يقول مُتعجِّبًا: «هذا بالفعل شيء هرطقي … هرطقي تمامًا.» ثم راح هو نفسه يضحك بصوتٍ عالٍ. أحسستُ بشيءٍ ما يلمس مرفقي، فاستدرت لأجد أنه «لورد دارلنجتون».

– ستيفنس! هل أنت بخير؟

– نعم يا سيدي! بكل خير!

– تبدو كأنكَ تبكي.

– ابتسمتُ وأخرجتُ منديلًا مسحتُ به وجهي: «معذرةً يا سيدي، إنه إجهاد يوم عصيب!»

– نعم يا ستيفنس، كان عملًا شاقًّا.

بعدها التفت وراءه إلى شخصٍ ما كان يخاطبه. كنتُ على وشك أن أواصل تجوالي في أرجاء القاعة عندما لمحتُ «مس كنتون» تشير إليَّ من فتحة الباب. اتجهتُ صوبها ولكن قبل أن أصل إليها لمسني «مسيو ديبو» من ذراعي قائلًا: «أرجو أيها الساقي أن تُحضر لي بعض الضمادات الجديدة، قدمايَ تؤلمانني بشدة!»

ولاحظتُ أثناء توجهي نحو الباب أنه كان يتبعني. التفتُّ إليه قائلًا: «سأعود وأبحث عنك يا سيدي بمجرَّد أن أحضر ما طلبت.»

– بسرعة أرجوك، قدمايَ تؤلماني!

– حاضر يا سيدي … وأنا آسف لذلك.

كانت «مس كنتون» لا تزال واقفةً خارج القاعة في المكان نفسه. عندما خرجت تقدَّمَت صامتةً نحو السُّلَّم، لم تكُن متعجلةً في سيرها، ولكنها استدارت وقالت: «مستر ستيفنس، أنا في غاية الأسف … لقد تُوفي والدكَ منذ دقائق!»

«لقد فهمتُ ذلك.»

ثم نظرتُ إلى يدَيها، ثم إلى وجهي. قالت: «مستر ستيفنس، أنا في غاية الأسف.» وأضافت: «ليت هناك ما يمكن أن أقوله.»

– ليس هناك داعٍ يا «مس كنتون».

– الدكتور «ميرديث» لم يصل بعد. ثم أحنَت رأسها لحظةً وندَّت عنها انتحابة، ولكنها تمالكت على الفور وسألتني بصوت هادئ: «هل تصعد معي لكي تراه؟»

– أنا مشغول جدًّا الآن يا «مس كنتون»، ربما أمكنني ذلك بعد قليل.

– في هذه الحال يا «مستر ستيفنس»، هل تسمح لي بأن أغمض عينيه؟

– أكون ممتنًّا إن أنتِ فعلت.

بدأت تصعد السُّلَّم، ولكنني أوقفتُها قائلًا: «مس كنتون، أرجو ألَّا تعتقدي أنني إنسان فظ غليظ القلب لأنني لم أصعد معكِ لكي أرى والدي الآن. أنتِ تعرفين، وأنا أعرف أن والدي كان سيتمنَّى أن أستمرَّ في عملي الآن!»

– طبعًا يا مستر ستيفنس.

– لو أنني فعلتُ غير ذلك أعتقد أنني سوف أخذله.

– بالتأكيد يا مستر ستيفنس.

استدرتُ وقنينة الخمر لا تزال على الصينية، ودخلتُ غرفة التدخين مرةً أخرى. كانت تلك الغرفة الصغيرة تبدو مثل غابة كثيفة بما فيها من ملابس العشاء الرسمية والشعر الأبيض ودخان السيجار. تابعتُ طريقي وسط الضيوف أعيد مَلء الكئوس. ربت «مسيو ديبو» على كتفي قائلًا: «هل أحضرتَ ما طلبتُه منك؟»

– عفوًا يا سيدي، الإسعافات الطبية ليست متوفرةً فورًا في هذه اللحظة.

– ماذا تعني أيها الساقي؟ هل نفدَت لديكم مواد الإسعافات الأولية؟

– هناك طبيب في الطريق يا سيدي!

– حَسَنٌ جدًّا! أرسلتَ لاستدعاء طبيب؟

– نعم يا سيدي!

– حسن! حسن!

واصل «مسيو ديبو» حديثه وواصلتُ أنا تجوالي في الغرفة لبعض الوقت، ثم ظهرَت «الكونتيسة» الألمانية من بين الحضور، وقبل أن أجد فرصةً لخدمتها بدأت هي تصبُّ لنفسها من القنينة التي أحملها على الصينية.

قالت: «أرجو أن تشكر الطاهي نيابةً عني يا ستيفنس.»

– طبعًا يا سيدتي … شكرًا جزيلًا.

– أنتَ وجماعتك أيضًا كنتم ممتازين.

– شكرًا جزيلًا يا سيدتي.

ثم قالت ضاحكة: «أثناء العشاء، كنتُ أتصوَّر أحيانًا أنكَ ثلاثة أشخاص على الأقل.»

ضحكتُ وأنا أقول: «يسعدني أن أكون في الخدمة دائمًا يا سيدتي.» وبعد لحظة اكتشفتُ أن «مستر كاردينال» الأصغر كان يقف في مكان قريب بمفرده، وأزعجني أن الشابَّ كان يشعر برهبة إلى حدٍّ ما وسط هذا الجمع، وعند قدومي نحوه تهلل وجهه ومدَّ كأسه لأملأها. قال وأنا أصبُّ له الشراب: «أظنُّه شيئًا رائعًا أن تكون مُحبًّا للطبيعة يا «ستيفنس»، وهي ميزة عظيمة أيضًا ﻟ «لورد دارلنجتون» أن يكون لديه شخص خبير مثلك يتابع نشاط البستاني.»

– عفوًا يا سيدي، ماذا تقصد؟

– الطبيعة يا «ستيفنس»، في المرة الماضية كنَّا نتحدث عن عجائب عالم الطبيعة. وأنا متفق تمامًا معك، كلنا راضون عن الروائع التي تحيط بنا.

– نعم يا سيدي!

– أقصد كل ما كنَّا نتحدث عنه؛ المعاهدات والحدود والتعويضات والاحتلال. لكن أُمنا الطبيعة تمضي في طريقها الخاصة والعذبة، ومن المُضحِك أن نفكر فيها بتلك الطريقة، أليس كذلك؟

–نعم! حقًّا يا سيدي!

– أتساءل أحيانًا: ألم يكُن من الأفضل لو أن الله خلقنا كلنا على هيئة نبات؛ نباتات ثابتة مغروسة في التربة، ما كان شيء من ذلك العفن عن الحروب والحدود قد حدث.

كانت الفكرة تبدو للشابِّ مثيرة … وضحك. وبعد لحظة ضحك أكثر وشاركته الضحك. ثم لكزني بمرفقه لكي أنتبه قليلًا وهو يقول: «هل يمكن أن تتخيَّل ذلك يا ستيفنس؟»

ثم راح يضحك ثانية.

– نعم يا سيدي!» قلتُ وأنا أضحك: «كان يمكن أن يكون بديلًا مثيرًا.»

– بَيْدَ أنه كان سيظلُّ عندنا فتيانٌ مثلك يحملون الرسائل جيئةً وذهابًا ويُقدِّمون الشاي … إلى آخر ذلك، وإلا فكيف يمكن أن نفعل شيئًا؟ هل يمكن أن تتخيَّل ذلك يا «ستيفنس»؟ تتخيَّل ونحن جميعًا متجذرون في الأرض؟ تصوَّر!

في هذه اللحظة ظهر أحد الخدم أمامي ليقول لي: «مس كنتون تريد أن تتكلم معكَ يا سيدي.»

استأذنتُ «مستر كاردينال» وتوجهتُ نحو الباب. لاحظتُ أن «مسيو ديبو» كان هناك بجوار الباب، وعندما اقتربتُ منه قال: «هل وصل الطبيب أيها الساقي؟»

– أنا ذاهبٌ الآن لكي أعرف ذلك يا سيدي … لحظة واحدة.

– أشعر بألم شديد.

– يؤسفني ذلك، وعلى أيَّة حالٍ فإن الطبيب لن يتأخر طويلًا يا سيدي!

بعد ذلك تبعني «مسيو ديبو» خارجًا بينما كانت «مس كنتون» ما زالت واقفةً في الرَّدهة.

قالت: «الدكتور «ميرديث» وصل يا «مستر ستيفنس»، وصعد إلى غرفة والدك.» كانت تتكلم بصوت خافت، ولكن «مسيو ديبو» الذي كان يسير ورائي قال على الفور: «حَسَنٌ!» التفتُّ إليه قائلًا: «أرجو أن تتبعني يا سيدي!»

سرتُ أمامه إلى غرفة البلياردو حيث أوقدتُ المدفأة، وجلس على الأريكة الجلدية، وبدأ يخلع حذاءه.

– عفوًا! الجوُّ هنا بارد بعض الشيء، ولكن الطبيب لن يتأخر كثيرًا.

– شكرًا أيها الساقي، لقد أحسنتَ التصرف.

كانت «مس كنتون» ما زالت منتظرةً في مدخل الرَّدهة، ثم صعدنا معًا في صمت. هناك في غرفة والدي كان الطبيب يُدوِّن بعض الملاحظات بينما «مسز مورتيمر» تبكي بشدة. كانت لا تزال مُرتديةً مريلة المطبخ، وواضحٌ أنها كانت تستخدمها لمسح دموعها؛ حيث كان وجهُها يحمل آثار الشحم، ممَّا جعلها تبدو وكأنها تشارك في عرض مسرحي كوميدي. كنتُ أتوقَّع أن تفوح رائحة الموت من الغرفة، لكنْ بسبب «مسز مورتيمر»، أو ربما بسبب مريلتها، فقد كانت الرائحة الغالبة هي رائحة الشواء.

نهض الدكتور «ميرديث» وهو يقول: «أرجو أن تتقبل خالص عزائي يا «مستر ستيفنس». لقد داهمَته سكتة دماغية شديدة، وما كان ليحتمل ذلك الألم، ولم يكُن بالإمكان أن نفعل شيئًا لإنقاذه.»

– شكرًا يا سيدي!

– سأمضي الآن، هل تقوم بالترتيبات اللازمة؟

– نعم يا سيدي، على أن هناك أحد السادة الضيوف في الدَّور الأسفل يحتاج مساعدتك يا سيدي!

– هل هو أمرٌ عاجل؟

– لقد أبدَى رغبةً شديدةً في أن يراك يا سيدي!

صحبتُ الطبيب إلى الدَّور الأسفل ومشيتُ أمامه إلى غرفة «البلياردو»، ثم عدتُ مُسرعًا إلى غرفة التدخين، حيث كان الجوُّ قد أصبح أكثر مرحًا.

لا أريد بالطبع أن أوحي بأنني أستحقُّ أن أوضَع جنبًا إلى جنبٍ مع رؤساء خدم عظام في جيلنا مثل «مستر مارشال» و«مستر لين»، رغم أن هناك مَن يحاول دائمًا أن يفعل ذلك، وربما لكرم شديد. دعني أوضح أنني عندما أقول إن مؤتمر عام ١٩٢٣م، وتلك الليلة بخاصة، يُمثِّلان نقطة تحول في حياتي المِهْنيَّة، فإنني أتكلم على ضوء معاييري المتواضعة. حتى مع ذلك فإنك عندما تأخذ بالاعتبار الضغوط التي كانت واقعةً عليَّ في تلك الليلة، فقد لا تتصوَّر أنني أضلِّل نفسي دون مُبرِّر إن أنا تماديتُ وادَّعيتُ لنفسي درجةً متواضعةً من الكرامة الجديرة بواحد مثل «مستر مارشال» أو حتى بوالدي. ولكنْ لماذا يجب عليَّ أن أنكر ذلك حقيقة؟ وبالرغم من كل ما ارتبط بذلك المساء من أشياء حزينة، فإنني اليوم عندما أتذكره، أجدني أفعل ذلك بشعور كبير بالانتصار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤