اليوم الثالث – مساء

موسكومبي – بالقُرب من تافيستوك، ديفون

يبدو أنني لا بدَّ من أن أعود لحظةً إلى قضية موقف سيادته من اليهود، لأن معاداة السامية قد أصبحَت قضيةً حساسةً بشكل عام هذه الأيام. وأودُّ بشكل خاص أن أوضح الأمر بالنسبة لذلك الحظر الذي فرضه على عمل اليهود في «دارلنجتون هول». ولأن هذا الموضوع يوجَد في مجال عملي مباشَرةً، فإنني أستطيع أن أدحضه بشكل حاسم، فطوال فترة خدمتي لدى سيادته، كان يعمل معي يهود، والأكثر من ذلك أنهم لم يُعامَلوا أبدًا بشكل مختلف بسبب جنسهم. ولا أستطيع أن أخمِّن السبب الحقيقي لتلك المزاعم السخيفة إلا أن تكون قد نشأت — وهذا أمر مُضحِك — منذ تلك الأسابيع القليلة في أوائل الثلاثينيات، عندما كانت «مسز كارولين بارنيت» تمارس نفوذًا غير عادي على سيادته.

«مسز بارنيت» أرملة «مستر تشارلز بارنيت»، كانت في الأربعينيات من عمرها في تلك الأيام، وكانت سيدةً أنيقةً وممَّن يمكن أن يوصفن بالفتنة. كانت مشهورةً بذكائها الحاد. وفي تلك الأيام كنَّا نسمع كثيرًا عن قدرتها على إفحام كثير من الرجال المثقفين على العشاء عند مناقشة الكثير من القضايا المعاصرة. في صيف ۱۹۳۲م كانت تأتي كثيرًا إلى «دارلنجتون هول»، وكانت تمضي مع سيادته ساعاتٍ طويلةً في نقاش عميق ذي طبيعة سياسية أو اجتماعية.

كانت «مسز بارنيت» — على ما أذكر — هي التي أخذَت سيادته في تلك الرحلات المُوجَّهة لمُعاينة أفقر مناطق «لندن» في «إيست إند»، وهناك قام بزيارة مساكن كثير من الأُسر التي كانت تعاني من بؤس تلك الأيام. أيْ إن هناك احتمالًا كبيرًا أن تكون «مسز بارنيت» هي التي أسهمَت في تطوُّر اهتمام «لورد دارلنجتون» بالفقراء في بلادنا، ولا يمكن أن يُقال إن تأثيرها كان سلبيًّا تمامًا. ولكنها كانت كذلك عضوًا في منظمة «سير أوزوالد موصلي»؛ «القمصان السوداء»، والعلاقة القصيرة التي قامت بين سيادته و«سير موصلي» كانت أثناء تلك الأسابيع القلية في ذلك الصيف. وفي تلك الأسابيع نفسها وقعَت كل الأحداث العارضة في «دارلنجتون هول»، والتي أعتقد أنها كانت الأساس الرديء لتلك المزاعم السخيفة. أقول عنها «أحداث»، ولكن بعضها كان تافهًا. أذكر مثلًا أنني سمعتُ سيادته يقول ذات مرة على العشاء عندما ذكر اسم جريدةٍ ما: «آه! تقصدين صحيفة الدعاية تلك؟» وفي مناسَبةٍ أخرى في تلك الفترة تقريبًا أتذكر أنه أعطاني تعليماتٍ بالتوقُّف عن تقديم تبرعات لمؤسَّسة خيرية محلية كانت تلجأ إلينا، وذلك لأن اللجنة الإدارية كانت «يهوديةً متجانسةً على نحوٍ أو آخر». تذكرتُ تلك الملاحظات لأنها فاجأتني فعلًا في حينها، ولم يكُن سيادته قد أبدَى أيَّ بادرة عداء تجاه الجنس اليهودي. ثم جاء، طبعًا، ذلك المساء عندما استدعاني سيادته إلى مكتبته. في البداية كان كلامًا عامًّا، وسألني عن سَير الأمور في القصر إلى آخر ذلك، ثم قال: «لقد فكرتُ طويلًا يا ستيفنس … فكرتُ طويلًا، ثم توصلتُ إلى نتيجة؛ لا يمكن أن نسمح بوجود يهود بين العاملين لدينا هنا.»

– سيدي!

– ذلك لصالح هذا القصر يا «ستيفنس»، لصالح الضيوف الموجودين هنا. لقد فكرتُ في ذلك جيدًا يا «ستيفنس»، وبالتالي سأجعلك تعرف قراري.

– حَسَنٌ يا سيدي!

– قُل لي يا «ستيفنس» … لدينا قليلٌ منهم الآن … أليس كذلك؟ أقصد من اليهود!

– أعتقد أن هناك اثنين يا سيدي.

ثم توقَّف سيادتُه لحظةً وهو يُحدِّق من النافذة: «هذا أمر مؤسف يا «ستيفنس»، لكن ليس هناك خيار آخر. لا بدَّ من أن نضع في الاعتبار أمان وصالح ضيوفي. دعني أؤكد لك … لقد فكرتُ في الأمر من جميع الأوجُه وهذا لصالحنا تمامًا.»

الشخصان المعنيَّان كانَا خادمتَين. ولم يكُن من اللائق أن نتخذ أيَّ خطوة دون إبلاغ «مس كنتون» بالموقف أولًا، وقرَّرتُ أن أفعل ذلك في المساء نفسه عندما قابلتُها لكي نتناول الكاكاو في رَدهة غرفتها. من الضروري هنا أن أقول شيئًا عن تلك اللقاءات التي كنَّا نعقدها، في نهاية كل يوم، كانت لقاءاتٍ مِهْنيةً في طبيعتها، ولا بدَّ من أن أقول ذلك، ولكننا بالطبع كنَّا نتطرق لمسائل غير رسمية من وقت لآخر. كان الهدف من تحديد تلك اللقاءات بسيطًا؛ فقد اكتشفنا أن حياة كلٍّ منَّا مشحونة بأشياء كثيرة، ويمكن أن تمرَّ أيام كاملة دون أن تلوح فرصةٌ لتبادُل المعلومات الضرورية. وجدنا أن هذا الوضع يُعوِّق سَير العمل، وكان الحلُّ الأمثل هو أن نلتقي في نهاية اليوم لمدة رُبع الساعة مثلًا في غرفة «مس كنتون». لا بدَّ من أن أكرِّر أن تلك اللقاءات كانت مِهْنيةً في طبيعتها، كنَّا نتحدث مثلًا عن التخطيط لمناسبة قادمة، أو نناقش سَير الأمور بالنسبة لمستخدم جديد لدينا.

على أيَّة حالٍ سأعود إلى الخيط الأصلي، إلى موضوعنا. لا بدَّ من أنكَ ستُقدِّر أنني كنتُ قَلِقًا من فكرة إبلاغ «مس كنتون» بأنني كنتُ على وشك إنهاء خدمة اثنين من العاملين معها. والحقيقة أن الخادمتَين كانتَا عاملتَين جيدتَين — وربما أقول هذا أيضًا لأن القضية اليهودية أصبحَت شديدة الحساسية مؤخرًا — وكنت ضدَّ فكرة الاستغناء عنهما بكل مشاعري. إلا أن واجبي في هذا المجال كان واضحًا، وكما بدَا لم تكُن هناك فائدةٌ تُرجَى من إظهار هذه الشكوك الشخصية بشكل يخلو من المسئولية.

كانت مَهمَّةً صعبة، مَهمَّةً تتطلب أن تُنفَّذ بكرامة. وهكذا فإنني عندما فتحتُ الموضوع عند نهاية حديثنا ذلك المساء، كان ذلك باختصار شديد وبطريقة عملية بقدْر الإمكان، قائلًا في النهاية: «سوف أتحدث مع الخادمتَين في حجرتي في العاشرة والنصف صباحًا، أترك لتقديركِ إن كان يجب أن تخبريهما أم لا، مُقدَّمًا، بطبيعة ما سوف أقوله لهما.»

وهنا كانت «مس كنتون» تبدو وكأن ليس لديها ما تقوله بهذا الخصوص، لذا رحتُ أكمل كلامي: «حَسَنٌ يا مس كنتون! شكرًا على الكاكاو، حان أن أنصرف، لدينا يوم آخر مشحون غدًا.» وهنا قالت «مس كنتون»: «لا أستطيع أن أصدِّق ما أسمعه يا مستر «ستيفنس». «روث» و«سارة» تعملان معي منذ أكثر من ستِّ سنوات، أثق بهما وتثقان بي تمامًا، وتؤدِّيان عملهما على نحوٍ ممتاز.»

– أنا متأكد من ذلك يا «مس كنتون»، إلا أننا لا يجب أن نترك العواطف تتدخل في عملنا. والآن لا بدَّ بالفعل من أن أقول لك تصبحين على خير.

– مستر ستيفنس، أنا غاضبة وأشعر بالإساءة لأنكَ تجلس هكذا وتقول ما تقول كما لو كنَّا نناقش طلبية مواد تموينية. تقول إن «روث» و«سارة» سوف يتمُّ الاستغناءُ عنهما لأنهما يهوديتان؟

– لقد شرحتُ لكِ الموقف يا «مس كنتون»، شرحتُ الموقف كله، وقد اتخذ سيادته القرار، ولم يبقَ ما نناقشه أنا وأنت.

– ألم يطرأ على تفكيرك يا «مستر ستيفنس» أن طرد «روث» و«سارة» لهذا السبب يُعتبر خطأ؟ أنا لن أوافق على شيء كهذا، ولن أعمل في مكانٍ يمكن أن يحدث فيه شيءٌ من هذا القبيل.

– أرجو أن تُهدِّئي من ثورتك يا «مس كنتون»، وأن تتصرفي بما يتناسب مع وظيفتك … هذا أمر واضح، وإذا كان سيادته يرى أن تلك العقود يجب أن تُفسَخ فلا مجال للنقاش!

– أنا أحذِّرك يا «مستر ستيفنس»؛ لن أستمرَّ في العمل في مكان كهذا. إن طردتَ البنتَين فسأرحل أنا أيضًا.

– أنا مندهش لردِّ فعلك هذا يا «مس كنتون»، والمؤكَّد أنه لا حاجة لتذكيركِ بأن واجبنا المِهْني لا يسير حسب أهوائنا وعواطفنا، وإنما حسب رغبات ومطالب مَن نعمل عنده.

– وأنا أقول لك يا مستر ستيفنس: إذا طردتَ البنتَين غدًا، فلن أستمرَّ في العمل في هذا القصر.

– مس كنتون، دعيني أقول لكِ إنكِ لستِ مؤهَّلةً لأن تُصدري مثل تلك الأحكام. الحقيقة أن عالم اليوم أصبح شديد التعقيد والقسوة. هناك أشياء كثيرة لا نستطيع أنا وأنت أن نفهمها، طبيعة اليهود مثلًا، بينما سيادة «اللورد» في وضع يمكنه من أن يُقدِّر المصلحة. والآن يا مس كنتون لا بدَّ أن أنصرف. شكرًا مرةً أخرى على الكاكاو. العاشرة والنصف من صباح الغد أرسلي الخادمتَين المعنيَّتَين من فضلك.

كان واضحًا منذ لحظة دخول البنتَين إلى حجرتي، في الصباح التالي، أن «مس كنتون» كانت قد أخبرَتهما، فقد كانتَا تنتحبان. شرحتُ لهما الموقف باختصار شديد مؤكِّدًا أن أداءهما جيد، وبالتالي فإنهما ستحصلان على شهادة خبرة جيدة. وعلى ما أذكر فإن أيًّا منهما لم تقُل شيئًا مُهمًّا أثناء المقابلة التي استغرقَت ثلاث أو أربع دقائق وانصرفتَا كما دخلتَا، وهما تنتحبان.

بعد الاستغناء عن البنتَين، ظلَّ شعور «مس كنتون» تجاهي باردًا جدًّا لعِدَّة أيام. والحقيقة أنها كانت تتصرف معي بوقاحة أحيانًا حتى أمام بعض العاملين. وبالرغم من أننا واصلنا عادة اللقاء في المساء لتناوُل الكاكاو، إلا أن لقاءاتنا غدَت قصيرةً وغير وُدِّية. ولا بدَّ من أن تفهم أن صبري بدأ ينفد عندما لم ألحظ أيَّ بادرة لتغيير سلوكها تجاهي على مدى أسبوعَين. قلتُ لها أثناء أحد تلك اللقاءات المسائية، بصوت لا يخلو من تهكُّم: «كنتُ أتوقَّع أن تُقدِّمي استقالتك يا مس كنتون.» قلتُ ذلك وأنا أبتسم. كنتُ أتصوَّر أنها ستلين قليلًا وتُخفِّف من عنادها وتنسى الموضوع برُمَّته، إلا أنها نظرَت إليَّ عابسةً وهي تقول: «ما زالت لديَّ النية، يا مستر ستيفنس، أن أقدِّم إخطارًا بالاستقالة، لكنني الآن مشغولة وليس لدي وقت لذلك.» ولا بدَّ من أن أعترف بأن ذلك جعلني أشعر بالقلق والخوف لفترة، من أن تكون جادةً في تهديدها. وبعد أن توالت الأسابيع بات من الواضح أن ترْكها «دارلنجتون هول» لم يعد واردًا. وحيث إن الموقف أصبح هادئًا بيننا، كنتُ أعابثها من وقتٍ لآخر بتذكيرها بتلويحها بالاستقالة. فإذا كنَّا نناقش مثلًا إحدى المناسَبات التي ستُعقَد في «دارلنجتون هول»، أقول لها: «هذا إذا كنتِ ما زلتِ معنا يا مس كنتون.» حتى بعد مرور عِدَّة أشهر على هذا الحدث، كانت ملاحظات من هذا القَبيل لا تستثيرها، وإن كنتُ أعتقد أن صمتها كان حرجًا أكثر منه غضبًا. وأخيرًا نسينا الحكاية كلها تقريبًا، لكنني أذكر أنها برزَت إلى السطح مرةً أخرى بعد سنة تقريبًا من الاستغناء عن الخادمتَين. كان سيادة «اللورد» هو الذي أثار الموضوع ذات مساء بينما كنتُ أقدِّم له الشاي في غرفة الاستقبال. في تلك الفترة كان تأثير «مسز كارولين بارنيت» عليه قد زال، والحقيقة أنها لم تعد تحضُر إلى «دارلنجتون هول». ولا بدَّ من أن أشير أيضًا إلى أن سيادته كان قد قطع كل صلة له بالقمصان السوداء أيضًا بعد أن اكتشف الطبيعة القبيحة للمنظمة. قال سيادته: «كنتُ أريد أن أتحدث معك يا «ستيفنس» عن ذلك الأمر الذي حدث في العام الماضي … عن الخادمتَين اليهوديتَين … هل تتذكر الموضوع؟»

– نعم! بالطبع يا سيدي.

– أعتقد أننا لا يمكن أن نستدلَّ على مكانهما الآن. ما حدث كان خطأ، وأنا أريد أن أعوِّضهما على نحوٍ ما.

– سأفكر في الأمر يا سيدي، ولكنني لستُ متأكدًا إن كنَّا نستطيع أن نعرف مكانهما الآن.

– فكر في الموضوع وما يمكن أن نفعله، فما حدث كان خطأ.

تصوَّرتُ أن يكون هذا الحديث، الذي دار بين سيادته وبيني، مُهمًّا ﻟ «مس كنتون»، وفكرتُ أن أخبرها به حتى وإن كانت هناك مخاطرة في إغضابها. وعندما فعلتُ ذلك في ذلك المساء المليء بالضباب، كانت النتائج مُثيرة؛ كان الضباب يهبط كثيفًا وأنا أعبر المساحة الخضراء متقدِّمًا نحو السقيفة لترتيب المكان وجمع الأدوات بعد انتهاء سيادته من تناوُل الشاي مع ضيوفه. وقبل أن أصل إلى الدرجات التي وقع عليها والدي مرةً رأيت «مس كنتون» داخل السقيفة.

وعندما دخلتُ وجدتُها جالسةً على أحد الكراسي الخيزران المُبعثَرة في داخل السقيفة، ومشغولة ببعض أعمال الإبرة، ولمَّا اقتربتُ رأيتُها تقوم بإصلاح إحدى الوسائد. رحتُ أجمع الأطباق والفناجين من بين النباتات والأثاث الخيزران، وتبادلنا أثناء ذلك حوارًا قصيرًا ومزاحًا، وربما تكلمنا في بعض الأمور الخاصة بالعمل. كان الخروج إلى السقيفة، بعد عِدَّة أيام متوالية في المبنى الرئيسي، شيئًا يبعث على الراحة، ولم يكُن أيُّنا في عَجَلةٍ للعودة بسرعة. وبالرغم من أن الرؤية لم تكُن جيدةً بسبب الضباب الكثيف، ولأننا كنَّا في آخر النهار والضوء يغيب تدريجيًّا، أتذكر أننا كنَّا نتوقف عن الكلام ونتأمل المناظر المحيطة بنا. كان الضباب يشتدُّ كثافةً حول أشجار الحور المزروعة حول مسار العربات الخفيفة، عندما تطرقتُ لموضوع إنهاء خدمة الفَتاتَين في العام الماضي. وقد أكون فعلتُ ذلك ببعض الحذر عندما قلت: «لقد فكرتُ في الأمر قبل ذلك يا «مس كنتون»، والطريف أن أتذكر ذلك الآن … في مثل هذا الوقت من العام الماضي كنتِ ما زلتِ مُصِرَّةً على تقديم استقالتك.» وضحكت.

ولكن «مس كنتون» بقيَت صامتةً وهي جالسة خلفي. عندما استدرتُ لأنظر إليها وجدتُها تتطلع إلى الضباب الكثيف عبر الزجاج. قالت: «ربما لا تعرف يا «مستر ستيفنس» أنني كنتُ أفكر بجدية في ترك هذا القصر. لقد تألمتُ كثيرًا لما حدث. ولو أن لديَّ أيَّ قدْر من الاحترام لنفسي لتركتُ هذا المكان من فترة طويلة.» وسكتَت لحظة. أمَّا أنا فوجَّهتُ بصري مرةً أخرى نحو أشجار الحور البعيدة. ثم واصلَت كلامها بصوتٍ مُجهَد: «إنه الجبن يا «مستر ستيفنس»، الجبن ليس إلا. أين كان يمكن أن أذهب؟ ليس لي عائلة، ليس سوى عمَّتي، أحبُّها كثيرًا، لكنني لا أستطيع أن أعيش معها يومًا واحدًا دون أن أشعر بأن حياتي كلها تضيع. قلتُ لنفسي طبعًا: عليَّ أن أجد مكانًا جديدًا. لكنني كنتُ خائفةً يا «مستر ستيفنس». كنتُ كلما فكرتُ في الرحيل أتصوَّر نفسي وقد ذهبتُ إلى هناك حيث لا أحد يعرفني أو يعيرني اهتمامًا. هذه هي كل مبادئي. أشعر بالخجل من نفسي، لكنني لم أجرؤ على الرحيل. لم أستطع أن أشجِّع نفسي على ذلك.» وسكتَت «مس كنتون» مرةً أخرى وبدَت غارقةً في التفكير، ولذا طرأ على فكري أنها فرصةٌ لأحكي لها، وباختصار، ما حدث بيني وبين «لورد دارلنجتون» من قبل. قلتُ ذلك وأنهيتُ حديثي قائلًا: «ما وقع وقع وانتهى، لكن على أيَّة حالٍ من المريح أن أسمع سيادته وهو يقول بشكل واضح إن الحكاية كلها كانت غلطةً كبيرة. وأعتقد أنه يُهمُّكِ أن تعرفي ذلك لأنكِ كنتِ مُستاءةً مثلي بسبب الموضوع ذاته.»

قالت من خلفي بصوت مختلف تمامًا، وكأنها قد استيقظَت لتوِّها من حُلم: «آسفة يا «مستر ستيفنس»، لا أستطيع أن أفهمك!» وعندما التفتُّ إليها قالت: «على ما أذكر، فإنكَ كنتَ تعتقد أن من الصواب أن تحزم «سارة» و«روث» متاعهما وترحلَا، وكنتَ مُتهلِّلًا لذلك!»

– الآن فعلًا أرى أن ذلك لم يكُن صوابًا ولا عدلًا يا «مس كنتون»، وقد سبَّب لي هذا الموضوع قلقًا شديدًا، ولا أريد أن أرى شيئًا كذلك في هذا المكان مرةً أخرى.

– ولماذا لم تقُل لي ذلك حينذاك يا مستر ستيفنس؟

ضحكتُ. والحقيقة أنني كنتُ في حيرة ولا أجد شيئًا أقوله. وقبل أن أجد إجابةً توقَّفَت هي عن الخياطة وقالت: «هل تدرك يا «مستر ستيفنس» ماذا كان ذلك يعني لو أنكَ صارحتَني بهذا الرأي في العام الماضي؟ لقد كنتَ تعرف مدى ألمي وغضبي لطرد البنتَين، هل تعلم كيف كان يمكن أن يساعدني ذلك؟ لماذا يا «مستر ستيفنس»؟ لماذا؟ لماذا أنتَ مضطر دائمًا للادِّعاء والتظاهر بغير الحقيقة؟»

ومرةً أخرى ضحكتُ بسبب هذا المنحى الجديد الذي اتخذه الحوار، وقُلت: «أنا لا أعرف حقيقةً يا «مس كنتون» ماذا تقصدين بذلك. أنا أدَّعي وأتظاهر؟ لماذا فعلًا؟»

– لقد حزنتُ كثيرًا لرحيل «روث» و«سارة»، وحزنتُ أكثر لأنني تصوَّرتُ أنني وحيدة.

– في الحقيقة يا «مس كنتون» (وحملتُ الصينية التي جمعتُ عليها الآنية) من الطبيعي ألَّا يوافق المرء على الطرد. كان يجب أن أرى ذلك بوضوح.

لم تقُل شيئًا. ثم نظرتُ إليها وأنا خارج، وجدتُها تُحدِّق مرةً أخرى في المنظر أمامها، ولكن الجوَّ كان قد أظلم داخل السقيفة، فلم يكُن واضحًا أمامي سوى منظرها الجانبي وخلفها شحوب فارغ.

استأذنتُ لكي أنصرف.

الآن، وقد تذكرتُ ملابسات طرد الفتاتَين اليهوديتَين، يقفز إلى ذهني ما يمكن اعتبارُه النتيجةَ الطبيعيةَ للموضوع كله؛ وهو بالتحديد وصول الخادمة الجديدة المدعوَّة «ليزا». أودُّ أن أقول إننا كنَّا مضطرين لأنْ نجد بديلتَين للفتاتَين، وكانت «ليزا» إحداهما. كانت الشابَّة قد تقدَّمَت للوظيفة الخالية بشهادات غامضة تجعل من السهل على أيِّ رئيس خدم مُجرِّب أن يكتشف أنها كانت قد تركَت عملها السابق في ظروف مريبة، إلى جانب أنني عندما سألتُها، أنا و«مس كنتون»، اتضح لنا أنها لم تعمر في أيِّ عمل أكثر من أسبوعَين. وبوجه عام فإن موقفها كله كان يوحي بأنها لا تصلُح للعمل في «دارلنجتون هول». ولدهشتي أننا بمجرَّد الانتهاء من إجراء المقابلة معها، كانت «مس كنتون» تُلحُّ عليَّ أن نقبلها. كانت تقول في وجه اعتراضاتي: «أنا أرى أن هذه البنت لديها إمكانيات كثيرة، وستكون تحت إشرافي المباشر، وسوف أهتمُّ بأن يكون أداؤها جيدًا.»

وأذكر أننا بقينا مختلفَين بالنسبة لهذا الموضوع بعض الوقت. ويبدو أن حكاية طرد البنتَين كانت لا تزال في الذاكرة، فلم أتشدَّد ضدَّ «مس كنتون». كانت النتيجة، على أيَّة حال، أنني تراجعتُ في النهاية بأنْ قلتُ لها: «أرجو يا مس كنتون أن تعلمي أن مسئولية تشغيل هذه البنت تقع عليكِ تمامًا، وهي كما أرى ليست على المستوى الذي يؤهلها في الوقت الحاضر لأنْ تكون ضمن العاملين لدينا، وسأسمح بتوظيفها فقط على أساس أنكِ شخصيًّا سوف تشرفين على تطويرها.»

«البنت ستكون جيدةً يا «مستر ستيفنس»، وسوف ترى.»

ولدهشتي، فإن البنت كانت قد حقَّقَت بالفعل تقدُّمًا ملحوظًا في الأسابيع التي تلَت ذلك؛ أداؤها كان يتطور كل يوم، حتى طريقة مشيها وقيامها بواجباتها … بعد أن كان المرء لا يتحمَّل النظر إليها. وبمرور الوقت، وبعد أن أصبحَت البنت فردًا مُهمًّا في فريق العمل، كان شعور «مس كنتون» بالانتصار يبدو واضحًا؛ كان يسعدها أن تكلف «ليزا» بعمل أو آخر يحتاج قدْرًا أكبر من المسئولية، وعندما أكون موجودًا تحاول أن تلفت نظري لذلك وعلى وجهها تعبيرات ساخرة. كان الحوار الذي دار بيني وبين «مس كنتون» في غرفتها نموذجًا للحوار الذي يحدث دائمًا بخصوص موضوع «ليزا».

قالت: «لا شكَّ في أنكَ ستشعر بخيبة الأمل يا «مستر ستيفنس» لو علمتَ أن «ليزا» لم ترتكب الآن خطأً واحدًا يستحقُّ الإشارة إليه!»

– أنا لا أشعر بأيِّ خيبة أمل يا «مس كنتون»، بالعكس، أنا سعيدٌ من أجلك ومن أجلنا جميعًا. ولا بدَّ من أن أعترف بأنكِ قد حقَّقتِ قدْرًا من النجاح في موضوع هذه البنت حتى الآن.

– قدْر من النجاح؟! هل ترى الابتسامة التي تعلو وجهك يا «مستر ستيفنس»؟ إنها تظهر دائمًا كلما ذكرت اسم «ليزا»، وهي حكاية مثيرة في حدِّ ذاتها … حكاية مثيرة بالفعل.

– حقًّا يا «مس كنتون»؟ هل يمكن أن أعرف قصدك بالضبط؟

– هذا شيء مثير يا «مستر ستيفنس»، مثير لأنكَ كنتَ متشائمًا بخصوصها؛ وذلك لأن «ليزا» فتاة جميلة بلا شك، وقد لاحظتُ أنكَ دائمًا تكره أن تعمل لدينا فتيات جميلات.

– أنتِ أول مَن يعلم أن كلامك هذا محض هراء يا مس كنتون.

– لكنني لاحظتُ ذلك يا «مستر ستيفنس»، لا تحبُّ أن يكون لدينا فتيات جميلات، هل لأن «مستر ستيفنس» يخشي وجود شيء يشغل انتباهه، أو يُربكه؟ هل لأنه إنسان من لحم ودم، ولا يثق بنفسه تمامًا؟

– الحقيقة يا «مس كنتون» أنني لو كنتُ أرى درجةً من المعقولية فيما تقولين، لواصلتُ هذا الحوار معك، لذا فإنني سأشغل فكري بأيِّ شيء آخر بينما أنتِ تُثرثرين هكذا!

– لكنْ لماذا لا تزال هذه الابتسامة التي تحمل مشاعر الذنب على وجهكَ يا مستر ستيفنس؟

– ليست ابتسامةَ ذنبٍ يا «مس كنتون»، أنا فقط مندهش لقدرتك على قول كل هذا الهراء.

– بل هي ابتسامة شعور بالذنب، وقد لاحظتُ أنكَ لا تجرؤ على النظر إلى «ليزا». والآن بدأتُ أفهم لماذا كنتَ شديد الاعتراض على عملها هنا.

– اعتراضاتي كان لها أساس يا «مس كنتون» كما تعرفين تمامًا؛ عندما جاءت البنت لم تكُن تصلُح للعمل لدينا.

ما كان يمكن بالطبع أن نواصل حوارنا بمثل هذا الأسلوب على مسمع من العاملين، وفي الوقت نفسه كانت لقاءاتنا لتناوُل الكاكاو في غرفتها تتطرق لموضوعات مشابهة؛ الأمر الذي كان يُخفِّف من توترات العمل. كانت «ليزا» قد عملَت معنا ثمانية أو تسعة أشهر — وكنتُ قد نسيتُ وجودها معنا — عندما اختفَت من القصر تمامًا مع مساعد الخادم. أصبح مثل هذه الأمور جزءًا لا يتجزأ من حياة أيِّ رئيس خدم في قصر يضمُّ عددًا كبيرًا من العاملين. هي أشياء مزعجة بالطبع، لكن المرء يعتاد عليها. والحقيقة أن مثل هذه الأشياء، أو «الهروب في ضوء القمر»، كان يحدث دائمًا بين العاملين الأكثر تحضُّرًا. وباستثناء بعض الطعام فإن الهاربين لم يحملا معهما شيئًا من ممتلكات القصر، بل إنهما تركا رسائل. فمساعد الخادم — الذي نسيتُ اسمه — ترك لي رسالةً قصيرةً يقول فيها: «أرجو ألَّا تكون قاسيًا في الحكم علينا، كلانا يحبُّ الآخر، وسوف نتزوج.» أمَّا «ليزا» فتركَت رسالةً أطول مُوجَّهةً إلى «مُدبِّرة القصر»، وكانت تلك الرسالة هي التي أحضرَتها «مس كنتون» إلى غرفتي في الصباح التالي لاختفائهما. كانت الرسالة طبعًا مليئةً بالأخطاء الهجائية والعبارات الركيكة التي تحاول أن تشرح عمق علاقتهما العاطفية، وذلك الخادم الرائع والمستقبل المشرق الذي ينتظرهما. وأحد السطور كان تقريبًا معناه «ليس معنا نقود ولكن هذا لا يُهِم، فنحن معنا الحبُّ، والإنسان لا يريد شيئًا غير ذلك، لقد وجد كلٌّ منَّا الآخر، وهذا أقصى ما يريد.»

وبالرغم من أن الرسالة كانت مُكوَّنةً من ثلاث صفحات كاملة، إلا أنها لم تُعبِّر عن أيِّ شكر أو امتنان ﻟ «مس كنتون» على رعايتها، ولا كانت هناك كلمة أسف واحدة لخداعنا وتركنا.

كان من الواضح أن «مس كنتون» مُنزعجة وهي جالسة أمامي تنظر إلى يدَيها بينما أنا أمرُّ بعيني على الرسالة الطويلة. والحقيقة — وهذا يبدو لي غريبًا — أنني لا أستطيع أن أتذكر أنني سبق أن رأيتُها شاردةً هكذا كما كانت في ذلك الصباح.

«يبدو يا «مستر ستيفنس» أنكَ كنتَ مُحقًّا بينما كنتُ أنا مخطئة.» قلت: «ليس هناك ما يدعو للانزعاج، أشياء كهذه تحدث كثيرًا، ولا شكَّ في أن مَن هم مثلنا لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا إزاءها في كثير من الأحيان.»

– لقد كنتُ مخطئةً يا «مستر ستيفنس»، ولا بدَّ من أن أعترف لك بذلك، وأنتَ كنتَ مُصيبًا كعادتك.

– أختلف معكِ يا «مس كنتون»، أنتِ صنعتِ المعجزات مع البنت، وما تحقَّق بفضلك يُثبت أنني كنتُ المخطئ. والحقيقة أن ما حدث يمكن أن يحدث مع أيِّ مُستخدِم آخر. كان إنجازك معها رائعًا. ومن حقِّكِ أن تشعري بأنها خيَّبَت أملك وخدعتك، ولكنْ ليس هناك ما يجعلك تشعرين بأنها مسئوليتك.

كانت «مس كنتون» لا تزال مغمومةً، فقالت بهدوء: «أنتَ تقول ذلك بدافع من الطِّيبة، وأنا شاكرة لكَ وممتنة.» ثم تنهَّدَت وأضافت: «فتاة غبية! كان ينتظرها مستقبل عملي جيد، لديها القدرات اللازمة لذلك، كثيرات من صغيرات السنِّ مثلها يُضيِّعن الفرص … ومن أجل ماذا؟»

ونظرنا كلانا إلى رسالتها الموجودة بيننا على الطاولة، ثم أشاحت بوجهها ضائقة. قلت: «خسارة فعلًا كما تقولين!»

قالت: «غبية، ولن تنجح! كان أمامها مستقبل جيد لو أنها صبرَت وثابرَت، في خلال عام أو عامين كنتُ سأعِدُّها لشغل وظيفة مُدبِّرة بيت أو قصر أصغر نسبيًّا. قد تعتقد أن ذلك أمر بعيد المنال يا «مستر ستيفنس»! لكن انظر ماذا صنعتُ منها في أشهر قليلة! وها هي ذي الآن قد تركَت كل شيء من أجل لا شيء. هذا منتهى الغباء منها.» رحتُ أجمع الأوراق الموجودة أمامي للاحتفاظ بها في ملف خاص الاحتفاظ بالرسالة لديها، ولذا أعدتُ الأوراق إلى الطاولة. كانت «مس كنتون» ما زالت مستغرقةً في أفكارها، ثم قالت مرةً أخرى: «ستفشل بكل تأكيد … يا لها من غبية!»

لكنني أجدني قد أصبحتُ غارقًا تمامًا في هذه الذكريات القديمة. لم يكُن ذلك قصدي أبدًا، رغم أنه لا يبدو أمرًا سيئًا، فبذلك قد تجنبتُ على الأقلِّ الانشغال، بشكل غير مناسب، بأحداث ذلك المساء التي أعتقد أنها قد انتهَت. ولا بدَّ من أن أقول إن الساعات القليلة الأخيرة كانت مُرهِقةً جدًّا. والآن أجد نفسي هنا في غرفة السطح في هذا المنزل الريفي الصغير، منزل «مستر ومسز تيلور»، وهو مسكنهما الخاص. وهذه الغرفة التي تَفَضَّل «مستر ومسز تيلور» بإتاحتها لي هذه الليلة، كان يشغلها في وقت سابق ابنُهما البِكر الذي كبر ويعيش الآن في «إكستر». الغرفة تكثُر فيها العوارض الخشبية، ولا يوجَد على أرضيتها سجادة أو بساط، إلا أن الجوَّ دافئ ومريح. واضح أن «مسز تيلور» قد قامت بترتيب الفراش وبأعمال التنظيف؛ إذ إنه — باستثناء القليل من بيوت العنكبوت في أركان العوارض الخشبية — ليس هناك ما يوحي بأن الغرفة كانت مهجورةً لعِدَّة سنوات. أمَّا بالنسبة ﻟ «مستر ومسز تيلور» شخصيًّا، فقد تأكَّد لي أنهما كانَا يديران محلَّ الخضراوات هنا في القرية منذ العشرينيات وحتى تقاعدهما قبل ثلاث سنوات. أناسٌ طيِّبون، وقد عرضتُ عليهما هذه الليلة، أكثر من مرة، مكافأةً طيِّبةً لكرم ضيافتهما، لم يحلمَا بها من قبل. وكوني هنا الآن تحت رحمة كرم ضيافة «مستر ومسز تيلور» يرجع في الحقيقة إلى سببٍ بسيطٍ جدًّا وغبي جدًّا؛ وهو بالتحديد أنني تركتُ السيارة حتى فرغَت من البترول. هذا بالإضافة إلى مشكلة نقص الماء في «الرادياتير» بالأمس، لا بدَّ من أن يجعل أيَّ مراقب يتصوَّر أن سوء التنظيم جزء متأصل في طبيعتي، ولكن قيادة السيارات لمسافات طويلة مسألة جديدة عليَّ، ويمكن أن تتوقَّع مني مثل تلك الغفلات. لكنني عندما أتذكر أن التنظيم الجيد، وبُعد النظر، هي في الصميم من مهنتي، أشعر بأنني قد خذلتُ نفسي مرةً أخرى. الواقع أنني كنتُ مُشتَّت الذهن بالفعل خلال الساعة الأخيرة وأنا أقود السيارة قبل أن ينفد وقودُها، وكنتُ قد قرَّرتُ أن أقضي الليلة في مدينة «تافيستوك» حيث وصلت قبل الثامنة بقليل. وفي الفندق الرئيسي بالمدينة علمتُ أن جميع الغرف مشغولة بسبب المعرض الزراعي المحلي، واقترحوا عليَّ أماكن أخرى كثيرة مررتُ عليها كلها، وكنتُ أُقابَل بالاعتذار ذاته. وفي نُزُل خارج المدينة نصحَتني صاحبتُه بمواصلة السَّير بالسيارة عِدَّة أميال أخرى لكي أجد نُزُلًا آخر على الطريق يديره قريبٌ لها، وأكدَت لي أن لديه غرفًا شاغرةً لأن النُّزل بعيد عن «تافيستوك»، ولذلك لم يتأثر بإقامة المعرض. ووصفَت لي الطريق بدقة ووضوح، لكنني لم أجد أثرًا للنُّزل على الإطلاق، إذ بعد رُبع الساعة تقريبًا وجدتُ نفسي على طريق طويل ممتد بانحناءات وانعطافات كثيرة وسط أراض سبخة أو جرداء، المُستنقَعات على الجانبَين، والضبابُ يلفُّ كل شيء. وعلى اليسار كنتُ أرى آخر وهج لغروب الشمس وأشكالًا لحظائر وبيوت ريفية بعيدة تكسر خطَّ الأفق، وأدركتُ أنني قد تركتُ ورائي كل أثر للحياة الاجتماعية. رجعتُ بالسيارة بحثًا عن منعطف ربما أكون قد غفلتُ عنه، ولكنني وجدتُ طريقًا أكثر وحشة. مرَّت فترةٌ وأنا أقود السيارة في الظلام بين أشجار عالية، ثم وجدتُ الطريق يبدأ في الصعود تدريجيًّا. كنتُ قد فقدتُ الأمل في أن أجد النُّزل، وقرَّرتُ أن أواصل القيادة حتى القرية أو المدينة التالية لأبحث عن مأوًى هناك. وكنتُ أُبرِّر ذلك لنفسي على أساس أنني يمكن أن أواصل رحلتي في الصباح. وفي تلك المنطقة الصاعدة من الطريق توقَّفَت ماكينة السيارة ولاحظتُ لأول مرة أن البترول قد نفد. بعد ياردات قليلة توقَّفَت السيارة تمامًا، وعندما نزلتُ لأقيِّم الموقف كان واضحًا لي أنه لم يبقَ سوى دقائق معدودة ثم يحل الظلام. كنتُ أقف على طريق منحدر تحيط به الأشجار والأعشاب، وأرى أمامي ثغرةً بينها تبدو من خلالها بوابة واسعة ذات قضبان. تقدَّمتُ في اتجاهها متوقِّعًا أن النظر منها قد يعطيني بعض الشعور بالاتجاه، ولربما أكون قد توقَّعتُ أن أرى منزلًا ريفيًّا على مسافة قريبة يُقدِّم لي بعض المساعدة، لكن ما رأيته أمامي أصابني بالإحباط إلى حدٍّ ما. في الناحية الأخرى من البوابة كانت الأرض تبدو شديدة الانحدار، وتتلاشى تقريبًا بعد ياردات قليلة. أمَّا في نهاية الحقل، على مسافة رُبع مِيلٍ تقريبًا، أو على مسافة وثبة غراب، كنتُ أرى أمامي قرية صغيرة. ومن خلال الضباب كان يلوح لي برج كنيسة، ومن حوله تجمُّعات من أسطح تغطيها ألواح قاتمة، بينما تتصاعد خيوط الدخان الأبيض من المداخن.

لا بدَّ من أن أقول إنني شعرتُ في تلك اللحظة بقدْر من خيبة الأمل، ولكن الموقف لم يكُن ميئوسًا منه تمامًا، فالسيارة كانت سليمةً على الأقل. كل ما في الأمر أن وقودها قد نفد، ويمكن الوصول إلى القرية بعد نصف الساعة تقريبًا، حيث يمكن أن أجد مكانًا وصفيحة بترول. لم يكُن شعورًا سعيدًا أن تكون واقفًا هكذا على تلة منعزلة، تنظر عبر بوابة إلى الأضواء القادمة من قرية بعيدة، بينما ضوء النهار ينحسر والضباب يزداد كثافة. على أيَّة حالٍ لم تكُن هناك فائدة من الجزع، وربما كان من الغباء أن أضيع الدقائق القليلة المتبقية من ضوء النهار. عدتُ إلى مكان السيارة وملأتُ حقيبةً صغيرةً بأشياء ضرورية ومصباح كان يضيء بشكل جيد، ورحتُ أفتش عن مَنفذ أستطيع أن أنزل من خلاله إلى القرية. وبالرغم من أنني سرتُ مسافةً طويلةً صاعدًا التلَّ وتخطيتُ البوابة، إلا أنني لم أجد أمامي مَنفذًا أو ممرًّا. وعندما وجدتُ أن الطريق قد توقَّفَت عن الصعود وبدأَت تنحرف نزولًا في اتجاه آخر غير اتجاه القرية، التي كانت أضواؤها تلوح لي من خلال الأشجار، انتابتني مرةً أخرى مشاعرُ الإحباط. فكرتُ للحظةٍ أن أعود إلى السيارة مُتتبعًا آثار خطواتي، وأن أجلس هناك في انتظار مرور سيارة أخرى.

كان الظلام قد بدأ يُخيِّم على المكان، ووجدتُ أنني لو بدأتُ التلويح لأيِّ سيارة مارَّة فقد يتصوَّرني مَن فيها قاطع طريق مثلًا! بالإضافة إلى أنه لم يحدث أن مرَّت أيُّ سيارة منذ أن نزلتُ من اﻟ «فورد»، بل إنني لم أشاهد أيَّ سيارة بالمرة منذ مغادرة «تافيستوك». وهنا قرَّرتُ أن أعود إلى البوابة، ومن هناك أنزل إلى الحقل وأواصل السَّير في خطٍّ مستقيم بقدْر الإمكان في اتجاه أضواء القرية، سواء أكان هناك ممرٌّ أم لا.

على أيَّة حالٍ لم يكُن النزول صعبًا ولا الطريق شديدة التحدُّر. كانت مجموعة من حقول الرعي تؤدِّي — واحدًا بعد الآخر — إلى القرية، وكنتُ وأنا أواصل السَّير بحذائها لكي أتأكد من أنني أسير في الاتجاه الصحيح، مرةً واحدةً فقط، عندما كانت القرية تبدو قريبةً جدًّا، لم أرَ أمامي أيَّ طريق واضح يؤدِّي إلى الحقل التالي، فكان لا بدَّ من توجيه المصباح الكشاف في اتجاهات مختلفة على امتداد كُتَل الأعشاب والشجيرات التي تعترض طريقي. وفي النهاية اكتشفتُ ثغرةً ضيِّقةً نفذتُ منها ضاغطًا جسمي، وكلفني ذلك تمزُّق كتف السُّترة وثَنْية رجل البنطلون. كانت الحقول الأخيرة مُوحِلةً جدًّا، ولذا تعمدتُ ألَّا أوجِّه ضوء الكشاف إلى الحذاء وثَنْية البنطلون درءًا لمزيد من الإحباط. شيئًا فشيئًا وجدتُ نفسي أسير على ممرٍّ مُمهَّدٍ يؤدِّي إلى القرية، وحدث أن التقيتُ هنا «مستر تيلور» مضيفي الكريم هذا المساء. كان قد ظهر أمامي على مسافة قريبة وانتظر أن ألحق به، وضع يده على قُبَّعته تحيةً لي وسألني إن كنت أحتاج لأيِّ مساعدة.

شرحتُ له وضعي بإيجاز شديد قائلًا إنني سأكون في غاية الامتنان لو أنه أرشدني إلى نُزُل جيد. وهنا هزَّ «مستر تيلور» رأسه قائلًا: «للأسف! لا يوجَد نُزُل كذلك في قريتنا يا سيدي، «جون همفريز» يستقبل المسافرين في نُزُل «كروسدكيز»، ولكنه — للأسف — يقوم بإصلاحات في السقف الآن.» وقبل أن يظهر الأثر المؤسف لهذه المعلومات على وجهي أردف «مستر تيلور» قائلًا: «لكنْ إذا وافقتَ على تمشية الحال، فيمكننا أن نُدبِّر لك غرفةً وسريرًا لهذه الليلة. ليست ممتازةً بالتأكيد، ولكن زوجتي سوف تهتمُّ بأن يكون كل شيء نظيفًا ومريحًا بشكل جيد.»

أعتقد أنني همهمتُ ببضع كلمات، وربما بطريقة فاترة، مُعبِّرًا عن عدم رغبتي في أن أثقل عليهم إلى ذلك الحد، وكان ردُّ «مستر تيلور»: «دعني أقول يا سيدي إنه سيشرفنا أن تنزل عندنا، فنادرًا ما يمرُّ من هنا، عن طريق «موسكومبي»، مَن هم مثلك. وبأمانة شديدة أقول إنني لا أعرف ماذا يمكن أن تفعل في مثل هذه الساعة، علاوةً على أن زوجتي لن تسامحني لو أنني تركتُك هكذا في الليل.» وكان أن قبلتُ الاستضافة الكريمة من مستر ومسز «تيلور».

ولكنني عندما كنتُ أتحدث قبل ذلك عمَّا أصابني من إرهاق نتيجة أحداث ذلك المساء، لم أكُن أعني الإحباط الذي سبَّبه لي نفاد وقود السيارة واضطراري للقيام بتلك الرحلة الغريبة نزولًا إلى القرية، لأن ما حدث بعد ذلك وما اتضح لي بمجرَّد جلوسي لتناوُل العشاء مع «مستر ومسز تيلور» وجيرانهما كان أكثر إرهاقًا لي. لقد شعرتُ بقدْر كبير من الراحة بعد أن وصلتُ إلى هذه الغرفة وجلستُ أقلِّب في ذهني هذه الذكريات عن «دارلنجتون هول» على مدى تلك السنوات الطويلة، والحقيقة أنني في الفترة الأخيرة كنتُ أحبُّ دائمًا أن أشغل نفسي بتلك الذكريات. ومنذ أن لاحت لي إمكانيةُ أن ألتقي و«مس كنتون» منذ أسابيع قليلة، أعتقد أنني قضيتُ وقتًا طويلًا أفكر في أسباب مرور علاقتنا بمثل ذلك التغير، حدث ذلك التغير بالفعل حوالي عام ١٩٣٥م أو ١٩٣٦م، بعد سنوات من التفاهم المِهْني. والحقيقة أننا في الفترة الأخيرة كنَّا قد أصبحنا نتجنَّب الالتقاء حول فنجان الكاكاو في نهاية يوم العمل، لكنني لم أستطع أن أحدِّد أسباب ذلك التغير، ولا تسلسل الأحداث الذي أدَّى إلى ذلك. عندما أفكر في ذلك يبدو لي أن ما حدث في ذلك المساء، عندما جاءت «مس كنتون» إلى غرفتي، كان هو نقطة التحول في علاقتنا، لكنْ لماذا جاءت؟ لا أستطيع أن أتذكر جيدًا. ربما كانت قد جاءت حاملةً مزهريةً لتبعث البهجة في المكان إلى حدٍّ ما، وربما اختلط ذلك في ذهني بمجيئها تفعل الشيء نفسه قبل ذلك بسنوات عند بداية تعارفنا. أعرف جيدًا أنها حاولَت أن تضع الزهور في غرفتي في ثلاث مناسبات على الأقلِّ خلال السنوات الماضية، وإن كنتُ لستُ متأكدًا من أن يكون ذلك هو سبب مجيئها في ذلك المساء بالتحديد. الشيء المؤكَّد هو أنه بالرغم من العلاقة الطيِّبة بيننا، إلا أنني لم أسمح أبدًا بأن تدخل مُدبِّرة القصر وتخرج من غرفتي هكذا طوال اليوم. غرفة رئيس الخدم — كما أعرف — مكان له أهميته الخاصة. هي قلب كل الأنشطة التي تدور في القصر، ليست أقلَّ من مركز العمليات، مركز القيادة في المعركة، ولا بدَّ من أن يظلَّ كل شيء بها في غاية الانتظام، وأن يبقى هكذا، وكما أريد بالضبط. لم أكُن في يوم من الأيام واحدًا من رؤساء الخدم الذين يسمحون لكل شخص، أيِّ شخص، بأنْ يدخل ويخرج هكذا يشكو أو يُهمهم أو يُبرطم … وإذا كان لسَير العمل أن يكون هادئًا ومنظمًا ومنسقًا، فمن المؤكَّد أن غرفة رئيس الخدم لا بدَّ من أن تكون هي المكان الوحيد في القصر الذي يتوفر له الخصوصية والعزلة. والذي حدث هو أن «مس كنتون» عندما دخلَت غرفتي في ذلك المساء لم أكُن مشغولًا بأمور تتعلق بالعمل، كنَّا في آخر اليوم في أسبوع هادئ تقريبًا، وكنت أنعم بساعة من الاسترخاء بعيدًا عن جوِّ العمل. أقول إنني لستُ متأكدًا إذا ما كانت «مس كنتون» قد جاءت بالمزهرية أم لا، وإن كنتُ أتذكر بالتأكيد قولها: «غرفتك ليست مُريحةً بالليل كما هي بالنهار يا «مستر ستيفنس»؛ هذا المصباح الكهربائي ضعيف جدًّا، ومُجهِد في القراءة.»

– أعتقد أنه كافٍ تمامًا … شكرًا يا «مس كنتون»!

– الحقيقة يا «مستر ستيفنس» أن هذه الغرفة تشبه زنزانة السجن، لا ينقصها سوى سرير صغير في الركن ليظنَّ المرء أن المحكوم عليهم يقضون ساعاتهم الأخيرة هنا!

ربما أكون قد قلتُ شيئًا تعقيبًا على ذلك، لستُ متأكدًا. على أيَّة حالٍ لم أرفع عينيَّ عمَّا كنتُ أقرأ، ومرَّت لحظات وأنا أنتظر أن تستأذن «مس كنتون» وتخرج، لكنها قالت: «أنا في حيرة يا «مستر ستيفنس» … ماذا يمكن أن تقرأ هنا؟»

– كتاب يا «مس كنتون» … كتاب!

– واضح! ولكنْ أيُّ نوع من الكتب؟ هذا ما أريد أن أعرفه.

رفعتُ بصري عن الكتاب ورأيتُها تتقدَّم نحوي. أغلقتُ الكتاب وقبضتُ عليه بكلتا يديَّ لكي أُبعده عنها، وقمتُ من مكاني.

– بصراحة يا «مس كنتون»، لا بدَّ من أن أطلب منكِ أن تحترمي خصوصيتي.

– لكنْ … لماذا أنتَ خَجِلٌ هكذا من كتابك يا «مستر ستيفنس»؟ أتصوَّر أنه لا بدَّ من أن يكون شيئًا بذيئًا.

– غير وارد بالمرة يا «مس كنتون» أن تكون هناك كُتُب بذيئة — كما تتصوَّرين — هنا في مكتبة سيادة اللورد.

– لقد سمعتُ أن كثيرًا من الكُتُب الثقافية المُهمَّة يحتوي على أجزاء بذيئة، وإن كنتُ لم أجرؤ أبدًا على النظر إليها. والآن أرجوكَ يا مستر ستيفنس … دعني أرى ما تقرأ!

– أرجو أن تتركيني بمفردي يا «مس كنتون»، من المستحيل أن تُثقلي عليَّ هكذا في لحظات الفراغ الوحيدة المتاحة لي للانفراد بنفسي.

ولكن «مس كنتون» كانت مستمرةً في تقدُّمها نحوي، والحقيقة أنه كان من الصعب عليَّ معرفة ما يمكن عملُه إزاء ذلك السلوك! فكرتُ أن ألقي الكتاب في درج المكتب وأغلقه، ولكن ذلك بدَا موقفًا دراميًّا. تراجعتُ عِدَّة خطوات والكتاب في يدي لا يزال مضغوطًا إلى صدري. قالت وهي تواصل تقدُّمها: «أرجوك أرني الكتاب الذي تمسك به يا «مستر ستيفنس» وسوف أتركك تستمتع بقراءته. ماذا يمكن أن يكون، يا تُرى، ذلك الذي تحرص على إخفائه عني هكذا؟»

– لا يُهمُّني على الإطلاق أن تكوني قد عرفتِ عنوان هذا الكتاب أم لا يا «مس كنتون». من ناحية المبدأ أنا أعترض تمامًا على ظهورك، هكذا فجأة، واقتحام وقتي الخاص.

– غريبة! هل هو كتاب محترم يا «مستر ستيفنس»، أم تُراك لا تريد أن تصدمني؟!

قالت ذلك وهي واقفة أمامي، وفجأةً تكهرب الجوُّ وكأن قد أُلقِيَ بكِلَينا فجأةً إلى كوكب آخر. أخشى أن أكون عاجزًا عن وصف ما أقصده بدقة. كل شيء صَمَت حولنا فجأة، وشعرتُ بأن حالة «كنتون» انتابها تغيُّر مفاجئ هي الأخرى؛ بدَت ملامحها جادةً بشكل غريب، وأذهلني أنها كانت تبدو خائفة.

«أرجوك يا «مستر ستيفنس» دعني أرى الكتاب.» تقدَّمَت نحوي وبدأت — برقة — تحاول تخليص الكتاب من يدي. فكرتُ في أن أفضل ما يمكن أن أفعله هو أن أنظر بعيدًا، ولكن لأنها كانت تقف أمامي مباشرةً أشحتُ عنها بوجهي فقط، وبزاوية غير طبيعية إلى حدٍّ ما. حاولَت «مس كنتون» بشدة أن تأخذ الكتاب من يدي، واستمرَّ ذلك وقتًا إلى أن سمعتُها تقول: يا إلهي! شيء لا يستحقُّ الخجل منه أو الشعور بالعار، ليس سوى رواية عاطفية يا «مستر ستيفنس»!

أعتقد أنني حينذاك قرَّرتُ أن هناك حدودًا للتسامح والاحتمال. لا أستطيع أن أتذكر ما قلتُه بالتحديد، ولكنني طلبتُ منها بحزم أن تخرج من الغرفة، وهكذا انتهى الموقف.

من أشعر أنني لا بدَّ من أن أضيف شيئًا هنا عن موضوع الكتاب الذي درات حوله هذه الأحداث. كان يمكن أن يوصَف فعلًا بأنه رواية عاطفية، مثل الكثير من الكتب الموجودة بالمكتبة، وكذلك في كثير من غرف نوم الضيوف، لتسلية ضيوفنا من النساء. وكان هناك سبب بسيط يجعلني أحرص على قراءة مثل تلك الأعمال، وهو أنها تساعدني على إتقان اللغة الإنجليزية. وأنا من رأيي — ولا أعرف إن كنتَ ستوافقني على ذلك أم لا — أن جِيلنا كان يركز كثيرًا على الرغبة المِهْنيَّة في إتقان اللغة واللكنة، أيْ إنه كان يتمُّ التأكيدُ على هذين العنصرين على حساب بعض المواصفات الأخرى، لذلك كنتُ أعتبر أنه من واجبي دائمًا أن أطور لغتي وأن أتقن اللكنة بقدْر ما أستطيع. وكانت إحدى الوسائل المباشرة لذلك هي أن أقوم، عندما يتيسر الوقت، بقراءة بعض الصفحات من كتاب جيد. هكذا كانت سياستي على مدى عِدَّة سنوات، وكنتُ أميل دائمًا إلى اختيار ذلك النوع من الكُتُب الذي رأته معي «مس كنتون» في ذلك المساء، لأنها تكون عادةً مكتوبةً بإنجليزية جيدة، وتتضمن حواراتٍ ممتازةً ذات فائدة عملية كبيرة لي؛ لأن الكتب الثقيلة بالرغم من فائدتها أيضًا، إلا أنها — كما تقول إحدى الدراسات — تكون في العادة مكتوبةً بأسلوب محدود الفائدة في مجال تعامل الفرد العادي مع الناس. ونادرًا ما كان يتيسر الوقت لقراءة رواية من روايات الحبِّ من الغلاف للغلاف، وعلى قدْر ما أذكر كانت حبكتها دائمًا لا معقولة، وما كنتُ لأضيع وقتي فيها، لولا محاولة الإفادة منها على النحو الذي ذكرت.

ولأنني قلتُ ذلك، فلا يُهمُّني أن أعترف اليوم — ولا أجد شيئًا أخجل منه هنا — بأنني كنتُ أجد متعةً أحيانًا في بعض تلك الروايات. لم أعترف لنفسي بذلك حينذاك، ولكنْ أيُّ عيبٍ في ذلك؟!

لماذا لا يستمتع المرء بالقصص العاطفية بين رجال ونساء يقعون في الحبِّ ويُعبِّرون عن مشاعرهم بعبارات جميلة؟ ولكنني عندما أقول ذلك فأنا لا أقصد أن أقول إن الموقف الذي اتخذتُه، بالنسبة لذلك الكتاب في ذلك المساء، كان شيئًا لا مُبرِّر له. لا بدَّ من أن تفهم أنها مسألة مبدأ. فقد كنتُ خارج ساعات العمل الرسمية عندما دخلَت «مس كنتون» إلى غرفتي. وبالطبع فإن أيَّ رئيس خدم ينظر إلى مهنته باحترام، أيُّ رئيس خدم يطمح إلى «شرف شغل هذا المنصب» كما عبَّرَت عن ذلك «جمعية هايز» ذات يوم. لا ينبغي أن يسمح لنفسه بأن يبدوَ خارج ساعات العمل الرسمية في حضور الآخرين. لم يكُن مُهِمًّا في الواقع أن يكون الذي دخل غرفتي في ذلك الوقت هو «مس كنتون»، أو أيَّ شخص آخر. أيُّ رئيس خدم لا بدَّ من أن يُشاهَد وهو في إطار دَوره تمامًا، لا يجب أن يراه أحد وهو يخلع هذا الدَّور عنه ثم يرتديه مرةً أخرى، وكأنه ليس أكثر من زيٍّ في مشهد تمثيلي صامت. هناك موقف واحد فقط، موقف واحد فقط، عندما يشعر رئيس الخدم الذي يحرص على كرامته بأنه يريد أن يتخفَّف قليلًا من العبء الذي يحمله على كاهله … أقصد عندما يكون وحده تمامًا. سوف تُقدِّر إذَن ما حدث عندما اندفعَت «مس كنتون» إلى غرفتي، بينما كنتُ أعتقد أنني قد أصبحتُ بمفردي تمامًا. كانت إذَن مسألة مبدأ، مبدأ كرامة! لم أظهر إلا في دَوري الكامل، والذي يجب أن يكون. على أيَّة حالٍ لم يكُن هدفي أن أحلل هنا الأوجُه المختلفة لتلك الملابسات التي حدثَت منذ سنوات، أهمُّ شيء أنها نبَّهَتني إلى حقيقة مُهمَّة، وهي أن الأمور بيني وبين «مس كنتون» قد وصلَت إلى آخر مدًى لها، وصلَت بالتدريج، وبعد عِدَّة أشهر، إلى مستوًى من العلاقة غير لائق. تصرُّفها بتلك الطريقة، في ذلك المساء، كان شيئًا مزعجًا، وبعد أن خرجَت وأصبحتُ قادرًا على أن أستجمع أفكاري إلى حدٍّ ما، أذكر أنني حاولتُ أن أشرع في إعادة بناء علاقة العمل بيننا على أساس أكثر ملاءمة. ولكن من الصعب الآن القول كيف أن تلك الأحداث كانت سببًا في التغير الكبير الذي طرأ على علاقتنا بعد ذلك. كانت هناك أيضًا تطورات أساسية أخرى مسئولة عمَّا حدث، حكاية يوم إجازتها مثلًا.

منذ أن جاءت «مس كنتون» إلى «دارلنجتون هول»، وإلى ما قبل ذلك الحدث بشهر تقريبًا، عندما دخلَت إلى غرفتي، كانت أيام إجازاتها تتبع نظامًا محدَّدًا؛ كانت تحصل كل ستة أسابيع على يومَين إجازةً لزيارة عمَّتها في «سوثامبتون»، وأحيانًا كانت لا تأخذ إجازاتٍ مثلي إلا إذا كان الوقت هادئًا، وفي تلك الحالة كانت تقضي يوم راحتها في التجوال في الدَّور الأرضي أو القراءة في غرفتها، ولكن النظام تغيَّر، بدأت تقوم بإجازاتها كما ينصُّ العقد، وتختفي من القصر منذ الصباح ولا تترك أيَّ معلومات سوى الموعد المُتوقَّع أن تعود فيه ليلًا. كانت لا تتجاوز الوقت المُقرَّر لها بالطبع، ولذلك شعرتُ بأنه لا يليق أن أسأل عن أسباب خروجها، ولكنني أعتقد أن هذا التغير أقلقني إلى حدٍّ ما، فأنا أذكر أنني تكلمتُ عن ذلك مع «مستر جراهام»، مساعد رئيس خدم «سير جيمس تشامبرز»، وكان زميلًا طيِّبًا، وإن كنتُ قد فقدتُ صلتي به الآن. حدث ذلك ونحن جالسان بجوار المدفأة ذات ليلة نتحدث أثناء إحدى زياراته المتكررة ﻟ «دارلنجتون هول».

والحقيقة أن كل ما قلتُه لا يخرج عن أن مُدبِّرة القصر قد أصبحَت «متقلبة المزاج مؤخرًا»، ولكنني فوجئتُ عندما هزَّ «مستر جراهام» رأسه ومال عليَّ قائلًا بلغة العالِم ببواطن الأمور: «وأنا أتساءل إلى متى سيستمرُّ ذلك؟»

وعندما سألتُه عمَّا يقصده قال: «مس كنتون هذه التي تعمل معك … أعتقد أنها الآن … كم؟ ثلاث وثلاثون سنة؟ أربع وثلاثون؟ متروكة هكذا في أحسن سنوات أمومتها؟ لكن الوقت لم يتأخر بعد!»

أكدتُ له: «مس كنتون كفاءة شديدة الإخلاص، وأنا أعلم أنها لا تريد أن تُكوِّن أُسرة.»

ولكن «مستر جراهام» هزَّ رأسه مُبتسمًا، وقال: «لا تُصدِّقْ أيَّ مُدبِّرة منزل أو قصر تقول إنها لا تريد أن يكون لها أُسرة. أعتقد يا «مستر ستيفنس» أننا يمكن أن نجلس معًا، ونعُدُّ على الأقلِّ اثنتَي عشرة منهن قُلن شيئًا مثل ذلك، ثم تزوَّجن وتركن المهنة.» أعتقد أنني رفضتُ نظرية «مستر جراهام» هذه ببعض الثقة في ذلك المساء، لكنني فيما بعد — ولا بدَّ من أن أعترف — كان من الصعب أن أستبعد أن يكون السبب وراء تكرار خروجها الغامض، هو أن «مس كنتون» كانت تذهب للقاء شخص يريد أن يتقدم للزواج منها. وكانت تلك بالفعل فكرةً مزعجة؛ إذ إن تركها للخدمة سيكون خسارةً فادحة، خسارةً سوف يجد قصر «دارلنجتون هول» صعوبةً شديدةً لتعويضها. بالإضافة إلى ذلك فإنني كنتُ مُضطرًّا للاعتراف بدلائل أخرى كانت تؤيد نظرية «مستر جراهام»، مثلًا: كان من بين مهامي استلام البريد، ولاحظتُ أن «مس كنتون» بدأت تصلها رسائل بشكل منتظم تقريبًا — مرةً في الأسبوع على الأقل — من نفس المُرسِل، وكانت تلك الرسائل تحمل طوابع بريد محلية. ولا بدَّ من أن أشير هنا إلى أنه كان من المستحيل، بالنسبة لي، ألَّا ألاحظ مثل تلك الأشياء، لأنها على مدى سنوات وجودها معنا لم تتلقَّ سوى رسائل معدودة. ثم إنه كانت هناك دلائل أخرى غير واضحة تؤيِّد نظرية «مستر جراهام»، فعلى سبيل المثال: بالرغم من أنها واصلَت أداء عملها بنفس الدرجة من الإتقان، إلا أن معنوياتها كانت تمرُّ بتقلبات لم أعهدها من قبل، فالمرات التي كانت تبدو فيها سعيدةً، ولأيام كاملة، ودون سبب ملحوظ، كانت بالنسبة لي مزعجةً تمامًا، مثل أيام قنوطها وعبوسها. وكما أقول فإنها ظلَّت تؤدِّي عملها بشكل ممتاز كالعادة، ولكنني، مرةً أخرى، كان من واجبي أن أفكر في مستقبل «دارلنجتون هول» على المدى البعيد، وما إذا كانت تلك الدلائل تدعم نظرية «مستر جراهام». هل كانت تفكر في الرحيل لأسباب عاطفية؟ كان لا بدَّ من أن أتقصَّى الأمر أكثر من ذلك. تجرأتُ وسألتُها ذات مساء ونحن نتناول الكاكاو: «هل ستخرجين يوم الخميس القادم يا مس كنتون؟ أقصد في يوم إجازتك.»

كنتُ نصف مُتوقِّع أن تغضب لهذا الاستفسار، ولكنها — على العكس — بدَت وكأنها تنتظر هذه الفرصة منذ زمن لإثارة هذا الموضوع، لأنها قالت وهي تشعر بالارتياح: «آه يا مستر ستيفنس! هو شخص تعرَّفتُ عليه أيام عملي في «جرانشستر لودج». الحقيقة أنه كان رئيس الخدم هناك في ذلك الوقت، ولكنه ترك الخدمة الآن ويمارس عملًا تجاريًّا في مكان قريب من هنا. عرف بوجودي في «دارلنجتون هول»، وبدأ يكتب إليَّ مقترحًا أن نجدِّد علاقتنا. هذا هو كل شيء باختصارٍ يا مستر ستيفنس!»

– فهمتُ يا «مس كنتون». لا شكَّ في أن الخروج من وقت لآخر يُشعِر المرء بالانتعاش.

– وأنا أعتقد ذلك أيضًا يا مستر ستيفنس.

ثم ساد بيننا صمتٌ قصير. بعد ذلك ظهرَت «مس كنتون» لكي تتخذ قرارها، وقالت: «ذلك الرجل الذي أعرفه. أذكر أنه عندما كان رئيس خدم في «جرانشستر لودج» كان شديد الطموح. أتصوَّر أن حلمه النهائي كان أن يصبح رئيس خدم في قصر كبير كهذا. لكن … ياه! عندما أتذكره الآن … أستطيع أن أتصوَّر ملامحك يا «مستر ستيفنس» لو أنكَ واجهتَ مثل ذلكَ الآن … ولا عجب أن تظلَّ طموحاته الآن دون تحقُّق!»

ضحكتُ ضحكةً قصيرةً، وقلت: «أعرف بحكم خبرتي أن هناك عددًا كبيرًا من الناس الذين يتصورون أنفسهم قادرين على العمل في تلك المستويات العُليا دون أن يكون لديهم أدنى فكرة عن المتطلبات المُرهِقة المرتبطة بذلك. والمؤكَّد أن تلك المستويات ليست مناسبةً لأيِّ شخص، هكذا، بشكل مطلق.»

– فعلًا يا مستر ستيفنس! ماذا كان يمكن أن تقول لو أنكَ لاحظتَه في تلك الأيام؟

– على تلك المستويات يا مس كنتون، المهنة ليست من أجل أيِّ واحد. من السهل جدًّا أن يكون للمرء طموحاته الكبيرة، ولكن رئيس الخدم لن يتقدَّم إلى ما هو أبعد من نقطة مُعيَّنة إن لم تكُن لديه مواصفات خاصة.

بدَت مس كنتون تفكر في ذلك لحظةً، ثم قالت: «لديَّ إحساس بأنكَ شخصٌ راضٍ عن نفسك تمامًا يا «مستر ستيفنس»، فأنتَ رجل في قمة المهنة الآن، وكل شيء في هذا المجال تحت سيطرتك. أنا فعلًا لا أتصوَّر أنكَ تريد شيئًا آخر في الحياة.»

لم أستطع أن أفكر في ردٍّ مباشر على ذلك. وفي الصمت المُربِك الذي رانَ، وجَّهَت «مس كنتون» نظرتها المُحدقة إلى عمق فنجان الكاكاو وكأنها تتأمل شيئًا هناك باستغراق شديد. وبعد تفكير قلت: «على قدْر ما أعرف يا مس كنتون، فإن مهمَّتي لن تتحقَّق حتى أفعل كل ما في استطاعتي لكي أرى سيادة «اللورد» وقد نجح في تحقيق كل ما يريد. يوم يكتمل عمله، يوم يستطيع أن يعتمد على أمجاده، يوم يشعر بالرضا لأنه استطاع أن يفعل كل ما يطلبه منه أيُّ إنسان، يوم يحدث ذلك فقط يمكن أن أعتبر نفسي شخصًا شديد الرضا عن نفسه.»

ربما تكون «مس كنتون» قد ارتبكَت قليلًا بسبب هذه الكلمات، وربما يكون ما قُلتُ قد أساء إليها على نحوٍ ما. على أيَّة حالٍ فإن مزاجها بدَا مُتغيرًا في تلك اللحظة، كما فقدَت محادثتُنا الطابع الشخصي الذي كانت قد بدأت تتخذه. بعد ذلك بفترة قصيرة انتهَت لقاءات الكاكاو في غرفتها، وأذكر أنني، في آخر مرة التقينا فيها، كنتُ أنوي أن أناقش معها التحضيرات المطلوبة لاجتماع قادم في عطلة نهاية الأسبوع في «اسكتلندا»، وكان يضمُّ نخبةً من الشخصيات البارزة. صحيح أن المناسبة كانت بعد شهر تقريبًا، ولكننا كنَّا نناقش مثل تلك الأمور قبلها بوقتٍ كافٍ.

في ذلك المساء تحديدًا كنتُ أناقش الأمر من مختلف جوانبه، ولاحظتُ أن «مس كنتون» لا تشاركني بقدْرٍ كافٍ، وبعد فترة اتضح لي أن أفكارها كانت هناك في مكان آخر تمامًا. كنتُ أسألها أحيانًا: «هل أنتِ معي يا مس كنتون؟» وبالذات عندما كنتُ أشرح فكرةً طويلة، وبالرغم من أنها كانت تنتبه عندما أقول شيئًا كذلك، إلا أنها كانت تسرح مرةً أخرى بسرعة. بعد عِدَّة دقائق من كلامي، وتعليقات من جانبها مثل: «طبعًا … طبعًا»، «أنا معك يا مستر ستيفنس»، قلتُ لها في النهاية: «معذرةً يا مس كنتون!» لا أرى جدوى كبيرةً في مواصلة الكلام معك. ويبدو أنكِ لا تُقدِّرين أهمية هذا الموضوع.

قالت: «وأنا آسفة يا «مستر ستيفنس»، الحقيقة أنني مرهقة بعض الشيء هذا المساء.»

«لقد تزايد شعورك بالإرهاق يا «مس كنتون»، ولم يكُن ذلك أبدًا سببًا تلجئين إليه.»

ولدهشتي الشديدة، فإن «مس كنتون» ردَّت على ذلك بانفجارة شديدة ومفاجئة: «لقد كان الأسبوع الماضي مزدحمًا ومرهقًا جدًّا بالنسبة لي يا «مستر ستيفنس»، وأشعر في هذه الساعات الثلاث أو الأربع الأخيرة برغبة شديدة في الذهاب إلى السرير. أنا متعبة يا «مستر ستيفنس» … متعبة … ألا تُقدِّر ذلك؟»

كأنني لم أكُن أريد اعتذارًا منها، لكن حدَّة الردِّ جعلَتني أجفل قليلًا. على أيَّة حالٍ لم أترك نفسي تستسلم للدخول في جدل غير ضروري معها، وتعمدتُ الانتظار لحظةً أو لحظتَين قبل أن أقول: «إذا كان ذلك هو إحساسك بالمسألة يا «مس كنتون»، فليس هناك ما يدعو على الإطلاق لمواصلة هذه اللقاءات المسائية. ويؤسفني أنه لم يكُن لديَّ أيَّة فكرة طوال هذا الوقت أنها لم تكُن مريحةً لك.»

– كل ما قلتُه يا «مستر ستيفنس» هو أنني أشعر بالتعب هذه الليلة.

– لا … لا … الأمر مفهوم يا «مس كنتون»! حياتك مليئة، وهذه اللقاءات عبء غير ضروري يُضاف إلى ما لديك. هناك بدائل أخرى لتحقيق هذا الاتصال بخصوص العمل دون اللجوء إلى هذه اللقاءات.

– لا داعي لذلك كله يا «مستر ستيفنس»، كل ما قلتُه هو …

– وأنا أعني ما أقول يا «مس كنتون» … والحقيقة، وأنا أتساءل منذ فترة، إن كان يمكن إيقاف هذه اللقاءات على اعتبار أنها تطيل أيام العمل المشحونة بما يكفي. وكوننا نلتقي هكذا منذ سنوات لا يعني أننا لا ينبغي أن نبحث عن وسيلة أخرى أكثر جدوى … من الآن فصاعدًا.

– مستر ستيفنس! أنا أعتقد أن هذه اللقاءات مفيدة جدًّا.

– ولكنها ليست مريحةً لكَ يا «مس كنتون». مرهقة. دعيني أقترح أن نجد طريقةً لتبادل المعلومات المُهمَّة أثناء يوم العمل العادي. وإذا تعذَّر أن يجد أحدنا الآخر، فليترك له رسالةً مكتوبةً على الباب، وهذا يبدو حلًّا جيدًا. والآن عذرًا يا «مس كنتون» لأنني أخرتكِ هكذا. شكرًا جزيلًا على الكاكاو.

لا بدَّ من أن أعترف بأنني كنتُ أتساءل بيني وبين نفسي كيف كان بالإمكان أن تتجه الأمور على المدى الطويل، لو أنني لم أحدِّد موقفي بالنسبة لهذه اللقاءات المسائية، أقصد لو أنني رضختُ لتلك المناسبات، على مدى الأسابيع التي تلَت اقتراح «مس كنتون» بأن نعيدها. أنا أفكر في هذا الأمر الآن لأنه على ضوء الأحداث التي تلَت ذلك، يمكن القول إن اتخاذ قرار بإيقاف هذه اللقاءات المسائية بشكل قاطع، قد أكون فيه غير مدرك لمغزى ما أفعل. والحقيقة أنه يمكن أن يُقال إن هذا القرار البسيط مني، كان يُمثِّل نقطة تحوُّل، لأنه وضع الأمور في مسار حتمي نحو ما حدث أخيرًا. ولكنني أفترض أن المرء عندما يتأمل ماضيه على ضوء ما فيه من «نقاط تحوُّل» سيكتشف أنها كثيرة، ولذا فإن قراري بالنسبة للقاءات المسائية لم يكُن هو نقطة التحول الوحيدة. ما حدث في غرفتي أيضًا كان نقطة تحوُّل. ماذا كان يمكن أن يحدث لو كنتُ قد تصرفتُ بشكل مختلف أو استجبتُ قليلًا في ذلك المساء عندما جاءت «مس كنتون» بالمزهرية؟ وربما يكون لقائي مع «مس كنتون» في غرفة الطعام، في ذلك المساء، عندما تلقَّت خبر وفاة عمَّتها، نقطة تحوُّل أخرى، لأن ذلك حدث في نفس الوقت تقريبًا. كان خبر الوفاة قد وصل قبل ذلك بساعات، وكنتُ أنا الذي دقَّ بابها في ذلك الصباح لأسلمها الرسالة. دخلتُ غرفتها لكي أناقش معها بعض أمور العمل، وأتذكر أننا جلسنا على الطاولة وكنَّا نتكلم عندما فتحَت الرسالة. بقيَت صامتة، ولكنها في الحقيقة كانت متماسكةً وهي تعيد قراءتها مرتَين على الأقل. بعد ذلك أعادت الرسالة إلى المغلف بعناية ونظرَت إليَّ.

«من مسز جونز … إحدى صديقات عمَّتي.» تقول إنها ماتت أول أمس. وسكتَت لحظةً ثم قالت: «الجنازة غدًا، أتمنَّى أن أستطيع الحصول على إجازة غدًا.»

– من المؤكَّد أننا يمكن أن نرتب ذلك يا مس كنتون.

– شكرًا يا «مستر ستيفنس» … لكن … عفوًا … هل يمكن أن تتركني بمفردي الآن ولو لدقائق؟

– بالتأكيد يا «مس كنتون»!

خرجت، ولكنني أدركتُ أنني لم أقدِّم لها عزائي. أنا أعرف حجم الصدمة التي فاجأتها. كانت عمَّتها بالنسبة لها مثل أُمِّها تمامًا. وقفتُ متردِّدًا في الممر، لا أعرف هل أدقُّ بابها مرةً أخرى لأقوم بذلك الواجب أم لا، ثم تنبَّهتُ إلى أنني قد أعتدي بذلك على خصوصيتها وأقحم نفسي على حزنها الخاص.

لم يكُن مستبعَدًا أن تكون «مس كنتون» تبكي الآن … في هذه اللحظة … وهي على بعد أقدام قليلة مني. أيقظَت هذه الفكرة بداخلي شعورًا قويًّا، وجعلَتني أقف متردِّدًا في الممر. وأخيرًا وجدتُ من الأفضل أن أنتظر فرصةً أخرى للتعبير عن مواساتي. وانصرفت. لم أرَها بعد ذلك إلا بعد الظهر، عندما قابلتُها في حجرة الطعام وهي تعيد بعض الآنية الفخارية للخزانة. في ذلك الوقت كنتُ مسكونًا بحزن «مس كنتون»، وأفكر في أفضل ما يمكن أن أقوم به أو أفعله للتخفيف عنها ولو بقدْر ضئيل.

كنتُ مشغولًا بشيءٍ ما في الرَّدهة عندما سمعتُ وقع خطواتها قادمة إلى غرفة الطعام. انتظرتُ قليلًا ثم تركتُ ما كنتُ أفعله وتبعتُها إلى الداخل.

– كيف حالك هذا المساء يا مس كنتون؟

– بخير! شكرًا يا مستر ستيفنس!

– هل كل شيءٍ على ما يُرام؟

– كل شيء بخير … شكرًا جزيلًا!

– أريد أن أسألكِ إن كانت هناك أيُّ مشاكل مع العاملين الجدد (وضحكت)، الأمر لا يخلو من متاعب صغيرة عندما يصل عدد من العاملين دفعةً واحدة. ليتنا نناقش ذلك معًا من وقتٍ لآخر.

– شكرًا يا مستر ستيفنس، لكن البنات الجدد جيدات تمامًا بالنسبة لي، وأنا راضية عنهن.

– ألا تفكرين في إجراء أيِّ تعديل على جداول العمل الحالية بعد وصول الطاقم الجديد؟

– لا أعتقد أن هناك ضرورةً لأيِّ تغيير يا «مستر ستيفنس»، على أيَّة حالٍ سأُبلغك على الفور إذا غيرتُ رأيي بهذا الخصوص.

ثم وجهتُ اهتمامها إلى الخزانة الجانبية، ورحتُ أنا أفكر في مغادرة غرفة الطعام. تقدَّمتُ بالفعل خطواتٍ قليلةً نحو المدخل، ولكنني استدرتُ مرةً أخرى وقلتُ لها: «العاملون الجدد جيدون كما تقولين؟»

– يعملون بشكل جيد … أؤكد لك.

– جميل أن أسمع ذلك (ثم ضحكت مرةً أخرى)، أنا مستغرب ذلك لأننا نعرف أن أيًّا من البنتَين لم يسبق لها العمل في قصر كبير كهذا.

– بالفعل يا مستر ستيفنس.

تأملتُها وهي تضع الأشياء في الخزانة، وانتظرتُ أن تقول شيئًا آخر، وعندما اتضح أنها لن تقول شيئًا، قلت: «الحقيقة أنني أريد أن أقول الآتي يا «مس كنتون» … لقد لاحظتُ في الفترة الأخيرة أن هناك شيئًا أو شيئَين لم يعودَا على نفس المستوى، ولذا لا بدَّ من أن تكوني أقلَّ رضًا عن العاملين الجدد.»

– ماذا تقصد يا مستر ستيفنس؟

– عندما يصل عاملون جدد، فلا بدَّ من أن أتأكد من جانبي أن كل شيء يسير بشكل جيد. لا بدَّ من أن أراجع كل جوانب أدائهم وأتأكد أنه يسير منتظمًا مع أداء الآخرين، أقصد من الناحية الفنية، وأثر ذلك على الجوِّ العام. عفوًا يا «مس كنتون»، أنتِ متهاونة بعض الشيء في هذا الأمر، ويؤسفني أن أقول ذلك.

– بدَا عليها ارتباك لحظي، ثم التفتَت نحوي مشدودةَ الوجه.

– عفوًا! ماذا قلتَ يا مستر ستيفنس؟

– على سبيل المثال يا «مس كنتون»؛ بالرغم من أن الآنية الفخارية قد غُسِلَت جيدًا كما هو مُتَّبَع، إلا أنها أُعيدَت إلى أرفف المطبخ بشكل غير سليم سيؤدِّي إلى تحطُّم عدد كبير منها.

– هل الأمر هكذا يا مستر ستيفنس؟

– نعم يا «مس كنتون»، إلى جانب أن هذا الركن الصغير خارج غرفة الإفطار لم يتمَّ نفضُ الغبار عنه منذ فترة. وعفوًا مرة أخرى! هناك شيء آخر أو شيئان لا بدَّ من ذكرهما …

– ليس هناك ما يدعو لتأكيد ما قلتَ يا «مستر ستيفنس»، ولا الإلحاح عليه، سأقوم بمراجعة أعمال الخادمتَين الجديدتَين.

– ليس من طبيعتك أن تغفلي عن مثل ذلك يا مس كنتون!

أشاحت عني بوجهها، ثم بدَا عليها أنها كانت تحاول فكَّ لغز شيء أصابها بالارتباك. كانت «مس كنتون» مرهقةً أكثر منها منزعجة. ثم قالت وهي تغلق الخزانة: «اسمح لي يا مستر ستيفنس!» وتركت الغرفة. ولكنْ تُرى ما هو المغزى أو الهدف من إطالتي التفكير فيما كان يمكن أن يحدث لو أن الموقف أو غيره كان مختلفًا؟ المرء يشغل نفسه بذلك كثيرًا. على أيَّة حالٍ إذا كان الكلام عن نقاط التحول شيئًا جيدًا، فمن المؤكَّد أن المرء يمكنه أن يتعرف على تلك اللحظات باستعادتها. ومن الطبيعي أنه عند إعادة النظر اليوم في تلك الأحداث، فإنها قد تبدو لحظاتٍ ثمينةً وحاسمةً في حياة المرء، بالرغم من أن الانطباع عنها لم يكُن كذلك في حينها. كانت هناك تقلبات كثيرة في علاقتي ﺑ «مس كنتون»، وكنتُ أتصوَّر أن هناك عددًا لا أول له ولا آخر من الفرص لعلاج آثار سوء الفهم هذا أو غيره، لكنه لم يكُن هناك في ذلك الوقت ما يشير إلى أن تلك الأحداث البسيطة يمكن أن تجعل أحلامًا بكاملها عصيةً على التحقق أو الاستعادة. هل أصبحتُ أحاول استبطان مشاعري وأفكاري بشكل كئيب؟

لا شكَّ في أن هناك علاقةً لذلك بالساعة الأخيرة والطبيعة المرهقة للأحداث التي كان عليَّ أن أتحمَّلها في ذلك المساء. ولا شكَّ أيضًا في أن حالتي النفسية الحالية ليست مُنبتَّةَ الصلة بكوني سأصل غدًا إلى «ليتل كومتون» في وقت الغداء تقريبًا، وأنني سوف أرى «مس كنتون» بعد كل تلك السنوات، هذا طبعًا على افتراض أن «الجراج» المحلي سوف يُزوِّدني بالبترول اللازم للسيارة كما أكدَت لي أُسرة «تيلور». وليس هناك ما يجعلني أتصوَّر أن لقائي ﺑ «مس كنتون» لن يكون وُديًّا، بل إنني أتوقع له أن يكون مِهْنيًّا في طبيعته، بصرف النظر عن العبارات المتبادلة في مثل تلك المواقف. أقصد أنه سيكون من واجبي أن أحدِّد إن كانت «مس كنتون» لديها أيَّة رغبة في العودة إلى عملها القديم في «دارلنجتون هول»، خاصة وأن زواجها يبدو أنه قد فشل، وأنها الآن بدون بيت. وربما كان من الضروري أن أقول هنا أيضًا إنني بعد أن قرأتُ رسالتها مرةً أخرى، هذه الليلة، رحتُ أعيد قراءة فقرات بعينها. في أجزاء كثيرة كنتُ أرى تلميحًا واضحًا يدل على الحنين للمكان، وبخاصة في عبارات مثل: «كنتُ مفتونةً بذلك المنظر الذي أراه من غرف النوم في الطابق الثاني عندما أطل على المساحة الخضراء والسهول المترامية.»

لكنْ، مرةً أخرى، ما هو الهدف من التفكير بلا نهاية فيما إذا كانت راغبةً في العودة في الوقت الحالي أم لا، بينما يمكنني أن أعرف ذلك منها شخصيًّا في الغد؟ يبدو أنني شطحتُ بعيدًا عن حكايتي … شطحتُ بعيدًا عمَّا حدث هذا المساء.

الساعات الأخيرة، ودعني أقول ذلك، كانت شديدةَ الإرهاق. كنتُ أتصوَّر أن اضطراري لترك السيارة على تلٍّ منعزل، والسَّير حتى هذه القرية الصغيرة في جوٍّ مظلم تقريبًا وفي طريق وعرة؛ كنتُ أتصوَّر أن ذلك كله يكفي لإزعاجي هذا المساء، ولا أعتقد أن مضيفيَّ الكريمَين، «مستر تيلور» وزوجته، تعمَّدَا أن يُعرِّضاني لما تعرَّضتُ له. بمجرَّد أن جلستُ معهما على طاولة العشاء، وبمجرَّد أن جاء بعض الجيران، توالت بعض الأحداث المزعجة.

الغرفة الموجودة بالطابق الأرضي في واجهة المنزل، تفي بمتطلبات «مستر ومسز تيلور» كغرفة طعام وغرفة معيشة في الوقت نفسه. وهي مريحة، تشغل مساحةً كبيرةً منها طاولة خشنة المظهر مثل تلك التي قد تجدها في مطبخ منزل ريفي، سطح الطاولة ليس عليه طلاء وليس مستويًا وتظهر عليه آثار استخدام سواطير وسكاكين. كانت تلك الآثار واضحةً جدًّا بالرغم من أننا كنَّا جالسين في ضوء أصفر شحيح ينبعث من مصباح زيتي فوق رفٍّ في إحدى الزوايا.

قال «مستر تيلور» وهو يومئ برأسه نحو المصباح: «كأنه لا توجَد كهرباء هنا يا سيدي! الحقيقة أن هناك عُطلًا في التوصيلات، وهكذا نحن بلا كهرباء منذ شهرين تقريبًا. ولا أكتمك الحقيقة إذا قلتُ لكَ إننا لا نفتقدها كثيرًا. يوجَد في القرية منازل لم تعرف الكهرباء بالمرة. على أيَّة حالٍ الزيت يُعطي ضوءًا أكثر دفئًا.»

قدَّمَت لنا «مسز تيلور» حساءً طيِّبًا تناولناه مع الخبز المُقمَّر، وحتى ذلك الحين لم يكُن هناك ما يوحي بأن المساء يحمل لي شيئًا مزعجًا، بعد ساعة أو بعض ساعة من الحديث الممتع قبل الذهاب للنوم، إلا أنه بمجرَّد أن انتهَينا من عشائنا، وبينما كانت «مسز تيلور» تصبُّ لي كأسًا من الجعة المحلية، سمعنا وقْع أقدام على الحصباء المفروشة في الخارج.

توجَّستُ من ذلك الصوت الذي كان يقترب في الظلام من هذا المنزل الريفي المنعزل، لكنْ لا مضيفي ولا زوجته كان يبدو عليهما أيَّة رهبة أو خوف من أيِّ نوع. كل ما حدث هو أن «مستر تيلور»، وبدافع من الفضول، كان يبدو في صوته، قال: «مرحبًا! مَن يكون القادم الآن؟» قال ذلك لنفسه تقريبًا، ولكننا سمعنا صوتًا في الخارج وكأنه يردُّ عليه: «أنا «جورج آندروز»، وكنتُ مارًّا من هنا بالمصادفة.»

بعد لحظة كانت «مسز تيلور» تفتح الباب وتُقدِّم إلينا شخصًا قوي البنية، في الخمسينيات تقريبًا، توحي ثيابه بأنه كان قد أمضى اليوم في عمل في الحقول. وبأُلفة توحي بأنه زائر منتظم للمكان، جلس على دكة صغيرة في المدخل، وخلع حذاءه ذا الرقبة الطويلة — بعد أن بذل جهدًا في ذلك — بينما كان يتبادل بعض الكلمات مع «مسز تيلور»، ثم تقدَّم نحو الطاولة، ووقف أمامي في وضع الانتباه، وكأنه يُقدِّم تقريرًا لضابط في الجيش.

قال: «اسمي «آندروز» يا سيدي. طاب مساؤك. يؤسفني ما سمعتُ عن الحادث الأليم الذي وقع لك، وأتمنَّى ألَّا يضايقكَ أن تقضي ليلتك هنا في «موسكومبي».»

انتابَتني الحيرة قليلًا. كيف عرف هذا «المستر آندروز» بالحادث الأليم الذي وقع لي كما يقول؟! على أيَّة حالٍ قلتُ مبتسمًا إنني أشعر بالامتنان الكبير لما ألقاه من كرم ضيافة، بصرف النظر عن كوني متضايقًا أم لا لقضاء الليلة هنا. كنتُ أشير بالطبع إلى عطف ورعاية «مستر ومسز تيلور»، ولكن مستر «آندروز» كان يشعر بأنه مشمول بذلك الامتنان، فقال على الفور مُدعمًا قوله بحركة من يدَيه القويتين: «لا … لا يا سيدي! على الرُّحب والسَّعة، يسرُّنا أن نستضيفك، حيث لا يجيء إلى هنا كثيرون مثلك، نحن سعداء جدًّا بتوقفك عندنا.» كانت الطريقة التي قال بها ذلك تدل على أن القرية كلها كانت على علم بذلك الحادث الأليم، وبوصولي إلى ذلك المنزل الريفي. والحقيقة أن الأمر كان هكذا تقريبًا، كما اتضح لي، وأستطيع أن أتصوَّر أنني في خلال الدقائق التي تلَت اصطحابي إلى غرفة النوم، حيث كنتُ أغسل يديَّ، وأحاول إصلاح التلف الذي أصاب سُترتي وثنيات البنطلون، أستطيع أن أتصوَّر أن يكون «مستر ومسز تيلور» قد نقلا أخباري إلى كل المارَّة. على أيَّة حالٍ فإن الدقائق التالية لذلك شهدَت وصول زائر آخر. كان رجلًا يشبه «مستر آندروز» في مظهره؛ أيْ إنه كان عريض المَنكِبَين ويبدو أنه يعمل بالزراعة. كان يلبس حذاءً طويل الرقبة عليه آثار الوحل، وتَقدَّم ليخلعه بنفس الطريقة التي خلع بها «مستر آندروز» حذاءه. كان التشابه بينهما في الواقع كبيرًا لدرجة أنني تصوَّرتُهما شقيقَين، إلى أن قدَّم الرجل نفسه إليَّ قائلًا: «مورجان يا سيدي … تريفور مورجان.»

عبَّر «مستر مورجان» عن أسفه الشديد لسوء حظي، مؤكِّدًا أن كل شيء سيكون على ما يُرام في الصباح، قال ذلك قبل أن يُعبِّر عن مدى الترحيب بي في القرية.

كنتُ قد استمعتُ بالطبع قبل لحظات إلى مشاعر طيِّبة مماثلة، ولكن «مستر مورجان» قال: «إنه من دواعي الفخر أن نستقبل أمثالك من السادة المحترمين هنا في «موسكومبي» يا سيدي.» وقبل أن أجد الفرصة للردِّ على ذلك سمعنا أصوات أقدام أخرى على الممرِّ خارج المنزل. وفي الحال دخل رجل وامرأة في منتصف العمر، قدموهم إليَّ: «مستر ومسز هاري سميث.» لا يبدو أنهما يعملان بالزراعة؛ السيدة ضخمة الحجم، شديدة الوقار، ذكَّرَتني ﺑ «مسز مورتيمر» الطباخة في «دارلنجتون هول» في العشرينيات والثلاثينيات. أمَّا «مستر هاري» فكان — على العكس — رجلًا ضئيل الحجم، حادَّ الملامح مُقطَّب الجبين. عندما اتخذَا مكانَيهما حول الطاولة قال: «لا بدَّ من أن تكون سيارتك هي تلك «الفورد» الفاخرة الموجودة هناك فوق «ثورنلي بوش هل» يا سيدي!»

قلت: «هذا إذا كان ذلك هو طريق التلِّ الذي يُطلُّ على القرية، ولكنني مندهش! كيف رأيتها؟»

«لم أرَها بنفسي يا سيدي، لكن «ديفي ثورنتون» مرَّ بها بينما كان يقود الجرَّار، منذ وقت قصير، وهو عائد إلى منزله. استغرب وجودها واقفةً هناك، أوقف الجرَّار ونزل ليراها.» ثم استدار مُوجِّهًا كلامه للآخرين حول الطاولة: «سيارة رائعة!» وقال إنه لم يرَ مثلها في حياته. لقد بزَّت السيارة التي كان يركبها «مستر لندساي» … مَسَحَتها!

أحدثَت كلماتُه ضحكًا حول الطاولة، وشرح «مستر تيلور» ذلك قائلًا: «مستر لندساي هو أحد السادة الذين اعتادوا السُّكنى في القصر الكبير القريب من هنا يا سيدي، لكنه أتى فعلتَين غريبتَين، ولم يرُق ذلك لأحد هنا.» أحدثت كلماته همهمةً بين الجالسين تدل على الموافقة على ما قاله، ثم قال آخر وهو يرفع كأس الجمعة التي انتهَت «مسز تيلور» من صبِّها: «في صحتك يا سيدي!»

وفي لحظات كان الجميع يشربون نخبي!

ابتسمتُ قائلًا: «إنه لَشرفٌ لي أنا … كل الشرف بالفعل!» قال مستر سميث: «هذا تواضع كبير منكَ يا سيدي، وهكذا دائمًا السادة الحقيقيون.» لكن ذلك «المستر سميث» لم يكُن «جنتلمان». ربما كان لديه أموال كثيرة، لكنه لم يكُن «جنتلمان» أبدًا.

ومرةً أخرى كان هناك إجماع على قوله. بعد ذلك همسَت «مسز تيلور» بشيء في أُذن «مستر سميث»، جعلَته يقول: «قال إنه يريد أن يذهب بأسرع ما يستطيع.» فالتفت كلاهما نحوي بثقة لتقول «مسز سميث»: «لقد أخبرنا الدكتور «كارلسلي» بوجودك يا سيدي. الدكتور سيكون سعيدًا بالتعارف بينكما.» ثم أضافت «مسز تيلور» معتذرة: «أعتقد أن لديه بعض المرضى الذين يجب فحصُهم، ربما لا نستطيع أن نؤكد أنه سيجيء قبل أن تذهب للنوم يا سيدي!» وعندئذٍ انحنى الرجل الضئيل ذو الجبين المُقطَّب — مستر سميث — ليقول: «ذلك المستر لندساي كل تقديراته خاطئة، أترون الطريقة التي يتصرف بها؟ فهو يتصوَّر أنه أفضل منَّا جميعًا، وخدعنا كلنا. لكنني أقول يا سيدي إنه أدرك العكس بسرعة شديدة. كثير من التفكير العميق والنقاش الجادِّ يدور في هذا المكان. هنا كثير من الآراء الجريئة في المنطقة، والناس لا يخشون التعبير عنها، وهذا أمر فهمه «مستر لندساي» بسرعة.»

قال «مستر تيلور» بهدوء: «لم يكُن جنتلمان أبدًا، لم يكُن جنتلمان ذلك المستر لندساي.»

وقال مستر «هاري سميث»: «هذا صحيح يا سيدي، مجرَّد أن تراقبه تكتشف أنه ليس «جنتلمان»، لكنك قد عرفتَ وتأكدتَ من ذلك.» كانت هناك همهمة تدل على الموافقة، وللحظةٍ بدَا على الجميع أنهم يفكرون في أن يكشفوا لي حكاية تلك الشخصية المحلية، ثم كسر «مستر تيلور» الصمت بقوله: «إن ما يقوله «مستر تيلور» صحيح، يمكنك تمييز «الجنتلمان» الحقيقي من الزائف الذي يرتدي الملابس الفاخرة … ولا أكثر … أنتَ على سبيل المثال يا سيدي؛ إنها ليست تفصيلة ثيابك، ولا طريقتك الممتازة في الكلام. هناك شيء آخر يدل على أنكَ «جنتلمان». صحيحٌ أن من الصعب تحديده، لكنه واضح لكل ذي عينَين.»

وكان لهذا الكلام صدًى إيجابي لدى الجالسين. قالت «مسز تيلور»: «إن الدكتور «كارلسلي» لن يتأخر طويلًا يا سيدي، وسيكون من الممتع أن تتحدث معه.» وقال «مستر تيلور»: «دكتور كارلسلي أيضًا يمتلك ذلك الشيء، فهو جنتلمان حقيقي.» أمَّا مستر «مورجان» الذي لم يتكلم كثيرًا منذ مجيئه، فانحنى إلى الأمام، وقال: «تُرى ماذا يمكن أن يكون ذلك الشيء يا سيدي؟ ربما كان بمقدور الشخص الذي يملكه أن يقول لنا ما هو. وها نحن أولاء هنا نتحدث عمَّن يملكه ومَن لا يملكه، ولا أحد منَّا يعرف كُنهه بالتحديد. ربما كان في استطاعتك أن تنيرنا في هذا الموضوع.»

ثم ساد الصمت حول الطاولة، ورأيتُ جميع الوجوه مُتجهةً صوبي. سعلتُ وقلت: «من الصعب أن أحدِّد صفاتٍ قد تكون لديَّ، وقد لا تكون، وبقدْر ما يُعبِّر عنه هذا الموضوع، فإن المرء يمكنه أن يتصوَّر أن الصفة التي تشيرون إليها يمكن أن تُسمَّى «الكرامة».»

لم أجد مُبرِّرًا كافيًا للاستفاضة في شرح ذلك بالتفصيل. والحقيقة أنني عبَّرتُ عمَّا كان يدور بذهني من أفكار وأنا أستمع إلى الحديث السابق، وأشكُّ في أنني كان من الممكن أن أقول شيئًا كهذا لو لم يتطلب الموقف ذلك، ولكن ردِّي عليه أحدث كثيرًا من الرضا على أيَّة حال.

هز مستر «آندروز» رأسه قائلًا: «هناك قدْر كبير من الصدق فيما تقول يا سيدي.» ووافق على هذا الرأي عددٌ من الأصوات الأخرى.

قال مستر تيلور: «من المؤكَّد أن «المستر لندساي» ذلك، كان يمكن أن يُحقِّق قدْرًا أكبر من الكرامة. المشكلة مع هذا النوع من الناس أنهم يتصوَّرون خطأً أن الكرامة تعني الاستعلاء والقوة.» وتدخَّل «مستر سميث»: «انتبه يا سيدي، مع الاحترام والتقدير لما تقول، إلا أن الكرامة ليست شيئًا موجودًا في «الجنتلمان». الكرامة شيء يمكن أن يكافح أيُّ شخص في هذا البلد، رجلًا كان أم امرأة، من أجل تحقيقه. عفوًا يا سيدي! لكن كما سبق أن قلت، نحن هنا لا نعظ عندما نكون في مقام التعبير عن الرأي. وهذا رأي في قيمة الكرامة. الكرامة ليست مجرَّد شيء بالنسبة للجنتلمان.»

لاحظتُ بالطبع أنني و«مستر هاري سميث» كنَّا على طرفَي نقيض في هذا الموضوع، وأن الأمر سيكون في غاية الصعوبة بالنسبة لي لكي أوضح لهم ما أقصده؛ لذا رأيتُ أن أفضل شيء هو أن أبتسم وأقول: «بالطبع! أنتم مُحِقُّون.»

وكان لذلك أثره السريع في تبديد التوتر البسيط الذي خيَّم على جوِّ الغرفة، بينما كان «مستر هاري سميث» يتكلم، حتى إن «مستر هاري سميث» بدَا وكأنه قد تحرَّر من كل الكوابح النفسية، فاتكأ إلى الأمام وواصل كلامه: «هذا ما حاربنا «هتلر» من أجله. لو أن «هتلر» استطاع أن يُحقِّق ما يريد لكنَّا اليوم عبيدًا. كان العالم كله سيصبح قِلةً من السادة وملايين الملايين من العبيد، وأنا لا أودُّ أن أُذكِّر أحدًا هنا بأن الكرامة لا يمكن أن تتحقَّق إذا كان المرء عبدًا. هذا ما حاربنا من أجله، وهذا ما ربحناه. ربحنا حقَّ أن نكون مواطنين أحرارًا. وهذه إحدى مميزات أن تُولَد إنجليزيًّا. لا يُهمُّ مَن تكون، ليس مُهمًّا أن تكون غنيًّا أو فقيرًا، فأنتَ قد وُلدتَ حُرًّا، وُلدتَ قادرًا على التعبير عن رأيك بحرية، وتعطي صوتك لمَن يمتلك في البرلمان أو تمنعه عنه. هذا هو موضوع الكرامة بالفعل، إن سمحتَ لي يا سيدي.»

قال «مستر تيلور»: «الآن … الآن أرى أنكَ قد سخنتَ يا «هاري» ووصلتَ إلى حدِّ خطابتك السياسية.»

وأحدث ذلك موجةً من الضحك. ابتسم «مستر هاري سميث» بخجل ثم استمرَّ في كلامه: «أنا لا أتكلم في السياسة. أنا أقول رأيي فقط، وهذا هو كل شيء. لن يكون لك كرامةٌ إذا كنتَ عبدًا، ولكن أي إنجليزي بإمكانه امتلاكها إن كان حريصًا على ذلك، فنحن قد حاربنا من أجل ذلك الحق.»

وقالت زوجته: «قد يبدو ذلك مثل المكان الصغير البعيد عن الطريق الذي نمتلكه هنا يا سيدي، لكننا أعطينا أكثر من نصيبنا أثناء الحرب.»

ساد الجوَّ بعضُ كآبة بعد أن قالت ذلك، إلى أن قال «مستر تيلور» أخيرًا: «هاري معنا هنا، وهو يقوم بأعمال تنظيمية كثيرة من أجل نائبنا المحلي. أعطِه فرصة، وسوف يقول لكَ عن كل ما هو خطأ في أسلوب إدارة هذا البلد.»

«نعم! لكنني كنتُ أتكلم عمَّا هو صواب في هذا البلد هذه المرة!»

وسألني «مستر آندروز»: «هل لك اهتمام كبير بالسياسة يا سيدي؟» قلت: «ليس بشكل مباشر، وليس في هذه الأيام بالتحديد، ربما كان اهتمامي بالسياسة أكبر من ذلك قبل الحرب.»

«أعتقد أنني أتذكَّر شخصًا باسم «مستر ستيفنس»، كان عضوًا في البرلمان منذ عام أو عامَين. سمعتُه مرةً أو مرتَين يتحدث في الراديو. كان يقول أشياء معقولةً جدًّا عن الإسكان. ألستَ ذلك الرجل يا سيدي؟

قلتُ ضاحكًا: «لا!»

لا أعرف السبب الذي جعلني أنطق بالعبارة التالية بعد ذلك، كل ما أستطيع أن أقوله هو أنها كانت تبدو ضروريةً في الظروف التي وجدتُ نفسي فيها؛ لأنني قلت: «الحقيقة أنني كنتُ أكثر مَيلًا للاهتمام بالشئون الدولية من المحلية؛ أعني السياسة الخارجية.» وفُوجِئتُ بأثر ما قُلتُ على المستمعين، هبط عليهم شيءٌ من الخوف، راعَهم كلامي، فقلتُ بسرعة: «أودُّ أن ألفت انتباهكم إلى أنني لم أشغل منصبًا رفيعًا في حياتي مطلقًا. أيُّ نفوذ مارسته كان بشكل غير رسمي تمامًا.» لكن الصمت ظلَّ مُخيِّمًا عِدَّة دقائق أخرى.

وأخيرًا قال «مستر تيلور»: «عفوًا يا سيدي! هل حدث أن قابلتَ مستر تشرشل؟»

– مستر تشرشل؟ لقد جاء بالفعل إلى القصر في عِدَّة مناسبات، لكنْ لكي أكون صريحًا معك يا «مستر تيلور»؛ فإن «مستر تشرشل» لم يكُن شخصيةً مُهمةً في الوقت الذي كنتُ أنا مشغولًا فيه بشئون كبرى، ولم يكُن مُتوقَّعًا له أن يصبح كذلك. أمثال مستر «إيدن» و«مستر هاليفاكس» كانوا من أكثر الزائرين تردُّدًا علينا في تلك الأيام.

– لكنْ هل التقيتَ بمستر تشرشل يا سيدي؟ إنه لَشرفٌ عظيمٌ أن تقول ذلك!

قال مستر «هاري سميث»: «أنا لا أوافق على كثير مما يقوله مستر تشرشل، لكن الذي لا شكَّ فيه هو أنه رجل عظيم. ومن المُهمِّ جدًّا أن تناقش أمورًا مع شخص مثله.»

قلت: «حَسَنٌ! لكنْ لا بدَّ من أن أكرِّر أنه لم يكُن بيني، وبين «مستر تشرشل» أمور كثيرة، لكن ما قلته صحيح، شيء رائع أن يعرفه المرء.» وأنا كنتُ محظوظًا لأنني عرفتُ عددًا آخر من الزعماء والرجال ذوي النفوذ في أمريكا وأوروبا، وليس «مستر تشرشل» فقط. وعندما تعتقدون أنني كنتُ محظوظًا باستماعي إلى آرائهم في كثير من قضايا الساعة، فأنتم مُحِقُّون. وأنا أشعر بالامتنان العظيم عندما أتذكر ذلك. إنها ميزة كبيرة، على أيَّة حالٍ، أن يكون قد أسند إليَّ دَور، ولو بسيط، على المسرح العالمي.»

قال «مستر آندروز»: «عفوًا يا سيدي: أريد أن أسأل، ولكنْ كيف كان «مستر إيدن»؟ أيُّ نوع من البشر هو؟ أقصد طبعًا على المستوى الشخصي. كنتُ أراه دائمًا شخصًا ممتازًا، من النوع الذي يمكن أن يتحدث مع أيِّ واحد، صغيرًا كان أم كبيرًا، غنيًّا أم فقيرًا … هل أنا مُحقٌّ يا سيدي؟»

«يمكنني أن أقول إنها صورة دقيقة تمامًا، لكنني بالطبع لم أرَ «مستر إيدن» في السنوات الأخيرة، وربما يكون قد تغيَّر نتيجةً للضغوط. أحد الأشياء التي خبرتُها هي أن الحياة العامة يمكن أن تُغيِّر الناس إلى حدٍّ كبير في سنوات قليلة.»

قال «مستر آندروز»: «أنا لا أشكُّ في ذلك يا سيدي، حتي «هاري» الموجود هنا. لقد تورَّط في السياسة منذ سنوات قليلة، ولم يعد نفس الرجل بعدها.»

ومرةً أخرى كان هناك ضحك، بينما هُنَّ «مستر هاري» كتفَيه وترك ابتسامةً خفيفةً تعبُر وجهه. ثم قال: «صحيح أنني قد أسهمتُ بالكثير في حملة الدعاية، لكن ذلك كان على المستوى المحلي، وأنا لا ألتقي أبدًا بأحد من الكبار من أمثال معارفك، وأنا من جانبي أعتقد أنني أقوم بدَوري يا سيدي، فأنا أرى المسألة على النحو التالي: إنجلترا دولة ديمقراطية، ونحن في هذه القرية قد عانينا الكثير مثل الآخرين لكي تظلَّ هكذا. والأمر الآن في أيدينا لكي نمارس حقوقنا؛ كل واحد منَّا. البعض من خيرة شباب هذه القرية دفع حياته ثمنًا لكي يُحقِّق لنا هذه الميزة، ولذلك أرى الآن أن كلًّا منَّا مَدين لهم لأننا نقوم بدَورنا بنجاح. لدينا جميعًا آراء مُهمَّة هنا، ومسئوليتنا أن نجعلها مسموعة. نحن بعيدون فعلًا، حَسَنٌ! قرية صغيرة. لا أحد منَّا يصغر في السن، ومع ذلك فإن حجم القرية يتقلص. أمَّا وجهة النظر هذه فأنا مدين بها لمَن فقدناهم من شباب هذه القرية. لذلك يا سيدي فأنا أُكرِّس الكثير من وقتي لكي تكون أصواتنا مسموعةً في الدوائر العُليا. ولو غيَّرني ذلك أو أودَى بحياتي باكرًا، فلا يُهم.

قال «مستر تيلور» مبتسمًا: «لقد حذرتُك يا سيدي. كان من المستحيل أن يترك «هاري» فرصة مرور شخص مُهم مثلك بهذه القرية دون أن يُسمعه خُطبته العصماء.»

ساد الضحك مرةً أخرى، ولكنني قلتُ على الفور: «أعتقد أنني أفهم موقفك جيدًا يا «مستر سميث»، وأتفهَّم رغبتك في أن يصبح العالم مكانًا أفضل، وأن يكون لك، ولزملائك المواطنين هنا، فرصةٌ للإسهام في صنع عالم أجمل، وهي مشاعر جديرة بالتقدير. وأستطيع أن أقول إن هذا الدافع نفسه هو الذي جعلني أهتمُّ بالقضايا الكبرى قبل الحرب. كان السلام العالمي مثلما هو الآن، يبدو شيئًا بعيد المنال. وقد حاولتُ أن أقوم بدَوري.»

قال «مستر هاري سميث»: «عفوًا يا سيدي! لكن وجهة نظري كانت مختلفةً قليلًا. بالنسبة لأمثالك كان الأمر دائمًا سهلًا لممارسة نفوذك، فأنتَ مثل أصدقائك، تُعتبر الأقوى في هذه البلاد، لكن أمثالنا هنا يا سيدي يمكن أن يقضوا السنوات تِلوَ السنوات دون أن يرَوا «جنتلمان» حقيقيًّا، ربما باستثناء الدكتور «كارلسلي». هو طبيبٌ من الطراز الأول، ولكن مع احترامي الشديد له، ليس له صلات ولا علاقات مُهمَّة. من السهل جدًّا علينا هنا أن ننسى مسئوليتنا كمواطنين، لذا فإنني أعمل بكل جدية في الحملة الدعائية. وسواء أوافَق الناس أو لم يوافقوا، وأعرف أنه لا يوجَد أحد ممَّن في هذه الغرفة الآن موافِق على كل ما أقول، ولكنني على الأقلِّ أجعلهم يفكرون. أنا على الأقلِّ أُذكِّرهم بواجبهم. هذا الذي نعيش فيه بلد ديمقراطي، لقد حاربنا من أجل ذلك، وعلينا جميعًا أن نقوم بدَورنا».

قالت «مسز سميث»: «أنا أتساءل؛ ماذا كان يمكن أن يحدث للدكتور «كارلسلي»؟ أعتقد أن سيادته كان لا بدَّ من أن يشارك بحديث مثقف!» وضحك الجميع مرةً أخرى.

قلت: الحقيقة أنه بالرغم من متعة التقائي بكم جميعًا، لا بدَّ من أن أعترف بأنني بدأتُ أشعر بالإرهاق الشديد.

قالت «مسز تيلور»: «بالتأكيد يا سيدي … لا بدَّ، من المؤكَّد، أنكَ مُرهَق، ويبدو من الضروري أن أُحضر بطانية أخرى لكَ، فالوقت يزداد برودةً ليلًا.»

«لا داعي يا «مسز تيلور» … شكرًا … كل شيء سيكون مُريحًا.» وقبل أن أقوم من مكاني قال «مستر مورجان»: «أتساءل يا سيدي إن كنتَ قد التقيتَ ذات يوم بشخص اسمه «ليزلي ماندريك»، نحب أن نستمع دائمًا إلى أحاديثه الإذاعية.»

قلتُ إنني لم أقابله، وكنتُ على وشك القيام بمحاولة أخرى للانسحاب، لكنني وجدتُ نفسي مُحاصَرًا بتساؤلات أخرى عن أشخاص كثيرين قد أكون قابلتُهم. وكنتُ لا أزال جالسًا على الطاولة عندما قالت «مسز تيلور»: «آه … هناك شخصٌ ما قادم! أعتقد أن الطبيب قد وصل أخيرًا.»

قلت: «الحقيقة أنني لا بدَّ من أن أقوم؛ فأنا في غاية التعب.»

قالت «مسز سميث»: «لكنني متأكدة أنه الطبيب … انتظر قليلًا يا سيدي.» وبمجرَّد أن قالت ذلك سمعنا طرقةً على الباب وصوتًا يقول: «أنا يا مسز تيلور!»

الرجل الذي دخل علينا كان في مُقتبَل العمر — ربما في الأربعين مثلًا — طويل القامة، نحيلًا، فارع الطول لدرجة أنه اضطرَّ للانحناء لكي يدخل من الباب. وبمجرَّد أن ألقى التحية «مساء الخير جميعًا»، قالت «مسز تيلور»: «هو ضيفنا الكريم يا دكتور، تعطلت سيارتُه على تلِّ «ثورنلي بوش»، ونتيجةً لذلك كان عليه أن يتحمَّل خُطَب هاري.» تقدَّم الطبيب إلى الطاولة ومدَّ يده ليصافحني، وبينما أنا واقفٌ قال: «ريتشارد كارلسلي، ما حدث لسيارتك هو سوء حظٍّ بالتأكيد يا سيدي، لكنني أثق أنكَ تلقى هنا كل رعاية، اهتمام جيد فيما أظن!»

«شكرًا جزيلًا! الحقيقة أنهم كلهم هنا في غاية الكرم واللطف.»

«شيء جميل أن تكون معنا …» وجلس الدكتور «كارلسلي» في مواجهتي على الطاولة: «من أيِّ منطقة من البلاد أنتَ يا سيدي؟»

قلت: «من أوكسفورد شاير.» وكان من الصعب عليَّ بالطبع ألَّا أردف العبارة بكلمة «يا سيدي».

«ذلك جزء جميل جدًّا من البلاد. لي عمٌّ يعيش خارج أوكسفورد، وهو مكان رائع!»

قالت «مسز سميث»: «الجنتلمان كان يحكي لنا يا دكتور أنه يعرف مستر تشرشل.»

«حقًّا؟ كنتُ أعرف واحدًا من أبناء إخوته، ولكن صلتنا انقطعَت. بَيْدَ أنني لم أحظَ بلقاء ذلك الرجل العظيم.» ثم واصلَت «مسز سميث» كلامها: وليس «مستر تشرشل» فقط، إنه يعرف «مستر إيدن» و«لورد هاليفاكس».

«حقًّا؟»

لاحظتُ أن عينَي الطبيب تتفحصانني جيدًا، وكنتُ على وشك أن أقول شيئًا ملائمًا، وقبل أن أنطق قال مستر «آندروز» للطبيب: «الجنتلمان كان يحكي لنا الآن أنه كانت له صلة قوية بالشئون الخارجية في زمنه.»

«حقًّا؟»

بدَا لي أن الدكتور «كارلسلي» كان يمعن النظر إليَّ لفترات طويلة، ثم استعاد مرحه ليقول: «أنتَ في جولة للفسحة؟»

– نعم! هذا هو السبب الأساسي، وضحكت.

– توجَد هنا مناظر كثيرة جميلة، لكنْ بالمناسبة يا «مستراندروز» … أنا آسف لأنني لم أُعِد المِنشار إليك!

– لا داعي للعجلة يا دكتور.

انتقل التركيز من عليَّ إلى أشياء أخرى لفترة، واستطعتُ أن أبقى صامتًا، ثم انتهزتُ ما بدَا لي لحظةً مواتية، وقمتُ من مكاني وأنا أقول: أستأذنكم، كان مساءً جميلًا بالفعل، إلا أنني لا بدَّ من أن أذهب للنوم.

قالت «مسز سميث»: «من أسفٍ أن تتركنا وتذهب للنوم، فالدكتور قد وصل لتوِّه، ولم تجلس معه طويلًا.»

مال «مستر هاري سميث» عبر زوجته، وقال للدكتور «كارلسلي»: «كنتُ أتمنَّى أن أسمع رأي «الجنتلمان» في أفكارك عن الإمبراطورية يا دكتور.» ثم التفت نحوي قائلًا: «طبيبنا مع استقلال الدول الصغيرة، وأنا ليس لديَّ علمٌ كافٍ لكي أُثبِت له خطأ ذلك رغم معرفتي أنه خطأ. ويُهِمُّني جدًّا أن أسمع رأي أمثال سيادتكم في هذا الموضوع.

ومرةً أخرى كان الدكتور «كارلسلي» يُحدق فيَّ ويتأملني، ثم قال: «للأسف! لا بدَّ من أن ندَعَ الجنتلمان يخلد إلى النوم، فقد كان يومه مُرهِقًا على ما أعتقد». وبابتسامةٍ صغيرة أخرى بدأتُ أشقُّ طريقي حول الطاولة، وأربكني أن أجدهم جميعًا قد وقفوا بمَن فيهم الدكتور «كارلسلي». قلتُ مبتسمًا: «شكرًا لكم جميعًا، لقد استمتعتُ بعشاء طيِّب يا «مسز تيلور». تصبحون على خير جميعًا!» ردُّوا كلهم في صوت واحد: «تصبح على خير.»

قبل أن أبرح الغرفة استوقفني صوتُ الدكتور عند الباب. قال عندما التفتُّ إليه: «أقول: غدًا، صباحًا، عندي موعد لزيارة مريض في «ستانبري»، ويسرُّني أن أقوم بتوصيلك إلى مكان سيارتك وأوفر عليك المشوار. كما يمكننا أن نأخذ صفيحة بترول من محطة «تيدهاردكير» في طريقنا.»

– هذا لطفٌ كبيرٌ منكَ يا سيدي، ولكنني لا أريد أن أزعجك.

– ليس هناك إزعاج على الإطلاق. هل السابعة والنصف موعدٌ مناسبٌ لك؟

– هذا سيكون مناسبًا جدًّا في الحقيقة.

«اتفقنا! السابعة والنصف. وأنتِ يا «مسز تيلور» تأكدي أن ضيفك سيكون قد استيقظ، وتناول إفطاره، واستعدَّ في السابعة والنصف.» ثم عاد إليَّ ليقول: «ثم إننا يمكننا أن نتكلم بعد ذلك، بالرغم من أن «هاري» كان يتمنَّى أن يشهد هزيمتي!»

ضحكنا كلنا، ومرةً أخرى تبادلنا «تصبح على خير» قبل أن يتركوني في النهاية أصعد إلى ملاذي في هذه الغرفة.

أعتقد أنني لا بدَّ من أن أؤكد مدى شعوري بعدم الارتياح هذه الليلة بسبب سوء فهم شخصيتي. كل ما أستطيع أن أقوله الآن — وبكل أمانة — إنني لا أعرف كيف كان يمكن أن أمنع تطوُّر الأمر على النحو الذي حدث، لأنني عندما تنبَّهتُ لم أكُن لأستطيع أن أطلعهم على الحقيقة دون إحداث كثير من الحرج للجميع. على أيَّة حالٍ بالرغم من كل ما حدث — وهو مؤسفٌ بلا شك — إلا أنني أرى أنه لم يحدث ضرر حقيقي. فأنا سأودِّع أولئك الناس غدًا في الصباح، وربما لن نلتقي بعد ذلك أبدًا، وليس ثمة داعٍ للتفكير طويلًا في هذا الموضوع.

وبصرف النظر عن سوء الفهم الذي حدث، إلا أن هناك جانبًا أو جانبين يجدر التفكير بهما، ولو لدقائق، وربما لأنهما قد يشغلانني في الأيام القادمة؛ هناك مثلًا رأي «مستر هاري سميث» في موضوع «الكرامة». هناك، بالقطع، في بعض أقواله ما يستحقُّ الاهتمام. ولا بدَّ طبعًا من القول إن «مستر سميث» كان يستخدم كلمة «الكرامة» بمعنًى مختلفٍ تمامًا عن فهمي لها. وحتى بفهمها على نفس المَحمل، إلا أن أقواله كانت شديدة المثالية، نظريةً جدًّا، ولا تستحقُّ الاحترام. هناك، بلا شك، بعض الحقيقة فيما يقول، ولكنْ في حدود؛ ففي بلاد مثل بلادنا ربما يكون من واجب الناس أن يفكروا في القضايا الكبرى ليُكوِّنوا رأيًا، ولكنْ لأن الحياة هكذا … كما هي.

فكيف يمكن أن نتوقع من الناس العاديين أن يُكوِّنوا آراءً مُهمَّةً في كل القضايا، كما يزعم، حالمًا، «مستر سميث»، بقوله إن القرويين هنا يفعلون ذلك؟ وليس فقط لأن ذلك غير واقعي، بل إنني أشكُّ في أن يكون ذلك رغبةً حقيقية! هناك حدود فعلية لما يمكن أن يعرفه ويدركه كثير من الناس العاديين، وليس من الحكمة أن نطلب من كلٍّ منهم أن يسهم بآراء مُهمَّة في قضايا البلاد الخلافية. ومن العبث على أيَّة حالٍ أن يحاول أحد تعريق كرامة المرء طبقًا لهذه الشروط. إلا أن هناك مثالًا يحضُرني، وأعتقد أنه يصوِّر بشكل جيد الحدود الحقيقية للصدق الذي يمكن أن يكون موجودًا في آراء «مستر هاري سميث». وهو مثالٌ من واقع تجربتي، ويرجع تقريبًا إلى عام ١٩٣٥م، قبل الحرب.

أذكر أنني كنتُ قد استُدعيتُ ذات ليلة، في وقت متأخر — كان ذلك بعد منتصف الليل — إلى غرفة الاستقبال حيث كان سيادة «اللورد» يحتفي بثلاثة من أصدقائه، وكانوا جالسين بعد العشاء. كنتُ بالطبع قد استُدعيتُ إلى غرفة الاستقبال عِدَّة مرات في تلك الليلة لتقديم المشروبات، ولاحظتُ في كل مرة أنهم كانوا منهمكين في حوار حول قضايا بالغة الأهمية. وعندما دخلتُ الغرفة في آخر مرة كفُّوا كلهم عن الكلام ونظروا إليَّ، حينذاك قال سيادته: «لحظة يا «ستيفنس» من فضلك … اقتربْ، «مستر سبنسر» يودُّ أن يتحدث معك.» بقي «مستر سبنسر» يُحدق فيَّ لحظة، دون أن يُغيِّر من جلسته المسترخية، ثم قال: «أيها الرجل الطيب، عندي سؤال لك؛ نحن نحتاج مساعدتك في أمرٍ كنَّا نتناقش فيه. قُل لي … هل تعتقد أن موقف الديون الخاصة بأمريكا سبب مُهم في تدنِّي مستوى التجارة الآن؟ أم تراه شيئًا لصرف الانتباه، وأن التخلي عن قاعدة الذهب هو لُبُّ المشكلة؟!»

كنتُ، بالطبع، قد فُوجئتُ بذلك إلى حدٍّ ما، ولكنْ سرعان ما استوعبتُ الموقف كما كان؛ أيْ إنني كنتُ في حيرة بسبب السؤال، وهذا أمر مُتوقَّع. وفي اللحظة التي مرَّت كي ألاحظ ذلك وأُعِد إجابةً مناسبة، ظهر عليَّ الارتباكُ لأنني رأيتُ جميع مَن في الغرفة يتبادلون ابتساماتٍ سعيدة.

قلت: «معذرةً يا سيدي، لا أستطيع أن أكون مفيدًا في هذا الشأن.» والآن كنتُ فوق الموقف. لكن السادة استمرُّوا في الضحك على نحوٍ غامض، وحينذاك قال «مستر سبنسر»: «لعلك تستطيع إذَن أن تساعدنا في أمر آخر. هل ترى أن مشكلة النقد في إنجلترا يمكن أن تتحسَّن أم تسوء أكثر لو عُقِدت اتفاقية سلاح بين الفرنسيين والبلشفيك؟»

«معذرةً يا سيدي! لا أستطيع أن أكون مفيدًا في هذا الشأن!»

قال «مستر سبنسر»: «يا إلهي! لا يمكنك أن تساعد في ذلك أيضًا؟»

وكان هناك المزيد من الضحك المكتوم قبل أن يقول سيادة «اللورد»: «حَسَنٌ يا ستيفنس! هذا هو كل شيء.»

قال «مستر سبنسر»: عفوًا يا دارلنجتون، عندي سؤال آخر لهذا الرجل الطيب؛ أنا في مسيس الحاجة لمساعدته لنا في موضوع يُؤرِّق معظمنا في الوقت الراهن، موضوع نعرف كلنا أنه مُهم وحاسم في رسم سياستنا الخارجية. ساعدنا يا عزيزي! ماذا كان «مستر لافال» يقصد فعلًا بحديثه الأخير عن الوضع في شمال أفريقيا؟ هل ترى أنتَ أيضًا أن ذلك ليس سوى خدعة أو كمين للآراء الوطنية المتطرفة في حزبه؟»

«معذرةً يا سيدي! لا أستطيع أن أكون مفيدًا في هذا الأمر.»

وهنا قال «مستر سبنسر» موجِّهًا كلامه للآخرين: «أرأيتُم أيها السادة؟ رجلنا لا يمكنه أن يساعدنا في هذه الأمور.»

وجلب ذلك مزيدًا من الضحك المُعلَن هذه المرة. ثم واصل «مستر سبنسر» كلامه: «ما زلنا مُصرِّين على أن قرارات هذه الدولة لا بدَّ من أن تُترك في أيدي أمثال هذا الرجل الطيِّب وغيره من الملايين. هل هناك أيُّ غرابة — ونحن مثقلون بنظامنا البرلماني الحالي — في أن نكون عاجزين عن إيجاد حل، أيِّ حل، لمشاكلنا الكبرى؟ لماذا لا تطالبون بأن تقوم لجنة من نقابة الأمهات بتنظيم حملة؟»

وهذه المرة كان الضحك كثيرًا على ملاحظته الأخيرة، وقال سيادة «اللورد» بصوت خافت: «شكرًا يا ستيفنس» فانصرفت. وبينما كان ذلك موقفًا غير مريح بالنسبة لي، إلا أنه كان أصعب موقف، أو لعله الأكثر غرابةً على مدى سنوات خدمتي. ولا بدَّ من أنكَ ستوافقني على أن أيَّ مِهْني محترف لا بدَّ من أن يتوقع أشياء كتلك في مسيرته.

وفي الصباح التالي كنتُ قد نسيتُ ذلك كله عندما جاء «لورد دارلنجتون» إلى غرفة البلياردو، وكنتُ واقفًا على السُّلَّم أنفض الغبار عن بعض الصور، قال: «كان شيئًا مروِّعًا يا ستيفنس؛ ذلك الامتحان الصعب الذي عرَّضناكَ له ليلة الأمس.»

توقفتُ عمَّا كنتُ أفعله وقلت: «لا … أبدًا يا سيدي! كان بوُدِّي أن أكون مفيدًا!»

– كان شيئًا مزعجًا. يبدو أننا كنا قد تناولنا عشاءً دسمًا أكثر من اللازم … أرجو أن تقبل اعتذاري.

– شكرًا جزيلًا يا سيدي، وأنا أؤكد لسيادتكَ أنني لم أنزعج على الإطلاق.

سار سيادته متثاقلًا وجلس على مقعد قريب وهو يتنهد. ومن مكاني على السُّلَّم كنتُ أرى هيئته بكاملها في ضوء شمس الشتاء المتدفق من النوافذ الكبيرة، والذي كان يخطط أرض الغرفة.

كانت تلك إحدى اللحظات التي بيَّنَت لي أثر ضغوط الحياة على سيادته في ظرف سنوات قليلة. قوامه الذي كان ممشوقًا ورشيقًا ضمر بدرجة مخيفة، وأصابته بعض تشوهات. رأسه اشتعل شيبًا قبل الأوان، وأصبح وجهه متجهمًا ومهزولًا. جلس فترةً يحدق من النوافذ الواسعة في اتجاه التلال، ثم قال: «كان شيئًا مرعبًا بالفعل. لكنْ كما رأيتَ يا «ستيفنس» فإن «مستر سبنسر» كان يريد أن يثبتَّ شيئًا ﻟ «سير ليونارد»، والحقيقة أن العزاء الوحيد هو أنكَ ساعدتَ في توضيح نقطة مُهمَّة جدًّا. كان «السير ليونارد» يتكلم كثيرًا عن ذلك الهراء القديم؛ وهو أن إرادة الشعب هي المحك … وهكذا! هل تُصدِّق ذلك يا ستيفنس؟»

– نعم يا سيدي.

– نحن هنا في هذا البلد نكتشف ببطء شديد جدًّا أن الأشياء قد أصبحَت قديمة. الدول العُظمى الأخرى تعرف أنها لكي تواجه التحديات الجديدة لا بدَّ لها من أن تنبذ القديم، وأحيانًا يكون في ذلك القديم أشياء محبوبة، ولكن هذا لا يحدث في بريطانيا. ما زال هناك كثيرون ممَّن يتكلمون مثل «سير ليونارد» بالأمس، ولذلك شعر «سير سبنسر» بضرورة توضيح وجهة نظره. وأنا أقول لك يا «ستيفنس» إننا إذا تركنا أمثال «سير ليونارد» يفيقون ويفكرون قليلًا، ستعرف أن الامتحان الذي عرَّضناكَ له ليلة الأمس لم يكُن هباءً، كما قلتُ لك.

– بالفعل يا سيدي!

تنهَّد «لورد دارلنجتون» مرةً أخرى: «نحن آخر الناس دائمًا يا «ستيفنس»! آخر مَن يظلون متعلقين بالنُّظم البالية، لكن عاجلًا أو آجلًا سيكون علينا أن نواجه الواقع. الديمقراطية شيء ينتمي لمرحلة ماضية، منقضية! العالم اليوم أصبح مكانًا معقَّدًا للاقتراع العام وما شابه ذلك، أعداد لا حصر لها في البرلمان يتجادلون من أجل تجميد الأشياء وإبقائها على ما هي عليه. كان ذلك منذ سنوات قليلة، لكن الآن … في عالم اليوم؟ ماذا قال «مستر سبنسر» ليلة أمس؟ لقد عبَّر عن ذلك جيدًا.»

– أعتقد يا سيدي أنه شبه النظام البرلماني الحالي بلجنة من نقابة الأمهات تحاول أن تنظم حملة!

– بالضبط يا «ستيفنس»؛ نحن في هذه البلاد متخلفون عن العصر، ولا بدَّ لكل مَن يتطلع للمستقبل من أن يفرض ذلك على أمثال «سير ليونارد».

– نعم يا سيدي!

– دعني أسألك يا «ستيفنس». نحن الآن في خضمِّ أزمة مستمرة. رأيتُ ذلك بعيني عندما ذهبتُ إلى الشمال مع «مستر ويتاكر». الناس يعانون؛ الناس العاديون، البسطاء يعانون بشدة. الألمان والإيطاليون رتَّبوا بيوتهم بالعمل، وكذلك «البلشفيك» التعساء رتبوها على طريقتهم الخاصة. أعتقد ذلك. حتى الرئيس «روزفلت»، انظر إليه … إنه لا يخشى اتخاذ بعض الخطوات الحاسمة نيابةً عن شعبه … لكن انظر إلينا هنا! عام يمرُّ وراء عام ولا شيء يتحسن. كل ما نفعله هو الجدل والنقاش. أيُّ فكرة جيدة تموت بتمريرها على لجان، والقلة المؤهلة لمعرفة ما ينبغي عملُه تصمت نتيجة كثرة كلام الجهلاء المحيطين بهم. ماذا تفهم من ذلك كله يا «ستيفنس»؟

– الدولة في حالة يُرثى لها يا سيدي!

– أقول … انظر إلى ألمانيا وإيطاليا يا «ستيفنس»، انظر ماذا يمكن أن تفعل القيادة القوية عندما يسمح لها بالعمل.

ليس لديهم ذلك الهراء المُسمَّى بالاقتراع العام. إذا شبَّ حريقٌ في منزلكَ فإنكَ لن تستدعي الموجودين لديك في غرفة الاستقبال لكي تناقشوا على مدى ساعة الخيارات المختلفة للهرب، أليس كذلك؟ قد يكون ذلك جيدًا في وقتٍ ما، لكن العالم أصبح مكانًا في غاية التعقيد. إنكَ لن تتوقع من رجل الشارع أن يعرف الكثير في مجال السياسة والاقتصاد والتجارة العالمية وما إلى ذلك.

والحقيقة أنكَ أعطيتَ إجابةً جيدةً جدًّا ليلة أمس يا «ستيفنس». كيف عبَّرت عن ذلك؟ ربما قُلتَ ما معناه إنه شيء خارج نطاق اهتمامك. حَسَنٌ! ولماذا يكون أصلًا في نطاق اهتمامك؟» عندما أتذكر تلك الكلمات، تبدو معظم أفكار «لورد دارلنجتون» غريبة، وربما غير جذابة، ولكنني لا أنكر أن هناك قدرًا من الحقيقة في تلك الأشياء التي قالها لي ذلك الصباح في غرفة «البلياردو». من العبث — بالطبع — أن يتوقع أحد من رئيس خدم أن يتمكن من الإجابة عن أسئلة من ذلك النوع الذي وجهه إليَّ «مستر سبنسر» في تلك الليلة. دعني أوضح شيئًا؛ وظيفة رئيس الخدم هي أن يُقدِّم خدمةً جيدة، وليس أن يتدخل في الشئون العليا للدولة. والحقيقة أن مثل تلك الشئون العليا ستكون فوق مستوى فهم أمثالك وأمثالي، ومَن يريد أن يترك أثرًا مفيدًا لا بدَّ من أن يدرك أن أفضل ما يمكن أن يُقدِّمه لذلك، هو التركيز على ما هو في مجالنا، أيْ بتكريس كل الجهد والاهتمام من أجل تقديم أفضل خدمة ممكنة لأولئك السادة الذين يملكون تقرير مصير الحضارة بالفعل. قد يبدو ذلك واضحًا، إلا أن المرء سيتذكر كثيرين من رؤساء الخدم الذين كان لهم رأي مختلف. والحقيقة أن كلمات «مستر هاري سميث» الليلة، تذكرني جيدًا بتلك المثالية الضالة التي انتابت قطاعاتٍ كبيرةً من جيلنا في العشرينيات والثلاثينيات. أنا أشير إلى ذلك التوجُّه الذي كان يرى أن أيَّ رئيس خدم لديه طموح جاد، لا بدَّ من أن يكون من صميم عمله تقييم الشخص الذي يعمل لديه بشكل دائم، أن يتفحص دوافعه، ويحلل مضامين أفكاره. وبهذه الطريقة فقط — كما كان يُقال — يمكن للواحد منَّا أن يتأكد من أن مهاراته تُستخدم من أجل هدف مطلوب. وبالرغم من أن المرء يمكن أن يتعاطف مع المثالية المتضمَّنة في هذا الرأي، إلا أنها قد تكون نتيجة تفكير غير سليم، مثل أفكار «مستر سميث» هذه الليلة.

يجب على الواحد منَّا أن ينظر إلى رؤساء الخدم الذين حاولوا تطبيق هذا التوجه، وسيرى أن جهودهم انتهَت إلى لا شيء. لقد عرفتُ اثنين على الأقل من هذا النوع، كلاهما كان لديه بعض القدرات، كانَا يتنقلان من مخدوم لآخر، ولم يشعرَا أبدًا بالرضا، لم يستقرَّا في مكان واحد إلى أن اختفيَا عن الأنظار تمامًا. حدوث شيء من ذلك القبيل ليس أمرًا مفاجئًا أو مدهشًا بالمرة؛ لأن من المستحيل، من الناحية العملية، تبنِّي موقف نقدي كذلك تجاه صاحب عمل مع تقديم خدمة جيدة في الوقت نفسه. ليس فقط لأن المرء لن يكون قادرًا على متطلبات الخدمة في المستويات العليا، وإنما أيضا لأن اهتماماته تتغير باستمرار بسبب ذلك. وبشكل أساسي فإن رئيس الخدم الذي يحاول دائمًا أن يُقدِّم آراءً قويةً في شئون مخدوميه، من المحتمَل أن يفقد صفةً أساسيةً من صفات المحترفين الأكفاء، أقصد صفة الوفاء. وأرجو ألَّا تسيء فهمي في هذه النقطة؛ أنا لا أقصد ذلك الوفاء الأخرق الذي يتحسر المتوسطون من المخدومين على عدم وجوده عندما يفشلون في الاحتفاظ بخدمات محترفين من الطراز الأول. والحقيقة أنني سأكون آخر مَن يدافع أو يمنح وفاءه هكذا بإهمال لأيِّ سيد أو سيدة أعمل عنده أو عندها. على أيَّة حالٍ إذا كان رئيس الخدم جديرًا بأيِّ شيء أو بأيِّ شخص في الحياة، فلا بدَّ من أن يجيء وقتٌ يتوقف فيه عن البحث، وقت يقول فيه لنفسه: «هذا الشخص الذي أعمل لديه يُجسِّد كل ما أراه نبيلًا وجميلًا، ولذلك سوف أكرِّس كل جهدي لخدمته.» هذا هو الوفاء ا الممنوح بذكاء، ما هو العيب في ذلك؟ المرء يقبل حقيقةً لا مفرَّ منها؛ وهي أن أمثالك وأمثالي لن يكون بإمكانهم أن يفهموا الأمور الكبرى في العالم، ومسارنا الأفضل هو أن نضع ثقتنا دائمًا في مخدوم نراه عاقلًا وشريفًا، وأن نُكرِّس كل جهدنا لخدمته بقدْر الاستطاعة. انظر مثلًا إلى «مستر مارشال»، أو «مستر لين»؛ من المؤكَّد أنهما من أعظم الرجال في مهنتنا. هل يمكن أن نتصور أن «مستر مارشال» يمكن أن يجادل «لورد كامبرلي» حول رسالته الأخيرة لوزارة الخارجية؟ وهل يمكن أن نعجب ﺑ «مستر لين» إذا علمنا أنه لا يتحدَّى «سير ليونارد جراي» قبل كل حديث له في مجلس العموم؟ نحن لا نفعل ذلك طبعًا. فما هو العيب، أو المُخجِل في ذلك؟ هل في هذا التوجُّه ما يستحقُّ اللوم؟ كيف يمكن أن نلوم شخصًا ما — بأيِّ معنًى — لأن الوقت قد أثبت أن مساعي «لورد دارلنجتون» كانت مُضللةً أو حتى غبية؟ على مدار السنوات التي خدمتُه فيها كان هو، وهو فقط، الذي يزن الأمور ويرى الاستمرار في الوجهة التي اتخذها، بينما كنتُ أكرِّس أنا كل جهدي لخدمته وفي إطار مهنتي. وعلى قدْر ما يخصُّني فإنني كنتُ أؤدِّي واجبي بكل ما أملك من طاقة، وبالمستوى الذي كان يعتبره الكثيرون رفيعًا. أمَّا إذا كانت حياة سيادته تبدو اليوم وكأنها ضاعت، ويبدو جهده وكأنه قد تبدَّد سدًى، فذلك ليس خطئي. وليس من المنطقي أن أشعر — من جانبي — بأيِّ ندم أو خجل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤