اليوم الثالث – صباحًا
أقمتُ الليلة الماضية في نُزُل اسمه «العربة والأحصنة» يبعُد قليلًا عن مدينة «تونتون» في منطقة «سومرست». ولأنه عبارة عن بيت صغير مسقوف بالقشِّ بجوار الطريق، كان يبدو جذابًا من السيارة «الفورد» عندما اقتربتُ منه مع آخر ضوء. تقدَّمَني صاحب النُّزل على سُلَّم يؤدِّي إلى غرفة صغيرة، تكاد تكون خاليةً من الأثاث، ولكنها مُرضية تمامًا. سألني إن كنتُ قد تناولتُ عشائي، فطلبتُ منه أن يرسل لي بعض الشطائر، وكان ذلك كافيًا.
ولكنْ عندما اقترب المساء بدأتُ أشعر بالقلق في غرفتي، وأخيرًا قرَّرتُ أن أنزل إلى البار لأجرِّب بعض العصائر المحلية. كان هناك خمسة أو ستة من النزلاء متحلقون حول البار، يوحي مظهرُهم بأنهم مزارعون، ولم يكُن هناك غيرهم. طلبتُ كوبًا من العصير وجلستُ على طاولة بعيدة قليلًا قاصدًا أن أسترخي وأستجمع أفكاري عن اليوم، وسرعان ما اكتشفتُ أن أولئك الناس قلقون لوجودي، ويشعرون بالحاجة لإظهار كرم الضيافة، وكلما كانت هناك لحظةُ صمت في حديثهم، كان أحدهم يختلس نظرةً نحوي، وكأنه يحاول الاقتراب مني. وأخيرًا رفع أحدُهم صوتَه قائلًا لي: «يبدو أنكَ قد قرَّرتَ أن تقضي الليلة هنا في الطابق العلوي يا سيدي.» وعندما أخبرتُه أن الأمر كان كما قال، هزَّ رأسه — في شكٍّ — وهو يقول: «لن تنام جيدًا يا سيدي! إلا إذا كنتَ مُغرمًا بصوت الرجل العجوز — يقصد صاحب النُّزل — وهو يُحدِث جلبةً طوال الليل، ثم إنك ستقوم من النوم على صوت زوجته وهي تصيح وتناديه مع مطلع الفجر!» وبالرغم من احتجاج صاحب النُّزل على ما قال، إلا أنهم كانوا يقهقهون. قلت: «هل الأمر هكذا حقًّا؟» وبينما كنت أتكلم دهمَتني فكرة؛ نفس الفكرة التي دهمَتني أكثر من مرة في الفترة الأخيرة في وجود «مستر فراداي»، وهي أن الردود مطلوبة أحيانًا. والحقيقة أن الناس كانوا صامتين ينتظرون أن يسمعوا تعليقي. فكرتُ ثم قلت: «تنويع محلي على صياح الديك لا شك!»
في البداية استمرَّ صمتُهم وكأنهم يتوقَّعون مني أن أستمرَّ في الكلام، وعندما لاحظوا ملامح المرح على وجهي ضحكوا، رغم أن ذلك كان بشكل مرتبك إلى حدٍّ ما. وبذلك عادوا إلى حديثهم السابق ولم أتبادل معهم كلماتٍ أكثر من ذلك، إلى أن كانت «تصبحون على خير» بعد وقت قصير.
في البداية كنتُ سعيدًا لتلك المزحة التي جاءت إلى ذهني، ولكنني لا بدَّ من أن أعترف بأنني قد خاب أملي قليلًا لأنها لم تستقبل بشكل جيد. وأقول خاب أملي لأنني كنتُ أكرِّس وقتًا أطول وجهدًا أكبر على الأشهر الأخيرة لتحسين مهارتي في هذا المجال. بمعنى أنني كنتُ أحاول أن أضيف تلك المهارة إلى أسلحتي المِهْنيَّة لكي أفي — بكل ثقة — بما يتوقعه مني «مستر فراداي» من قُدرة على المزاح.
فمثلًا اعتدتُ في الفترة الأخيرة أن أستمع إلى الراديو في غرفتي عند تيسُّر الوقت لذلك، عندما كان «مستر فراداي» يخرج في المساء. كان أحد البرامج التي أستمع إليها واسمه «مرتين في الأسبوع … أو أكثر» عبارة عن تعليقات مرحة يقوم بها شخصان، على موضوعات مختلفة تثيرها خطابات المستمعين. وكنتُ أفكر في هذا البرنامج كثيرًا لأن ما يُقدَّم فيه من مزاح يروق للذوق، وأعتقد أنه نوع الظرف الذي يتوقَّعه مني «مستر فراداي». وكنتُ بيني وبين نفسي — عندما تلوح الفرصة المناسبة — أحاول أن أصوغ ملاحظاتٍ طريفةً وساخرةً على ما يقع من أحداث، ولكنني كنتُ أفكر في خيبة أملي بالأمس عندما حاولتُ الاستظراف. في البداية تصورتُ أن نجاحي المحدود كان لأنني لم أتكلم بوضوح كافٍ، وبعد أن خلوتُ إلى نفسي تصورتُ أنني ربما أكون قد أغضبتُ أولئك الناس. وأخيرًا قلتُ ربما يكون قد فهم من كلامي أنني أريد أن أشبِّه زوجة صاحب النُّزل بالديك الصغير، وهو ما لم أقصده في ذلك الوقت. ظلَّت هذه الفكرة تُعذِّبني وأنا أحاول النوم، وفكرتُ أن أعتذر لصاحب النُّزل هذا الصباح، ولكن مشاعره نحوي وهو يُقدِّم لي الإفطار كانت إيجابية … كان مرحًا … وأخيرًا قرَّرتُ أن أنسى الأمر كله.
ولكن هذا الحدث الصغير مثال واضح للمخاطر التي يمكن أن تنجم عن محاولة الاستظراف، فالاستظراف أو التعليق الساخر بطبيعته لا يترك لك وقتًا كافيًا لتقدير نتائجه المُتوقَّعة قبل أن تقوله، وإذا لم يكُن لدى المرء الخبرة الكافية والمهارة، فقد يخاطر بقول أشياء غير مناسبة. وليس هناك سببٌ يجعلني أفترض أنني سأكون ناجحًا في هذا المجال لو توفَّر لي الوقت والدُّربة، ولكن تحسُّبًا لتلك الأخطار فقد وجدتُ — في الوقت الحالي على الأقل — أن من الأفضل ألَّا أقوم بتلك المَهمَّة ﻟ «مستر فراداي»، إلا بعد أن أكون قد تدربتُ تدريبًا كافيًا.
على أيَّة حالٍ من أسفٍ أن أقول إن ما قدَّمه أولئك الناس المحليون من استظراف في الليلة السابقة — أقصد توقُّعهم أنني لن أتمكن من النوم بسبب الضوضاء القادمة من أسفل — اتضح أنه حقيقي. لم يحدث أن صاحت زوجة صاحب النُّزل، ولكنها ظلَّت هي وزوجها يتكلمان دون توقُّف حتى ساعة متأخرة من الليل وهما يقومان بعملهما. ثم ابتداءً من الفجر، كنتُ مستعدًّا لأن أجد عذرًا لهما، فقد كان واضحًا أنهما من النوع الذي لا يكفُّ عن العمل، وكانت الضوضاء بسبب ذلك فقط بكل تأكيد. وإلى جانب ذلك، بالطبع، كان هناك تعليقي غير المُوفَّق. ولذا لم أُظهر لهما أبدًا أنني لم أنَم جيدًا عندما شكرتُ صاحب النُّزل، وذهبتُ لأستكشف أسواق مدينة «تونتون».
ربما كان من الأفضل لو أنني كنتُ قد أقمتُ هنا في هذا المكان الذي أجلس فيه الآن مستمتعًا بارتشاف شاي الضحى، فالإعلان الموضوع خارج المحلِّ لا يعلن فقط عن وجود «شاي ووجبات خفيفة وحلوى»، وإنما أيضًا عن «غرف نظيفة وهادئة ومريحة». المبنى يقع في شارع «تونتون» الرئيسي، وقريب جدًّا من ساحة السوق، كما أنه منخفض نسبيًّا، وتُميِّز واجهتَه الخارجيةَ عوارضُ من خشب الأشجار. والآن أنا جالس في صالة الشاي الفسيحة، وهي محاطة بألواح خشب البلوط، وبها طاولاتٌ تسع، على ما أعتقد، عشرون شخصًا ولا يشعرون فيها بالزحام. تقوم بالخدمة فتاتان صغيرتان، تقفان خلف طاولة عليها أنواع مختلفة من الحلوى والفطائر. وبشكل عام، هذا مكان ممتاز لتناوُل شاي الصباح، ولكن الغريب أن الذين يقصدونه من أهالي «تونتون» عددهم قليل. لا أرى هنا الآن سوى سيدتَين مُسِنَّتَين تجلسان جنبًا إلى جنبٍ على طاولة بحذاء الحائط المقابل، ورجل يبدو عليه أنه مزارع متقاعد أراه جالسًا على طاولة أخرى بجوار إحدى النوافذ الكبيرة، ولا أستطيع أن أتبيَّنه بوضوح لأن ضوء شمس الصباح قد حوَّله إلى صورة ظِليَّة، لكنني أراه يقرأ جريدته ويتوقف من وقتٍ لآخر ينظر إلى المارَّة على الرصيف خارج المحل. ومن الطريقة التي يفعل بها ذلك، ظننتُه في البداية ينتظر صديقًا، لكنْ يبدو أنه يريد فقط أن يُحيِّي بعض المارَّة من معارفه.
أنا نفسي جالس في هدوء عند الجدار الخلفي، وإن كنتُ أستطيع عبر مساحة هذه الصالة أن أرى ما يدور في الشارع الغارق في ضوء الشمس، كما يمكن أن أحدِّد على الرصيف المقابل علامةً إرشاديةً تشير إلى مناطق قريبة، إحداها قرية «مرسدن». ربما تُذكِّرك هذه القرية بشيءٍ ما، كما حدث لي بالأمس، عندما اكتشفتُها لأول مرة على الطرق. والواقع أنني لا بدَّ من أن أقول إنني كنتُ تحت إغراء الانحراف قليلًا عن خطِّ سَيري المُقرَّر لكي أزور تلك القرية. «مرسدن/سومرست» هي المكان الذي كانت توجَد فيه شركة «جيفن وشركاه» ذات يوم، وكنَّا نرسل إلى «مرسدن» طلبياتنا من شمع التلميع. ولفترة من الزمن كان «مُلمِّع جيفن» هو أفضل مُلمِّع للفضيات، ولكن ظهور مواد كيماوية في السوق بعد الحرب بفترة قصيرة، هو الذي جعل هذا المُنتَج يتراجع.
وعلى ما أذكر فإن «مُلمِّع جيفن» كان قد ظهر في أوائل العشرينيات، وأنا واثق من أنني لستُ الوحيد الذي يربط بين ظهوره والتغير الذي طرأ على مهنتنا؛ ذلك التطور الذي جاء ليدفع عملية تلميع الفضيات إلى مركز الأهمية الرئيسية التي احتفظت بها إلى اليوم. وأعتقد أن هذا التحول، مثل غيره من التحولات الرئيسية، كان أمرًا يتعلق بالأجيال. في تلك السنوات كان جِيلُنا من رؤساء الخدم قد تقدَّم به العمر، ولعبَت شخصيات، مثل «مستر مارشال» بخاصة، دَورًا حاسمًا لجعل مسألة تلميع الفضيات هذه مسألةً رئيسية. ولا يعني ذلك بالطبع أنني أقول إن تلميع الفضيات، وبخاصة تلك الأدوات التي تظهر على المائدة، لم يكُن واجبًا مُهمًّا.
ويمكن أن نقول إن كثيرين من رؤساء الخدم من جِيل والدي لم يعتبروا ذلك أمرًا مُهمًّا أو جوهريًّا، والدليل على ذلك أن رئيس الخدم في تلك الأيام نادرًا ما كان يشرف على تلميع الفضيات بنفسه، وكان يكتفي بترك تلك المَهمَّة لمساعده، ويقوم هو بالتفتيش على ذلك من وقت لآخر.
وهناك إجماع على أن «مستر مارشال» كان أول مَن أدرك الأهمية الكبيرة للفضيات، وخاصةً لأن أيَّ أشياء أخرى في القصر لن تكون تحت التفحُّص الدقيق من الغرباء أثناء الطعام مثل الفضيات، ولذلك كانت تُعتبر عنوانًا لمستوى القصر أو البيت. وكان «مستر مارشال» أول مَن تسبَّب في تلك الدهشة الكبيرة، والتي بلغَت حدَّ الذهول بين السيدات والسادة من ضيوف قصر «شارل فيل»، بما يُقدِّمه من فضيات لامعة بشكل لم يسبق لهم أن رأوه. وبسرعة — طبعًا — كان رؤساء الخدم في كل أنحاء البلاد، وتحت ضغط من مخدوميهم، يركزون اهتمامهم على تلميع الفضيات. وبعد ذلك ظهر كثيرون من رؤساء الخدم، كلٌّ منهم يزعم أنه اكتشف طُرقًا يتفوق بها على «مستر مارشال»، ويتظاهر بأنه يحتفظ بسرِّها، وكأنه رئيس طهاة يحتفظ بسرِّ وصفة الطعام.
ولكنني على ثقة — كما كنتُ آنذاك — من أن كافة العمليات الواضحة والغامضة التي كانت تُقدَّم عن طريق شخص مثل «مستر جاك نيبورز» لم تكُن ذات أثر، أو ربما كان أثرها قليلًا على النتيجة النهائية. وبالنسبة لي كان الأمر يسيرًا، وهو أن يستخدم المرء مُلمِّعًا جيدًا، ويقوم بإشراف جيد. وكان «مُلمِّع جيفن» هو ما يحرص على طلبه رؤساء الخدم الأكثر فَهمًا وإدراكًا في ذلك الوقت، ولو استُخدِم هذا المُلمِّع على النحو الصحيح، فلن يجد المرء أفضل من فضياته في أيِّ مكان. ويسعدني أن أتذكر مناسباتٍ عِدَّة، كان للفضيات فيها تأثير مُبهج على كل مَن يراها في «دارلنجتون هول». أتذكر مثلًا «ليدي أستور» وهي تقول — بمرارة واضحة — إن فضياتنا «ليس لها مُنافس». أتذكر «مستر جورج برنارد شو»، كاتب المسرح الشهير، وهو يفحص ملعقة الحلوى الموضوعة أمامه ذات مساء، ويُقرِّبها من الضوء، ويقارن سطحها بسطح طبق صغير قريب، غير مُدرك لمَن حوله. ولعلَّ الحدث الذي أتذكره برضًا كبيرٍ اليوم، كان أثناء زيارة غير رسمية للقصر قامت بها إحدى الشخصيات المُهمَّة، كان وزيرًا في الحكومة وأصبح وزيرًا للخارجية بعد ذلك بوقت قصير. وبما أن نتائج تلك الزيارات أصبحَت معروفةً ومُوثَّقة، فلا مانع من أن أقول إنني أتحدث عن «لورد هاليفاكس».
ومع تطور الأمور كانت تلك الزيارة هي الأولى في سلسلة اللقاءات «غير الرسمية» بين «لورد هاليفاكس» و«الهر ريبنتروب» السفير الألماني آنذاك. ولكنْ في تلك الليلة الأولى كان «لورد هاليفاكس» قد وصل في حالة من الإرهاق الشديد والسأم، وكان أول ما قال عندما دخل إلى هنا: «الحقيقة يا «دارلنجتون» أنا لا أعرف السبب الذي جئتَ بي من أجله إلى هنا، أعرف فقط أنني سأندم بشدة.»
ولأن «الهر ريبنتروب» لم يكُن من المُتوقَّع أن يصل قبل ساعة تقريبًا، فقد اقترح سيادة «لورد» على ضيفه جولةً في القصر، وهي استراتيجية ساعدَت على استرخاء الضيوف المتوترين بعض الشيء. إلا أن كل ما كنتُ أسمعه بعد أن ذهبتُ لمباشَرة عملي، هو صوت «لورد هاليفاكس» — في مواقع مختلفة من القصر — وهو مستمر في التعبير عن شكوكه في ذلك المساء الذي كان ينتظرهم، وكان «لورد دارلنجتون» يحاول جاهدًا أن يُطمئنَه ولكنْ دون طائل. وفي لحظةٍ ما سمعتُ «لورد هاليفاكس» يقول: «يا إلهي! الفضيات في هذا القصر شيء رائع يا «مستر دارلنجتون» … شيء لا يُصدَّق!» وكنتُ بالطبع سعيدًا أن أسمع ذلك في حينه، لكن ما جعلني في غاية الرضا، فقد جاء بعد يومَين أو ثلاثة عندما قال لي «لورد دارلنجتون»: «بالمناسبة يا «ستيفنس»، إن «لورد هاليفاكس» كان شديد الإعجاب بالفضيات في تلك الليلة. لقد جعلَته في حالة مزاجية ونفسية مختلفة تمامًا.»
كانت تلك كلمات سيادته حرفيًّا — التي أتذكرها بالضبط — ولذا فأنا لستُ واهمًا عندما أقول، بكل بساطة، إن الفضيات قد أسهمَت بقدْر بسيط، وإن كان مُهمًّا، في تلطيف العلاقات بين «لورد هاليفاكس» و«الهر ريبنتروب» في ذلك المساء.
ولعلَّه من الجدير هنا أن أقول شيئًا عن «الهر ريبنتروب»؛ من المقبول طبعًا هذه الأيام القول — بشكل عام — إن «الهر ريبنتروب» كان مخادعًا ومحتالًا، وأنها كانت خُطة «هتلر» في تلك السنوات أن يخدع إنجلترا أطول فترة ممكنة بخصوص نواياه، وأن مَهمَّة «الهر ريبنتروب» الوحيدة في بلدنا، كانت هي تنسيق ذلك الخداع والإشراف عليه. وكما قلتُ فإن تلك كانت هي النظرة العامة، ولا أودُّ أن أختلف معها هنا. وفي الوقت نفسه من المُضجِر أن تكون مضطرًّا للاستماع إلى أناس يتكلمون اليوم وكأن «الهر ريبنتروب» لم يخدعهم أبدًا، وكأن «لورد دارلنجتون» كان هو الوحيد الذي يعتقد أن «الهر ريبنتروب» كان رجلًا شريفًا واستمرَّ في علاقة عمل معه.
والحقيقة أن «الهر» كان شخصيةً محترمةً ولامعةً على مدى الثلاثينيات في أفخم القصور والبيوتات. وأستطيع أن أتذكر أن «السفير الألماني» كان هو موضوع الحديث بين الخدم الزائرين في عامَي ١٩٣٦م و۱۹۳۷م تقريبًا، وكان واضحًا ممَّا يُقال أن الكثيرين من السيدات والسادة المحترمين في هذا البلد كانوا مفتونين بشخصيته. من المُضجِر، كما أقول، أن تكون مُضطرًّا للاستماع إلى أولئك الناس أنفسهم، وهم يتحدثون عن تلك الأيام، وخاصةً ما يقوله البعض عن «اللورد». ولو قُدِّر لك أن ترى بعض قوائم أسماء ضيوفهم في تلك الأيام، ستدرك مدى نفاقهم، ستكتشف أن «الهر ريبنتروب» لم يكُن فقط ضيفًا دائمًا على موائد العشاء لديهم، بل إنه كان غالبًا ضيف الشرف في تلك المناسبات. ثم ستستمع إلى أولئك الناس أنفسهم يتحدثون وكأن «الورد دارلنجتون» قد فعل شيئًا غير عادي بقبوله لكرم ضيافة النازيين أثناء رحلاته العديدة لألمانيا على مدى تلك السنوات.
ولا أعتقد أنهم كان من الممكن أن يتكلموا هكذا طواعية، لو تصوَّرنا أن «التيمز» كان يمكن أن تنشر — ولو قائمة واحدة — من قوائم الحفلات التي أقامها الألمان أثناء مؤتمر «نورمبرج» الحاشد. والحقيقة أن السادة والسيدات المحترمين والمتحقِّقين في إنجلترا كانوا كلهم يفيدون من كرم الزعماء الألمان، كما أستطيع أن أؤكد بشكل مباشر أن الغالبية العظمى من أولئك الأشخاص كانوا يعودون دائمًا بالمديح والإعجاب الشديد على مضيفيهم، ولا شيء أكثر من ذلك. وأيُّ شخص يلمح أن «اللورد دارلنجتون» كان يتعامل سرًّا مع عدُوٍّ معروف، فإنما يتناسى بشكل واضح المناخ الحقيقي لتلك الأيام. ولا بدَّ من أن أقول أيضًا إن من الهراء الداعر اتِّهام «لورد دارلنجتون» بأنه كان مُعاديًا للسامية، أو أنه كان له علاقة وثيقة بمنظمات مثل الاتحاد العمالي البريطاني الفاشستي. مثل هذه المزاعم يمكن أن تنجم فقط عن الجهل التام بنوعية رجال مثله. «لورد دارلنجتون» كان شديد المقت لمعاداة السامية، وقد سمعتُه في مواقف عديدة يُعبِّر عن اشمئزازه الشديد عندما كان يُواجَه بأيِّ مشاعر معادية للسامية. ولا صحة على الإطلاق للزعم بأن سيادته لم يسمح بدخول أيِّ يهودي للعمل في القصر. ربما حدث ذلك لفترة قصيرة لا تُذكر في الثلاثينيات. أمَّا بالنسبة لاتحاد العمال البريطاني الفاشستي، فأقول بأن أيَّ ادِّعاء الربط بين اسمه وأولئك الناس، كلام غريب وشاذ. «السير أوزوالد موصلي» — الرجل الذي تزعَّم «القمصان السوداء» — كان من زوَّار «دارلنجتون هول» في ثلاث مناسبات على الأكثر، وتلك الزيارات حدثَت كلها في الأيام الأولى للتنظيم قبل أن يخون رسالته وطبيعته، وبمجرَّد اتضاح قُبح حركة «القمصان السوداء».
ودعني أقول إن سيادته كان أسرع مَن لاحظ ذلك، لم يعد له صلة بمثل أولئك الناس. وعلى أيَّة حالٍ فإن مثل تلك المنظمات لم تكُن لها علاقة بقلب الحياة السياسية في هذا البلد. كان «لورد دارلنجتون» — كما ستفهم — نوعًا من الناس الحريصين على شَغْل أنفسهم بما هو جوهري، والأشخاص الذين حشدهم معًا في جهوده على مدى تلك السنوات كانوا بعيدين كل البُعد عن تلك التجمُّعات الثانوية. وليس فقط لأنهم كانوا شخصياتٍ محترمة، بل لأنهم كانوا ذوي نفوذ حقيقي في الحياة البريطانية؛ كان منهم سياسيون ودبلوماسيون وعسكريون ورجال دين. والحقيقة أن بعضهم كان من اليهود، وهذا وحده دليل على أن اتِّهامه بمعاداة السامية محض هُراء.
لكنني أجد نفسي أشطح بعيدًا عن الموضوع. كنتُ أتحدث عن الفضيات وكيف كان «لورد هاليفاكس» شديد الانبهار بها في ذلك المساء، عندما التقى «الهر ريبنتروب» في «دارلنجتون هول»، أريد أن أوضح أنني لم أقصد أبدًا أن أقول إن الفضيات وحدها هي التي أدَّت إلى نجاح ذلك المساء الذي كان يبدو مهدِّدًا بالفشل في البداية بالنسبة لمخدومي. ولكنْ كما قلتُ فإن «لورد دارلنجتون» نفسه قال إن الفضيات كانت على الأقلِّ عاملًا مساعدًا على تغيير الحالة المزاجية والنفسية لضيفه في ذلك المساء، وربما لا يكون عبثًا النظر إلى تلك المسألة ببعض الرضا.
هناك بين أبناء مهنتنا مَن يعتقدون أن طبيعة الشخص الذي يعملون عنده ليس لها أهمية، ويرون أن السعي لخدمة كبار القوم الذين يعملون من أجل قضية الإنسانية، نوع من المثالية السائدة في جيلنا، وأن ذلك خيال لا أساس له من الواقع. والمُلاحَظ طبعًا أن الذين يُعبِّرون عن تشكُّك كهذا، هم من متوسطي الموهبة في مهنتنا، أولئك الذين يعرفون أنهم يفتقدون القدرة على التقدم نحو أيِّ منصب كبير، ويسعَون فقط — قدْر استطاعتهم — إلى جذب الآخرين إلى مستواهم، والمرء منَّا لا يأخذ تلك الخيارات على محمل الجِد. وبالرغم من ذلك كله يظلُّ من دواعي الرضا أن تكون قادرًا على أن تشير إلى مواقف في حياتك العملية توضح كم كان أولئك الناس على خطأ. كما أن المرء منَّا يريد دائمًا أن يُقدِّم خدمةً شاملةً لمخدومه، لا يمكن أن تخفض قيمتها إلى عدد محدود من المواقف، مثل تلك المتعلقة ﺑ «لورد هاليفاكس». لكن ما أقوله هو أنه في مثل تلك المواقف الرمزية كان لدى الواحد منَّا ميزة ممارسة مهنته في صميم المسائل المُهمَّة. وربما يكون من حقِّ المرء أن يشعر بالرضا وهو يقول بروية إن جهوده تُمثِّل إسهامًا في مسيرة التاريخ، مَهمَا كانت تلك الجهود متواضعة. هذا الشعور بالرضا لا يشعر به القانعون بخدمة المخدومين المتوسطين. على أن المرء لا ينبغي أن يعود إلى الماضي كثيرًا إلى هذه الدرجة. على أيَّة حالٍ ما زالت أمامي سنوات عديدة في الخدمة المطلوب مني أن أؤدِّيَها. و«مستر فراداي» ليس مخدومًا ممتازًا فحسب، ولكنه إلى جانب ذلك رجل أمريكي أشعر نحوه بواجبٍ ما، وهو أن أقدِّم له كل ما هو أفضل في الخدمة في إنجلترا. من الضروري إذَن أن أحتفظ باهتمامي مُركِّزًا على الحاضر، وأن أحترس من أن تكون كل مشاعر الرضا لديَّ بسبب ما أنجزتُه في الماضي، إذ يجب الاعتراف بأنه على مدى الأشهر الأخيرة لم تعد الأمور كما كانت في «دارلنجتون هول»، فقد ظهرَت في الآونة الأخيرة أخطاء صغيرة، بما في ذلك الحدث الذي وقع في أبريل الماضي والخاص بالفضيات. ولحُسن الحظِّ لم يكُن هناك في تلك المناسبة ضيوف كثيرون ﻟ «مستر فراداي»، إلا أنها كانت مناسَبةً حدث لي فيها حرج وانزعاج شديدَين.
حدث ذلك ذات صباح على الإفطار، إلا أن «مستر فراداي» من جانبه لم يُعلِّق بكلمة شكوى واحدة على مدى سنوات عملي كلها، ربما بدافع من العطف، وربما لأنه لم يلحظ الخطأ لكونه أمريكيًّا. عندما همَّ بالجلوس كان أن التقط شوكةً من أمامه وراح يتفحَّصها للحظة خاطفة، ثم لمس شُعَبها بطرف إصبعه، ثم حوَّل انتباهه إلى مانشتات صُحُف الصباح. حدث ذلك كله بسرعة، والتقطتُّ أنا الإشارة شارد الذهن، فأسرعتُ لرفع الشوكة من على المائدة. ربما أكون قد فعلتُ ذلك بسرعة، فكرتُ أن أضع الشوكة بهدوء على المفرش دون أن أقطع على سيادته استغراقه في القراءة. تصوَّرتُ أن «مستر فراداي» يتظاهر بعدم الاكتراث ليُقلِّل من شعوري بالحرج، وربما محاولةً للتغطية على الخطأ. لذا قرَّرتُ أن أضع الشوكة على المفرش بوضوح وتأكيد، ممَّا جعل مخدومي يجفل مرةً أخرى وينظر إليَّ قائلًا مرةً أخرى أيضًا: «أو! ستيفنس!»
إن أخطاءً كتلك التي وقعَت في الأشهر الأخيرة كانت جارحةً — بلا شكٍّ — لاحترام المرء لنفسه، إلا أنه ليس هناك ما يجعلنا نراها دليلًا على أيِّ شيء سوى نقص عدد العاملين، ليس لأن هذا النقص مُهمٌّ في حدِّ ذاته، ولكنْ لأن «مس كنتون» لو عادت إلى «دارلنجتون هول» فأنا واثق من أن أخطاءً كتلك لن تحدث. وبالطبع لا بدَّ أن أذكر أنه لا شيء مُحدَّدٌ في رسالة «مس كنتون» التي أعدتُ قراءتها في غرفتي قبل أن أطفئ النور، كان يُعبِّر عن رغبتها في العودة لوظيفتها السابقة. ربما أكون قد بالغتُ من قبلُ عندما تصوَّرتُ أنها كانت ترغب في ذلك، وكنتُ مُندهشًا في الليلة السابقة لعدم قدرتي على اكتشاف عبارة واحدة تدل على ذلك. على أيَّة حالٍ يبدو من الصعب التكهُّن بذلك، خاصةً وأنني سوف أتكلم معها وجهًا لوجهٍ بعد ثمانية وأربعين ساعة. إلا أنني لا بدَّ من أن أقول إنني ظللتُ أقلِّب تلك العبارات في عقلي وأنا راقدٌ في الظلام في الليلة السابقة، أستمع إلى الأصوات القادمة من الدَّور الأرضي؛ أصوات صاحب المنزل وزوجته وهما ينتهيان من عملهما آخر الليل.