اليوم الرابع – بعد الظهر
أخيرًا وصلتُ إلى «ليتل كومتون»، والآن أنا جالس في قاعة الطعام في فندق «روز جاردن» بعد أن انتهيتُ من تناوُل غدائي. المطر مستمر بغزارة في الخارج. وبالرغم من أن الفندق ليس فخمًا، إلا أنه بسيط ومريح ويستحقُّ ما يتحمَّله المرء من تكلفة إضافية هنا. وهو يقع في مكان مناسب في أحد جوانب ساحة القرية، بناء مُغطًّى باللبلاب يمكن أن يستوعب ثلاثين نزيلًا. أمَّا قاعة الطعام التي أجلس فيها الآن فهي عبارة عن مُلحَق حديث البناء بجوار المبنى الرئيسي، قاعة طويلة مستوية يميزها صفَّان من النوافذ الضخمة على كلا الجانبَين. من ناحية يمكن رؤية ساحة القرية، ومن الناحية الأخرى تبدو الحديقة الخلفية التي استمدَّ منها المبنى اسمه. في الحديقة المحميَّة جيدًا من الرياح، يوجَد عدد من الطاولات المرصوصة بشكل منظم، وعندما يكون الطقس معتدلًا، أعتقد أن المكان هنا يصبح جميلًا لتناوُل الوجبات أو المشروبات. أعرف أن بعض النزلاء كانوا قد جلسوا لتناول غدائهم قبل قليل، ولم يقطع عليهم متعتهم سوى الهبوب المفاجئ لعواصف رعدية شديدة.
عندما جئتُ إلى هنا منذ ساعة تقريبًا، كان العاملون يجمعون أغطية الطاولات، بينما كان شاغلو المكان، ومنهم واحد ما زالت الفوطة مشبوكةً في قميصه، يقفون في حيرة وذهول. بعد ذلك هطل المطر بشدة وغزارة لدرجة أن الجميع توقفوا عن الأكل وراحوا يحدقون من النوافذ.
الطاولة التي أجلس عليها تقع في الجانب المُطلِّ على ساحة القرية، ولذا قضيتُ معظم الساعة الماضية في مراقبة المطر المتساقط على الساحة، وعلى السيارة «الفورد»، وسيارتَين أخريَين كانتَا في الخارج. المطر هدأ قليلًا الآن، ولكن ليس للدرجة التي تُغري أحدًا بالخروج لكي يجول في القرية. فكرتُ — في الواقع — في الخروج لمقابلة «مس كنتون»، ولكنْ بما أنني كنتُ قد كتبتُ لها في رسالتي أنني سأزورها في الثالثة، فلم أشأ أن أذهب قبل الموعد الذي حدَّدتُه. وإذا لم يتوقف المطر، فمن المحتمَل أن أبقى هنا لأشرب الشاي إلى أن يحين الوقت الملائم للخروج. تأكدتُ من السيدة الشابة التي قدَّمَت لي الغداء أن العنوان الذي تقيم فيه «مس كنتون» على بُعد مسيرة خمس عشرة دقيقةً من هنا، وهذا معناه أن أمامي أربعين دقيقةً أخرى أقضيها هنا.
لا بدَّ من القول إنني لستُ من الحماقة بحيث لا أتوقع خيبة أمل أخرى، فأنا أعلم جيدًا أنني لم أتلقَّ ردًّا من «مس كنتون» تؤكد فيه استعدادها للقائي. وأعلم أيضًا أن «مس كنتون» لا بدَّ من أن تكون قد تصوَّرَت أن عدم ردِّها يعني الموافقة. ولو أن اللقاء لا يناسبها أو كان غير مريح بالنسبة لها لَمَا تردَّدَت هي في أن تُبلغني. بالإضافة إلى أنني قلتُ لها في رسالتي إنني قد حجزتُ في هذا الفندق، وإنها يمكن أن تُبلغني بأيِّ شيء في اللحظة الأخيرة. ولكنْ لأنني لم أتلقَّ منها شيئًا بهذا المعنى، أعتقد أن الأمور تسير على ما يُرام.
المطر الغزير هذا جاء مفاجئًا، فالنهار كان قد بدأ بصباح مشرق مثل جميع الأيام السابقة منذ مغادرة «دارلنجتون هول». والحقيقة أن اليوم بدأ بإفطار جيد؛ بيض طازج من المزرعة وخبز مُقمَّر قدَّمَته لي «مسز تيلور»، وبزيارة من «الدكتور كارلسلي» في السابعة والنصف كما وعد، واستطعتُ أن أودِّع أُسرة «تيلور» الذين واصلوا رفضهم للاستماع إلى أيِّ كلام عن مكافأتهم.
قال لي الدكتور «كارلسلي»: «لقد أحضرتُ لك صفيحة بترول.» وهو يرشدني إلى مقعدي في سيارته «الروفر». شكرتُ له اهتمامه، وعندما سألتُه عن كيفية دفع ثمنها وجدتُ أنه أيضًا لا يريد أن يستمع إلى شيء من ذلك.
«هذا شيء بسيط يا رجل، شيء بسيط جدًّا! لقد وجدتُها عندي في الجراج وأعتقد أنها ستكفيكَ للوصول إلى «كروسبي جيت»، وهناك يمكن أن تملأ سيارتك بالوقود.» وسط القرية في «موسكومبي» تغمره شمسُ الصباح الساطعة، وهو عبارة عن مجموعة من المحلات الصغيرة حول كنيسة … الكنيسة التي كان يلوح لي برجُها العالي من التلِّ مساء أمس. لم تكُن هناك فرصة كافية للتعرف على القرية، لأن الدكتور «كارلسلي» سار بنا عبر طريق فرعية. «طريق مختصرة.» قال ذلك ونحن مارُّون بحظائر ماشية ومُعَدَّات وآلات زراعية. لم يظهر هناك بشر في أيِّ مكان، وعندما وجدنا أنفسنا أمام بوابة مغلقة قال الطبيب: «عفوًا يا صديقي! تقدَّم من فضلك!»
نزلتُ من السيارة واتجهتُ نحو البوابة، وسرعان ما هبَّ نُباح جماعي من إحدى الحظائر المجاورة، لدرجة أنني عدتُ مُسرعًا إلى الطبيب الذي كان يقف أمام سيارته. تبادلنا قليلًا من المزاح ونحن نتسلق طريقًا ضيقةً بين الأشجار، سألني كيف قضيتُ ليلتي عند «آل تيلور»، ثم قال فجأة: «أرجو ألَّا تعتبرني قليل الذوق … هل تعمل في مجال الخدمة؟ مثلًا … هل أنتَ خادم؟»
لا بدَّ من أن أعترف هنا بأنني قد انتابني شعور بالارتياح. «أنا هكذا بالفعل يا سيدي! رئيس خدم في «دارلنجتون هول» بالقرب من أوكسفورد.»
«توقعتُ ذلك. ما قلته عن مقابلة «ونستون تشرشل» مثلًا؛ قلتُ لنفسي ربما كان الرجل يحاول أن يقلل من شأن نفسه، ثم طرأ على ذهني تفسير آخر بسيط.» واستدار الدكتور «كارلسلي» نحوي مبتسمًا وهو يواصل توجيه سيارته على الطريق الصاعدة الملتوية. قلت: «أنا لم أقصد أبدًا أن أخدع أحدًا يا سيدي!»
قال: «لا! لا! لا داعي للشرح يا صديقي. أستطيع أن أفهم كيف حدث ذلك. أمثال أولئك الناس هنا يتصوَّرون أنكَ لا بدَّ من أن تكون «لوردًا» أو «دوقًا» على الأقل.»
ثم ضحك وقال: «قد يكون مفيدًا للمرء أن يتصوَّره الآخرون «لوردًا» أحيانًا.»
واصلنا سيرنا بعد ذلك في صمت لدقائق قليلة، ثم قال «أتمنَّى أن تكون قد استمتعتَ بإقامتك القصيرة معنا هنا.»
– جدًّا! شكرًا جزيلًا يا سيدي!
– كيف ترى مواطني «موسكومبي»؟ ليسوا سيئين فيما أظن!
– أناس طيبون، وجذابون يا سيدي، لقد كان «مستر ومسز تيلور» في منتهى اللطف والكرم.
– أرجو ألَّا تخاطبني بكلمة «يا سيدي» هكذا طوال الوقت يا «مستر ستيفنس». على أيَّة حالٍ الناس هنا ليسوا سيئين، وأنا أتمنَّى أن أُمضي بقية حياتي هنا.
أعتقد أنني قد سمعتُ شيئًا غريبًا، إلى حدٍّ ما، في الطريقة التي قال بها الدكتور «كارلسلي» ذلك. وكان الانفعال واضحًا عندما واصل تساؤله مرةً أخرى: «وجدتهم إذَن جماعةً جذابين … هه؟!»
– نعم يا دكتور. متجانسون ومتآلفون.
– ماذا كانوا إذَن يقولون لكَ ليلة أمس؟ أرجو ألَّا يكونوا قد أزعجوك بثرثرتهم عن القرية!
– لا يا دكتور، الحقيقة أن المناقشة كانت وُديةً جدًّا، واستمعنا خلالها إلى كثير من الآراء والأفكار المُهمَّة.
«تقصد هاري سميث!» قال الدكتور وهو يضحك: «لا تشغل بالك به حين، تستمع إليه يبدو مُسليًا لفترة قصيرة، يبدو مُهمًّا، والحقيقة أنه مُشوَّش الذهن. أحيانًا تظنُّه شيوعيًّا، ثم فجأةً يخرج عليك بشيء يوحي بأنه محافظ، مقاوم للإصلاح. إنه بالفعل شخص مُشوَّش الذهن.»
– ما تقوله يا دكتور …
– عمَّ كانت محاضرته لكَ ليلة أمس؟ الإمبراطورية؟ الصحة العامة؟
– كان «مستر سميث» يتحدث في موضوعات عامة.
– مثل ماذا؟
سعلتُ وقلت: «كانت له آراء عن طبيعة «الكرامة». هكذا يبدو ذلك موضوعًا فلسفيًّا بالنسبة ﻟ «هاري سميث».»
– وكيف وصل ذلك الشيطان إلى موضوع كهذا؟
– أعتقد أن مستر «هاري سميث» كان يؤكد على أهمية حملته الدعائية في القرية.
– نعم! نعم!
– كان يريد أن يوضح لي أن أهالي «موسكومبي» لديهم أفكار مُهمَّة حول جميع الأمور.
– ذلك هو «هاري سميث» حقيقة، وطبعًا كما فهمت فإن ذلك كله هراء. «هاري» يحاول دائمًا أن يشغل الجميع بقضايا، والحقيقة أن الناس يكونون سعداءَ إنْ نحن تركناهم في حالهم.
ومرةً أخرى صمتنا لحظةً أو لحظتَين، ثم قلتُ أخيرًا: «عفوًا يا سيدي! أرجو أن أسأل: هل يمكن أن نعتبر «مستر سميث» شخصيةً هزلية؟»
«هه! ولكن ذلك يأخذ المسألة إلى مدًى أبعد. الناس هنا لديهم ضميرٌ سياسيٌّ ما. يشعرون بأنه لا بدَّ من أن تكون لديهم آراء وأفكار قوية في هذا وذاك كما يريد «هاري» أن يحثَّهم، ولكنهم في الحقيقة لا يختلفون عن الناس في أيِّ مكان آخر. يريدون أن يعيشوا في هدوء. «هاري» لديه أفكار كثيرة عن تغيُّرات هنا وهناك، لكن لا أحد في القرية يريد أيَّ اضطراب أو فورة تغيير، حتى وإن كان ذلك سيفيدهم، الناس هنا يريدون أن يتركوا في حالهم. يعيشون حياتهم البسيطة … لا يريدون إزعاجًا بهذه القضية أو تلك.»
دهشتُ للهجة الاشمئزاز التي اعترَت صوت الدكتور، لكنه استعاد هدوءه بسرعة، وقال وهو يضحك: «يبدو منظر القرية رائعًا من الناحية التي تجلس فيها.»
كانت القرية بالفعل تبدو من تحتنا، وكان ضوء الشمس يعطيها شكلًا مختلفًا. لكنه نفس المنظر الذي رأيتُه أول مرة في كآبة المساء، ولذا أدركتُ أننا كنَّا نقترب من المكان الذي تركت فيه السيارة «الفورد». قلت: «من رأي «مستر سميث» أن كرامة الشخص تعتمد على ما يكون لديه من آراء وأفكار مُهمَّة … مثلا!»
– نعم! «الكرامة» … كدتُ أنسى. هكذا كان «هاري» إذَن يحاول أن يعالج بعض التعريفات الفلسفية. اسمع كلمتي؛ كل ذلك هراء … عفن!
– ولكن استنتاجاته لم تلقَ إجماعًا يا سيدي!
هزَّ الدكتور «كارلسلي» رأسه ولكنه بدَا مستغرقًا في أفكاره، ثم قال: «تعرف يا «مستر ستيفنس»، عندما جئتُ إلى هنا في البداية كنتُ اشتراكيًّا ملتزمًا. كنتُ مؤمنًا بضرورة توفير أفضل الخدمات للجميع … وأشياء أخرى من هذا القبيل. جئتُ إلى هنا لأول مرة في عام ١٩٤٩م. الاشتراكية تُمكِّن الناس من العيش بكرامة. كانت تلك هي أفكاري عندما جئتُ إلى هنا، عفوًا! لكنك لا تريد أن تستمع إلى كل هذا الهراء.» ثم التفت إليَّ بمرح: «لكنْ ماذا عنكَ يا صديقي؟»
– عفوًا يا سيدي!
– ماذا تعتقد أن يكون معنى الكرامة؟
وأعترف بأن مباشرة السؤال فاجأتني. قلت: «من الصعب أن أشرح ذلك بكلمات قليلة يا سيدي، وإن كنتُ أعتقد أنها تصل حتى إلى ألَّا يخلع الإنسان ملابسه أمام الناس!»
– عفوًا … ماذا؟
– الكرامة يا سيدي.
«آه!» هزَّ الدكتور رأسه ولكنه بدَا متحيِّرًا قليلًا، ثم قال: «والآن لا بدَّ من أن يكون هذا الطريق مألوفًا لك، قد يبدو مختلفًا بعض الشيء بالنهار، هل هي تلك التي هناك؟ يا إلهي! يا لها من سيارة فاخرة!»
توقف الدكتور كارلسلي بسيارته خلف «الفورد» مباشرة. نزل وقال: «يا إلهي! سيارة فخمة!»
لحظة، ثم أخرج قُمعًا وصفيحة بترول، وكان مُجاملًا لدرجة مساعدتي في مَلء خزان السيارة. بعد أن أدرتُ مُحرِّك السيارة ووجدتُ صوته عاديًّا، تبدَّدَت مخاوفي من أن يكون هناك عطل آخر. شكرتُه ثم ودَّع كلانا الآخر، وكان لا بدَّ من أن أسير بسيارتي خلف سيارته «الروفر» لمسافة مِيل آخر تقريبًا على طريق التل، قبل أن تتفرق اتجاهاتنا. كانت الساعة التاسعة تقريبًا عندما عبرتُ الحدود إلى «كورنوول»، وكان ذلك قبل هطول الأمطار بثلاث ساعات تقريبًا، كما كانت السحب لا تزال بيضاء. والحقيقة أن معظم المناظر التي طالعَتني هذا الصباح كانت رائعة، وربما من أجمل ما شاهدتُ في حياتي.
ولسوء حظي لم يكُن لديَّ ما يكفي من الوقت للانتباه إليها كما تستحق، فقد كنتُ — ولا بدَّ من أن أقول ذلك — مشغولًا بفكرة مقابلة «مس كنتون» قبل أن ينتهي اليوم، إلا إذا حدث أمر مفاجئ.
وأثناء سيري بالسيارة وسط الحقول الفسيحة، أو عبر القُرى الصغيرة الجميلة، وجدتُ نفسي أعود مرةً أخرى إلى ذكريات مُعيَّنة من الماضي. حتى وأنا هنا في غرفة الطعام هذه، وأنا جالس أراقب المطر المتساقط على أرصفة ساحة القرية في الخارج، لا أستطيع أن أمنع ذهني من الجولات في تلك المسارات.
على امتداد الصباح كانت هناك ذكرى مُعيَّنة تشغلني، أو لعله طرف من ذكرى، لحظةٌ ما ظلت حيةً بداخلي على مدى السنوات؛ هي ذكرى وقوفي وحيدًا في الممرِّ الخلفي أمام باب غرفة «مس كنتون» المغلق. لم أكُن في مواجهة الباب بالضبط، وإنما كنتُ نصف مستدير تجاهه، متردِّدًا أن أطرقه. في تلك اللحظة تصوَّرتُ أن «مس كنتون» كانت خلف ذلك الباب، على بُعد خطوات قليلة مني، وأنها تبكي. وكما أقول الآن فقد بقيَت تلك الذكرى محفورةً في ذهني كما بقيَت أيضًا ذكرى ذلك الشعور الغريب الذي انتابني آنذاك.
على أيَّة حالٍ أنا لستُ متأكدًا الآن من الظروف المُحدَّدة التي قادتني لأنْ أقف هناك في الممر الخلفي. وأحيانًا أتصوَّر، وأنا أحاول أن أستعيد تلك الذكريات، أن يكون ذلك قد حدث عندما تلقَّت «مس كنتون» نبأ وفاة عمَّتها، وعندما تركتها وحيدةً لحزنها، وعندما أدركت أنني لم أقدِّم لها العزاء. ولكنني حين أفكر الآن بعمق أجد أنني ربما كنتُ مرتبكًا بعض الشيء، وأن ذلك الجزء من الذكرى ربما يكون قد استيقظ بسبب الأحداث التي وقعَت ذات مساء، بعد أشهر قليلة من وفاة عمَّتها، ذلك المساء الذي ظهر فيه «مستر كاردينال» الأصغر في «دارلنجتون هول» بشكل مفاجئ.
والد «مستر كاردينال» أو «السير ديفيد كاردينال» كان على امتداد عِدَّة سنوات أقرب أصدقاء وزملاء سيادة «اللورد»، ولكنه كان قد مات في حادث سيارة قبل ثلاث أو أربع سنوات من ذلك المساء الذي يحضُرني الآن. في الوقت نفسه فإن «مستر كاردينال الأصغر» كان يصنع لنفسه اسمًا ككاتب رأيٍ تخصَّص في التعليقات الساخرة التي تتهكم على الشئون الدولية. وواضحٌ أن «مستر دارلنجتون» لم يكُن مستريحًا لتلك المقالات؛ لأنني أتذكره عندما كان يترك الجريدة ويقول مثلًا: «ها هو ذا «ريجي» الصغير يعود إلى كتابة مثل هذا الهراء مرةً أخرى. الحمد لله أن والده ليس على قيد الحياة ليقرأ ذلك.» لكن مقالات «مستر كاردينال» لم تمنعه من أن يكون زائرًا دائمًا للقصر، والحقيقة أن سيادة «اللورد» لم ينسَ أبدًا أن الشابَّ كان ابنه الروحي، وكان يعامله دائمًا كأحد أقربائه. في الوقت نفسه لم يكُن من عادة «مستر كاردينال» أن يحضُر على العشاء دون إخطار سابق؛ لذلك دهشتُ في ذلك المساء، عندما فتحتُ الباب لأجده أمامي يضمُّ إليه محفظته الجلدية بكلتا يدَيه.
قال: «مرحبًا يا ستيفنس! كيف حالك؟ حدث أن تعطلت الليلة بسبب كثافة المرور، وفكرتُ أن أقضي الليلة هنا في ضيافة «لورد دارلنجتون».»
– جميل أن نراك مرةً أخرى يا سيدي! سأُبلغ سيادته بوجودك.
– الحقيقة أنني فكرتُ في أن أقضي الليلة عند «مستر رولاند»، لكن يبدو أن سوء فهم قد حدث، اكتشفتُ أنهم خرجوا. كما أرجو ألَّا يكون هذا وقتًا غير ملائم لحضوري، أقصد هل لديكم مناسبة خاصة مثلًا هذه الليلة؟
– أعتقد يا سيدي أن سيادة «اللورد» ينتظر ضيوفًا بعد العشاء.
– هذا حظٌّ سيئ! يبدو أنني لم أوفَّق في اختيار الليلة، ولا بدَّ من أن أخجل من نفسي. على أيَّة حالٍ لديَّ أشياء أريد أن أكتبها هذه الليلة، العشاء (قال وهو يشير إلى محفظته الجلدية).
– سأخبر سيادته بوجودك يا سيدي، وعلى أيَّة حالٍ فأنتَ قد جئتَ في الوقت المناسب لكي تتناول العشاء معه.
– حَسَنٌ! لقد تمنيتُ ذلك فعلًا، وإن كنتُ أعتقد أن «مسز مورتيمر» لن تكون مستريحةً لوجودي.
وتركتُ «مستر كاردينال» في غرفة الاستقبال، وتوجَّهتُ إلى المكتبة حيث كان سيادة «اللورد» مشغولًا ببعض الأوراق، وبتركيز شديد. عندما أخبرتُه بوجود «مستر كاردينال» علَت وجهَه نظرةُ ضِيق مفاجئة، ثم اتكأ في مقعده وكأنه يحاول أن يحلَّ لغزًا بالتفكير العميق فيه، ثم قال: «أبلغ «مستر كاردينال» أنني سوف أنزل بعد قليل، يمكن أن يسلي نفسه بعض الوقت.»
وعندما عدتُ إلى الدَّور الأرضي وجدتُ «مستر كاردينال» يتنقل قلقًا في غرفة الاستقبال، ويتفحص الأشياء التي كان لا بدَّ من أن تكون مألوفةً له منذ زمن بعيد. نقلتُ إليه رسالة سيادة «اللورد» وسألته عن المشروب الذي يريد. «شاي … الآن يا ستيفنس، ولكن سيادة «اللورد» ينتظر مَن هذا المساء؟»
– عفوًا يا سيدي! لا أستطيع أن أكون مفيدًا في هذا الأمر.
– ليس لديكَ أيَّة فكرة بالمرة؟
– للأسف يا سيدي!
– غريب! حَسَنٌ! يبدو من الأفضل أن أبقى بعيدًا هذه الليلة.
أذكر أنني نزلتُ إلى غرفة «مس كنتون» بعد ذلك بقليل. كانت جالسةً على الطاولة رغم عدم وجود شيء أمامها، وكانت يداها فارغتَين، والحقيقة أن شيئًا في تصرفاتها كان يدل على أنها كانت جالسةً هكذا لفترة طويلة قبل أن أدقَّ بابها.
قلت: «مستر كاردينال» هنا يا «مس كنتون» وسوف يحتاج غرفته المعتادة هذه الليلة.
– حَسَنٌ يا «مستر ستيفنس». سوف أرى ذلك قبل أن أخرج.
– أنتِ خارجة هذا المساء إذَن يا مس كنتون؟
– نعم يا مستر ستيفنس.
ربما تكون قد بدَت على وجهي الدهشة؛ لأنها قالت: «تذكر يا «مستر ستيفنس» أننا تناقشنا في ذلك منذ أسبوعَين.»
– نعم يا مس كنتون … معذرة! كنتُ قد نسيتُ ذلك.
– هل هناك شيءٌ ما يا مستر ستيفنس؟
– لا يا «مس كنتون»، نحن فقط في انتظار بعض الضيوف هذا المساء، لكنْ ليس هناك ضرورة لوجودك.
– لقد اتفقنا على أنني سأكون في إجازة هذا المساء، كان ذلك منذ أسبوعَين يا «مستر ستيفنس».
– طبعًا طبعًا يا «مس كنتون»، ومعذرةً لأنني نسيت.
واستدرتُ مُتَّجهًا صوب الباب، لكن «مس كنتون» أوقفَتني قائلة: «مستر ستيفنس، أريد أن أقول شيئًا.»
– نعم يا «مس كنتون».
– وهو بخصوص الشخص الذي أعرفه، والذي سأذهب للقائه هذه الليلة.
– نعم يا «مس كنتون».
– لقد طلب مني أن أتزوجه، وأعتقد أن من حقِّك أن تعرف ذلك.
– بالفعل يا «مس كنتون»، هذا أمر مُهمٌّ جدًّا.
– وأنا ما زلتُ أفكر في الموضوع.
– فعلًا يا «مس كنتون».
– أقول إنني ما زلتُ أفكر يا «مستر ستيفنس»، لكنني قررتُ أنكَ لا بدَّ من أن تُحاط علمًا بالموقف.
– أشكرك يا «مس كنتون»، وأتمنَّى لكَ مساءً جميلًا. والآن أستأذنك في الانصراف.
بعد عشرين دقيقةً تقريبًا قابلت «مس كنتون» مرةً أخرى، وكنتُ مشغولًا هذه المرة بالتحضير للعشاء. وأنا في منتصف الطريق إلى السُّلَّم الخلفي أحمل صينيةً مُحمَّلةً بالمشروبات، سمعتُ وقْع أقدام غاضبة تدقُّ الأرض ورائي. التفتُّ فوجدتُ «مس كنتون» تُحملق فيَّ غاضبةً وهي أسفل السُّلَّم.
– مستر ستيفنس، هل أفهم أنكَ تريد مني أن أبقى في العمل هذا المساء؟
– لا! ليس صحيحًا يا «مس كنتون». وكما قلتُ فإنكِ قد أبلغتِني بذلك منذ مدة.
– لكنني أرى أنكَ لستَ سعيدًا لخروجي هذا المساء.
– لا! بالعكس يا «مس كنتون».
– هل تتصوَّر أنكَ بافتعالك لكل هذا الهرج في المطبخ، وبالحركة الدائبة جيئةً وذهابًا هكذا أمام غرفتي، ستجعلني أغيِّر رأيي؟
– مس كنتون، هذه الجلبة البسيطة في المطبخ سببها فقط هو وصول «مستر كاردينال» المفاجئ على العشاء في اللحظة الأخيرة، ولا يوجَد أيُّ سبب بالمرة يمنعكِ من الخروج هذا المساء.
– أنا أنوي الخروج سواء أكان ذلك برضاك أم بدونه يا «مستر ستيفنس»، وأرجو أن يكون ذلك واضحًا بالنسبة لك.
– لقد رتبتُ أموري على ذلك منذ أسبوعَين.
– صحيحٌ يا «مس كنتون»، ومرةً أخرى أتمنَّى لكِ مساءً سعيدًا.
على العشاء كان الجوُّ السائد بين الرجلين غريبًا؛ كانَا يتناولان طعامهما في صمت يستمرُّ فترات طويلة، وكان سيادة «اللورد» بالذات يبدو شارد الذهن. وفجأةً قال «مستر كاردينال»: «هل هناك شيء خاص هذه الليلة يا سيدي؟»
– هه؟!
– ضيوفك هذا المساء … هل هو أمر خاص؟
– لا أستطيع أن أقول شيئًا يا بني، هذا أمر سِرِّي للغاية.
– يا إلهي! أعتقد أنني لا ينبغي أن أكون موجودًا إذَن!
– موجود! في ماذا يا بني؟
– فيما سيحدث هذه الليلة.
– لا، إنه لن يكون مُهمًّا بالنسبة لك، وعلى أيَّة حالٍ فإن درجة السرية عالية جدًّا. ولا يجب أن يكون شخص مثلك هنا … لن يكون ذلك مناسبًا بالمرة.
– يا إلهي! يبدو أنه أمر شديد الخصوصية.
كان «مستر كاردينال» يراقب «اللورد» بشدة، ولكن الأخير عاد إلى طعامه دون أن يقول شيئًا أكثر ممَّا قال، ثم انتقلَا إلى غرفة التدخين لتناوُل الشراب وتدخين السيجار.
وأثناء إعادة ترتيب غرفة الطعام، وكذلك أثناء إعداد غرفة الاستقبال لقدوم الضيوف، كان عليَّ أن أمرَّ أكثر من مرة أمام أبواب غرفة التدخين. كان يمكن ملاحظة أن الرجلين قد بدآ يتكلمان معًا بقوة وتحفُّز على عكس حالتهما الهادئة أثناء العشاء. وبعد رُبع الساعة ارتفعَت الأصوات غاضبة، لم أتوقَّف بالطبع لكي أتسمَّع، ولكنني سمعتُ رغمًا عني سيادة «اللورد» وهو يصرخ: «لكن ذلك ليس من شأنك يا بني، هذا ليس شغلك.»
وعندما خرجَا كنتُ في غرفة الطعام، ويبدو أنهما كانَا قد هدآ. كانت الكلمات الوحيدة التي تبادلاها وهما في الرَّدهة هي قول سيادة اللورد: «والآن تذكر يا بني أنني أثق بك.» وتمتمة «مستر كاردينال» ببعض الضيق: «نعم … نعم … لقد وعدتك.»
ثم تفرَّقَت الخطى فذهب سيادة «اللورد» إلى مكتبه و«مستر كاردينال» إلى المكتبة. بعد ذلك، وبالتحديد في الثامنة والنصف، سمعنا صوت سيارات تقف في الفِناء. فتحتُ الباب لأحد السائقين ولمحتُ من فوق كتفه بعض «كونستبلات» الشرطة ينتشرون في أماكن مختلفة. وبعد لحظة كنتُ أتقدَّم رجلَين مهيبَين، استقبلهما سيادة «اللورد» في الرَّدهة ودخلوا غرفة الاستقبال بسرعة. بعد نحو عشر دقائق سمعنا صوت سيارة أخرى وفتحتُ الباب ﻟ «الهر ريبنتروب» السفير الألماني الذي لم يكُن غريبًا على «دارلنجتون هول». خرج سيادة «اللورد» ليكون في استقباله، وتبادل الرجلان نظرات المودَّة والرضا قبل أن يدخلَا معًا إلى غرفة الاستقبال.
بعد دقائق قليلة، عندما استُدعيت لتقديم المشروبات، كان الرجال الأربعة يتناقشون عن المزايا النسبية لأنواع السجق المختلفة، وكان الجو السائد بينهم يبدو هادئًا.
بعد ذلك لزمتُ موقعي في الرَّدهة — وهو بالقرب من المدخل الذي أقف فيه عادةً أثناء الاجتماعات المُهمَّة — ولم يكُن هناك ما يجعلني أبرحه مرةً أخرى قبل ساعتَين عندما سمعتُ طرقاتٍ على الباب الخلفي. نزلتُ فوجدتُ أحد «كونستبلات» الشرطة يقف مع «مس كنتون»، ويطلب مني أن أتحقَّق من شخصيتها. تمتم الضابط وهو منصرف يجول في الساحة: «هذا من باب الاحتياط الأمني فقط يا آنسة … ولا أكثر من ذلك.»
وعندما كنتُ أغلق الباب بالمزلاج وجدتُ «مس كنتون» في انتظاري، فقلتُ: «أنا واثق من أنكِ قد أمضيتِ مساءً سعيدًا يا مس كنتون.» لم ترد، ولذلك قلتُ ثانيةً ونحن نسير في المنطقة المظلمة من المطبخ: «أعتقد أنكِ أمضيتِ مساءً جميلًا يا مس كنتون.»
«بالفعل. شكرًا يا مستر ستيفنس.»
ثم سمعتُ وقْع أقدامها ورائي وقد توقف فجأةً لتقول: «أليس لديكَ أدنى اهتمام بما حدث الليلة بيني وبين الشخص الذي أعرفه يا مستر ستيفنس؟»
– لا أريد أن أكون قليل الذوق يا «مس كنتون»، فأنا لا بدَّ من أن أعود إلى الطابق الأعلى دون تأخير. الواقع أن أحداثًا بالغة الأهمية تجري هنا في هذا القصر … في هذه اللحظة.
– ومتى كان الأمر غير ذلك يا مستر ستيفنس؟ حَسَنٌ! إذا كنتَ في عجلة، عليَّ إذَن أن أُبلغك بأنني قد قبِلتُ العرض الذي تقدَّم به إليَّ ذلك الشخص.
– عذرًا يا مس كنتون!
– عرض الزواج.
– أوه! هكذا! اسمحي لي إذَن أن أهنِّئك من كل قلبي.
– شكرًا يا «مستر ستيفنس». يُسعدني بالطبع أن أستمرَّ في العمل في فترة الإنذار، لكن إن استطعتَ أن تأذن لي بالرحيل قبل ذلك أكون شاكرةً لك. الشخص الذي أعرفه سيبدأ عمله الجديد في الريف الشرقي بعد أسبوعَين.
– سأبذل كل جهدي لتدبير بديل في أقرب فرصة يا «مس كنتون». والآن أستأذنكِ لأنني لا بدَّ من أن أصعد إلى الطابق العلوي.
وهممتُ بالانصراف مرةً أخرى، ولكنْ بمجرَّد أن وصلتُ إلى الباب خارج الممرِّ سمعتُ «مس كنتون» تقول: «مستر ستيفنس!» فالتفتُّ إليها. لم تكُن قد تحركَت من مكانها، ولذلك كان لا بدَّ من أن ترفع صوتها قليلًا وهي تخاطبني، فكان صداه يتردَّد في فضاء المطبخ المظلم. قالت: «هل أفهم أنكَ بعد كل هذه السنوات من خدمتي في هذا القصر، لا تجد كلماتٍ مناسِبةً تعليقًا على خبر تركي لهذا المكان أكثر ممَّا قلت؟»
– مس كنتون، لكِ خالص تهنئتي، ومن كل قلبي، لكنني أكرِّر لكِ أن هناك أمورًا بالغة الأهمية تدور الآن في الطابق العلوي، ولا بد من أن أكون في مكاني.
– هل تعلم يا «مستر ستيفنس» أنكَ كنتَ شخصًا مُهمًّا بالنسبة للرجل الذي أعرفه … وبالنسبة لي أيضًا؟
– حقًّا يا مس كنتون؟
– نعم يا مستر ستيفنس. كثيرًا ما نقضي الوقت في رواية النوادر عنك. الرجل يريد دائمًا أن أصف له الطريقة التي تضغط بها فتحتَي أنفك وأنت تضع الفلفل على طعامك، وذلك يجعله يضحك كثيرًا.
– حقًّا؟
– وهو كذلك مغرم بالقِيل والقَال بين العاملين لديك. ولا بدَّ من أن أقول إنني قد أصبحتُ خبيرةً في تقليدهم، كل ما هنالك أنني أضيف بعض العبارات من عندي.
– صحيح يا مس كنتون؟! أرجو أن تأذني لي.
صعدتُ إلى الرَّدهة في الطابق العلوي، واتخذتُ موقعي. إلا أنه قبل أن تمرَّ خمس دقائق، ظهر «مستر كاردينال» أمام المكتبة وأشار إليَّ: «لا أريد أن أزعجك بأن تُحضِر لي المزيد من «البراندي» … هل يمكن؟ القنينة التي أحضرتها قبل ذلك يبدو أنها فرغت.»
– تحت أمرك يا سيدي كل الشراب الذي تريد. ولكنني أتساءل إن كان من الحكمة أن تشرب أكثر من ذلك وأنتَ تنوي الانتهاء من المقال الذي تكتبه.
– مقالي سيكون رائعًا يا ستيفنس. اذهب وأحضر البراندي.
– حَسَنٌ يا سيدي!
بعد لحظة، وبعد أن عدتُ إلى المكتبة، وجدتُ «مستر كاردينال» يجول بين الأرفف ويتفحص عناوين الكتب. رأيتُ أوراقًا مبعثرةً على مكتب قريب، وعندما اقتربتُ تنبَّه «مستر كاردينال» وجلس في مقعدٍ جلديٍّ، ذهبتُ إليه وصببتُ له بعض «البراندي» وقدمتُه له.
– تعلم يا «ستيفنس» … نحن أصدقاء من مدة … أليس كذلك؟
– بلى يا سيدي.
– وكلما جئتُ إلى هنا كنتُ أتطلع دائمًا لتجاذُب أطراف الحديث معك!
– نعم يا سيدي.
– هل يمكن أن تشاركني كأسًا؟
– هذا لطف منك يا سيدي، لكن … عذرًا! لا أستطيع!
– أقول يا «ستيفنس»: هل أنت سعيد هنا؟
– سعيد جدًّا يا سيدي. شكرًا. قلتُ وأنا أبتسم.
– لا تشعر بالضجر، أليس كذلك؟
– ربما أكون مرهقًا بعض الشيء، لكنني بخير. شكرًا يا سيدي.
– حَسَنٌ! عليك أن تجلس إذَن. على أيَّة حالٍ نحن أصدقاء من زمن كما قلت، ولذلك لا بدَّ من أن أكون صادقًا معك. تمامًا مثلما خمَّنت، أنا لم آتِ إلى هنا الليلة بالمصادفة. لقد حصلتُ على معلومات كما ترى. معلومات عمَّا يحدث هناك في الناحية الأخرى من الرَّدهة، وفي هذه اللحظة.
– نعم يا سيدي!
– أرجو أن تجلس يا «ستيفنس»، أريد أن نتحدث كأصدقاء بينما أنتَ تقف بعيدًا حاملًا تلك الصينية البغيضة وكأنكَ على وشك أن تنصرف في أيِّ لحظة.
– أنا آسف يا سيدي.
وضعتُ الصينية من يدي، وجلست في وضع مناسب في المقعد الذي أشار إليه «مستر كاردينال». قال: «هذا أفضل يا ستيفنس، أعتقد أن رئيس الوزراء ليس في غرفة الاستقبال الآن، أليس كذلك؟»
– تقول رئيس الوزراء يا سيدي؟
– حَسَنٌ! لستَ مُجبَرًا على أن تخبرني. أفهم أنك في موقف حرج.
وابتسم مُتنهِّدًا وهو ينظر بقلق إلى الأوراق المُبعثَرة على المكتب، ثم قال: «لستُ في حاجة لأنْ أصف لكَ يا «ستيفنس» مشاعري نحو سيادة «اللورد». أريد أن أقول إنه كان بمثابة أبٍ ثانٍ بالنسبة لي. لستُ في حاجة لتأكيد ذلك يا ستيفنس.»
– نعم يا سيدي.
– أنا شديد الاهتمام به … شديد الحرص عليه.
– فعلًا يا سيدي!
– حَسَنٌ! كلانا إذَن يعرف أين يقف، لكنْ دعنا نواجه الواقع، سيادة «اللورد» في ورطة، يسبح في مياه عميقة … عميقة … وأراه يذهب بعيدًا بعيدًا، دعني أقول إنني قَلِقٌ عليه … في غاية القلق … إنه موشك على الغرق!
– هكذا يا سيدي؟!
– هل تعرف يا «ستيفنس» ماذا يجري هذه اللحظة ونحن جالسان هنا نتكلم؟ هل تعرف ما يدور على بُعد ياردات قليلة منَّا؟ في هذه الغرفة التي أمامنا، ولا أريدك أن تؤكد لي ذلك، وفي هذه اللحظة، هناك اجتماع بين رئيس الوزراء ووزير الخارجية والسفير الألماني. لقد صنع سيادة «اللورد» المعجزات لتحقيق هذا الاجتماع، وهو يعتقد — يعتقد بإخلاص — أنه يقوم بعمل جيد وشريف. هل تعرف لماذا جاء بأولئك الناس إلى هنا هذه الليلة؟ هل تعرف يا «ستيفنس» ما يدور هنا؟
– لا أعرف يا سيدي!
– لا تعرف! قُل لي يا «ستيفنس» … ألا تهتمُّ بأيِّ شيء بالمرة؟ أليس لديك فضول؟ يا إلهي! شيء حاسم وبالغ الأهمية يحدث هنا في هذا القصر، ولا يكون لديك أيَّة درجة من حُبِّ الاستطلاع!
– ليس من واجبي أن أكون فضوليًّا بالنسبة لمثل تلك الأمور يا سيدي.
– ولكنكَ فضولي بالنسبة لسيادته، قَلِقٌ عليه، لقد قلتَ ذلك الآن. فإذا كنتَ قَلِقًا على سيادته، أفلا ينبغي أن تهتم؟ أن تكون مُحبًّا للاستطلاع بعض الشيء؟ رئيس الوزراء البريطاني والسفير الألماني جاءَا إلى هنا عن طريق الرجل الذي تعمل لديه من أجل محادثات سرية في الليل … كل ذلك وأنت غير مُهتم بالمرة!
– لا أقول إنني لستُ مُهتمًّا يا سيدي، إلا أنه ليس من واجبي أن أُظهر حُبَّ استطلاعي وشغفي بمثل هذه الأمور.
– ليس من واجبك! هه! أعتقد أنكَ تظنُّ ذلك نوعًا من الإخلاص، أليس كذلك؟ هل تعتقد أنه إخلاص؟ لسيادة «اللورد»؟ للتاج؟ هل يصل الأمر إلى هذا الحد؟
– عفوًا يا سيدي! أنا لا أستطيع أن أفهم ما ترمي إليه.
تنهد «مستر كاردينال» ثانيةً وهزَّ رأسه: «أنا لا أرمي إلى أيِّ شيء يا «ستيفنس». بصراحة شديدة أنا لا أعرف ما يجب أن نفعله، لكنك على الأقلِّ كان يجب أن تكون مُحبًّا للاستطلاع.» وصمت لحظةً وهو يحدق مذهولًا في مساحة السجادة تحت قدمي، ثم قال: «هل أنتَ متأكد أنكَ لا تريد أن تشاركني كأسًا يا ستيفنس؟»
– شكرًا يا سيدي! لا أريد!
– دعني أقول هذا لك يا «ستيفنس»، سيادة «اللورد» قد خُدِع، غَشُّوه. قمتُ بتحرياتي الخاصة، وأعرف الوضع في «ألمانيا» الآن مثل أيِّ واحد في هذا البلد. وأقول لكَ إن سيادته قد خُدِع تمامًا … ضحكوا عليه!
لم أعلِّق. أمَّا هو فاستمرَّ في تحديقه في الأرضية. وبعد فترة قصيرة قال: «سيادته رجل عزيز جدًّا جدًّا، لكن الواقع أنه وصل إلى المياه المُغرِقة، ضحكوا عليه. النازيون يناورون به مثل عسكري الشطرنج. هل لاحظتَ ذلك يا «ستيفنس»؟ هل لاحظتَ أن ذلك هو الذي كان يدور على مدى السنوات الثلاث أو الأربع الأخيرة على الأقل؟»
– أنا آسف يا سيدي. لم أشعر بشيء من ذلك التغيير.
– ألم تشُكَّ حتى مجرَّد الشك؟ أقلَّ شك؟ وهو أن «الهر هتلر»، وعن طريق صديقنا العزيز «الهر ريبنتروب»، كان يناور بسيادة «اللورد» مثل عسكري الشطرنج، ومثلما يناور بكل سهولة بأيٍّ من العسكر الآخرين في «برلين»؟
– آسف يا سيدي! لم ألحظ شيئًا من ذلك.
– أعتقد أنكَ ما كان يمكن أن تلاحظ يا «ستيفنس»؛ لأنك لستَ فضوليًّا. أنتَ تترك الأشياء تسير أمامك ولا تفكر أبدًا في أن تنظر إليها أو أن تفهم سببًا لأيِّ شيء.
عدَّل «مستر كاردينال» وضعه في المقعد، وأصبح منتصب الظهر في جِلسته، وبدَا يفكر في عمله الذي لم يكُن قد انتهى منه، والموجود أمامه على المكتب القريب، ثم قال: «سيادته رجل محترم، جنتلمان، هذا هو جوهره الحقيقي؛ جنتلمان خاض حربًا مع الألمان وبطبيعته يريد أن يمنح كرمه وصداقته المخلصة لعدوٍّ مهزوم. تلك هي طبيعته، ولا بدَّ من أن تكون قد رأيتَ ذلك يا «ستيفنس». هل من المعقول ألَّا تكون قد لاحظتَ ذلك؟ الطريقة التي استغلوه بها، ابتزُّوه، حوَّلوا شيئًا نبيلًا إلى شيء آخر مختلف لخدمة أهدافهم الخبيثة. لا بدَّ من أن تكون قد رأيتَ ذلك يا ستيفنس.» ومرةً أخرى راح «مستر كاردينال» يحملق في الأرضية، وبعد لحظات صمت قال: «أذكر أنني جئتُ إلى هنا منذ عِدَّة سنوات، وكان ذلك الشابُّ الأمريكي موجودًا. كنَّا في اجتماع كبير شارك في تنظيمه والدي، وأتذكر كيف كان ذلك الشابُّ الأمريكي في حالة سُكْر بيِّن أكثر ممَّا أنا عليه الآن، عندما وقف أمام الجميع على طاولة العشاء وأشار إلى سيادة «اللورد» وقال إنه مجرَّد هاوٍ، قال عنه إنه هاوٍ أخرق وعلى وشك أن يغرق في المياه العميقة. حَسَنٌ! أنا أريد أن أقول يا «ستيفنس» إن ذلك الشابَّ الأمريكي كان مُحقًّا؛ هذه حقيقة. عالَم اليوم مكان رديء جدًّا بالنسبة للعواطف والطباع النبيلة والأخلاق الراقية، لقد رأيتَ ذلك بنفسك يا «ستيفنس»، أليس كذلك؟ الطريقة التي ابتزُّوا بها شيئًا جميلًا ونبيلًا. لقد رأيتَ ذلك بنفسكَ … أليس كذلك؟»
– أنا آسف يا سيدي! لكنني لا أستطيع أن أقول إنني قد رأيتُ شيئًا من ذلك!
– لا تستطيع أن تقول إنكَ رأيت. حَسَنٌ! أنا لا أعرف شيئًا عنكَ، لكنني سأفعل شيئًا بهذا الخصوص. لو كان والدي على قيد الحياة لفعل شيئًا لإيقاف ذلك.
صمت «مستر كاردينال» بعد ذلك، ربما بسبب إثارة ذكرى والده، وكان يبدو عليه الحزن الشديد، ثم قال: «هل يرضيك يا «ستيفنس» أن ترى سيادته وهو منجرف إلى الكارثة على هذا النحو؟»
– أنا آسف يا سيدي، لا أستطيع أن أفهم تمامًا ما تشير إليه.
– أنتَ لا تفهم يا «ستيفنس». حَسَنٌ! نحن جميعًا أصدقاء وسأقولها لك بكل صراحة؛ على مدى السنوات القليلة الماضية كان سيادته أفضل «عسكري» لدى «هتلر» في هذا البلد من أجل حِيَله الدعائية، وكل ذلك لأنه مخلص وشريف ولا يستطيع أن يدرك الطبيعة الحقيقية لما يقوم به. وعلى مدى السنوات الثلاث الأخيرة فقط كان سيادة «اللورد» وسيلةً مفيدةً وأداةً مُهمَّةً في عقد صفقات بين «برلين» وأكثر من ستين شخصًا من مواطني هذا البلد من ذوي النفوذ. كان ذلك مفيدًا جدًّا لهم.
وقد استطاع الهر «ريبنتروب» أن يتجاهل وزارة خارجيتنا تمامًا ويسلك طريقًا خاصة، وكأن اجتماعهم الحاشد القذر وألعابهم الأولمبية لم تكُن كافية! هل تعرف ماذا جعلوا سيادته يفعل الآن؟ هل لديك أيَّة فكرة عمَّا يناقشونه الآن؟
– لا يا سيدي.
– سيادة اللورد يحاول أن يقنع رئيس الوزراء نفسه بقبول دعوة لزيارة «الهر هتلر». يعتقد أن هناك سوء تفاهم رهيب من جانب رئيس الوزراء بخصوص النظام الألماني الحالي.
– لا أستطيع أن أرى ما يستحقُّ الاعتراض عليه في ذلك يا سيدي! سيادة «اللورد» كان يسعى دائمًا من أجل تحقيق التفاهم الأفضل بين الدول.
– وهذا ليس كل شيء يا «ستيفنس»! في هذه اللحظة بالتحديد، إن لم أكُن مخطئًا، في هذه اللحظة بالضبط، سيادة «اللورد» يناقش فكرة زيارة جلالة الملك نفسه ﻟ «الهر هتلر». ليس سرًّا أن يكون مَلِكُنا الجديد متحمِّسًا للنازية كما كان دائمًا. حَسَنٌ! والآن يبدو أنه حريص على قبول دعوة «هتلر». في هذه اللحظة يا «ستيفنس» سيادته يبذل كل ما في وسعه لإزالة اعتراضات وزارة الداخلية على هذه الفكرة المُروِّعة.
– أنا آسف يا سيدي، لكنني لا أرى أن سيادته يفعل شيئًا سوى ما هو سامٍ ونبيل، يبذل قُصارى جهده ليضمن أن يسود السلام أرجاء أوروبا.
– قُل لي يا ستيفنس … أليس لديكَ أيُّ احتمال أن أكون مُحقًّا فيما أقول؟ ألستَ على الأقلِّ شغوفًا بما أقول؟
– أنا آسف يا سيدي، لا بدَّ من أن أقول إنني أثق كل الثقة في أحكام سيادته.
– لا يوجَد عاقل يمكن أن يُصدِّق أيَّ شيء يقوله «الهر هتلر» بعد «الراينلاند» يا «ستيفنس». سيادة «اللورد» وصل إلى المياه العميقة المغرقة … يا إلهي! لقد أزعجتُك يا ستيفنس!
قلت: «لا يا سيدي! أبدًا!» وسمعتُ جرسًا من غرفة الاستقبال فقمتُ من مكاني: «يبدو أنني مطلوب هناك يا سيدي … فلتأذَن لي.»
في غرفة الاستقبال كان الهواء كثيفًا ومُثقَلًا بدخان التبغ. والحقيقة أن السادة كانوا مستمرين في تدخين السيجار وعلى وجوههم تعبيرات الجدية والصرامة، لا أحد يتكلم. طلب مني سيادة «اللورد» أن أُحضر قنينةً من النبيذ الفاخر من القبو.
في مثل هذا الوقت من الليل، يبدو وقْعُ أقدام المرء وهو نازل على السُّلَّم الخلفي شيئًا مُنافيًا للذوق، وحدث أن كان ذلك سببًا في إيقاظ «مس كنتون»؛ إذ بينما كنتُ أشقُّ طريقي في ظلام الممر، رأيتُ باب غرفتها يُفتَح، وظهرت أمامي على العتبة في وضوح الضوء المنبعث من الداخل. قلتُ عندما اقتربَت: «أنا مندهش لأنكِ ما زلتِ هنا في الطابق الأرضي يا مس كنتون!»
– مستر ستيفنس … لقد كنتُ إنسانةً غبيةً قبل ذلك.
– عفوًا يا مس كنتون! لكنني ليس لديَّ وقت للكلام الآن.
– مستر ستيفنس! لا يجب أن تأخذ شيئًا ممَّا قُلتُه لكَ قبل ذلك على محمل الجِد. لقد كنتُ غبية … حمقاء!
– أنا لم آخذ شيئًا ممَّا قُلتِ على محمل الجِدِّ يا «مس كنتون»، والحقيقة أنني لا أستطيع أن أفهم ما تُشيرين إليه. هناك أحداث بالغة الأهمية تتوالى في الطابق العلوي، ولا يمكنني الوقوف لتبادُل عبارات المجاملة معك، وأقترح عليكِ أن تذهبي لتنامي.
قلتُ ذلك بسرعة وهممتُ بالانصراف، ولم أكَد أصل إلى باب المطبخ، حتى اكتشفتُ من الظلام المُفاجئ أن «مس كنتون» أغلقَت بابها.
لم أبدر وقتًا طويلًا في البحث عن القنينة المطلوبة أو التحضيرات المطلوبة لتقديمها للضيوف. بعد دقائق محدودة من المواجهة مع «مس كنتون» وجدتُ نفسي أسير في الممرِّ ثانية، وفي هذه المرة كنتُ أحمل صينية. عندما اقتربتُ من باب «مس كنتون» رأيتُ من الضوء المتسرِّب حول حوافه، أنها كانت لا تزال في الداخل. وكانت تلك هي اللحظة — وأنا متأكد من ذلك الآن — التي ظلَّت حيةً في ذاكرتي.
تلك اللحظة؛ عندما توقفتُ في عتمة الممرِّ والصينية في يدي، عندما كنتُ أشعر تمامًا أن «مس كنتون» هناك خلف ذلك الباب، وكانت تبكي.
وعلى ما أذكر لم يكُن هناك تفسير حقيقي لهذا الشعور، لم أسمع صوت بكاء، وأذكر أيضًا أنني كنتُ واثقًا تمامًا بأنني لو طرقتُ الباب ودخلتُ لوجدتُها تبكي. لا أتذكر كم من الوقت بقيتُ واقفًا في مكاني. تصوَّرتُ حينذاكَ أنها فترة طويلة، مع أنها لم تتجاوز ثواني قليلة. كان مطلوبًا مني أن أُسرع إلى الطابق العلوي لخدمة بعض السادة، ولا أتصوَّر أنني كان يمكنني أن أتأخر. عندما عدتُ إلى غرفة الاستقبال رأيتُ أنهم كانوا لا يزالون في جِديَّتهم الصارمة، ولم تكُن هناك فرصة لمعرفة أيِّ شيء عن الجوِّ العام، إذ بمجرَّد دخولي تناول سيادته الصينية من يدي قائلًا: «شكرًا يا ستيفنس! سأقوم أنا باللازم … شكرًا!»
عبرتُ الرَّدهة ثانيةً واتخذتُ موقعي المعتاد تحت قنطرة المدخل، وبقيتُ هكذا لمدة ساعة تقريبًا. حتى مغادرتهم، لم يحدث أيُّ شيء يجعلني أتحرك من مكاني.
إلا أن الساعة التي أمضيتُها واقفًا في ذلك المكان في تلك الليلة، بقيَت منقوشةً في ذاكرتي على مرِّ السنوات. لا بدَّ من أن أعترف بأن معنوياتي كانت منخفضةً في البداية، ولكن عندما استمرَّت وقفتي بدأ شيء غريب يحدث؛ كان شعور عميق بالانتصار يستيقظ بداخلي، لا أتذكر قدْر تحليلي لهذا الشعور في ذلك الوقت، لكنني عندما أنظر إليه اليوم لا يبدو صعب التفسير. لقد مررتُ بمساءٍ مُرهِقٍ غاية الإرهاق، استطعتُ أن أحتفظ فيه ﺑ «كرامة تليق بوظيفتي». والأهمُّ من كل شيء أنني فعلتُ ذلك على النحو الذي كان يمكن أن يجعل أبي فخورًا بي. وهناك عبر الرَّدهة، وخلف الأبواب ذاتها التي كانت نظرتي مُثبَّتةً عليها، داخل الغرفة ذاتها التي قمتُ فيها بواجباتي، كان أقوى رجال أوروبا يعقدون مؤتمرًا لتقرير مصير قارَّتنا، فمَن ذا الذي يشكُّ في أنني في تلك اللحظة قد اقتربتُ بالفعل من قلب الأشياء كما يودُّ أيُّ رئيس خدم؟ أعتقد أنني وأنا واقفٌ هناك أفكر في أحداث ذلك المساء، تلك التي ظهرَت وتلك التي في سبيلها للتكشُّف … أعتقد أن تلك اللحظة كانت تلخيصًا لكل ما حقَّقتُ في حياتي، ربما أمكنني أن أجد تفسيراتٍ أخرى قليلةً لذلك الشعور بالانتصار، الشعور الذي كان يملؤني في تلك الليلة!