اليوم الثاني – بعد الظهيرة

مورتيمرزبوند – دورست

يبدو أن هناك بُعدًا آخر للسؤال: «ما المقصود برئيس الخدم العظيم؟» السؤال الذي لم أفكر فيه كما ينبغي حتى الآن. ولا بدَّ من أن أقول إنها تجربة مُقلِقة إلى حدٍّ ما لأنها تمسُّ شيئًا قريبًا إلى نفسي، أوليتُه الكثير من تفكيري على مرِّ السنوات.

ويبدو أنني قد تسرعتُ عندما رفضتُ بعض المعايير التي وضعَتها جميعة «هايز» كشروط للعضوية. وأريدُ أن أوضح هنا أنني لا توجَد لديَّ أيَّة رغبة في التراجع عن أيٍّ من أفكاري المتعلقة بالكرامة وصلتها الوثيقة ﺑ «العظمة». ولكنني كنتُ أفكر بعض الشيء في ذلك القرار الذي اتخذَته جمعية «هايز»، وأعني به أن المتقدِّم للعضوية لا بدَّ من أن يكون مُنتسبًا لبيت عريق كشرط أساسي. إلا أنه يبدو لي أن المرء قد يعترض على مفهوم «البيت العريق» أكثر من اعتراضه على المبدأ في حدِّ ذاته.

والحقيقة أنني عندما أفكر في ذلك بشكل أكثر عمقًا، أجد أنه ربما كان من الصواب القول إن انتساب المرء لبيت عريق شرط للعظمة، ما دام المرء يفهم أن كلمة «عريق» هنا لها معنًى أشمل من ذلك الذي تفهمه جمعية «هايز».

والواقع أن المقارنة بين فهمي لذلك، وفهم الجمعية، توضح الفرق بين قِيَم جيلنا من رؤساء الخدم والجيل السابق. وعندما أقول ذلك لا أجذب الاهتمام فقط إلى حقيقة أن جلينا أكثر مثالية، بل إلى أن كبار السنِّ منَّا كان يُهِمُّهم دائمًا أن يكون مخدومهم حاملًا للقب أو ينحدر من عائلة عريقة. أمَّا نحن فاهتمامنا كبير بالحالة «الأخلاقية» لمَن نعمل عنده، ولا أقصد بذلك أننا كنَّا مُهتمِّين أو مشغولين بالسلوك الشخصي لمخدومينا، ما أريد أن أقوله هو أننا كنَّا طموحين بشكل غير مألوف للجيل السابق، إلى أن نخدم سادةً يمكن أن يقال إنهم يُعزِّزون التقدم الإنساني. كان جيلنا يرى مثلًا أنها دعوة أكثر قيمةً أن نخدم سادةً مثل «مستر جورج كتردج».

فهو بالرغم من بداياته المتواضعة، قد أسهم بشكل لا يمكن إنكارُه في ازدهار مستقبل الإمبراطورية، وبدرجة أكبر من أيِّ سيد آخر من الذين يضيعون وقتهم في ملاعب الجولف والأندية … مهمَا كانت أصولهم الأرستقراطية.

ومن الناحية العملية، بالطبع، فإن الكثيرين من السادة الذين ينتمون إلى العائلات النبيلة كانوا يُكرِّسون جهدًا كبيرًا ويسهمون في تخفيف مشكلات العصر الكبرى، لذا فقد يبدو من النظرة السريعة أن طموحات جيلنا كانت تختلف قليلًا عن طموحات أسلافنا.

إلا أنني أستطيع أن أشير إلى فارق واضح في التوجُّه بناء على الكلام الذي يدور بين زملاء المهنة، وكذلك إلى الطريقة التي كان ينتقل بها المتميزون من جيلنا من منصب لآخر. لم تكُن قرارات كتلك مجرَّد مسألة أجر، أو حجم فريق العمل، ولا بريق اسم العائلة التي يعملون لديها. ولعلَّه من الإنصاف أن أقول إن الكرامة المِهْنيَّة تتجلى في أبرز صورها في القيمة الأخلاقية للشخص الذي تعمل لديه. وأظنُّني قادرًا على إبراز الفرق بين الأجيال بالتعبير عن نفسي بشكل مجازي.

يمكن القولُ إن رؤساء الخدم، من جيل والدي، كانوا ينظرون إلى العالم كأنه سُلَّم؛ في أعلى السُّلَّم توجَد بيوت النبلاء وذوي المناصب و«اللوردات» من العائلات القديمة، بعد ذلك يأتي «مُحدَثو الثروة»، ثم يهبط السُّلَّم ويهبط، حيث تتحدَّد الدرجة بامتلاك الثروة من عدمه.

رئيس الخدم الطموح كان يبذل قُصارى جهده لكي يتسلق هذا السُّلَّم بأقصى ما يستطيع. تلك القِيَم بالطبع هي المُتجِّسدة في فكرة جمعية «هايز» عن «البيت العريق». وإعلانها ذلك صراحةً منذ عام ١٩٢٩م، يوضح لماذا كان زوال مثل ذلك المجتمع أمرًا حتميًّا، إن لم يكُن قد انقضى زمنُه بالفعل؛ لأن في ذلك الوقت كانت مثل تلك الأفكار قد عفَا عليها الزمن، مع بروز مجموعة من خيرة الرجال إلى مركز الصدارة في مهنتنا. وبالنسبة لجيلنا أظنُّ أن من الدقة القول إنه لم يكُن ينظر إلى العالم كسُلَّم، وإنما كعَجَلة! ربما كان عليَّ أن أوضِّح ذلك. لديَّ انطباع أن جلينا هو أول جيل يدرك شيئًا لم تدركه كل الأجيال التي سبقَته؛ وهو أن القرارات الكبرى في العالم لا يتمُّ التوصلُ إليها في المجالس النيابية، ولا في خلال أيام مُكرَّسة لمؤتمر دولي يُعقَد تحت بصر الجمهور والصحافة. المناقشات تدور والقرارات الحاسمة يتمُّ التوصلُ إليها في الجوِّ الخصوصي والهادئ في قصور هذا البلد. ما يحدث تحت بصر العامة، وما يصحبه من طقوس وأبهة، هو المشهد الختامي عادة، هو التصديق على ما حدث على مدى أسابيع أو شهور خلف أسوار تلك القصور. بالنسبة لنا إذَن كان العالم عَجَلةً تدور، وتلك القصور هي صرَّة العجلة، تنطلق قراراتها الكبرى وتتوزع على الآخرين، أغنياء وفقراء، ممَّن يدورون حولها. وكان كل أمل مَن لديه طموح مِهْني منَّا هو أن يشقَّ طريقه لكي يقترب من صرَّة تلك العجلة، لأن كلًّا منَّا كان يستطيع ذلك، ولأننا كما قلتُ كنَّا جِيلًا مثاليًّا، ولم تكُن القضية هي إظهار المهارة فقط، وإنما إظهارها من أجل أيِّ هدف! كان كل منَّا يضمر الرغبة في تقديم إسهامه الخاص والمتواضع، من أجل صُنع عالم أفضل، وكنَّا كمحترفين نرى أن الطريق الأكيدة لتحقيق ذلك هي أن نخدم عِلية القوم في زماننا؛ الرجال العظام الذين كانت الحضارة أمانةً في أيديهم.

بالطبع أنا أتكلم الآن بشكل عام، ويمكن أن أعترف بأنه كان هناك أشخاص كثيرون من جيلنا ممَّن يكون لديهم صبر طويل على تلك الاعتبارات الراقية. ومن ناحية أخرى فأنا واثقٌ أيضًا بأنه كان هناك كثيرون من جيل والدي ممَّن أدركوا بالفطرة ذلك «البُعد الأخلاقي» في عملهم.

وبشكل عام أظنُّ أن تلك الأحكام دقيقة، والحقيقة أن دوافع مثالية كتلك التي وصفت، قد لعبَت دَورًا كبيرًا في حياتي المِهْنيَّة.

أنا نفسي تحركتُ بسرعة شديدة بين مخدومين مختلفين في بداياتي، لأنني كنتُ أدرك أن تلك الأماكن لم تُحقِّق لي الرضا أو الشعور بتأكيد الذات، قبل أن أكافَأ في النهاية بالعمل في خدمة «لورد دارلنجتون».

غريبٌ أنني حتى اليوم لم أفكر في الأمر على هذا النحو. والواقع أنني على امتداد كل تلك الساعات التي قضيناها في مناقشة معنى وطبيعة «العظمة» بجوار المدفأة في قاعة الخدم، لم نفكر أبدًا أنا و«مستر جراهام» في البُعد الذي ينطوي عليه السؤال.

وفي الوقت الذي لم أتراجع فيه عن أيِّ شيء من أقوالي السابقة عن معنى «الكرامة»، إلا أنني لا بدَّ من أن أعترف بوجود خلاف حول نقطة أخرى، فمَهمَا كانت الدرجة التي يُحقِّق بها رئيس الخدم تلك الصفة، يكون من الصعب عليه أن يتوقَّع من زملائه أن يعتبروه عظيمًا عندما يفشل في إبرازها. والمُلاحَظ أن أشخاصًا مثل «مستر مارشال» و«مستر لين» لم يعملا إلا في خدمة سادة من ذوي المكانة الأخلاقية الرفيعة — لورد ويكلنج، لورد كامبرلي، سير ليونارد جراي — والمؤكَّد أنهم ما كانوا ليعرضوا مواهبهم وقدراتهم على سادةٍ أقلَّ مستوًى من أولئك.

وكلما فكر المرء في ذلك اتضحَت المسألة؛ الارتباط ببيت عريق، ومتميز شرط أساسي للعظمة بالفعل، ورئيس الخدم العظيم لا يمكن إلا أن يكون شخصًا يستطيع أن يشير إلى سنوات خدمته ويقول إنه قد وضع مواهبه وقدراته في خدمة سيد عظيم، لخدمة الإنسانية من خلاله. وكما أقول فإنه لم يحدث أبدًا، على مدى كل تلك السنوات، أن فكرتُ في الأمر بهذه الطريقة، ولكن ربما يكون خروجي في رحلة كهذه توجُّهًا جديدًا لتناوُل موضوعات كتلك من منظور جديد؛ موضوعات كان المرء يتصوَّر أنه قد فكر فيها بشكل نهائي. وممَّا لا شكَّ فيه أنني قد بدأتُ أنحو هذا المنحى في التفكير نتيجة ذلك الحدث الذي وقع منذ ساعة أو أكثر قليلًا، والذي لا بدَّ من أن أعترف بأنه قد أربكني قليلًا.

بعد أن استمتعتُ بقضاء صباح جميل في قيادة السيارة في طقس بديع، وبعد أن تناولتُ غداءً طيِّبًا في نُزُل ريفي، عبرتُ الحدود إلى «دورست». وفجأةً شممتُ رائحة سخونة منبعثة من ماكينة السيارة، وأزعجني احتمالُ أن أكون قد تسبَّبتُ في ضررٍ لسيارة مخدومي، فأوقفتُها على الفور. كنتُ على طريق فرعية ضيِّقة تغطيها الأعشاب والشجيرات الكثيفة من الجانبَين، ولا أعرف ماذا حولي. لا أستطيع أن أرى لمسافة بعيدة أمامي، والطريق حادة الانعطاف بعد عشرين ياردةً تقريبًا. فكرتُ ألَّا أبقى طويلًا كما أنا؛ خوفًا من قدوم سيارة فتصطدم بسيارة مخدومي. أدرتُ مُحرِّك السيارة ثانيةً وهدأتُ قليلًا، وكانت الرائحة قد خفَّت حِدَّتُها، وكان أفضل ما يمكن أن أفعله هو البحث عن «جراج» أو مَسكن أحد هنا، حيث احتمال وجود سائق يعرف ما حدث للسيارة. ولكن الطريق كانت مُلتفَّةً على مدى مسافة أخرى، والنباتات على الجانبَين حاجبة للرؤية لدرجة أنني مررتُ أمام بعض البوابات المؤدِّية إلى دروب، دون أن ألمح البيوت نفسها، بعد نصف الميل تقريبًا، وكانت الرائحة المزعجة قد زادت. وصلتُ إلى طريق مفتوح، كنتُ أرى أمامي بوضوح، وظهر على يساري منزل مرتفع، على الطراز «الفيكتوري»، أمامه مساحة خضراء كبيرة، ومسار ضيِّق إلى جراج قديم. اقتربتُ وشجَّعني أن لمحتُ سيارةٌ من طراز «بنتلي» من خلال باب «الجراج» المفتوح المُلحَق بالمنزل الرئيسي.

وجهتُ السيارة قليلًا نحو المطلع، نزلتُ وسرتُ نحو الباب الخلفي للمنزل. فتحه لي رجلٌ كان يرتدي قميصًا بدون رابطة عنق، وعندما سألتُه عن سائق المنزل أجابني مُتهللًا بأنني «قد أصبتُ الهدف من أول رمية». استمع إلى مشكلتي فجاء معي إلى السيارة، فتح غطاء الماكينة وبعد فحص سريع لم يستغرق ثواني قال: «ماء يا عزيزي! تحتاج بعض الماء للرادياتير.»

بدَا عليه أنه يضحك من الموقف كله، ولكنه كان كريمًا جدًّا معي، فعاد إلى المنزل ورجع بإبريق ماء وقُمع. وهو يقوم بوضع الماء في «الرادياتير»، ورأسه محنيٌّ على الماكينة، راح يتكلم معي بمودَّة. وعندما عرف أنني في نزهة بالسيارة، اقترح عليَّ أن أقوم بزيارة منطقة جميلة قريبة، وهي بِركةٌ على بُعد نصف مِيل من المكان. وفي الوقت نفسه كانت لديَّ الفرصة لكي ألاحظ أن ارتفاع المنزل كان أكبر من سَعَته، وأنه يتكون من أربعة طوابق، وواجهتُه يُغطيها اللبلابُ حتى يصل إلى «الجملون». كما رأيتُ من خلال النوافذ أن التراب كان يغطي أكثر من نصفه، وعندما قلتُ ذلك للرجل، بعد أن انتهى من مَلء الرادياتير، قال: «إنه شيء مُخجِل فعلًا، منزل جميل قديم و«الكولونيل» يريد أن يبيعه، لم يعد الآن في حاجة لمنزل بهذا الحجم.»

لم أملك إلا أن أتساءل عن عدد الذين كانوا يعملون به، ولدهشتي قال الرجل إنه لم يكُن هناك غيره، و«طباخ كان يأتي كل مساء». وكما يبدو فإن الرجل كان هو رئيس الخدم والخادم والسائق والمسئول عن النظافة، كان كل أولئك بالفعل. كان الجندي المرسال ﻟ «الكولونيل» في الحرب — كما قال — وأنهما كانَا معًا في «بلجيكا» عندما استولى عليها الألمان، كما كانَا معًا بعد ذلك أيضًا عند إنزال قوات الحلفاء. ثم نظر إليَّ بإمعانٍ وقال: «والآن فهمت! لم أعرفك لأول وهلة، ولكنني أدركتُ الآن. أنتَ واحدٌ منهم؛ رئيس خدم من الطراز الأول، من أحدها؛ أحد البيوتات العريقة والكبيرة.»

وعندما قلتُ له إنه لم يبعُد كثيرًا قال: «الآن فهمت، في البداية لم أكتشفك لأنك تتكلم مثل السادة. ولأنك تقود سيارةً فاخرةً كهذه — ثم أومأ إلى السيارة — ظننتُ في البداية أنني أمام شخص غريب الأطوار، ولكنكَ هكذا يا عزيزي، شخص ممتاز، أنا لم أتعلم شيئًا من ذلك كما ترى، كنتُ مجرَّد جندي مرسال عجوز، أصبح مَدنيًّا.»

بعد ذلك سألني عن مكان عملي، وعندما أخبرتُه أمال رأسه إلى جنبٍ وحدقني بنظرة فضول.

قال لنفسه: «دارلنجتون هول … دارلنجتون هول لا بدَّ أن يكون مكانًا من الطراز الأول، ذلك يوفر نجاحًا لشخص مثلك تمامًا. دارلنجتون هول … تشبَّث بمكانك … دارلنجتون هول … تقصد قصر لورد دارلنجتون؟»

قلت: «كان مقرَّ إقامة «لورد دارلنجتون» حتى وفاته قبل ثلاث سنوات، وهو الآن قصر «مستر جون فراداي»؛ رجل أمريكي.»

«لا بدَّ من أن تكون بالفعل رئيس خدم من الطراز الأول لكي تعمل في مكانٍ كذلك. لم يعد هناك كثيرون مثلك!» ثم تغيَّرَت نبرةُ صوته بدرجة ملحوظة وهو يسأل: «تعني بالفعل أنكَ كنتَ تعمل لدى لورد دارلنجتون؟» وكان يُحدِّق فيَّ. قلتُ: «لا، أنا أعمل لدى «مستر فراداي»، الأمريكي الذي ابتاع القصر من أُسرة «دارلنجتون».»

«إذَن فأنتَ لم تعرف «اللورد دارلنجتون». أنا أتساءل فقط كيف كان؟ أيُّ نوع من البشر؟»

قلتُ للرجل إنني لا بدَّ من أن أواصل طريقي، وشكرتُه على مساعدته لي. كان على أيَّة حالٍ كريمًا معي، وتحمَّل مشقَّة إرشادي لأتمكن من الرجوع بالسيارة والخروج من البوابة، وقبل أن أنطلق انحنى وأوصاني بأن أزور البِركة، مُكرِّرًا وصفَه للطريق المؤدِّي إليها. قال: «مكان جميل، ستندم كثيرًا إن لم تزُره، «الكولونيل» هناك يصطاد السمك.»

بدَت السيارة في حالة جيدة مرةً أخرى، وحيث إن البركة كانت قريبةً من المكان، قررتُ أن أُنفِّذ اقتراح الرجل. كان وصفه للطريق واضحًا، إلا أنني بمجرَّد أن انحرفتُ عن الطريق الرئيسي وجدتُ نفسي حائرًا بين طرق فرعية ضيِّقة ومُلتفَّة، مثل تلك التي شممتُ فيها رائحة احتراق ماكينة السيارة. كانت الأعشاب على الجانبَين تبدو كثيفة أحيانًا وتحجب ضوء الشمس، وكانت عيناي تجدان صعوبةً في التأقلم مع التغيرات المتسارعة بين الضوء الساطع والظلال الكثيفة، إلا أنني أخيرًا وبعد بحث لم يستمرَّ طويلًا، رأيتُ علامة الطريق التي تشير إلى «بِركة مورتيمر»، وحدث أنني كنتُ قد وصلتُ إلى تلك البقعة منذ نصف الساعة تقريبًا، والآن ها أنا ذا أجد نفسي مَدينًا لذلك الجندي المرسال؛ لأنه إلى جانب مساعدتي في إصلاح السيارة، مكَّنني من اكتشاف هذه المنطقة الساحرة، التي كان من المستحيل أن أجدها أو أن أعرف مكانها لولا مساعدته. البِركة ليست كبيرةً — محيطها قُرابة رُبع المِيل — لدرجة أنكَ يمكن أن تراها كلها إن وقفتَ على أيِّ نتوء جبلي. يسود هنا هدوء تام؛ الأشجار متحلِّقة حول الماء ومتقاربة، تُلقي بظلال ناعمة على الشواطئ، بينما تتناثر هنا وهناك مجموعات من الدغل والأعشاب المائية تكسر سطح الماء والسماء المنعكسة فيه. الحذاء الذي ألبسه ليس مناسبًا للتجوال على محيط البِركة لأنني أرى من مكاني الذي أجلس فيه أن الشريط يختفي في مساحات مُغطاة بالطين العميق، ولكن جمال المكان أغراني بأن أفعل ذلك بمجرَّد أن وصلتُ إلى هنا. بَيْدَ أن التفكير في عواقب ذلك، وما قد يحدث لملابس السفر، جعلاني أكتفي بالجلوس على هذه الدكة. وهذا ما فعلتُه على مدى نصف الساعة الماضية، وأنا أتأمل الجالسين بأدوات الصيد في أماكن مختلفة على الشاطئ. في هذه اللحظة أرى منهم ما يزيد عن عشرة أشخاص، ولكن الضوء الشديد، والظلال الناجمة عن الأفرع المعلقة والمتشابكة لا يُمكِّنني من تحديد ملامح أيٍّ منهم بوضوح. ولذا تخليتُ عن أيَّة محاولة للتعرف أو التخمين، أيهم كان «الكولونيل» الذي تلقيتُ في منزله تلك المساعدة المفيدة.

ولا شكَّ في أن هدوء المنطقة، وأن ما يحيط بي من جمال، هو الذي مكَّنني من التفكير بعمق في كل ما دار بذهني على مدى نصف الساعة. فعلًا لولا الهدوء والسكينة في هذا المكان، لَمَا أمكن أن أفكر في سلوكي أثناء لقائي مع الجندي المرسال. أريد أن أقول إنني ما كنتُ لأفكر في ذلك الانطباع الذي تركتُه، وهو أنني لم أعمل أبدًا لدى «لورد دارلنجتون». ليس هناك شكٌّ أن ذلك هو ما حدث بالفعل. سألني: «تعنى بالفعل أنكَ كنتَ تعمل لدى «لورد دارلنجتون؟» وأعطيتُه إجابةً قد تعني تقريبًا أنني لم أعمل لديه. ربما كانت مجرَّد نزوة لا مُبرِّر لها قد استولت عليَّ في تلك اللحظة، ولكنها على أيَّة حالٍ طريقة غير مُقنِعة لتفسير هذا السلوك الغريب. أصبحتُ الآن أرى أن ما حدث مع الجندي المرسال ليس أول شيء من نوعه، وأشكُّ في أن لذلك صلةً ما — لا أعرف طبيعتها — بما حدث منذ أشهر قليلة أثناء زيارة أُسرة «ويكفيلد».

مستر ومسز «ويكفيلد» أمريكيان استقرَّا في إنجلترا — في مكانٍ ما من «كنت» على ما أظن — منذ عشرين عامًا. ولأن لهما عددًا كبيرًا من المعارف المشتركين مع «مستر فراداي»، من بين مجتمع «بوسطن»، فقد قامَا بزيارة قصيرة ذات يوم ﻟ «دارلنجتون هول»، وبقيَا لتناوُل الغداء وغادرَا قبل موعد تناوُل الشاي. الوقت الذي أشير إليه الآن، كان بعد وصول «مستر فراداي» نفسه إلى القصر بأسابيع قليلة، وكان حماسه في ذروته لشراء القصر. معظم وقت زيارة «آل ويكفيلد» قَضَيَاه يقودهما «مستر فراداي» في جولة طويلة للفُرجة على المبنى، بما في ذلك الأجزاء المُغطاة بالتراب، وكان ذلك في نظر كثيرين أمر لا مُبرِّر له. كان مستر ومسز «ويكفيلد» حريصَين على تأمُّل وتفحُّص كل شيء مثل «مستر فراداي»، وعندما ذهبتُ للقيام بعملي كنتُ ألتقط بأذني بعض التعبيرات الأمريكية عن البهجة والدهشة تتردَّد في أرجاء القصر أينما حلُّوا. بدأ «مستر فراداي» الجولة من الطابق العلوي، وعندما نزل بضيفَيه لمشاهدة غرف الطابق الأرضي كانت تبدو عليه السعادة، وهو يوضح لهم تفاصيل عمارة أفاريز وإطارات النوافذ، ويشرح لهم مُبتهجًا ما كان يفعله «اللوردات» الإنجليز في كل غرفة. وبالرغم من أنني لم أتعمَّد التنصُّت، إلا أنني فهمتُ مضمون ما كان يقوله، وأدهشَتني سعة معرفة مخدومي، والتي كانت — بالرغم من بعض الملاحظات غير الموفَّقة — تُعبِّر عن حماس شديد لأسلوب الحياة الإنجليزية. والمُلاحَظ — علاوةً على ذلك — أن «آل ويكفيلد» — «مسز ويكفيلد» بخاصة — كانَا يجهلان تقاليد بلادنا، كما فهمتُ من كثير من التعليقات التي أبدَيَاها أنهما كانَا يملكان قصرًا إنجليزيًّا رائعًا. وفي لحظةٍ ما أثناء هذه الجولة في المبنى — وكنت أعبر القاعة معتقدًا أن المجموعة قد ذهبَت لمشاهدة الطابق الأرضي — رأيتُ أن «مسز ويكفيلد» قد تخلَّفَت عنهم وراحت تفحص التقوُّس الحجري حول مدخل غرفة الطعام. عندما مررتُ بها قلت: «عفوًا يا سيدتي!» التفتَت قائلة: «ربما تستطيع أنتَ أن تخبرني يا «ستيفنس» … هذا التقوُّس يبدو من طراز القرن السابع عشر، ولكنْ أليست الحقيقة أنه قد بُني حديثًا؟! وربما حتى في زمن لورد دارلنجتون؟»

– يمكن أن يكون كذلك يا سيدتي.

– إنه جميل جدًّا، ربما يكون قطعة تقليد لبناء ذلك القرن، وقد صُنعَت من سنوات قليلة فقط، أليس كذلك؟

– لستُ متأكدًا يا سيدتي، لكن هذا ممكن.

ثم خفضَت صوتها قائلة: «لكنْ قُل لي يا «ستيفنس»، كيف كان ذلك «اللورد دارلنجتون»؟ من المُحتمَل أن تكون قد عملَت لديه.»

– لم يحدث يا سيدتي!

– لقد كنتُ أظنُّ العكس، ولا أعرف السبب.

ثم استدارت «مسز ويكفيلد» وتحسَّسَت التقوُّس قائلة: «نحن إذَن لسنا متأكدَين! ما زال يبدو لي أنه تقليدٌ جيدٌ جدًّا، ولكنه تقليد!»

من المُحتمَل أن أكون قد نسيتُ ذلك الحوار، إلا أنني بعد مغادرة أُسرة «ويكفيلد»، وكنتُ أُقدِّم الشاي ﻟ «مستر فراداي» في غرفة الاستقبال، لاحظتُ أنه كان مشغول البال. بعد فترة صمت قصيرة قال: أتدري يا «ستيفنس»؟ «مسز ويكفيلد» لم يعجبها القصر، وكنتُ أظنُّ العكس!»

– هكذا يا سيدي؟

– بدَا عليها الشعور بأنني أبالغ في عراقته، وأنني كنتُ أجعله يبدو قديمًا جدًّا … من قرون.

– حقًّا يا سيدي؟

– ظلَّت تؤكد أن كل شيء هنا تقليد، حتى أنتَ يا «ستيفنس»، كانت تظنُّ أنكَ تقليد!

– حقًّا يا سيدي؟

– نعم يا «ستيفنس». قلتُ لها إنكَ أصلي، رئيس خدم إنجليزي عريق، وإنكَ تعمل هنا في هذا القصر منذ ثلاثين عامًا على الأقل، وتقوم بخدمة «لورد» إنجليزي أصيل … لكن «مسز ويكفيلد» كانت تجادلني في هذه النقطة. والحقيقة أنها كانت تعارض بثقة شديدة.

– هكذا يا سيدي؟

– «مسز ويكفيلد» يا «ستيفنس» مقتنعة بأنك لم تعمل أبدًا قبل أن تأتي إلى هنا، ويبدو أنها سمعَت ذلك منك شخصيًّا، وجعلتني أبدو غبيًّا إلى أقصى مدى يمكن أن تتخيله.

– هذا أمر مؤسف يا سيدي!

– أريد أن أقول يا «ستيفنس» إن هذا منزل إنجليزي عتيق عريق … أليس كذلك؟ ذلك هو ما دفعت من أجله. وأنتَ رئيس خدم إنجليزي أصيل، ولستَ مجرَّد خادم يدَّعي أنه رئيس خدم عظيم. أنتَ الشيء الحقيقي … أليس كذلك؟ هذا ما كنتُ أريد، أوَليس ذلك ما هو موجود فعلًا؟

– أستطيع أن أقول ذلك يا سيدي.

– إذَن يمكنك أن تفسر لي ما كانت تقوله «مسز ويكفيلد»، فهو لغز غامض بالنسبة لي.

– ربما أكون قد أعطيتُ السيدة صورةً غير دقيقة إلى حدٍّ ما عن عملي يا سيدي، وأعتذر بشدة إن كان ذلك قد تسبَّب في بعض الحرج.

– أعتقد أنه قد تسبَّب في حرج وارتباك. أولئك الناس يعتقدون الآن أنني مُتبجِّح وكذاب! على أيَّة حالٍ ماذا تقصد بقولك إنكَ ربما تكون قد أعطيتَها صورةً غير دقيقة عن عملكَ هنا؟

– أنا آسف يا سيدي! لم أقصد أبدًا أن أُسبِّب لك هذا الموقف المُحرج!

– اللعنة! لكنْ لماذا قلتَ لها ذلك يا «ستيفنس»؟

فكرتُ في الموقف لحظةً، ثم قلت: «آسف جدًّا يا سيدي، ولكن ذلك تمشيًا مع تقاليد هذه البلاد!»

– عمَّ تتحدث يا رجل؟

– أريد أن أقول إنه ليس من المعتاد في إنجلترا يا سيدي أن يتحدث الخادم عن مخدوميه السابقين.

– حَسَنٌ يا «ستيفنس»، أنتَ إذَن لا تريد أن تكشف الأسرار الماضية. لكنْ هل يعني ذلك أن يمتدَّ إلى إنكار أنكَ عملتَ لدى أحد غيري؟

– ربما تكون قد ذهبتَ بعيدًا في فهم هذا الأمر يا سيدي، لكنه كان من المرغوب فيه دائمًا من الخدم أن يعطوا هذا الانطباع، وهو شيء يشبه، إلى حدٍّ ما، العادة المُتَّبَعة بالنسبة للزواج إن جاز لي أن أقول ذلك. إذا حدث وكانت هناك سيدة مُطلَّقة موجودة بصُحبة زوجها الثاني، فلا يليق بالمرة الإشارة إلى الزواج الأول.

قال مخدومي: «كنتُ أتمنَّى لو أنني عرفتُ شيئًا عن تقاليدكم هذه من قبلُ يا «ستيفنس»! لقد جعلني ذلك أبدو كالأبله!»

أظنُّ أنني أدركت، حتى في ذلك الوقت، أن التفسير الذي قدَّمتُه ﻟ «مستر فراداي» لم يكُن كافيًا، رغم أنه لم يكُن عاريًا عن الحقيقة تمامًا. ولكنْ عندما يكون المرء مُثقَلًا بمشاغل كثيرة عليه أن يفكر فيها، يصبح من السهل عدم إعطاء أهمية كبيرة لمثل تلك الأمور. هكذا كان الحال بالنسبة لي فعلًا، أبعدت الموضوع كله عن تفكيري لفترةٍ ما. والآن، وأنا جالس هنا في هدوء هذه المنطقة حول البِركة، تبدو هناك ظلال شكٍّ في أن يكون سلوكي مع «مسز ويكفيلد»، في ذلك اليوم، كان له صلةٌ ما بما حدث بعد الظهر. هناك بالطبع اليوم كثيرون ممَّن لديهم أشياء سخيفة يُردِّدونها عن «لورد دارلنجتون»، وربما أكون قد تصرفتُ هكذا نتيجة الشعور بقدْر من الحرج أو الخجل لعلاقتي بسيادته.

والآن دعني أوضح أن لا شيء يمكن أن يكون بعيدًا عن الحقيقة. إن معظم ما يتردَّد اليوم عن سيادته، على أيَّة حال، هُراء وينمُّ عن جهل بالحقيقة. ويبدو أن سلوكي يمكن تفسيرُه بأنني لم أكُن أريد أن أستمع إلى المزيد من الهراء عن سيادته، أو أنني بمعنًى آخر أردتُ في الحالتَين أن أردِّد كذباتٍ بيضاءَ لتجنُّب ما هو أسوأ. عندما أفكر في ذلك يبدو تفسيرًا مُقنِعًا، فلا شيء يضايقني أكثر من استماعي إلى تكرار مثل ذلك الهراء. دعني أقول إن «لورد دارلنجتون» كان رجلًا ذا خلق رفيع ومكانة سامية، يبدو أمامها كل مَن يعرفون عنه بهذا الهراء أقزامًا. وأستطيع أن أؤكد أنه قد ظلَّ هكذا إلى النهاية. ولن يكون صحيحًا إن قلتُ إنني نادم على العمل لدى ذلك الرجل. ولا بدَّ من أنك ستُقدِّر أن عملي في خدمة سيادته في «دارلنجتون هول»، على مدى السنوات، كان يعني أنني قد اقتربتُ من صرَّة عَجَلة هذا العالم كما كان يحلم أيُّ شخص مثلي.

قضيتُ في خدمة «اللورد» خمسة وثلاثين عامًا، ولا يمكن أن أزعم أنني في تلك السنوات لم أكُن مرتبطًا ببيت عريق. وعندما أنظر هكذا إلى تاريخي البعيد، أجد أن ما أشعر به من رضًا نابع ممَّا حققتُه في خلال تلك السنوات، وأنا اليوم فخور ومُمتن لأنني حصلتُ على تلك المزايا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤